بعض ملامح تاريخ أم درمان الباكر (2 – 2)
بدر الدين حامد الهاشمي
23 May, 2024
23 May, 2024
بعض ملامح تاريخ أم درمان الباكر (2 – 2)
فارنهام مورس ريفيش Farnham Morse Rehfisch
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذا هو الجزء الثاني والأخير من ترجمة لغالب ما ورد في مقال عن تاريخ أم درمان منذ بداية نشأتها إلى نهاية عهد المهدية بقلم الإداري البريطاني ف. م. ريفيش (1922 – 1990م)، نُشِرَ في العدد الخامس والأربعين من مجلة "السودان في رسائل ومدونات SNR" الصادرة عام 1964م، صفحات 35 – 47.
وضمَّن الكاتب مقاله بعض الخرائط القديمة المنشورة في بعض الكتب (مع شرح لما ورد فيها) لمدينة الخرطوم في عهد الحكم التركي – المصري، ولسوق أم درمان في عهد المهدية.
عمل ريفيش – بحسب ما ورد في أرشيف السودان بجامعة درم البريطانية – في وظيفة مساعد باحث بكلية لندن الجامعية بين عامي 1952 و1955، ومحاضراً لمادة الأنثروبولوجي بجامعة الخرطوم في ستينيات القرن الماضي. ولريفيش مقال آخر عن أم درمان في عهد المهدية، نُشِرَ بالاشتراك مع روسينيولي Rosignoli في العدد الثامن والأربعين من مجلة "السودان في رسائل ومدونات SNR" الصادرة عام 1967م.
ولفت نظري الأخ الأستاذ طارق أبو صالح (الذي كان قد بعث لي - مشكوراً - بهذا المقال قبل نحو عامين) إلى مقال مشابه بقلم أسماء محمد إسماعيل عنوانه "الملامح العمرانية والمعمارية لمدينة أم درمان الأثرية " نُشِرَ في مجلة كلية الآثار بقنا عام 2017م (1)، وكان مقال ريفيش هذا أحد مراجعه.
المترجم
*************** ************* *************
4/ أم درمان في عهد الاحتلال المصري / الحكم التركي – المصري (The Egyptian Occupation)
كان الرحالة الألماني فرديناند فيرني (Werne) قد زار أم درمان في عام 1840م، وذكر أن سكانها كانوا من قبيلة الجعليين، ورأى خلف مستوطنتهم طوب محروق وأساسات، أُخِذَتْ لاحقاً لاستخدامها في بناء سوق (بازار) ومسجد. وكان ذلك هو أول ذكر لسكنى الجعليين في هذه المنطقة. وهذا ليس بالمستغرب، إذ أنهم قطنوا في كل مناطق السودان المختلفة بحكم عملهم في التجارة. وسيكون من المهم معرفة شيء عن ذلك الطوب والأساسات التي ذكرها فيرني، إذ يبدو أنه لا توجد لها أي بقايا الآن، وليس في ملفات مصلحة الآثار أي ذكر لها. ومن الممكن، ولكن من غير المحتمل، أن يكون ذلك الطوب هو من بقايا السور الذي شيده السلطان تيراب. ولا يُتَوَقَّعُ أن يكون تشييد السوق والمسجد (بذلك الطوب) قد تم في أم درمان، إذ لا توجد أي أدلة على اقامتهما بالمدينة. ومن المحتمل جدا أن يكون ذلك الطوب قد نُقِلَ إلى الخرطوم لاستخدامه في أبنيتها (مع ما أُخِذَ من طوب من منطقتي بري وسوبا).
وأتى رحالة آخر هو جوزيف شيري Churi في عام 1851م على ذكر قرية تُسَمَّى أم درمان (وسجل في كتابه المعنون (Sea Nile, the Desert, and Nigritia أنه اِبْتَاعَ فيها دجاجتين. وفي عام 1860م زار الرحالة والمستكشف غيوم ليجيان Guillaume Lejean ذلك الموقع وذكر أن أم درمان تتكون من ثلاث مستوطنات أقامها الجعليون والفتيحاب، وأنها تقع في متلقى ثلاثة من طرق التجارة: إلى دنقلا، وإلى كردفان، وإلى صوفي Sofi (ربما كان المقصود هو جبل صوفي Jebel Sofi في كسلا(1)). وكان ذلك الرحالة قد ذكر ثلاث مستوطنات على الرغم من أن خريطة المهندس الفرنسي أرنو Arnaud كانت تشير لوجود أربع مستوطنات، وكانت المستوطنة الرابعة تقع إلى الداخل (وليست على شاطئ النيل. المترجم)، مما يجعل من السهل أن تغيب عن نظر شخص كان مهتماً فقط باستكشاف شاطئي النيل؛ ومن المحتمل أن تلك المستوطنة الرابعة هي مكان لا يستخدمه سوى العرب الرحل الذين يقدمون عليها لسُقيا بهائمهم.
ونشر غرانت (Grant) في عام 1863م رسما لموقع أم درمان أوضح فيه منظر الصحراء مع تلال رملية في الخلفية، ولم يتضمن أي إشارة لسكانها أو لأشجارها. وربما يكون الرسام قد أختار منطقةً خالية من السكان، ولكن بما أن عدداً من المؤلفين كانوا قد ذكروا أشجار الميموزا على ضفاف النيل في موقع أم درمان الحالية، فيبدو من الغريب عدم إظهار أي منها. وهناك رسم آخر في الجزء الثاني من كتاب جنكر Junker بريشة فنان (نمساوي) اسمه لودفيج فيشر L. H. Fisher يزعم أنه يمثل أم درمان في تاريخ غير معروف، ولكن ربما كان في عام من أعوام أوائل ثمانينيات القرن التاسع عشر. وبما أنه لم يذكر أي شيء في النص يتعلق بالمستوطنة أو ذلك الرسم، فمن الصعب تقييم قيمته. ويُظهر الرسم عدداً من الأكواخ المسقوفة بالقش، معظمها دائري ولكن مع عدد قليل من الأكواخ المربعة.
وأكدت كتابات عدد كبير من الرحالة الذين زاروا المنطقة في الفترة ما بين ثلاثينيات وثمانينيات القرن التاسع عشر على أن أم درمان كانت موجودة في تلك السنوات، إلا أن ما من أحد منهم ذكر معلومات تزيد عما سبق لنا ذكره في هذا المقال. فقد كان بعضهم يذكر أم درمان عرضاً، مثل قول أحدهم: "وانتظرنا في أم درمان قارباً ليقلنا للخرطوم"، أو قول الآخر: "بدأنا مسيرنا نحو كردفان من أم درمان".
