بعد إنتهاء مؤتمر جوبا – مرحبا بالسودان الموحد الجديد .. بقلم د. عمر بادي
6 October, 2009
ombaday@yahoo.com
قبل أيام قلائل إنتهى مؤتمر جوبا , و إنتقلت قراراته إلى التحليل و التمحيص ما بين مؤيد له و معارض , كل حسب موقعه من الإعراب السياسي . رغم ذلك كان هنالك إجماع من الحادبين على الوطن ووحدته أنه – أى المؤتمر – يمثل الملاذ الأخير الذي لا بعده ملاذ , لحلحلة قضايا الوطن المزمنة و الشائكة و التي قادت السودان إلى شفا جرف هارٍ . لقد ( تكيفت ) من حضور الأستاذ علي محمود حسنين إلى جوبا و مشاركته في الجلسة الختامية ممثلا للحزب الإتحادي الديموقراطي , ثم ( إتعدل كيفي ) ببيان الأخ حاتم السر بأن الحزب الإتحادي الديموقراطي برئاسة مولانا السيد محمد عثمان الميرغني يؤيد كل قرارات مؤتمر جوبا , و إزداد كيفي طربا بخطاب مولانا السيد محمد عثمان الميرغني إلى المؤتمر الثالث للمؤتمر الوطني يحثهم فيه إلى تغيير سياستهم التي إتبعوها لإضعاف الأحزاب السياسية و التضييق عليها , مما أدى إلى تقوية الجهوية و القبلية .
لقد تذكرت حكمة السيد علي الميرغني في حل قضايا السودان المستعصية في فترات ما قبل و ما بعد الإستقلال و محافظته على وحدة الوطن . نعم , إن في ذلك الكثير من مواقف مولانا التي لم يفهمها الكثيرون ممن إستعجلوا أمرهم , حتى أضحت محسوبة على الحزب ووجوده , و ها هو يلقي بحكمته في مؤتمر المؤتمر الوطني قائلا ان العمل لمصلحة الوطن يجب تقديمه على العمل للمصلحة الحزبية ! هذه غيرية قلما يوجد مثلها , لكن عندما يتعاظم دور الحزب في مواجهة المتربصين بالوطن فإن العمل لمصلحة الحزب يصبح عملا لمصلحة الوطن أيضا , و أظن قد آن الأوان لذلك .
لقد تطرقت في مقالة لي سابقة بعنوان ( الحركة و البركة ) إلى الإنتخابات القادمة و كيفية خوض أحزاب المعارضة لها , فكثرة عددية الأحزاب تشتت أصوات الناخبين مقابل تجمع أحزاب المؤتمر الوطني و الذي سوف يستفيد كثيرا من ذلك , ثم دعوت إلى أن تنقسم كل الأحزاب إلى كتلتين كبيرتين أو ثلاث , منها كتلة المؤتمر الوطني بجانب كتلة أو كتلتين أخرتين , و في ذلك مصلحة للسودان حتى نخرج من دائرة تكوينات الحكومات الإئتلافية و تلاعب الأحزاب الصغرى في إسقاط الحكومات بالخروج من إئتلاف و الدخول في آخر , و ذكرت فليكن حالنا كحال الدول المتقدمة يكون التنافس فيها بين أحزاب أو تكتلات حزبية قليلة يكون في مقدورها تكوين الحكومات بمفردها دون إئتلاف حتى تستطيع بذلك تطبيق برنامجها الإنتخابي و الخضوع للمساءلة بموجبه . بهذا أرى ان مؤتمر جوبا هو مقدمة للتكتل الحزبي القادم و الذي بموجبه سوف تكون لأحزاب المعارضة القدرة على التعامل الندّي مع تكتل المؤتمر الوطني و التنافس الديموقراطي معه و تداول السلطة .
لقد تطرقت قرارات مؤتمر جوبا إلى المصالحة الوطنية عن طريق الإعتراف بالمظالم التاريخية التي شملت الجماعات و الأفراد في مناطق مختلفة في السودان , خاصة في الجنوب و دارفور , و الإعتذار عما بدر منذ الإستقلال و إلى الآن . لقد حدث هذا الإعتذار فعلا في الندوة التي أقيمت في جوبا أثناء أيام المؤتمر و تحدث فيها الإمام الصادق المهدي و الدكتور حسن الترابي و السيد محمد إبراهيم نقد و السيد مالك عقار , و كلهم إعتذروا عن أخطاء الماضي لأبناء شعب السودان , حتى السيد مالك عقار شارك في الإعتذار نيابة عن الحركة الشعبية و ذكر أن الكل قد أخطأوا دون إستثناء ! لقد أوصى المؤتمر لرئاسة الجمهورية بتكوين لجنة مستقلة للحقيقة و المصالحة تكون مهمتها تقصي الحقائق و إتخاذ الإجراءات لرد المظالم و الحقوق بالمحاسبة القانونية و بالتعويض , حتى يتم التعافي و المسامحة و تُزال المرارات من النفوس و تبرأالجراح . أرجو أن تقوم رئاسة الجمهورية بتكوين تلك اللجنة و أن لا يكون الرد أنها غير مضمنة في إتفاقية نيفاشا ! إنني أحس أن الإخوة الجنوبيين الذين نزحوا إلى الشمال و تعايشوا مع أهله قد زالت مرارات الماضي من نفوسهم بعد أن عرفوا حقيقة إخوتهم في الشمال .
