تأملات حزينة فيما جرى، وما يجري، وغير ذلك

 


 

 

عفــو الخاطــر:

لا أأتمن على سري شخصا سواك، يكون جديراً به
لمن أسلم القيادة؟ من غيرك قادر على حمل أعبائها؟
حصّن السواحل! اطرد الأعداء بعيداً عن الشواطئ
فإنني سأعود حتما، ان لم يتوفني الله الى رحابه

"شوتا روستافيلي"

في ثمانينيات القرن الماضي سكن الى جواري بجلّق الشام دبلوماسي سوفيتي لطيف المعشر، كريما، مرحا، يعرف حق الجار، فيؤدي حقوقه. ينتمي أردش موسويان الى الأقلية الارمنية التي استوطنت مدينة سخومي بإقليم ابخازيا، حينما كان الإقليم وقتئذ يتمتع بالحكم الذاتي ضمن حدود جمهورية جورجيا السوفيتية. وقد تزوج من سيدة روسية فاضلة، فكانت زوجه، لودميلا، وكريمته الصغيرة، تايا، تصحبانه أثناء إقامته في دمشق، بينما ابنته الكبرى، ناتاشا، ظلت تدرس بموسكو وتقيم مع أنسباء أبيها في حاضرة روسيا وعاصمة اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية طيب الذكر. كانوا يتحدثون فيما بينهم باللغة الروسية، إلا ان اردش كثيرا ما صحبني الى أصدقاء لي من الأرمن يسكنون أحياء برج الروس وباب توما والقصّاع ليروي ظمأه من لغته الأم، وذلك في مناسبات متفرقة وأعياد لهم. انتمى هؤلاء الأصدقاء الى الحزبين الارمنيين الكبيرين: حزب الطاشناق اليميني وحزب الهاشناق اليساري، ولكنهم على قلب رجل واحد أثناء تلك الاحتفالات، بما فيهم السوفيتي أردش والضيوف. أرمن دمشق مثل أرمن سورية في أماكن تجمعاتهم الكبرى بحلب الشهباء ومدينتهم، كَسَبْ، على الحدود السورية – التركية. هم حرفيون وصنّاع مهرة، غالبيتهم امتهنت تطريق النحاس وزخرفته، وتشكيل الفسيفساء، وتعشيق الخشب وتطعيم الأصداف، والحياكة، والتصوير الضوئي، وإصلاح المركبات والآلات الدقيقة؛ ومنهم نسّاجون وبزّازون، ولهم في تتبيل اللحوم وتجهيز صنوف القديد قصب السبق وصيت طبق الآفاق.

وذات يوم أتاني أردش حاملا نسختين من ترجمة عربية صدرت حديثًا بدمشق لملحمة "الفارس في أهاب النمر" التي كتبها شاعر جورجيا الكبير شوتا روستافيلي في القرن الثاني عشر، وظلت حية في نفوس الجورجيين ومن سكن الى جوارهم من الشعوب الأخرى. كنت قد عرفت عن هذه الملحمة من صحافي جورجي قابلته في هلسنكي العام 1976 التي انعقد فيها يومئذ مؤتمر اتحاد الصحافيين العالمي. فحصلت على ترجمتين لها بالانقليزية والفرنسية من اتحاد الكتاب السوفيت عندما توقفت في طريق العودة بموسكو. ذكرت لصديقي اردش هذه الملحمة مرارا في لقاءات متفرقة، وسره ان هناك من انتبه إليها، ولذلك سارع بإهدائي نسختين عن الترجمة العربية فور صدورها، أهديت إحداهما بدوري الى صديق.

لكن ترجمة نزار خليل وغورام تشيكوفان كانت متواضعة، لم ترق الى الترجمة الانقليزية ناهيك عن الفرنسية التي نالت في العام 1964 جائزة أكاديمية العلوم الفرنسية وتولت طباعتها منظمة اليونسكو. راجع الترجمة العربية القاص السوري المخضرم، وليد إخلاصي، وكان الاحرى بتلك المراجعة شاعر فحل من شعراء سورية حتى لا يجهد القارئ نفسه في تذوق النص الشعري والبناء الملحمي. إلا ان تلك من سوالب ترجمة النصوص الأدبية الأجنبية الى العربية، ومشاكلها المزمنة. فهي ليست في روعة ترجمة دريني خشبة للإلياذة والأوديسة ولا تقترب قيد أنملة من ترجمة سامي الدروبي لأعمال دستوفسكي، على سبيل المثال لا الحصر. رأى بعض من يتقن الروسية والعربية معاُ، أنه يمكن القول إن دستوفسكي كتب أعماله بالعربية لا الروسية لشدة روعة الترجمة.

