بَلَا لَمَّةْ! 

 


 

كمال الجزولي
25 October, 2021

 

روزنامة الأسبوع

الإثنين

هدَّد البرهان، مؤخَّراً، بحلِّ مجلس الوزراء، معتبراً نقسه رئيس جمهوريَّة! ليس عيباً «كبيراً» ألا يفهم القائد العسكري في أمور السِّياسة «كثيراً»، لكن العيب أن تُهدى له الفرصة ليفهم، فيتجاهلها بعناد! لقد بحَّت الحناجر من التَّنبيه إلى الفرق بين «الجُّمهوريَّة الرِّئاسيَّة» و«الجُّمهوريَّة البرلمانيَّة»؛ لكن سعادته ظلَّ يسدُّ أذناً بطينة، وأخرى بعجينة، معتبراً النَّاس «كلاباً» تنبح، بينما «جَّمله» يتهادى في مشيه لا يلوي على شئ!


الثُّلاثاء

في الثَّاني من سبتمبر المنصرم، مرَّت الذِّكرى الثَّالثة والعشرون بعد المئة لمعركة كرري. وكان الإمام الرَّاحل الصَّادق المهدي قد أهداني، ضمن مجموعة من مؤلفاته، كتيِّبه القيِّم «فكرُ المهديَّة» الذي عرض، في بدايته، لانتشار المهديَّة في بيئات العقائد السُّنِّيَّة، والشِّيعيَّة، والصُّوفيَّة، والفلسفات الإسلاميَّة. ثمَّ تتبَّع ذيوعها عبر إسلام أهل السُّودان، والأيديولوجيَّة التي قامت عليها تَّعاليمها، والمزج الذي اتَّبعه المهدي بين التَّشدُّد في التَّوحيد، وبين الدَّلائل الصُّوفيَّة، كالاستهانة بخسَّة الدُّنيا، والزُّهد فيها، والاستبشار بالبلايا التي في طيِّها المزايا. فلئن كان هذا هو ما دفع أكثر المتصوِّفة للانصراف عن الدُّنيا، فقد انتهى عند المهدي إلى الموت جهاداً لإقامة الدِّين.

على أنني وددتُّ لو ان الإمام تناول الأمر من حيث التَّناقض بين «المهديَّة الثَّورة» و«المهديَّة الدَّولة». فالمهدي لم يكن محض داعية ديني، أو مجرَّد متصوِّف زاهد في نعيم الدُّنيا، بل كان قائد «ثورة» هدفت لهدم سلطة، وتأسيس «دولة»، وبناء وجود مغاير، ووفَّرت، بكفاءة نادرة، أيديولوجيَّة المناخ الثَّوريِّ الملائم، خلال النِّصف الثَّاني من القرن التَّاسع عشر، لصياغة الصَّرخة الجَّنينيَّة الأولى للوعي القومي، ولاستنهاض عموم أهل السُّودان بوجه الحكم آلأجنبي. ولأن بمقدور أيديولوجيَّة التَّغيير، حسب ماركس، حين تتغلغل، عميقاً، في العقول والوجدانات، أن تحوِّل الجَّماهير إلى قوَّة ماديَّة لا تُقهر، فإن شعوب السُّودان تداعت، بمختلف إثنيَّاتها، لتلبية دعوة «المهديَّة الثَّورة»، لا لتلغي تعدُّد كياناتها، وإنَّما لتتجاوز تنافر العنصرين المستعرب وغير المستعرب، ولتنتظم، موحَّدة في تنوُّعها، ومتنوِّعة في وحدتها، خلف قيادة الإمام الفذَّة، وتحت راياته المتعدِّدة، لتذيق الجِّيوش الاستعماريَّة مرارة الهزيمة، وتحرِّر البلاد.