وكتب عالم الآثار واليس بيدج Budge (1875 – 1934م) بعد إعادة احتلال السودان بأن "أم درمان" كانت قد سُميت بهذا الاسم على اسم قرية صغيرة كانت تقع على ربوة رملية على شاطئ النهر في نهاية جنوب المدينة الحالية. وكان التجار العرب كثيراً ما يغشون تلك القرية لترتيب وتنظيم بضائعهم قبل أن يعبروا بها للخرطوم. وكتب جوزيف أورفالدر Ohrwalder (صاحب كتاب "عشر سنوات في أسر معسكر المهدي". المترجم) أن أم درمان كانت قبل المهدية قرية يسكنها بعض النَهَّابين من البطاحين، وكانت أرضها مغطاة بالشجيرات الشوكية الكثيفة، وليس بها سوى القليل من الأكواخ. وكانت أهميتها الرئيسية تكمن في توفر الجير الحي (اكسيد الكالسيوم. المترجم) والحجارة بها، التي كانت تُستخدم في عمليات البناء بالخرطوم. وقبل خمسين عاماً سبق للطبيب أبيت باشا Abbate Pacha (المولود في بالميرو بإيطاليا عام 1824م. المترجم) أن وصف أم درمان عند زيارته لها لأول مرة بأنها ليست سوى قرية بائسة متناثرة الأطراف.
ووصف يوسف ميخائيل (الذي رافق القوات المهدية إبان حصار المهدي للخرطوم وأمدرمان) في مذكراته غير المنشورة (2) - أم درمان (التي كانت تسمى "وشال Washal") بأنها مستوطنة للعنج. ونشر محمد عبد الرحيم كتاباً في عام 1952م يؤكد ما ذهب إليه يوسف ميخائيل، ويقول بأن أم درمان هو اسم مشتق من أحد ملوك العنج. ويبدو أن الكاتبين توصلا إلى تلك النتيجة بصورة مستقلة، إذ أن مذكرات يوسف ميخائيل لم تكن قد نُشرت حين كتب محمد عبد الرحيم ما كتب عن أم درمان. وليس من المستغرب القول بأن أم درمان كانت مستوطنة للعنج، إذ لا يزال يُقَالُ في كثير من الأحيان أن هؤلاء الأشخاص الغامضين هم السكان الأصليون (aboriginal) لكردفان، كما جاء في كتابات ماكمايكل. ولم أعثر في كل المراجع التي أطلعت عليها على اسم "وشال Washal" هذا، ولم يُذْكَرْ هذا الاسم في كل ما كُتِبَ عن النوبة في عهدها المسيحي، خاصة في مملكة علوة، ولا في "مخطوطات الفونج". وربما يكون اسم "وشال" – إن كانت بالفعل هناك منطقة أو سكان بهذا الاسم – قد أُطْلِقَ على مجموعة صغيرة من السكان، أو أنه اسم أُطْلِقَ بإحدى اللهجات المحلية على منطقة ما.
ويتضح مما سبق ذكره أنه لم يكن يُعْرَفُ الكثير عن أم درمان قبل المهدية، ولكن هناك معلومات متاحة أكثر مما هو معترف به بشكل عام. ومن المؤكد أنه لا يزال هناك الكثير مما يجب اكتشافه من خلال البحث الأثري. وبالمثل، فإن فحص المصادر العربية قد يسفر عن ثمار مفيدة. وقد تفضي المقابلات المكثفة مع بعض سكان المدينة القدامى إلى معارف وروايات شفهية ذات قيمة.
ويبدو أنه لا يوجد سبب للتشكيك في القيمة الإثباتية لمعظم المصادر المذكورة هنا. ومن المرجح أن كلاً من تيبو (Thiabaut) وسليم بمباشي جانبا الحقيقة عندما زعما أن هناك قبيلة اسمها "أم درمان"، إذ ليس هناك من أتى (قبلهما أو بعدهما) بمثل ذلك الزعم. ومن المحتمل أن يكون ما قيل عن أن "الفتيحاب" عاشوا في تلك المنطقة صحيحاً ودقيقاً لأن الموقع يقع ضمن أراضيهم القبلية. وكان فرديناند فيرني وغيوم ليجيان قد أكدا على وجود الجعليين في هذه المنطقة، وهذا صحيح ويتماشى مع وجودهم في مختلف مناطق السودان، ولأنهم يمتون للفتيحاب بصلة القرابة. ويصدق ذلك على ما ذكره الكُتَّاب الذين نقلوا روايات "شهود العيان" عن أم درمان، إذ لا مصلحة لهم في الإدلاء لأولئك الكُتَّاب بأقوال كاذبة. ومن المرجح أن أقوالهم أكثر موثوقية مما جاء في "مخطوطات الفونج"، التي كُتبت بعد زمن طويل من وقوع الأحداث، وبطريقة عشوائية.
************ *********** ****************
5/ أم درمان في عهد المهدية (The Mahdiya)
نمت وتطورت أم درمان في غضون سنوات المهدية بسرعة، وأخذت المدينة – لفترة من الزمن – موقعاً مركزيا مهماً في المسرح العالمي.
وكانت بدايات أم درمان العسكرية في عام 1883م، عندما تجمعت بها قوات حملة هيكس باشا سيئة الحظ، وبنت فيها سوراً طينيا من أجل حماية معسكرهم. وكتب غوردون في عام 1884م بأن لديه قوة مكونة من 240 جنديا تعسكر في أم درمان، وكان يرى بأنها "قوية بما فيه الكفاية". غير أن تلك القوة اضطرت للاستسلام لقوات المهدي في يوم 15 يناير 1885م، ثم سقطت / فَتَحَتْ الخرطوم بعد عشرة أيام من استسلام تلك القوة الحكومية.
وغدت أم درمان هي عاصمة سودان جديد مستقل، بعد أن شرع المهدي في "ممارسة الحقوق السيادية" من هناك، على الرغم من بقاء بعض عشيرته الأقربين وموظفي الحكومة في الخرطوم. وبعد وفاة المهدي (في 21 يونيو 1855م. المترجم) أمر خليفته عبد الله كل أولئك للرحيل عن الخرطوم والإقامة في أم درمان. وبحلول أغسطس من عام 1886م غدت أم درمان هي "قلب الدولة المهدية ومركزها". وكانت هناك عدة أسباب لاختيار أم درمان لتكون عاصمة للدولة المهدية، من أهمها أنها كانت محمية بصحراء كردفان الغربية، التي كان يستمد الخليفة منها غالب أنصاره. وكانت الخرطوم مدينة مصنوعة؟ créée ville، صُمِّمَتْ لمقاومة أي حصار عليها من جهة النهر، مما يجعل الدفاع عنها ميسوراً. وكان المصريون يعتمدون على النيل، بينما كان أنصار المهدي يهابونه؛ فقد شيد أنصار المهدي استحكامات عسكرية (طوابي/ سواتِرُ مبنية بالطوب والطين والحجارة) على شواطئ النيل، ولم يبنوا مثلها من جهة الصحراء، بينما قام المصريون بفعل العكس.