عاش روستافيلي الذي ينتسب الى قريته، ولا يُعرف عنه الكثير، إبان حكم الملكة تمار التي خلفت أبيها على سدة الحكم في أزهى عصور جورجيا الذهبية الذي سبق إشعاعه الفكري الغرب بأزمان، وتوهجت خلاله أسماء فلاسفة عظام مثل يوحنا بيرتسي وآرستي ايخالتوايلي. وفي تلك الحقبة انتشرت دور العلم وتأسست أكاديميات للعلوم أصبحت مقصداً للفلاسفة ومحجاً للعلماء يفدون إليها للدراسة والتدريس. وفي عهد تلك الملكة نشط البحث العلمي والانفتاح على ثقافات الآخرين فتعرف العلماء على ارث العرب والفرس الثقافي وفكرهم.

جاء في مقدمة الترجمة الفرنسية التي سطرها سيرج تسولادزه:

"من موقعها الجغرافي، حيث يتصل في هذه البقعة الشرق بالغرب، يتبين جليا ان جورجيا كانت لحقبة تاريخية ما، حلقة هامة في سلسلة الروابط الطبيعية التي ربطت بين حضارة القارة الآسيوية وحضارة اليونان العظيمتين. ويبدو ذلك واضحا في الكتابات والنقوش التي ما زالت محفورة على الأطلال الضاربة في القدم، دلالة على عراقة حضارة جورجيا وسموقها وربما تفوقها على الحضارات العظيمة للشعوب القديمة التي سكنت آسيا من حثيين وميتانيين واوراديين. وما أسطورة بروميتن المقيد بالسلاسل فوق قمة جبل القفقاس، وتلك التي روت حكاية الارقونتيين الذين عبروا جسر اوكسين ليصلوا الى الجزّة الذهبية، هبة كوكب المشتري، وميدي الذي اجتاح سهول الريح في كولخا على عربة يجرها التنين، إلا دلالة على العلاقة الوطيدة بين جورجيا وبلاد الإغريق."

يقول شوتا روستافيلي في تلك الملحمة في إشارة الى ذلك الكوكب:

نرسل بحارة على دراية جيدة بالأسفار
للبحث عن الكوكب الدري الذي نعاني من فقدانه صنوف العذاب
فلا تستسلمن لليأس! واحتمل قضاء القدر حتى يعودوا
إذ ان الشر زائل، لان الخير أقوى منه.

بخٍ بخٍ! لقد أطنب تسولادزه في وصف الحضارة الجورجية غير آبه بعظمة الحضارات التي نشأت وسمت وتمددت في آسيا الصغرى وبلاد ما بين النهرين وفارس وحوض النيل؛ حضارة عيلام التي ازدهرت أيام الملك الصنديد شوتروك نخونتي، وبابل حينما سطر حمورابي قوانينه الأزلية، وزنوبيا التدمرية، وفراعنة مصر والسودان الذين بنوا مجدا تليدًا، وأمجاد ايبلا واوغاريت وراميتا وافاميا وصور وغيرها في بلاد الشام.

ربما اشتط تسولادزه قليلا أو كثيرا في تقديره لحضارة جورجيا، لكنه لا ريب لم يحد كثيرا عما تشهد عليه أوابد تلك البلاد وترويه الملاحم والأساطير، لا سيما ملحمة أرقونوتيكا، التي سرد فيها القيّم على مكتبة الإسكندرية، ابولونيوس الرودسي، حكاية بحارة السفينة أرقو وسحر ميديا، ابنة الملك آينتس الكولخي التي خلّصت حبيبها، جيسون، وأعانته على اخذ الجزّة الذهبية والعودة بها الى اليونان وفرارها معه الى هناك، ومن ثم مأساتهما معا. لقد عُرضت هذه المأساة في مسارح لا تحصى ولا تعد عن مسرحية يوريبيدس، وبلغات مختلفة، وجسدتها السينما في الشريط الذي اخرجه شاعر ايطاليا الكبير، بيير باولو بازوليني بعنوان (ميديا)، التي لعبت اسطورة الأوبرا العالمية، ماريا كالاس، دور تلك الساحرة فيه، ليبقى الفلم عالقا بأذهان من شاهده. وهو من روائع ما قدمته السينما الإيطالية الى الفن السابع. بازوليني يعرفه الإيطاليون شاعرا مجيدا من شعراء بلادهم المعاصرين، ويراه البعض مخرجا ملهما طوّع السينما شعرا، وآخرون ينظرون إليه كشاعر نظم القريض، أحيانًا، مشاهد متحركة في شريط سينمائي. أثار هذا المبدع "الشمولي" (الذي توقف في السودان زمنا أثناء رحلته الإفريقية فجر الستينيات وفُتن به) جدلا لم يتوقف بعد. ولم يزل كنه حياته ومماته سرا من "أسرار الآلهة".

