بيان سوار الدهب ابريل 1985 كان بمثابة الضوء الاخضر لانقلاب الاسلاميين
علي خلفية النصيحة الغالية من القيادي الاخواني السوداني المعروف السيد احمد عبد الرحمن محمد الي المتبقي من تنظيم الاسلاميين اثناء الانتفاضة الشعبية بان " يسردبوا " امام مجريات الامور وعدم مقاومة المد الجماهيري الجارف في شوارع وطرقات الخرطوم والمدن السودانية ولكن السيد احمدعبد الرحمن يعلم ان الشيخ حسن الترابي الزعيم التاريخي للاسلاميين قد سبق الجميع وقام بنوع من " السردبة " المنقطعة النظير بعد المشاركة في النظام المايوي بعد المصالحة الوطنية في العام 1977 .
من المعروف انه لم يكن مرحبا بمشاركة الاسلاميين في اوساط التكنوقراط المايوي وبقايا الشيوعيين والقوميين العرب في التنظيم السياسي الاتحاد الاشتراكي واجهزة الامن وبعض الانقلابيين من امثال ابو القاسم محمد ابراهيم الذي اعتزل الحكم وجلس في منزلة احتجاجا علي الرخصة الامريكية السعودية بمباركة مصر الساداتية التي جوزت مشاركة الاخوان في حكم السودان بسبب الخوف من القواعد الشيوعية في المنطقة المجاورة للسودان في اثيوبيا واليمن الجنوبي بمباركة وتمويل القذافي .
الترابي كان يعلم بحقيقة المشاعر السلبية ضدهم في الاوساط المايوية ومع ذلك قمع بقوة كل التوجهات الشبابية في تنظيمة التي نادت بضرورة العودة الي معارضة نميري والانضمام للحركات المطلبية والاحتجاجات المتكررة بل ذهب الترابي اكثر من ذلك وساهم في افشال اضراب الاطباء الشهير ضد نميري اواخر السبعينات ووظف كادرهم الطبي في سد الفراغ في مستشفيات العاصمة الرئيسية واقسام الحوداث والطوارئ باشراف مباشر ومتابعة من الطبيب الاخواني الطيب محمد خير " سيخة " .
في ذلك الوقت كان حزب الامة قد قطع شوطا في عملية الانسحاب التدريجي من مؤسسات مايو وتجميد عملية المصالحة الوطنية والعودة الي العمل السري بعد جولات من التحرش بالنظام المايوي من داخل مؤسساته بواسطة الراحل المقيم عمر نور الدائم وشخص اخر يدعي الصادق ابونفيسة ظل يجاهر بعداء نظام نميري في الصبح والعشية لقد دخل الانصار وعضوية حزب الامة نظام مايو وكما دخلوا خرجت الاغلبية منهم خالية الوفاض لامال ولابنوك ولااجندات خفية وحتي المتخلفين منهم داخل نظام نميري فلم يكونوا من اصحاب الحظوة المتطلعين الي الهمينة والنفوذ .
بلغ الامر داخل النظام المايوي بسبب مشاركة الاخوان في السلطة المفروضة علي نميري من اطراف دولية واقليمية مرحلة ان الرائد ابو القاسم محمد ابراهيم كبير الرافضين لوجود الاخوان قد ذهب في مساء احد الايام الي مكتب الرئيس نميري بمباني الاتحاد الاشتراكي وانخرطوا في نقاش تطور الي ملاسنة واشتباك بالايدي اعقبه صراخ سكرتيرة النميري وحضور عدد من الساسة ورجال الامن وحراسة الرئيس الذين فضوا الاشتباك واخرجوا ابو القاسم الذي كان يصرخ غاضبا في وجه النميري اثناء خروجه :
خليناها ليك يانميري " غرقا غرقا " وقد غرقت مراكب النظام المايوي بالفعل بعد ذلك بسبب حجم الاختراق الكبير لمؤسسات الدولة بواسطة الدولة الاخوانية العميقة داخل النظام المايوي الذي تحولت بقية رموزه والموالين له الي مجرد متفرجين.
وظل ابو القاسم محمد ابراهيم يردد في مجالسه الخاصة بتحسر وغضب شديد ان النميري قد اتفق معهم علي استدراج الاخوان للمشاركة ثم التخلص منهم تدريجيا وكان يقول ان الرئيس قد خالف هذا الاتفاق واصبح يستمع لنصائح السادات المتخوف من القذافي والشيوعيين والذي كان قد اطلق سراحهم من السجون المصرية ورد لهم اعتبارهم وسمح لهم بمزاولة انشطتهم السياسية والاعلامية و الاقتصادية بعد عزلتهم الطويلة عن الحياة العامة وحتي مجرد تنفس الهواء في سجون عبد الناصر.