ومبلغ علمي أن هناك خمس روايات من شهود عيان عن عهدي المهدي والخليفة، كُتبت أو تُرجمت للغة أوروبية. وكانت من بين تلك الروايات أربع شهادات من سجناء الحرب: اثنان منها كانتا من مبشرين مسيحيين (أورفالدر وروسينيولي (3))، وموظف أوروبي سابق بالحكومة المصرية (سلاطين)، وتاجر أوروبي اُعْتُقِلَ وهو يؤدي مهمة تجارية للحكومة المصرية (نيوفيلد). أما الرواية الخامسة، فهي ليوسف ميخائيل، وقد تولى ترجمتها للإنجليزية د. صالح محمد نور (2). وكانت لدى نيوفيلد (الذي قضى غالب سنوات المهدية حبيساً) معلومات قيمة عن زملائه في السجن، إلا أنه لم يكن يدري الكثير عما يدور من أحداث خارج أسوار سجنه. وكذلك لم تعطنا مذكرات يوسف ميخائيل شيئاً كثيرا عن الحياة في أم درمان. ولا بد أن نتذكر أن الرجل كان قد سطر تلك المذكرات في عام 1934م، أي بعد زمن طويل من وقوع ما سرده من حوادث. ومعلوم أن كتابي أورفالدر وسلاطين كانا قد كُتبا بمشاركة كبيرة وتحرير من وينجت باشا، بغرض الدعاية الحربية (3). ورغم ذلك فهما يحتويان على كم كبير مما يبدو أنه معلومات يمكن الاعتماد عليها. وكان الإيطالي روسينيولي قد كتب مؤلفه فيما يبدو بصورة مستقلة بعد فترة قصيرة من هروبه من الأسر. ورغم تطرفه في انتقاد نظام الخليفة، إلا أنه يحتوي على معلومات مفيدة، فقد صَرَمَ الكثير من الوقت وهو يعمل بالسوق من أجل كسب عيشه اليومي، وأجاد في وصف ذلك.
وكان روسينيولي قد أُحْضِرَ لأم درمان سجيناً في عام 1886م. وذكر بأنه في تلك الأيام الباكرة كانت القلعة المصرية الصغيرة (في أم درمان) قد صارت معسكرا تمدد على مساحة 6 كيلومترات على ضفاف النيل الأبيض. وكان عدد السكان المحليين بين 120,000 و150,000 نسمة، ويسكنون في أكواخ /"عشش" رديئة البناء. وبحلول عام 1888م امتدت المستوطنة لتبلغ تلال كرري (على بعد 8 كم من المعسكر). وفي ذلك الوقت كان سكان أم درمان يمثلون جميع قبائل السودان تقريباً. وكانت شوارع المدينة ضيقة متعرجة، ومليئة بالحفر، وتنبعث منها روائح نتنة، إذ أن "الأهالي" كانوا يتركون نفايات منازلهم بها حتى تتعفن. وذكر روسينيولي أنه في وقت لاحق قطن بالمدينة الكثير من عرب مكة والمصريين والسوريين والإثيوبيين والهنود والأتراك والأغاريق والإيطاليين. وكان أفراد كل قبيلة أو قطر يتجمعون في جزء من المستوطنة، وقلما يختلطون بالسكان الآخرين. وقدم روسينيولي وصفا ممتازاً وخريطة تقريبية لسوق المدينة (أوردها الكاتب في ص 44 من مقاله. المترجم).
وفي عام 1887م كتب سلاطين ما يفيد بأن مباني المدينة في تلك الفترة لم تكن مُتَطَوّرة جداً، وأنه "كانت هناك بين جدران بيت الخليفة وجدران الجامع "راكوبة" ضخمة مبنية بالقش كان يسكنها الملازمون. وقام الخليفة لاحقا بترحيل من كانوا يسكنون بين الجامع والقلعة، ومنح تلك الأرض لأبناء قبيلته التعايشة". وكانت المدينة من الشمال إلى الجنوب تمتد لمسافة 6 أميال انجليزي على طول شاطئ النيل. وكان الطرف الجنوبي لأم درمان يقع تقريباً في الجهة المقابلة تماماً للطرف الجنوبي الغربي لمدينة الخرطوم. ولم يكن عرضه يزيد عن ثلاثة أميال، وكانت أكثر المواقع المرغوبة للسكنى هي تلك التي تقع على طول ضفاف النهر. وفي البداية، كانت المدينة مكونة من آلاف الأكواخ المصنوعة من القش، وكان المسجد هو المبنى الوحيد بالمدينة المحاط بجدار طيني، وقد تم استبداله لاحقاً بجدار من الطوب المحروق. وكان الخليفة هو أول من بنى بيتاً من الطوب، ثم تبعه شقيقه وأقاربه والأمراء وغيرهم من الأثرياء. وبحسب ما أتى به سلاطين، تم تخصيص حي خاص لكل قبيلة أو مجموعة قبائل في المدينة، وكان العرب القادمون من غرب البلاد يعيشون غالباً في الجنوب، بينما خُصص الجزء الشمالي لقبائل وادي النيل. وكانت شوارع المدينة ضيقة باستثناء عدد قليل من الطرق الواسعة فيها.
وذكر اورفالدر أن أم درمان كانت تمتد من موقع القلعة القديم إلى خور شمبات، وما بعده. وكان هناك طريق عريض يمتد من البوابة الشرقية للجامع إلى منطقة "الهجرة" (التي كانت الحملات العسكرية تنطلق منها) بالقرب من خور شمبات. وكان هناك طريق عريض آخر يمتد من البوابة الغربية للجامع إلى منطقة "العرضة"، وطريق أخر يؤدي إلى ما يمكن تسميته "الهجرة الجنوبية"، التي كانت تنطلق الحملات العسكرية المتجهة إلى كردفان ودارفور. وقبيل فراره من أم درمان لمصر كتب اورفالدر أن كل بيوت المدينة مبنية من الطين وأنها محاطة بجدران. وأضاف للقائمة التي قدمها سلاطين عن الأعراق والأجناس التي تسكن أم درمان، وذكر أن بها أيضاً التكارير والفلاتة والبرنو والودان والبرقو واليهود، وقدر أن عدد سكان أم درمان يبلغ 150,000 نسمة، ما عدا إبان شهور الشتاء، حين يغادر الكثيرون المدينة إلى الجزيرة للعمل في الزراعة.
وكان سكان المدينة يمارسون عدداً من الحرف المتنوعة في عهد المهدية. فذكر سلاطين أن بعضهم كان يعمل في صناعة الحراب، وكل ما يلزم لركوب الخيل والحمير من أدوات (مثل السُرُوج الخشبية ومقابضها وقطعها الأخرى)، والسكاكين، وأدوات الفِلاَحَة، والسياط المصنوعة من جلد فرس النهر، والتمائم، وأغماد السيوف، وغير ذلك من الصناعات الصغيرة. وكانت النساء يشتغلن في غزل القطن ونسجه. وقال شيخ الدباغين الحالي بأم درمان (الذي عمل في تلك الحرفة إبان سنوات المهدية الأخيرة) بأن العاملين بالدباغة كانوا في تلك السنوات في وضع مالي جيد جدا بسبب الطلب المتزايد على منتجاتهم، التي كان من أهمها أغماد السيوف. وزعم أنه يتذكر جيداً يوم معركة كرري، حين أُمر العاملون بصناعة الجلود والحديد في المدينة بالاستمرار في عملهم، وعدم الاشتراك في المعركة. ولعل الخليفة كان موقناً من النصر على الغزاة، ويدرك أن الكثير من أسلحته ستُدمر أثناء المعركة، وسيكون جيشه في حاجة ماسة لاستبدالها.