يزعم روستافيلي في مقدم الملحمة انه استلهم موضوعها من حكاية فارسية قديمة تجري أحداثها في ديار العرب وبلاد الهند. وهي حكاية الملك روستفان العربي، التي تروي صفحاتها قصص الحب والفروسية والشهامة العربية والإيثار عند العربي، وما يترتب على ذلك من تضحيات بالنفس والنفيس والأهل والأقارب، وربما الهوى ايضا. كما يتضح ان الشاعر قد تأثر بشعر الغزل العربي والفارسي الذي روى قصص الحب العذري، والعشاق المتيمين وجنونهم وحبهم المستحيل. وفي هذا – ربما -إشارة الى عشق برّحه وأضناه للملكة تمار، فلم تلتفت إليه، رغم قربه منها في بلاطها وبين حاشيتها. وقد حفزّه عشقه لهذه الملكة المقتدرة الى الدعوة للمساواة بين المرأة والرجل، إذ يقول:

شـــبل الأسد، ليث، ذكرا كان أو أنثى ...

في مقدمة الترجمة العربية يقول المترجمان: "لا يتوقف روستافيلي عند حد نسج الصورة، إنما هو يعني أمرا من وراء كل صورة. انه لم يأت بصورة روستفان الذي يستشير كبار رجال مملكته في أمر تولي ابنته العرش بمحض الصدفة، بل يرمي من وراء ذلك الى نظام الشورى الذي يجب ان يتبعه الحاكم، والى المشاركة في المسؤولية التي يجب ان يتحملها رجال السلطة مع الحاكم."

"ويسوق الشاعر في ملحمته مسألة الخير والشر، مؤكدا ان الخير باقٍ مع بقاء الكون، أما الشر فله جولة ثم يضيع، ويؤكد ايضا ان الخير من الله وان الشر نابع من البشر، ويستشهد على ذلك (وهو المسيحي الأرثوذكسي) بآيات من القرآن والإنجيل."

ظلت جورجيا وفيّة لشاعرها الملحمي فأطلقت اسمه على الشوارع والسوح والمدارس والكليات والجوائز الرفيعة. ولكن الطبقة الحاكمة لم تنتبه الى الملحمة ذاتها، ولم تعر اهتماما الى ما رمى إليه روستافيلي عن كيف يسوس الحاكم الناس ومتى يملك وكيف يمنح، وعلام يرسي قواعد السلطة، وحتّام يبقى فيها. حكم الجورجيون روسيا وبلاد الاتحاد السوفيتي السابق فبقي أكثرهم في سدة الحكم الى حين رحيله عن الفانية. كان أشهرهم جوزيف استالين وخدنه الحميم لافرينتي بيريا، ثم شارك في حكمها جورجيون اخرون، يبرز بينهم الثعلب الفضي ادوارد شفردنازه، أما حكام جورجيا المستقلة اليوم فهم صبية الشبيبة الشيوعية السوفيتية (الكمسمول)، أو يفاع الحزب الشيوعي الذين تسلقوهما تسلقا يبز أمهر بهلوانات السيرك الروسي الشهير، ليرتعوا فسادا وجبروتا وعدوانا وبغيا، كما هو الحال في معظم بلدان الاتحاد التي تفرقت بها السبل بعد الانهيار، وفي السودان مثل آخر.