المرحلة الثانية في محاولة فض المشاركة بين نميري والاخوان كانت اكثر دقة وتنظيما علي خلفية ماحدث في البلاد اخريات ايام نميري من احداث معينة تسببت في عزلة الرئيس عن محيط الحلفاء والاصدقاء في العالم والاقليم خاصة بعد تسرب تقرير و تقييم طبي للامريكان عن حالة النميري الصحية العامة والنفسية مصحوبة بتحذير من مغبة الاعتماد عليه في مستقبل الايام وتوصية بسرعة ايجاد بديل له وضرورة الاعتناء به علي الصعيد الانساني كصديق يعاني من مشكلة معينة وانه ليس متطرف فكريا ولاينتمي او حتي متعاطف مع جماعة الاخوان المسلمين التي اصبحت تتعامل معه وهو اشبه بكائن منوم مغنطسيا تقوم باستغلال ظروفة الصحية لتمرير ماتريد من اجندة مختلفة.
الترابي قال في رده علي سوأل صحفي اجنبي في تلك الايام هل النميري اخ مسلم فرد الترابي كبير " المسردبين" نعم الاخ النميري مسلم .
المصريين كانوا علي علم بمايجري في السودان وينسقون مع الامريكان في هذا الصدد ويشاركونهم الرأي في تقييم الموقف العام في السودان والحالة الصحية الخاصة للرئيس السوداني السابق جعفر نميري التي اصبح بسببها يعاني من حالة اشبه بفقدان الاتزان والتخبط في اصدار القرارات وهو مادفع المصريين للترحيب به بعد سقوط نظامه بكل رحابة صدر والدفاع عن وجوده في اراضيهم لسنين طويلة حتي غادرها الي السودان باختيارة وقضي شيخوخته وبقية عمره وسط اهله وعشيرته حتي توفاه الله .
مجموعة من البرلمانيين والشخصيات العامة المايوية يتزعمهم الراحل المقيم ومساعد الرئيس نميري انذاك الرشيد الطاهر بكر المحامي لم تكن بعيدة عن مايجري.
الرشيد الطاهرالذي شغل في يوم من الايام منصب المرشد العام لجماعة الاخوان المسلمين قبل الترابي والذي انشق عنهم فكريا وروحيا واصبح من اكثر المحذرين من شرورهم وخطرهم ارسل مذكرة الي نميري قبل ايام قليلة من الانتفاضة وسقوط النظام ممهورة بتوقيعات اخرين بعنوان :
" سيدي الرئيس اني اري تحت الدخان وميض نار "
تضمنت المذكرة خريطة طريق وتوصيات بمحاسبة قيادة الاخوان وحل التنظيم وابعادهم عن الحياة العامة.
الترابي رحمه الله كان علي علم بمايجري في الكواليس عن تحركات مجموعة الرشيد الطاهر من بعض المايويين وكانت بيوتهم ومكاتبهم تخضع لمراقبة فرق الاستطلاع الاخوانية التي كانت تستخدم الدراجات النارية علي مدار الاربعة والعشرين ساعة.
ومع ذلك كان الشيخ مصمم علي " السردبة " وعدم فقدان الامل وقبل ساعات قليلة من اذاعة بيان نميري وقراره اعتقال جماعة الاخوان المسلمين ذهب الترابي بسيارته مع رجل اعمال اخواني يدعي " دفع الله التوم " متوجهين صوب غرفة عمليات المايويين في احد المكاتب التجارية وسط الخرطوم يملكه البروفسير الراحل مالك حسين وطلب الترابي من هذا التوم ان يذهب ويستطلع له الموقف ونوايا المايويين وترجل المذكور ودخل المكان المعلوم وكان البروفسير مالك ومن معه يعلمون مقصد رجل الاعمال الاخواني وارسلوا معه رسالة معينة حملها دفع الله التوم الي الترابي داخل سيارته المتوقفة في احد الازقة الجانبية بعيدا عن الانظار ولما علم الترابي بحقيقة نوايا اعوان النميري واصرارهم علي ابعاد واعتقال الاخوان وضع الشيخ الترابي احد اساطين الدراما السياسية اصبعه علي مقود السيارة ورسم به دائرة قائلا لدفع الله التوم :
والله الا " نصوتا " ليهم كدا وقد كان فقد صاتوها بالفعل واختطفوا انتفاضة ابريل في وضح النهار بكل جسارة ووجهوها الوجهة التي يريدون حتي لحظة العملية المسلحة التي نفذتها كوادر الحركة الاسلامية المدنية بمساعدة عدد قليل من العسكريين الذين نفذوا تعليمات مكتب شوري الحركة الاسلامية في صبيحة الثلاثين من يونيو 1989 بالاستيلاء علي السطة باسم الجيش السوداني .