وذكر اورفالدر أيضاً أن سوق المدينة كان منظماً بصورة حسنة، ومقسماً إلى عدة أقسام بحسب البضائع المعروضة فيه؛ فهناك جزء مخصوص وثابت لبيع الخضروات والفواكه، وآخر للحوم، وأخر للملابس وهكذا. وكان يوسف ميخائيل قد ذكر أنه كان بذلك السوق "زبطية" (كانت هي مقر الشرطة والمحكمة والسجن).
وأخيراً، فإن المعلم الرئيسي في أمدرمان إبان تلك الفترة هو "قبة المهدي"، حيث أخبرنا ونجيت أن ثلاثة من أبناء المهدي استقبلوا بها عدداً لا يحصى من الحجاج (؟ المترجم).
لا شك أن أم درمان نمت وتطورت بسرعة كبيرة. ففي أقل من عقد من الزمان، مرت تلك المستوطنة الصغيرة بالمراحل التالية: حصن عسكري صغير، ثم معسكر عسكري كبير، وأخيراً مدينة كبيرة ذات عدد سكان مستقر نسبياً (حوالي 150,000نسمة) وتمتد على مساحة تبلغ حوالي 20 ميلاً مربعاً. وقد نمت أم درمان بسرعة كبيرة لسببين رئيسيين: أولاً، تولت أم درمان معظم مهام الخرطوم، العاصمة السابقة، وغدت مقراً للإدارة وموطناً للبيروقراطية اللازمة للقيام بالعديد من المهام الإدارية والعسكرية. وربما كانت الإدارة بها ذات طبيعة بدائية إلى حد ما مقارنةً بالمعايير الحالية، إلا أنه كانت هناك حاجة إلى عدد كبير من المسؤولين للحفاظ على استمرار آلية عمل الحكومة. وثانيا، كان من الواضح أن الخليفة كان قد انتهج سياسة ثابتة لتوطين أكبر عدد من القبائل بالقرب منه في أم درمان. وكان مبعث ذلك ضرورة عسكرية بحتة، فقد كان يرغب في جمع قوة عسكرية ضخمة في أقل وقت ممكن، عند حدوث معركة هجومية أو دفاعية لحماية حدود دولته التي كانت تحيط بها قوى معادية من كل الجوانب. وكان يعتقد أن من مصلحته أن يجلب لأمدرمان تلك القبائل التي كانت تسانده بصورة خاصة، وأيضاً تلك التي كان يخشى من خيانتها له.
*********** ************ **********
الملخص
لقد سعيت في هذه الورقة لتلخيص ما هو معروف عن تاريخ أم درمان منذ بدايته وحتى نهاية عهد المهدية. وركزت في المقال على فترات ما قبل المهدية ليس فقط لقلة وثائقها وعدم الإلمام بها (عند الكثيرين)، بل أيضاً لأن وثائقها مكتوبة بلغات ليست شائعة الاستخدام عند غالب المتخصصين السودانيين، أو لأن تلك الوثائق غير متاحة لهم. غير أن تاريخ عهد المهدية معلوم بصورة أكبر من غيره من العهود، ولا عجب، إذ أنه سُرِدَ في الكثير من المؤلفات، وخير مثال لها هو كتاب بيتر هولت المعنون"The Mahdist State in the Sudan الدولة المهدية في السودان". وفي هذا الكتاب، كما هو الحال في كتب أخرى، يمكن للمرء أن يكتشف الكثير عن الإدارة والتاريخ العام للمدينة، والذي لم أر داعياً لذكره في هذا المقال. ويحق للمؤرخين أن يحسوا بالامتنان لهولت لمناقشته - ببعض التفصيل - الأنواع المختلفة من المصادر المتوفرة عن فترة المهدية بشكل عام. غير أني في حيرة من إغفال هولت لمؤلف روسينيولي سواءً في كتابه المذكور، أو في الكتب الأخرى. ويبدو أن الأدلة المتاحة تشير إلى أن روسينيولي هو مصدر معلومات موثوق بها عندما لا يتطرق لنقاش الأمور السياسية أو الدينية. ولكتاب روسينيولي ميزة إضافية تتمثل في أنه كُتب بشكل مستقل عن عين ونجيت الفاحصة، وهي النقطة التي أوضحها هولت نفسه في مقالته التي تناول فيها موضوع ونجيت والمصادر الأخرى خلال تلك الفترة. وقد ظلت أم درمان مسكونةً لفترة طويلة جداً، وهي فترة امتدت إلى عصر ما قبل التاريخ. ويبدو أنها لم تصبح قط أكثر من مجرد مستوطنة صغيرة أو مجموعة من المستوطنات إلى أن جاءت المهدية. فمن المرجح أن المنطقة لم تكن آهلةً بالسكان بشكل مستمر، ربما فقط خلال فترات السلام. وعندما أصبحت الحرب مستوطنة صار السكان يرحلون إلى المناطق التي يسهل الدفاع عنها. وكما ذكرنا آنفاً، هناك أدلة غير مباشرة على أن هذا كان قد حدث خلال فترات معينة من حكم الفونج. وعلى الرغم من أن لأم درمان موقعاً استراتيجيا يصلح لممارسة التجارة، إلا أن موقعها ليس صالحاً للزراعة. ولهذا، فإنه من المتوقع أن تعمر أم درمان بالسكان عندما تزدهر تجارتها مع غرب البلاد، وحين تزدهر المناطق الأخرى في حالات السلم، وأن يهجرها سكانها في الحالات الأخرى.
ويمكن ملاحظة أثر فترة المهدية، ليس فقط في اتساع حجم أمدرمان اليوم، ولكن أيضاً في العديد من الآثار والمعالم مثل قبة المهدي، والتي أعاد ولده الراحل تشييدها، وبقايا السور الذي بُني على شاطئ النيل لحماية المدينة، وبوابة عبد القيوم (التي لا تزال قائمة إلى اليوم)، وأسماء بعض الأحياء مثل "حي الملازمين"، الذي كان يسكن فيه حرس الخليفة الشخصي، وغيرها من الأحياء.
************** ************ *************
إحالات مرجعية
1/ ذكر لي كثير من الخبراء عدم وجود جبل بهذا الاسم في كسلا. وذكر أحدهم أن هناك حي في القضارف يسمى "الصوفي الأزرق" غالب سكانه من المجاذيب، ولكن ليس هناك جبل بهذا الاسم.
2/ للمزيد عن "مذكرات يوسف ميخائيل" يمكن النظر فيما ورد بالطبعة الثالثة لكتاب المؤرخ أحمد إبراهيم أبو شوك المعنون "مذكرات يوسف ميخائيل: التركية والمهدية والحكم الثنائي في السودان"، الصادر عن مركز عبد الكريم ميرغني عام 2017م، صفحات vi - xv.
3/ ذكر بيتر هولت أن تلك الكتب ينبغي أن تُعد في الأساس محض "دعاية حربية"، وبالتالي لا يجب القبول بها دون نقد وتمحيص؛ بينما ذهب مارتن دالي إلى أن وينجت لم يكن في الواقع هو المؤلف الحقيقي لأي من هذه الكتب، ولا يعلم على وجه الدقة مدى مساهمته في إخراجها للقراء (انظر مقال دالي المعنون: "الجندي بحسبانه مؤرخاً" في هذا الرابط: https://shorturl.at/GT5zB).