استوعب ذلك التَّحالف الثَّوري العريض مختلف أشكال التعدُّد الاجتماعي، والعِرقي، والجِّهوي، والقَبَلي، والدِّيني، واللغوي، والثَّقافي، وارتاد بعبقريَّات «الفقراء الذين لا يُعبأ بهم»، كما وصفهم الإمام الثَّائر، آفاق الابتداع، لا الاتِّباع، وتخوم الأصالة العسكريَّة، والسِّياسيَّة، والاقتصاديَّة، والتَّعليميَّة، والقضائيَّة، وغيرها، في مسيرة واحدة قاصدة. حتَّى القبائل التي تأخَّرت سروجها يوم الزَّحف لم تعدم بطوناً، أو أفخاذاً، أو حتَّى آحاداً من ذوي البأس انخرطوا في عصـبة التَّعـدُّد السُّـوداني تلك، فانطلقـت الطاقات الثَّوريَّة تتدافـع، كالحمـم البركانيَّة، باتجاه «.. القمَّة المنطقيَّة لمواقع النُّموِّ في المجتمع»، على حدِّ تعبير الصَّادق المهدي، من معركة «أبا» وتشكيل مجتمع «قدير»، إلى تحرير الخرطوم وتأسيس أم درمان عاصمة للسُّودان الطالع، تاريخئذٍ، من رماد القهر، عنوة واقتداراً، نحو فضاء «الرَّايات» الزَّاهيات، و«التَّهاليل» الطليقة، و«الجُبب» المرقَّعة حدائق أمل، وتفاؤل، واستبشار، وألوان عزة، وكرامة، واستقلال، فكيف استحال كلُّ شيء إلى رماد، مرَّة أخرى، يوم «كرري»؟!

ثمَّة عدَّة عوامل تدفعنا لاعتبار أن «المهديَّة الدَّولة» لم تنهزم، نفرة واحدة، ذلك اليوم، بل ظلت تنهزم، باستمرار، عبر سنواتها الثلاث عشرة كلها. أحد أهمِّ تلك العوامل مضمون الدَّعوة نفسها. فلئن كان هدف أيَّة ثورة في التَّاريخ استعدال أحوال الدُّنيا لصالح عموم الثُّوَّار، فإن هدف «المهديَّة» كان قائماً، بالعكس، على «الزُّهد» المطلق في «متاع الدُّنيا»، حيث يقول المهدي ضمن بعض أدعيته في «الرَّاتب»: «ولا تجعل في قلوبنا ركوناً لشيء من (الدُّنيا) يا أرحم الرَّاحمين». ولدى دخول الخرطوم طلب من أنصاره  مبايعته «على زهد (الدُّنيا) واختيار الآخرة»! وعلق الشَّيخ بابكر بدري، أحد كبار الأنصار المجاهدين، على تلك البيعة، لاحقاً، بقوله: «لم أعقلها تماماً تلك السَّاعة»!

وفي الحقيقة لم يكن المهدي ينظر إلى «المال» كعلاقات اجتماعيَّة عُرضة للتَّثوير، مثلما للإفساد، وإنما كمحض «وسخ دنيوي» يستوجب الازورار عنه، بل الهجر التَّام، في كلِّ الأحوال. وكان كثيراً ما يردِّد: «لقد دمَّرت هذه (الدُّنيا) وبنيت العالم الآتي». وفي بعض منشوراته: «امتنع عن كلِّ المسرَّات»، وعموماً لم يكن يكلُّ من الدَّعوة لاتِّخاذ الزُّهد ترياقاً مضادَّاً لجوهر الحياة «الدُّنيا» التي يلخِّصها في «فتنة الثَّروة والسُّلطة»!