استطاع جوزيف فيساريونوفتش زلوقاشفيلي المعروف بجوزيف استالين ان يشق طريقه الى البولشفيك، بعد تخليه عن الشعر والأدب، حتى أصبح قريبا من مؤسس الدولة السوفيتية، لينين. كانت طريقا وعرة منذ ان ولد في "قوري" لأب من اوسيتيا يعمل اسكافيا، أملقه القمار وصرعته بنت الحان وأم جورجية كانت ملك يمين أحد الإقطاعيين. تولى استالين قيادة البلاد بعد رحيل المؤسس مطلع العام 1924، ليقترب منه جورجي آخر أصوله انقوشية، مولود بالقرب من سخومي. وأثناء انشغال استالين ورفاقه في المكتب السياسي ببناء هذه الدولة المترامية الأطراف على أراضي قارتين، والتصدي للعدوان وخوض الحروب، استغل بيريا السانحة ليشدد قبضته في الداخل، فيسجن وينفي ويعدم ملايين البشر من شعوب وقوميات مختلفة، ومنهم جورجيون وأنقوش. كان الذعر والخوف والبطش سمة عهد رئيس جهاز الاستخبارات السوفيتية المعروف اختصارا (كي جي بي). لكن هذا الانشغال بالبناء والحروب لا يغفر لاستالين ما ارتكب في عهده، بل كان أول من حاسب القائد وأزاح الجلاد عن الطريق، هو الحزب الذي بقي على رأسه ثلاثة عقود. وفي السودان جلس جلاوزة أتوا من رصيف الحياة على سدة السلطة فأحالوا البلاد الى يباب وصحارى وأفقروا العباد والعمار الى دمار. كثيرون لا يذكرون زمن استالين إلا بتلك الفظائع التي ارتكبها بيريا وجهازه. ولكن أليس في سجل هذا الجورجي ذي الشوارب الكثة غير ذلك؟ كان استالين هو مهندس النهضة الحقيقية للاتحاد السوفيتي بلا منازع. فقد حوّل المجتمع الزراعي المتخلف الى دولة صناعية كبرى، وقوة عسكرية قادرة، رغم الثمن الباهظ الذي دفعه السكان والشعوب والقوميات. ولذلك ساد سدس المعمورة في يوم رحيله الوجوم والذهول، وهام الناس في شوارع العاصمة موسكو بلا هدى، كما يذكر الشاعر الروسي الطليعي، يفقيني يفتشنكو. وعم ذلك الذهول أرجاء اخرى من العالم، فهاهو "المنبثق" (محجوب قسم الله أحمد من رابطة أصدقاء نهر عطبرة) يدخل يومذاك على تلاميذه في عطبره، مدينة الحديد والنار ومرجل حركة العمال النقابية السودانية، ليخط على السبورة بيتين، ثم يطلب منهم تردادها، قبل ان يبدأ درسه بتكرار مآثر الزعيم الراحل:

استالين لم يمت، لكنه غادر قصر الكَرْمَلِين
ليعيش في قلوبنا ... قلوب الكادحين

ولكن ألم يحدث ذلك في أماكن اخرى من العالم، وخصوصا الأقطار العربية؟ يخرج الناس الى الشوارع هائمين، باكين يوم موت الزعيم "الملهم"، ثم تشق نساؤهم الثياب، ويلطمن الخدود، ويضرب رجالهم الصدور ويفلقون الرؤوس فلقا، وبعد مدة يسلخون جلده.

انشغلت جورجيا ولم تزل بصراعاتها الداخلية، وتفجرت بؤر الحروب الأهلية فيما بينهم، مرة في اوسيتيا الجنوبية، ومرارا في ابخازيا التي نزحت منها الأسرة الاباظية الى مصر أيام المماليك البحرية، فتوطنت هناك وذابت في النسيج المصري ليبرز منهم مشاهير في عديد من الحقول، نذكر منهم الصحافي فكري أباظة، والكاتب ثروت أباظة والممثل رشدي أباظة. غير ان غلاة الكرد، ينسب هؤلاء الى الأكراد. لا بأس. ألم يجئ الأكراد من القفقاس أصلا ليستوطنوا مرتفعات تركيا الجنوبية وأذربجان الإيرانية والعراق ونقاط الحدود في سهول سورية الشمالية الشرقية، وبعضهم يشكل أقلية كبيرة في روسيا نفسها؟ تخوض جورجيا اليوم حروب الآخرين ضد روسيا بلا عدة ولا عدد؛ في حين ينصرف غيرهم الى تنمية هائلة تفوق التصور. هاهي باكو لا تستريح قط من كد لا يفتر البتة، تتضاءل أمامه مشاريع دبي وتصغر الى درجة لا تُرى بالعين عند المقارنة. اليوم تسيل دماء السودانيين في معركة من غير معترك، عبث ليس وراءه طائل، اشعلها اشباه رجال بلا خلق ولا حمية ففتكت أول ما فتكت بالموروث السوداني المعنوي والمادي على حد سواء. هي طبيعة الضباع الغادرة النهمة لأي شيء ولكل شيء تمتص الدماء وتنهش الاحشاء، لا الرجال في اهاب النمور!


elsouri1@yahoo.com

 

آراء