.
alibadreldin@hotmail.com
فارنهام مورس ريفيش Farnham Morse Rehfisch
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذا هو الجزء الثاني والأخير من ترجمة لغالب ما ورد في مقال عن تاريخ أم درمان منذ بداية نشأتها إلى نهاية عهد المهدية بقلم الإداري البريطاني ف. م. ريفيش (1922 – 1990م)، نُشِرَ في العدد الخامس والأربعين من مجلة "السودان في رسائل ومدونات SNR" الصادرة عام 1964م، صفحات 35 – 47.
وضمَّن الكاتب مقاله بعض الخرائط القديمة المنشورة في بعض الكتب (مع شرح لما ورد فيها) لمدينة الخرطوم في عهد الحكم التركي – المصري، ولسوق أم درمان في عهد المهدية.
عمل ريفيش – بحسب ما ورد في أرشيف السودان بجامعة درم البريطانية – في وظيفة مساعد باحث بكلية لندن الجامعية بين عامي 1952 و1955، ومحاضراً لمادة الأنثروبولوجي بجامعة الخرطوم في ستينيات القرن الماضي. ولريفيش مقال آخر عن أم درمان في عهد المهدية، نُشِرَ بالاشتراك مع روسينيولي Rosignoli في العدد الثامن والأربعين من مجلة "السودان في رسائل ومدونات SNR" الصادرة عام 1967م.
ولفت نظري الأخ الأستاذ طارق أبو صالح (الذي كان قد بعث لي - مشكوراً - بهذا المقال قبل نحو عامين) إلى مقال مشابه بقلم أسماء محمد إسماعيل عنوانه "الملامح العمرانية والمعمارية لمدينة أم درمان الأثرية " نُشِرَ في مجلة كلية الآثار بقنا عام 2017م (1)، وكان مقال ريفيش هذا أحد مراجعه.
المترجم
*************** ************* *************
4/ أم درمان في عهد الاحتلال المصري / الحكم التركي – المصري (The Egyptian Occupation)
كان الرحالة الألماني فرديناند فيرني (Werne) قد زار أم درمان في عام 1840م، وذكر أن سكانها كانوا من قبيلة الجعليين، ورأى خلف مستوطنتهم طوب محروق وأساسات، أُخِذَتْ لاحقاً لاستخدامها في بناء سوق (بازار) ومسجد. وكان ذلك هو أول ذكر لسكنى الجعليين في هذه المنطقة. وهذا ليس بالمستغرب، إذ أنهم قطنوا في كل مناطق السودان المختلفة بحكم عملهم في التجارة. وسيكون من المهم معرفة شيء عن ذلك الطوب والأساسات التي ذكرها فيرني، إذ يبدو أنه لا توجد لها أي بقايا الآن، وليس في ملفات مصلحة الآثار أي ذكر لها. ومن الممكن، ولكن من غير المحتمل، أن يكون ذلك الطوب هو من بقايا السور الذي شيده السلطان تيراب. ولا يُتَوَقَّعُ أن يكون تشييد السوق والمسجد (بذلك الطوب) قد تم في أم درمان، إذ لا توجد أي أدلة على اقامتهما بالمدينة. ومن المحتمل جدا أن يكون ذلك الطوب قد نُقِلَ إلى الخرطوم لاستخدامه في أبنيتها (مع ما أُخِذَ من طوب من منطقتي بري وسوبا).
وأتى رحالة آخر هو جوزيف شيري Churi في عام 1851م على ذكر قرية تُسَمَّى أم درمان (وسجل في كتابه المعنون (Sea Nile, the Desert, and Nigritia أنه اِبْتَاعَ فيها دجاجتين. وفي عام 1860م زار الرحالة والمستكشف غيوم ليجيان Guillaume Lejean ذلك الموقع وذكر أن أم درمان تتكون من ثلاث مستوطنات أقامها الجعليون والفتيحاب، وأنها تقع في متلقى ثلاثة من طرق التجارة: إلى دنقلا، وإلى كردفان، وإلى صوفي Sofi (ربما كان المقصود هو جبل صوفي Jebel Sofi في كسلا(1)). وكان ذلك الرحالة قد ذكر ثلاث مستوطنات على الرغم من أن خريطة المهندس الفرنسي أرنو Arnaud كانت تشير لوجود أربع مستوطنات، وكانت المستوطنة الرابعة تقع إلى الداخل (وليست على شاطئ النيل. المترجم)، مما يجعل من السهل أن تغيب عن نظر شخص كان مهتماً فقط باستكشاف شاطئي النيل؛ ومن المحتمل أن تلك المستوطنة الرابعة هي مكان لا يستخدمه سوى العرب الرحل الذين يقدمون عليها لسُقيا بهائمهم.
ونشر غرانت (Grant) في عام 1863م رسما لموقع أم درمان أوضح فيه منظر الصحراء مع تلال رملية في الخلفية، ولم يتضمن أي إشارة لسكانها أو لأشجارها. وربما يكون الرسام قد أختار منطقةً خالية من السكان، ولكن بما أن عدداً من المؤلفين كانوا قد ذكروا أشجار الميموزا على ضفاف النيل في موقع أم درمان الحالية، فيبدو من الغريب عدم إظهار أي منها. وهناك رسم آخر في الجزء الثاني من كتاب جنكر Junker بريشة فنان (نمساوي) اسمه لودفيج فيشر L. H. Fisher يزعم أنه يمثل أم درمان في تاريخ غير معروف، ولكن ربما كان في عام من أعوام أوائل ثمانينيات القرن التاسع عشر. وبما أنه لم يذكر أي شيء في النص يتعلق بالمستوطنة أو ذلك الرسم، فمن الصعب تقييم قيمته. ويُظهر الرسم عدداً من الأكواخ المسقوفة بالقش، معظمها دائري ولكن مع عدد قليل من الأكواخ المربعة.
وأكدت كتابات عدد كبير من الرحالة الذين زاروا المنطقة في الفترة ما بين ثلاثينيات وثمانينيات القرن التاسع عشر على أن أم درمان كانت موجودة في تلك السنوات، إلا أن ما من أحد منهم ذكر معلومات تزيد عما سبق لنا ذكره في هذا المقال. فقد كان بعضهم يذكر أم درمان عرضاً، مثل قول أحدهم: "وانتظرنا في أم درمان قارباً ليقلنا للخرطوم"، أو قول الآخر: "بدأنا مسيرنا نحو كردفان من أم درمان".