توفي المهدي، فتحتَّم على خليفته أن ينهض بأعباء «المهديَّة الدَّولة» أغلب سنواتها. فإذا كان مفهوم «الدَّولة» ينطوي، في بعض دلالاته العمليَّة، على الآليَّة التي تدير علاقات الاقتصاد والاجتماع، من خلال إنتاج الخيرات الماديَّة، بهدف «إعمار» حياة المنتجين، فإن «المهديَّة الدَّولة»، رغم كل الجَّهد الذي بذله الخليفة في تنظيمها، ظلت قائمة، بإلحاح، على خط التَّناقض الجَّوهري مع هذا المفهوم، حيث كانت مكبَّلة، تماماً، بثوابت مرجعيَّة المهدي القائمة على «الزُّهد» المطلق في «جاه (الدُّنيا) الفاني» و«متاعها الخسيس»، والانتظار الشَّغوف لـ «نعيم الآخرة» وحده. ولمَّا كان ذلك مطلباً عصيَّاً على الفطرة، وطبائع الأشياء، فقد تحتَّم أن تتَّخذ «الدُّنيا المحرَّمة» مسرباً آخر «ملتوياً» يصطدم «الحُلم» فيه بـ «الممارسة»، و«المثال» بـ «الواقع»، حيث الكادحون في جحيم المجاعة، بينما الشَّرائح العشائريَّة المتحلقة حول مركز الحكم المتمثِّل في «الحزب التَّعايشي» تجني ثمار ولائها له بكلِّ السُّبل.

ذلكم هو، باعتقادنا، أحد أخطر الجَّوانب في «فكر المهديَّة»، والذي أدَّى، برأينا، لسقوط «المهديَّة الدَّولة»، بعد أن أسهم في صعود «المهديَّة الثَّورة»؛ ومن ثمَّ تمنَّينا على الإمام الصَّادق لو أنه أولاه عنايته، وأشبعه تحليلاً.


الأربعاء

حدث، على أيَّام النِّظام البائد، أن كنت أرأس هيئة دفاع، أمام محكمة خاصَّة، عن متّهمين ينتسبون لحركة مسلحة توالي تنظيماً اسلامويَّاً منشقَّاً من التَّنظيم الحاكم. وكان نائبي في رئاسة الهيئة عضواً في هذا التَّنظيم المنشق. وفي مرحلة «أقوال المتَّهمين» وقف أحد كبارهم يثرثر بكلام مطوَّل، خارج موضوع التُّهم، عن انتمائه الإثني للاسلام، وانتمائه، لهذا السَّبب، للحركة «الاسلاميَّة»، منذ يفاعته الباكرة، ومشاركته، وهو طالب بالجَّامعة، في انقلاب البشير، حاملاً بندقيَّته فوق أحد الجِّسور! ثمَّ مشاركته، بعد نجاح الانقلاب، في تأمينه، حسبما طُلب منه، أوَّلاً بشغل موقع قيادي في اتِّحاد الطُّلاب، وثانياً بتجنيد خرِّيجين في جهاز الأمن الجَّديد، باعتبار الجِّهاز القديم ليس موثوقاً في ولائه لـ «الحركة الإسلاميَّة»، بشرط أن يكونوا من أسر فقيرة، ضماناً لأن يكون ولاؤهم الوحيد للحركة التي تحتضنهم! وراح يبلغ المحكمة بإسهامه في تجنيد دفعة بتلك المواصفات، وإشرافه على تدريبها. وفجأة أشار إلى رئيس هيئة الاتِّهام، صائحاً، بأقوى ما في حنجرته من طاقة، إنه مِمَّن جنَّدهم هو، وإنه، في الحقيقـة، «مقـدَّم أمـن» يتخفَّى وراء قناع «مسـتشار قانوني»!

تعجَّبت كيف أن القاضي، المعروف بتشدُّده، والذي ظلَّ، طوال الجلسات، يمنع، بصلف، كلَّ كلام لا يروق له، لم يكلِّف نفسه، تلك المرَّة، ولو كلمة يحذِّر بها المتَّهم من الخروج عن الموضوع، بل بقي مطرقاً يتشاغل بكتابة المحضر! فهمست لنائبي الاسلاموي المنشقِّ، سائلاً عمَّا، تراه، السَّبب في تهاون القاضي مع المتَّهم، فأجابني، وهو نفسه مطرق يتشاغل بالكتابة، قائلاً: «لأنه إذا تجرَّأ وقاطعه فسيقول له أنت نفسك كنت في تلك الدُّفعة»! فعدتُّ أسأله، مندهشاً: «يسألك الله»؟! فأجابني، دون أن يرفع رأسه، وعلى شفتيه طيف ابتسامة خبيثة: «يسألني الله، لأنني أنا نفسي كنت في تلك الدُّفعة»!