الجبهة الاسلامية تحولت منذ اللحظات الاولي لبيان نميري وقراره باعتقال الترابي وقيادات التنظيم الاخواني الي قيادة بديلة ووضعت تحوطات مختلفة لمواجهة احتمالات الموقف تضمنت اعداد خطة لمهاجمة اهداف عسكرية ومدنية واغتيال قيادات النظام المايوي والشخصيات الامنية والعسكرية التي كانت مناوية لهم في حال المساس او تهديد حياة قيادات الجبهة الاسلامية من المعتقلين في سجون العاصمة وبقية السجون الاقليمية او الشروع في محاكمتهم وظلت فرق الاستطلاع الاخوانية المتعددة تراقب المعتقلات التي توجد فيها قياداتهم في العاصمة والاقاليم مراقبة لصيقة بوسائل متعددة حتي لحظة اذاعة بيان سوار الذهب المتفق عليه بعد ابعاد واقالة بعض الضباط الوطنيين قبل ساعات من بيان سوار الذهب عزل نميري وسقوط النظام .
لقد اتخذ الاسلاميين في ذلك الوقت تحوطات عن طريق كادرهم المحدود العدد في الجيش وشخصيات مدنية اخري باثارة الفزع في هيئة القيادة مستخدمين حالة " البعث فوبيا " لضمان موقف سوار الذهب المطيع لنصائحهم علي الرغم من عدم عضويته في التنظيم .
قبل اذاعة بيان عزل نميري بساعات قليلة كانت غرفة عمليات الاخوان البديلة تصدر تعليماتها الي كادرهم في الجيش وسلاح الطيران بضرورة تامين قيادات الجماعة المعتقلين في السجون الاقليمية واعادة الترابي الذي خرج من المعتقل في صحبة مجموعات مدنية مسلحة كانت ترابط في مكان ما في انتظار خروجه وكانت قيادة الاسلاميين قد اوكلت هذه المهمة لكادر التنظيم في سلاح الطيران صلاح كرار وفيصل مدني مختار .
ابريل الثورة الظافرة التي تبددت نتائجها المفترضة وذهبت ادراج الرياح تحولت الي مكاسب بلا حدود وبلا عدد لجماعة الاخوان وماتعرف باسم الجبهة القومية الاسلامية التي اخرجت اثقالها التنظيمية والاقتصادية الاعلامية والامنية والعسكرية وحصدت نتائج الانتفاضة واستغلت مناخ الحرية في انعاش خلاياها بعد حل جهاز الامن المايوي بطريقة عشوائية ومندفعة حيث واصلت الجبهة الاسلامية الاستعداد عمليا في الايام الاولي التي اعقبت سقوط نميري للاستيلاء علي السطة منذ الايام الاولي لعودة الحريات والحياة السياسية وتركت للاخرين الاحتفالات والمهرجانات السياسية ولبقية الشعب السوداني الحسرة والالام والدموع علي ضياع ثلاثين عام من العمر والانفس العزيزة التي ازهقت وتدمير كل مؤسسات الدولة السودانية واولها الجيش السوداني في الوقت الذي يحاكم فيه الجيش السوداني اليوم في محاكمة الكادر الاخواني عمر البشير بتهمة انقلاب عسكري لم يكن له وجود والدليل علي ذلك بداية الاسلاميين عهدهم بتفكيك الجيش السوداني القومي علي نفس الطريقة التي حدثت مع الجيش العراقي بعد الغزو الامريكي وكيف يقوم جيش بانقلاب عسكري والرجل الثاني في الحركة الاسلامية يقول امام العالم كله لقد قتلنا ثمانية وعشرين ضابط في يوم واحد .
كل الاشياء في السودان الراهن في غير مكانها في بلد اصبحت اوضاعها مفتوحة امام كل الاحتمالات بسبب حالة الغيبوبة الطويلة المدي وعدم الواقعية وترتيب الاولويات والاستغراق في الامنيات الحالمة وترديد الشعارات والبحث عن حل ازمات الدولة السودانية في امريكا واسرائيل .