وكتب عالم الآثار واليس بيدج Budge (1875 – 1934م) بعد إعادة احتلال السودان بأن "أم درمان" كانت قد سُميت بهذا الاسم على اسم قرية صغيرة كانت تقع على ربوة رملية على شاطئ النهر في نهاية جنوب المدينة الحالية. وكان التجار العرب كثيراً ما يغشون تلك القرية لترتيب وتنظيم بضائعهم قبل أن يعبروا بها للخرطوم. وكتب جوزيف أورفالدر Ohrwalder (صاحب كتاب "عشر سنوات في أسر معسكر المهدي". المترجم) أن أم درمان كانت قبل المهدية قرية يسكنها بعض النَهَّابين من البطاحين، وكانت أرضها مغطاة بالشجيرات الشوكية الكثيفة، وليس بها سوى القليل من الأكواخ. وكانت أهميتها الرئيسية تكمن في توفر الجير الحي (اكسيد الكالسيوم. المترجم) والحجارة بها، التي كانت تُستخدم في عمليات البناء بالخرطوم. وقبل خمسين عاماً سبق للطبيب أبيت باشا Abbate Pacha (المولود في بالميرو بإيطاليا عام 1824م. المترجم) أن وصف أم درمان عند زيارته لها لأول مرة بأنها ليست سوى قرية بائسة متناثرة الأطراف.
ووصف يوسف ميخائيل (الذي رافق القوات المهدية إبان حصار المهدي للخرطوم وأمدرمان) في مذكراته غير المنشورة (2) - أم درمان (التي كانت تسمى "وشال Washal") بأنها مستوطنة للعنج. ونشر محمد عبد الرحيم كتاباً في عام 1952م يؤكد ما ذهب إليه يوسف ميخائيل، ويقول بأن أم درمان هو اسم مشتق من أحد ملوك العنج. ويبدو أن الكاتبين توصلا إلى تلك النتيجة بصورة مستقلة، إذ أن مذكرات يوسف ميخائيل لم تكن قد نُشرت حين كتب محمد عبد الرحيم ما كتب عن أم درمان. وليس من المستغرب القول بأن أم درمان كانت مستوطنة للعنج، إذ لا يزال يُقَالُ في كثير من الأحيان أن هؤلاء الأشخاص الغامضين هم السكان الأصليون (aboriginal) لكردفان، كما جاء في كتابات ماكمايكل. ولم أعثر في كل المراجع التي أطلعت عليها على اسم "وشال Washal" هذا، ولم يُذْكَرْ هذا الاسم في كل ما كُتِبَ عن النوبة في عهدها المسيحي، خاصة في مملكة علوة، ولا في "مخطوطات الفونج". وربما يكون اسم "وشال" – إن كانت بالفعل هناك منطقة أو سكان بهذا الاسم – قد أُطْلِقَ على مجموعة صغيرة من السكان، أو أنه اسم أُطْلِقَ بإحدى اللهجات المحلية على منطقة ما.
ويتضح مما سبق ذكره أنه لم يكن يُعْرَفُ الكثير عن أم درمان قبل المهدية، ولكن هناك معلومات متاحة أكثر مما هو معترف به بشكل عام. ومن المؤكد أنه لا يزال هناك الكثير مما يجب اكتشافه من خلال البحث الأثري. وبالمثل، فإن فحص المصادر العربية قد يسفر عن ثمار مفيدة. وقد تفضي المقابلات المكثفة مع بعض سكان المدينة القدامى إلى معارف وروايات شفهية ذات قيمة.
ويبدو أنه لا يوجد سبب للتشكيك في القيمة الإثباتية لمعظم المصادر المذكورة هنا. ومن المرجح أن كلاً من تيبو (Thiabaut) وسليم بمباشي جانبا الحقيقة عندما زعما أن هناك قبيلة اسمها "أم درمان"، إذ ليس هناك من أتى (قبلهما أو بعدهما) بمثل ذلك الزعم. ومن المحتمل أن يكون ما قيل عن أن "الفتيحاب" عاشوا في تلك المنطقة صحيحاً ودقيقاً لأن الموقع يقع ضمن أراضيهم القبلية. وكان فرديناند فيرني وغيوم ليجيان قد أكدا على وجود الجعليين في هذه المنطقة، وهذا صحيح ويتماشى مع وجودهم في مختلف مناطق السودان، ولأنهم يمتون للفتيحاب بصلة القرابة. ويصدق ذلك على ما ذكره الكُتَّاب الذين نقلوا روايات "شهود العيان" عن أم درمان، إذ لا مصلحة لهم في الإدلاء لأولئك الكُتَّاب بأقوال كاذبة. ومن المرجح أن أقوالهم أكثر موثوقية مما جاء في "مخطوطات الفونج"، التي كُتبت بعد زمن طويل من وقوع الأحداث، وبطريقة عشوائية.
************ *********** ****************
5/ أم درمان في عهد المهدية (The Mahdiya)
نمت وتطورت أم درمان في غضون سنوات المهدية بسرعة، وأخذت المدينة – لفترة من الزمن – موقعاً مركزيا مهماً في المسرح العالمي.
وكانت بدايات أم درمان العسكرية في عام 1883م، عندما تجمعت بها قوات حملة هيكس باشا سيئة الحظ، وبنت فيها سوراً طينيا من أجل حماية معسكرهم. وكتب غوردون في عام 1884م بأن لديه قوة مكونة من 240 جنديا تعسكر في أم درمان، وكان يرى بأنها "قوية بما فيه الكفاية". غير أن تلك القوة اضطرت للاستسلام لقوات المهدي في يوم 15 يناير 1885م، ثم سقطت / فَتَحَتْ الخرطوم بعد عشرة أيام من استسلام تلك القوة الحكومية.
وغدت أم درمان هي عاصمة سودان جديد مستقل، بعد أن شرع المهدي في "ممارسة الحقوق السيادية" من هناك، على الرغم من بقاء بعض عشيرته الأقربين وموظفي الحكومة في الخرطوم. وبعد وفاة المهدي (في 21 يونيو 1855م. المترجم) أمر خليفته عبد الله كل أولئك للرحيل عن الخرطوم والإقامة في أم درمان. وبحلول أغسطس من عام 1886م غدت أم درمان هي "قلب الدولة المهدية ومركزها". وكانت هناك عدة أسباب لاختيار أم درمان لتكون عاصمة للدولة المهدية، من أهمها أنها كانت محمية بصحراء كردفان الغربية، التي كان يستمد الخليفة منها غالب أنصاره. وكانت الخرطوم مدينة مصنوعة؟ créée ville، صُمِّمَتْ لمقاومة أي حصار عليها من جهة النهر، مما يجعل الدفاع عنها ميسوراً. وكان المصريون يعتمدون على النيل، بينما كان أنصار المهدي يهابونه؛ فقد شيد أنصار المهدي استحكامات عسكرية (طوابي/ سواتِرُ مبنية بالطوب والطين والحجارة) على شواطئ النيل، ولم يبنوا مثلها من جهة الصحراء، بينما قام المصريون بفعل العكس.