الخميس

المواكب الهدَّارة التي هدفت لدعم التَّحوُّل الدِّيموقراطي، والحكم المدني، ورفض الانقلاب، والتي انطلقت في تمام الواحدة من بعد ظهر الخميس 21 أكتوبر 2021م، بتوقيت الثَّورة، سرعان ما دكَّت «اعتصام الفلول» المَسْخرة الذي سبقها بأيَّام، دكَّاً، وساوته بالتُّراب، فإذا هو، في الذَّاكرة، محض أثر بعد عين، وإذا بأكلته اللصوص المتداعين إلى قصعته الحرام يتلاشون من وجه الثَّورة، بإبلهم، وخرافهم، ومقاولي شاحناتهم المحمَّلة بأرتال قوارير الماء البارد، وأطفال الخلاوي، والمدارس القرآنيَّة، الفقراء الذين يستجلبونهم من أطراف المدينة بوعود السَّاندوتشات والمشروبات الغازيَّة؛ وإلى ذلك انفضَّ سامر مَن كانوا، لثلاثة أيَّام، يتبوَّلون على جدران القصر الجُّمهوري، ويتغوَّطون في قلب فيراندات شارعي الجُّمهوريَّة والبرلمان، ويتسلُّون، داخل الخيام، بلعب الكوتشينة، ريثما تأتي «الفتَّة»، ومَن كانوا يحاولون، بكلِّ عبط، تقليد مظاهر اعتصام القيادة العامَّة المجيد، بما في ذلك حتَّى «التَّفتيش بالذُّوق»، وفي الأثناء يستجدون البرهان «بياناً أوَّلاً»! تلك وغيرها من الصُّور الباعثة على القئ ملتقطة من مسخرة «معتصمي الثَّورة المضادَّة»، بينما «كابوسٌ» واحدٌ ما انفكَّ يتراءى لهم، حتَّى في يقظتهم، لكن جُبنهم حال بينهم وانتظاره، وإن كان محض وهم: الاستشهاد!


الجُّمعة

لدى زيارته لسلاح المدرَّعات بمنطقة الشَّجرة، في عقابيل مسرحيَّة انقلاب اللواء بكراوي في سبتمبر 2021م، خاطب البرهان الضُّبَّاط والجُّنود، قائلاً: «أنتم حرَّاس الانتقال بالبلاد، حتَّى تسليم السُّلطة إلي حكومة منتخبة»!

وفي نفس الوقت أعلن حميدتِّي، نائب البرهان، لدى مخاطبته، بمكتبه، وفداً من المعلِّمين، قائلاً: «لن نسلِّم الشُّرطة والمخابرات إلا لرئيس منتخب»!

المعنى واضح لكلِّ من ألقى السَّمع وهو شهيد، فقيادات العسكريتاريا ائتمرت، من أوَّل الجَّيش والدَّعم السَّريع، حتَّى آخر فصائل دارفور في سلام جوبا «أساساً مناوي وجبريل»، على ألاَّ سلطة للمدنيِّين في «الفترة الانتقاليَّة»، وبالذَّات على الأجهزة الشُّرطيَّة والأمنيَّة. وتبدو الصُّورة كالحة العتمة حين نلحظ، وراء تعبيرات هؤلاء القادة، أن بمستطاعهم تمديد «الفترة الانتقاليَّة» إلى يوم القيامة (!) طالما استوثقوا من سيطرتهم على مفاصلها الأساسيَّة، ومن أن82% من الثَّروة في أيديهم، و .. بلا وثيقة دستوريَّة بلا لمَّة!