في مقالة لي سابقة بعنوان ( ليس من شاهد كمن سمع ) ذكرت فيها أن العزلة هي التي أبعدت الجنوبيين عن إخوانهم في الشمال , و إن تكن للحرب محمدة فهي في نزوح الجنوبيين إلى الشمال جراء ويلاتها , و عندما إحتكوا بالشماليين تعايشوا معهم و إندمجوا و صاروا كمن سبقوهم من قاطني ( الديوم ) الذين أضحوا شماليين ! كيف لنا أن نفشل في ما نجح فيه أجدادنا من العرب المهاجرين إلى السودان عندما تعايشوا مع أجدادنا الأفارقة من مملكتي المقرة و علوة و تصاهروا معهم و أتوا بنا , كيف لنا أن نفشل نحن شماليين و جنوبيين في التعايش معا في وطن واحد ؟ يقول التاريخ أن التعايش السلمي كان قائما بين العرب المسلمين من ربيعة و جهينة و بين أهالي مملكة المقرة المسيحية بموجب إتفاقية ( البقط ) , و عندما قضى الظاهر بيبرس على مملكة المقرة و عاصمتها دنقلا العجوز في عام 1276 , تدفقت الهجرات العربية جنوبا , فحدث التحالف بين العبدلاب العرب و الفونج الأفارقة و قضوا على مملكة علوة المسيحية و عاصمتها سوبا و كونوا السلطنة الزرقاء في عام 1504 . هكذا كان الإندماج السوداني !
هل يُعقل أن الإخوة الجنوبيين في الشمال و الذين صاروا شبه شماليين أن يصوتوا في الإستفتاء القادم لمصلحة الإنفصال ؟ إنني أقول هنا و كلي يقين ان إعطوني عقدا من الزمان نعيش فيه سويا في جو حر و ديموقراطي و سوف أضمن لكم في نهايته أن الجنوبيين في الشمال سوف يضحوا شماليين بكل ما تحوي هذه الكلمة من معنى ! حتى بالنسبة للجنوبيين في الجنوب و بعد زوال طوق العزلة و إحتكاكهم بالشماليين سوف يتم التقارب و سوف يكونون كأهل دارفور أو جنوب كردفان أو جنوب النيل الأزرق أو كأهل الشرق تجمعهم جميعا الهوية السودانية مع الوسط . دعوني أسألكم , ما هو المعلم الأكثر وضوحا للهوية الأمريكية ؟ إنه قطعا طريقة نطقهم للغة الإنجليزية , و هم لذلك يعلمون المهاجرين الجدد إلى أمريكا كيف ينطقونها بطريقتهم , و هكذا نعرف الأمريكي من البريطاني مثلا بطريقة نطقه للإنجليزية , و أيضا هكذا نعرف السوداني في بلاد العالم بطريقة حديثه بلغتنا العربية السودانية !
لقد تطرقت قرارات مؤتمر جوبا إلى كيفية التحول الديموقراطي و ذكرت أنها تكون بتعديل كل القوانين ذات الصلة بالحريات لتتواءم مع الدستور الإنتقالي و هي قانون الأمن الوطني , القانون الجنائي , قانون الإجراءات الجنائية , قانون نقابات العمال , قانون الحصانات , قانون الأحوال الشخصية , قانون الصحافة و المطبوعات , قوانين النظام العام الولائية , و غيرها .. إن التحول الديموقراطي لا يكون مع كبت الحريات أو مع عدم العمل بالدستور الإنتقالي , و قد ذكرت التوصية أن يتم التعديل في مدة أقصاها 30/11/2009 , و ربطت شرط تمامه بمشاركة القوى المشاركة في المؤتمر في خوض الإنتخابات . هذا يعني أن مقاطعة الإنتخابات واردة في ظل إنعدام الحريات و الممارسة الديموقراطية و الفرص المتكافئة و الشفافية و المصداقية و النزاهة . إن التعامل مع من إستمرأ السلطة المطلقة لمدة عشرين عاما لا يكون ب ( أخوي و أخوك ) .
تبقت قرارات المؤتمر عن تدهور الوضع الإقتصادي و أسبابه و تفشي الفساد و الضائقة المعيشية و معاناة المواطنين التي وصلت الرمق الأخير أو التي أوصلت أرواحهم إلى الحلقوم ! و سوف أترك هذا إلى مقالة أخرى .