ومبلغ علمي أن هناك خمس روايات من شهود عيان عن عهدي المهدي والخليفة، كُتبت أو تُرجمت للغة أوروبية. وكانت من بين تلك الروايات أربع شهادات من سجناء الحرب: اثنان منها كانتا من مبشرين مسيحيين (أورفالدر وروسينيولي (3))، وموظف أوروبي سابق بالحكومة المصرية (سلاطين)، وتاجر أوروبي اُعْتُقِلَ وهو يؤدي مهمة تجارية للحكومة المصرية (نيوفيلد). أما الرواية الخامسة، فهي ليوسف ميخائيل، وقد تولى ترجمتها للإنجليزية د. صالح محمد نور (2). وكانت لدى نيوفيلد (الذي قضى غالب سنوات المهدية حبيساً) معلومات قيمة عن زملائه في السجن، إلا أنه لم يكن يدري الكثير عما يدور من أحداث خارج أسوار سجنه. وكذلك لم تعطنا مذكرات يوسف ميخائيل شيئاً كثيرا عن الحياة في أم درمان. ولا بد أن نتذكر أن الرجل كان قد سطر تلك المذكرات في عام 1934م، أي بعد زمن طويل من وقوع ما سرده من حوادث. ومعلوم أن كتابي أورفالدر وسلاطين كانا قد كُتبا بمشاركة كبيرة وتحرير من وينجت باشا، بغرض الدعاية الحربية (3). ورغم ذلك فهما يحتويان على كم كبير مما يبدو أنه معلومات يمكن الاعتماد عليها. وكان الإيطالي روسينيولي قد كتب مؤلفه فيما يبدو بصورة مستقلة بعد فترة قصيرة من هروبه من الأسر. ورغم تطرفه في انتقاد نظام الخليفة، إلا أنه يحتوي على معلومات مفيدة، فقد صَرَمَ الكثير من الوقت وهو يعمل بالسوق من أجل كسب عيشه اليومي، وأجاد في وصف ذلك.
وكان روسينيولي قد أُحْضِرَ لأم درمان سجيناً في عام 1886م. وذكر بأنه في تلك الأيام الباكرة كانت القلعة المصرية الصغيرة (في أم درمان) قد صارت معسكرا تمدد على مساحة 6 كيلومترات على ضفاف النيل الأبيض. وكان عدد السكان المحليين بين 120,000 و150,000 نسمة، ويسكنون في أكواخ /"عشش" رديئة البناء. وبحلول عام 1888م امتدت المستوطنة لتبلغ تلال كرري (على بعد 8 كم من المعسكر). وفي ذلك الوقت كان سكان أم درمان يمثلون جميع قبائل السودان تقريباً. وكانت شوارع المدينة ضيقة متعرجة، ومليئة بالحفر، وتنبعث منها روائح نتنة، إذ أن "الأهالي" كانوا يتركون نفايات منازلهم بها حتى تتعفن. وذكر روسينيولي أنه في وقت لاحق قطن بالمدينة الكثير من عرب مكة والمصريين والسوريين والإثيوبيين والهنود والأتراك والأغاريق والإيطاليين. وكان أفراد كل قبيلة أو قطر يتجمعون في جزء من المستوطنة، وقلما يختلطون بالسكان الآخرين. وقدم روسينيولي وصفا ممتازاً وخريطة تقريبية لسوق المدينة (أوردها الكاتب في ص 44 من مقاله. المترجم).
وفي عام 1887م كتب سلاطين ما يفيد بأن مباني المدينة في تلك الفترة لم تكن مُتَطَوّرة جداً، وأنه "كانت هناك بين جدران بيت الخليفة وجدران الجامع "راكوبة" ضخمة مبنية بالقش كان يسكنها الملازمون. وقام الخليفة لاحقا بترحيل من كانوا يسكنون بين الجامع والقلعة، ومنح تلك الأرض لأبناء قبيلته التعايشة". وكانت المدينة من الشمال إلى الجنوب تمتد لمسافة 6 أميال انجليزي على طول شاطئ النيل. وكان الطرف الجنوبي لأم درمان يقع تقريباً في الجهة المقابلة تماماً للطرف الجنوبي الغربي لمدينة الخرطوم. ولم يكن عرضه يزيد عن ثلاثة أميال، وكانت أكثر المواقع المرغوبة للسكنى هي تلك التي تقع على طول ضفاف النهر. وفي البداية، كانت المدينة مكونة من آلاف الأكواخ المصنوعة من القش، وكان المسجد هو المبنى الوحيد بالمدينة المحاط بجدار طيني، وقد تم استبداله لاحقاً بجدار من الطوب المحروق. وكان الخليفة هو أول من بنى بيتاً من الطوب، ثم تبعه شقيقه وأقاربه والأمراء وغيرهم من الأثرياء. وبحسب ما أتى به سلاطين، تم تخصيص حي خاص لكل قبيلة أو مجموعة قبائل في المدينة، وكان العرب القادمون من غرب البلاد يعيشون غالباً في الجنوب، بينما خُصص الجزء الشمالي لقبائل وادي النيل. وكانت شوارع المدينة ضيقة باستثناء عدد قليل من الطرق الواسعة فيها.
وذكر اورفالدر أن أم درمان كانت تمتد من موقع القلعة القديم إلى خور شمبات، وما بعده. وكان هناك طريق عريض يمتد من البوابة الشرقية للجامع إلى منطقة "الهجرة" (التي كانت الحملات العسكرية تنطلق منها) بالقرب من خور شمبات. وكان هناك طريق عريض آخر يمتد من البوابة الغربية للجامع إلى منطقة "العرضة"، وطريق أخر يؤدي إلى ما يمكن تسميته "الهجرة الجنوبية"، التي كانت تنطلق الحملات العسكرية المتجهة إلى كردفان ودارفور. وقبيل فراره من أم درمان لمصر كتب اورفالدر أن كل بيوت المدينة مبنية من الطين وأنها محاطة بجدران. وأضاف للقائمة التي قدمها سلاطين عن الأعراق والأجناس التي تسكن أم درمان، وذكر أن بها أيضاً التكارير والفلاتة والبرنو والودان والبرقو واليهود، وقدر أن عدد سكان أم درمان يبلغ 150,000 نسمة، ما عدا إبان شهور الشتاء، حين يغادر الكثيرون المدينة إلى الجزيرة للعمل في الزراعة.
وكان سكان المدينة يمارسون عدداً من الحرف المتنوعة في عهد المهدية. فذكر سلاطين أن بعضهم كان يعمل في صناعة الحراب، وكل ما يلزم لركوب الخيل والحمير من أدوات (مثل السُرُوج الخشبية ومقابضها وقطعها الأخرى)، والسكاكين، وأدوات الفِلاَحَة، والسياط المصنوعة من جلد فرس النهر، والتمائم، وأغماد السيوف، وغير ذلك من الصناعات الصغيرة. وكانت النساء يشتغلن في غزل القطن ونسجه. وقال شيخ الدباغين الحالي بأم درمان (الذي عمل في تلك الحرفة إبان سنوات المهدية الأخيرة) بأن العاملين بالدباغة كانوا في تلك السنوات في وضع مالي جيد جدا بسبب الطلب المتزايد على منتجاتهم، التي كان من أهمها أغماد السيوف. وزعم أنه يتذكر جيداً يوم معركة كرري، حين أُمر العاملون بصناعة الجلود والحديد في المدينة بالاستمرار في عملهم، وعدم الاشتراك في المعركة. ولعل الخليفة كان موقناً من النصر على الغزاة، ويدرك أن الكثير من أسلحته ستُدمر أثناء المعركة، وسيكون جيشه في حاجة ماسة لاستبدالها.