السَّبت

احتفاءً بذكرى أكتوبر 1964م، واستشرافاً للمؤتمر السَّابع للحزب الشِّيوعي السُّوداني، نستعيد ملاحظة الطَّابع التَّركيبي المعقَّد لتطوُّر مفهوم الدِّيموقراطيَّة لديه. فعلى حين بقيت مطلوبة، استراتيجيَّاً، في أفق مشروعه الاشتراكي، ظلت ملتبسة بمفاهيم «الدِّيموقراطيَّة الاشتراكيَّة، الشَّعبيَّة، الجَّديدة، الثَّوريَّة .. الخ»، تحت الأثر الضَّاغط للتَّجربتين الاشتراكيَّتين السُّوفييتيَّة والصَّينيَّة على حركتي اليسار والتَّحرُّر الوطني العالميَّتين، وهى المفاهيم التي تصعَّدت من أنماط الهيكلة الستالينيَّة للحزب والدَّولة، مستهدية بالقدح الماركسي اللينيني، خصوصاً في نسخته الرُّوسيَّة، لـ «الدِّيموقراطيَّة الليبراليَّة».

مع ذلك، من فساد النَّظر عدم ملاحظة الميل القوي لمؤشِّر أصالة الحزب الفكريَّة نحو «الدِّيموقراطيَّة الليبراليَّة»، بمضمونها القائم في الحريَّات العامَّة والحقوق الأساسيَّة، لدرجة النَّقد الصَّريح الباكر، في هذه النَّاحية، للتَّجربة السُّوفييتيَّة، قبل انهيارها المدوِّي بنحو من نيف وأربعين سنة.

ولعلَّ من الصَّعب، إن لم يكن من المستحيل، فضَّ التَّناقض بين «الدِّيموقراطيَّة الشَّعبيَّة» و«الدِّيموقراطيَّة الليبراليَّة»، بدون وضع اليد على مسألتين مهمَّتين:

أولاهما: مسألة مركزي «الجَّذب» و«الطَّرد» الكامنين، من جهة، في مفهوم «الدِّيموقراطيَّة الليبراليَّة» التي تستصحب «الحريَّات والحقوق السِّياسيَّة»، وتهدر «العدالة الاقتصاديَّة»، ومن جهة أخرى في مفهوم «الدِّيموقراطيَّة الشَّعبيَّة» التى تفعل العكس.