وذكر اورفالدر أيضاً أن سوق المدينة كان منظماً بصورة حسنة، ومقسماً إلى عدة أقسام بحسب البضائع المعروضة فيه؛ فهناك جزء مخصوص وثابت لبيع الخضروات والفواكه، وآخر للحوم، وأخر للملابس وهكذا. وكان يوسف ميخائيل قد ذكر أنه كان بذلك السوق "زبطية" (كانت هي مقر الشرطة والمحكمة والسجن).
وأخيراً، فإن المعلم الرئيسي في أمدرمان إبان تلك الفترة هو "قبة المهدي"، حيث أخبرنا ونجيت أن ثلاثة من أبناء المهدي استقبلوا بها عدداً لا يحصى من الحجاج (؟ المترجم).
لا شك أن أم درمان نمت وتطورت بسرعة كبيرة. ففي أقل من عقد من الزمان، مرت تلك المستوطنة الصغيرة بالمراحل التالية: حصن عسكري صغير، ثم معسكر عسكري كبير، وأخيراً مدينة كبيرة ذات عدد سكان مستقر نسبياً (حوالي 150,000نسمة) وتمتد على مساحة تبلغ حوالي 20 ميلاً مربعاً. وقد نمت أم درمان بسرعة كبيرة لسببين رئيسيين: أولاً، تولت أم درمان معظم مهام الخرطوم، العاصمة السابقة، وغدت مقراً للإدارة وموطناً للبيروقراطية اللازمة للقيام بالعديد من المهام الإدارية والعسكرية. وربما كانت الإدارة بها ذات طبيعة بدائية إلى حد ما مقارنةً بالمعايير الحالية، إلا أنه كانت هناك حاجة إلى عدد كبير من المسؤولين للحفاظ على استمرار آلية عمل الحكومة. وثانيا، كان من الواضح أن الخليفة كان قد انتهج سياسة ثابتة لتوطين أكبر عدد من القبائل بالقرب منه في أم درمان. وكان مبعث ذلك ضرورة عسكرية بحتة، فقد كان يرغب في جمع قوة عسكرية ضخمة في أقل وقت ممكن، عند حدوث معركة هجومية أو دفاعية لحماية حدود دولته التي كانت تحيط بها قوى معادية من كل الجوانب. وكان يعتقد أن من مصلحته أن يجلب لأمدرمان تلك القبائل التي كانت تسانده بصورة خاصة، وأيضاً تلك التي كان يخشى من خيانتها له.
*********** ************ **********
الملخص
لقد سعيت في هذه الورقة لتلخيص ما هو معروف عن تاريخ أم درمان منذ بدايته وحتى نهاية عهد المهدية. وركزت في المقال على فترات ما قبل المهدية ليس فقط لقلة وثائقها وعدم الإلمام بها (عند الكثيرين)، بل أيضاً لأن وثائقها مكتوبة بلغات ليست شائعة الاستخدام عند غالب المتخصصين السودانيين، أو لأن تلك الوثائق غير متاحة لهم. غير أن تاريخ عهد المهدية معلوم بصورة أكبر من غيره من العهود، ولا عجب، إذ أنه سُرِدَ في الكثير من المؤلفات، وخير مثال لها هو كتاب بيتر هولت المعنون"The Mahdist State in the Sudan الدولة المهدية في السودان". وفي هذا الكتاب، كما هو الحال في كتب أخرى، يمكن للمرء أن يكتشف الكثير عن الإدارة والتاريخ العام للمدينة، والذي لم أر داعياً لذكره في هذا المقال. ويحق للمؤرخين أن يحسوا بالامتنان لهولت لمناقشته - ببعض التفصيل - الأنواع المختلفة من المصادر المتوفرة عن فترة المهدية بشكل عام. غير أني في حيرة من إغفال هولت لمؤلف روسينيولي سواءً في كتابه المذكور، أو في الكتب الأخرى. ويبدو أن الأدلة المتاحة تشير إلى أن روسينيولي هو مصدر معلومات موثوق بها عندما لا يتطرق لنقاش الأمور السياسية أو الدينية. ولكتاب روسينيولي ميزة إضافية تتمثل في أنه كُتب بشكل مستقل عن عين ونجيت الفاحصة، وهي النقطة التي أوضحها هولت نفسه في مقالته التي تناول فيها موضوع ونجيت والمصادر الأخرى خلال تلك الفترة. وقد ظلت أم درمان مسكونةً لفترة طويلة جداً، وهي فترة امتدت إلى عصر ما قبل التاريخ. ويبدو أنها لم تصبح قط أكثر من مجرد مستوطنة صغيرة أو مجموعة من المستوطنات إلى أن جاءت المهدية. فمن المرجح أن المنطقة لم تكن آهلةً بالسكان بشكل مستمر، ربما فقط خلال فترات السلام. وعندما أصبحت الحرب مستوطنة صار السكان يرحلون إلى المناطق التي يسهل الدفاع عنها. وكما ذكرنا آنفاً، هناك أدلة غير مباشرة على أن هذا كان قد حدث خلال فترات معينة من حكم الفونج. وعلى الرغم من أن لأم درمان موقعاً استراتيجيا يصلح لممارسة التجارة، إلا أن موقعها ليس صالحاً للزراعة. ولهذا، فإنه من المتوقع أن تعمر أم درمان بالسكان عندما تزدهر تجارتها مع غرب البلاد، وحين تزدهر المناطق الأخرى في حالات السلم، وأن يهجرها سكانها في الحالات الأخرى.
ويمكن ملاحظة أثر فترة المهدية، ليس فقط في اتساع حجم أمدرمان اليوم، ولكن أيضاً في العديد من الآثار والمعالم مثل قبة المهدي، والتي أعاد ولده الراحل تشييدها، وبقايا السور الذي بُني على شاطئ النيل لحماية المدينة، وبوابة عبد القيوم (التي لا تزال قائمة إلى اليوم)، وأسماء بعض الأحياء مثل "حي الملازمين"، الذي كان يسكن فيه حرس الخليفة الشخصي، وغيرها من الأحياء.
************** ************ *************
إحالات مرجعية
1/ ذكر لي كثير من الخبراء عدم وجود جبل بهذا الاسم في كسلا. وذكر أحدهم أن هناك حي في القضارف يسمى "الصوفي الأزرق" غالب سكانه من المجاذيب، ولكن ليس هناك جبل بهذا الاسم.
2/ للمزيد عن "مذكرات يوسف ميخائيل" يمكن النظر فيما ورد بالطبعة الثالثة لكتاب المؤرخ أحمد إبراهيم أبو شوك المعنون "مذكرات يوسف ميخائيل: التركية والمهدية والحكم الثنائي في السودان"، الصادر عن مركز عبد الكريم ميرغني عام 2017م، صفحات vi - xv.
3/ ذكر بيتر هولت أن تلك الكتب ينبغي أن تُعد في الأساس محض "دعاية حربية"، وبالتالي لا يجب القبول بها دون نقد وتمحيص؛ بينما ذهب مارتن دالي إلى أن وينجت لم يكن في الواقع هو المؤلف الحقيقي لأي من هذه الكتب، ولا يعلم على وجه الدقة مدى مساهمته في إخراجها للقراء (انظر مقال دالي المعنون: "الجندي بحسبانه مؤرخاً" في هذا الرابط: https://shorturl.at/GT5zB).
.
alibadreldin@hotmail.com