وثانيتهما: مسألة ضعف الأساس الاجتماعي لـ «الدِّيموقراطيَّة البرلمانيَّة» وثيقة الصِّلة بـ «الدِّيموقراطيَّة الليبراليَّة» في الممارسة السُّودانيَّة «حيث الوزن الكبير للقطاع التَّقليدي في الحياة الاقتصاديَّة، ومن ثمَّ وجود قوى اجتماعيَّة في الدِّيموقراطيَّة البرلمانيَّة ذات مصلحة مضادَّة لتوسيع قاعدة الدِّيموقراطيَّة، وتجديد الحياة في القطاع التَّقليدي» (الماركسيَّة وقضايا الثَّورة السُّودانيَّة، ص 134ـ ومحمد إ. نقد؛ مباديء موجِّهة لتجديد البرنامج). ولا غرو، فالطَّبقات المتميِّزة تعيد انتاج شكوكها التَّاريخيَّة في الحقوق الدِّيموقراطيَّة التي تقترن بتهديد امتيازاتها، وبتغيير الأساس الاقتصادي السِّياسي الذي يوفِّرها، مِمَّا يكشف عن الضَّلالات الأيديولوجيَّة بشأن تصوُّر هذه الحقوق كمنح سلطانيَّة!وقد وضحَ هذا التَّنازع في فكر الحزب منذ مؤتمريه الثَّالث «فبراير 1956م»، والرَّابع «أكتوبر 1967م»، ودورات اللجنة المركزيَّة الاستثنائيَّة «مارس 1953م مثلاً»، ووثائقه الأخرى ذات الطابع البرامجي. فعيون الحزب لم تكن كليلة، يوماً، عن النَّقد الماركسي اللينيني التَّقليدي للدِّيموقراطيَّة البرجوازيَّة، حيث تمارس «الثَّروة» سلطتها، وفق إنجلز، تحت ستار الجُّمهوريَّة الدِّيموقراطيَّة بصورة غير مباشرة، لكن، في نفس الوقت، على نحو أكثر وثوقاً، فتتمظهر كسلطة للشَّعب أو غالبيَّته، بينما هى، في حقيقتها، سلطة لأقليَّة برجوازيَّة تمارس استبدادها المطلق على بقيَّة الطَّبقات (أصل العائلة والملكيَّة الخاصَّة والدَّولة، ص 127). مع ذلك بقي الحزب واعياً، من زاوية نفس الماركسيَّة اللينينيَّة، للاتِّجاه النَّظري العام في تقييم هذه الدِّيموقراطيَّة البرجوازيَّة، كأداة لا تلغي الاضطهاد الطَّبقي، وإنَّما تساعد على فضحه، لا تخلِّص الكادحين من الاستغلال، وإنَّما تعينهم على منازلته. فمِن رأي ماركس، مثلاً، أن تأسيس الجُّمهوريَّة في فرنسا عام 1848م يساعد البرجوازيَّة على بسط سطوتها، لكنه، أيضاً، يهيِّيء للمستغَلين منازلة مستغِليهم (ضمن: أ. دنيسوف «محرِّر»؛ نظريَّة الدَّولة والقانون، ص 129).

هكذا سجَّل الحزب، باكراً، ميله للتَّمحور حول حكومة وطنيَّة ديموقراطـيَّة تنجز مهامها، فتضع مجتمعاتنا، بالتَّدريج، على طريق التحوُّل الاشتراكي (برنامج المؤتمر الثالث 1956م ـ ومحمد ابراهيم نقد؛ مبادئ موجِّهة ..). ومن ثمَّ أبدى حماساً ملحوظاً للتَّوسُّل بالدِّيموقراطيَّة لجعل قيام مثل هذه الحكومة ممكناً، بالنِّضال وفق أشراط  «الدِّيموقراطيَّة البرلمانيَّة»، رغم كلاسيكيَّات الهجاء الماركسـي لهـا، وبالذَّات فـي طبعـته اللينينيَّـة القائمـة علـى تعميـم خبرة الثَّـورة الرُّوسيَّة (1917م)، حيث «الأمر الرَّئيس سبق وتحقَّق في كسب طليعة الطَّبقة العاملة إلى جانب السُّلطة السُّوفييتيَّة ضدَّ البرلمانيَّة، وإلى جانب دكتاتورية البروليتاريا ضدَّ الدِّيموقراطيَّة البرجوازيَّة» (لينين؛ مرض اليساريَّة الطُّفولي في الشِّيوعيَّة، ص 77)؛ وحيث «دكتاتوريَّة البروليتاريا وحدها القادرة على تحرير الانسان من اضطِّهاد رأس المال، وكذب، وزيف، ونفاق الدِّيموقراطيَّة البرجوازيَّة  المقتصرة على الأغنياء» (لينين؛ حول الدِّيموقراطيَّة والدِّيكتاتوريَّة، ص 390)، وحيث «من الحماقة والسَّخف الاعتقاد بإمكانيَّة الانتقال للاشتراكيَّة عن طريق الدِّيموقراطيَّة» (لينين؛ الاقتصاد والسِّياسة في عصر دكتاتوريَّة البروليتاريا، ص 281). وتتجلَّى المفارقة، هنا، في عودة «الحماقة والسَّخف!»، بعد بضعة عقود من وفاة لينين، ليشكلا أحد أهمِّ عناصر التَّطوُّر التَّاريخي في فكر الشِّيوعيِّين السُّودانيِّين! فلقد دافع عبد الخالق، أواخر الخمسينات، عن الدِّيموقراطـيَّة البرلمانيَّة ضدَّ نظام عبود، بأن «نظام حكم الفرد في بلد كالسُّودان، متعدِّد القوميَّات، ولمَّا تتلاحم أجزاؤه، بعد، يهدِّد وحدة البلاد .. وخاصة في مشكلة الجَّنوب التي تتطلب الدِّيموقراطـيَّة حلاً، لا القوَّة والتعسُّف، تتطلب التَّراضي والتَّطوُّر الحرَّ، فى وطن مشترك الكلُّ فيه على قدم المساواة" (ع. الخالق؛ دفاع أمام المحاكم العسكريَّة، ص 67). ودحضَ، كذلك، الحُجج ضدَّ «الدِّيموقراطيَّة البرلمانيَّة»، سواءً التى اعتبرتها «بدعة غربيَّة»، أو التى ربطتها بمستوى تعليمي معين، «فقد جرت في بلادنا انتخابات كانت نسبة النَّاخبين فيها أعلى من بعض البلاد الأوربيَّة. وشعبنا، رغم الأميَّة، عرف مصالحه أكثر من بعض الشـُّعوب الأوربيَّة المتعلمة التي تصوِّت لأحزاب المحافظين، فشَّعبنا تمكَّن من انتخاب أغلبيَّة وطنيَّة، في برلمان 1954م، حقَّقت الجَّلاء والاستقلال» (نفسه). كما نافحَ ضدَّ الاتِّهامات التى تلصِق الفساد بالدِّيموقراطيَّة البرلمانيَّة، محتجَّاً بأن الفساد ليس في النِّظام البرلماني، بدليل استمرار الفساد حتى بعد القضاء على هذا النظام بانقلاب عسكـري، فأصل الفساد «طبقات غنيَّة تسيطر على بعض الأحزاب، وتفسد بعض النُّوَّاب بالمال الحرام، وتعميهم عن مصالح النَّاخبين، وتحوِّلهم إلى رجال (نعم) وإمِّعات، فإذا أردنا محاربة الفساد، فيجب اقتلاع الأصل، واجتثاث جذوره؛ البرلمان مرآة تعكس القبيح والجَّميل في ظلِّ الدِّيموقراطيَّة، والعقل يقول إذا لم تقبل نفسك رؤية القبيح في المرآة فابعده عنها، ولا تكن كالطِّفل تحطِّم المرآة، وتصبح كالمنبتِّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى! الدِّيموقراطيَّة ضمانة لمكافحة الفساد، فما من قوَّة تستطيع مراقبة الفساد واجتثاثه غير رقابة الشَّعب، ولا رقابة للشَّعب إلا إذا تمتَّع بحريَّاته كاملة، وامتلك سلطة تغيير الحاكمين» (نفسه ، ص 68 ـ 70).


الأحد

المحامي: يا دكتور، قبل قيامك بالتَّشريح، هل راجعت نبضه؟!

الشَّاهد: كلا.

المحامي: هل قست ضغط دمه؟!

الشَّاهد: كلا.

المحامي: هل فحصت تنفُّسه؟!

الشَّاهد: كلا.

المحامي: إذن، من الممكن أن يكون حياً عندما بدأت بتشريحه؟!

الشاهد: كلا.

المحامي: وما الذي يجعلك متأكداً لهذه الدَّرجة يا دكتور؟!

الشَّاهد: لأن مخَّه كان موضوعاُ في قنينة على طاولتي!

المحامي: لكن مع ذلك هناك احتمال أنه كان ما يزال حيَّاً؟

الشَّاهد: نعم، من الممكن أنه كان حيَّاً، و .. يمارس مهنة المحاماة!


***

kgizouli@gmail.com

 

آراء