تثبيت الحقائق ومكافحة نشر الأكاذيب
حسام عثمان محجوب
1 May, 2023
1 May, 2023
الأحد 30 أبريل 2023
"كعادة سلك يعتمد على أنصاف الحقائق وأنصاف المواقف لتسويق مواقف قحت وسط وسط لا ذاكرة له، وغير نقدي، ولا يحتاج أن يسمع أكثر من هذا الكلام البكائي. هو يمسك العصا من النصف باستهبال فحواه أننا كنا نعرف الكثير، والشيلة التي شلناها عنكم كانت ثقيلة، ولم نكن نكلمكم بها لنبل أخلاقنا.
أقبح ما في المقال (وهو مقصود) تصوير قحت وكأنها وصي على الشعب، وكانت تمارس دوراً أبوياً رسالياً حكيماً بين قوتين، والمصيبة في عدم القدرة على مجرد توجيه إصبع لوم لهؤلاء المجرمين، والجرأة في لوم وعتاب من كان يقول لهم حساباتكم غير صحيحة. بالجد حاجة مقرفة".
الفقرتان السابقتان هما رد صديق عزيز سألته عن رأيه في مقال خالد عمر يوسف المنشور يوم الخميس 27 أبريل، ولي مع هذا الصديق اختلافات عدة في الرؤى والمواقف وهو دائم الاعتراض على كتاباتي الناقدة لقوى الحرية والتغيير وقياداتها.
المعارك الصغرى ومكافحة نشر الأكاذيب
مقالي هذا ليس انشغالاً بمعارك "صغيرة" كما كرر خالد، وإنما بهدف "تثبيت الحقائق ومكافحة نشر الأكاذيب" كما ذكر في ختام مقاله الذي كان مثالاً على منهجه القائم على طمس الحقائق وتزييف التاريخ كما شهدنا في السنين الأخيرة.
يختار خالد أهدافاً وروايات بائنة الضعف لدحضها ولتسويق مواقفه، كدأب منظري وقيادات قوى الحرية والتغيير في ابتذالهم للنقاشات السياسية باختيار سيناريوهات وخيارات مفرطة السذاجة ينسبونها لمعارضي رؤاهم ويتناولونها بالسخرية والتهوين، متجاوزين التحليلات والأسئلة والخيارات الأكثر جدية التي يطرحها معارضوهم.
مقولتا أن الحرب بسبب الاتفاق الإطاري، وأن الحرية والتغيير اتفقت مع الدعم السريع على انقلاب هما فعلاً ساذجتان، ولكن منتقدي الحرية والتغيير والاتفاق الإطاري طرحوا أسئلة أهم، كان يمكن للمقال أن يتناولها. من هذه الأسئلة دور قوى الحرية والتغيير وممارساتها – منذ سقوط البشير، ومروراً بفض الاعتصام والاتفاق والوثيقة الدستورية، والحكومتين الانتقاليتين، وما بعد انقلاب 25 أكتوبر، وحتى العملية السياسية واتفاقها الإطاري وورشها – في إشعال الحرب، ومنها أيضاً صواب توفير قحت الدعم والغطاء السياسي لحميدتي في الأشهر الأخيرة وحتى بعد اندلاع المعارك، ومنها رفضها القاطع لتحميل البرهان وحميدتي وقيادتي الجيش والدعم السريع المسؤولية المباشرة عن قيام الحرب والأرواح والخسائر والدمار، وإصرارها بدلاً عن ذلك على إلقاء كل المسؤولية على عاتق فلول النظام "البائد".
يقوم المقال – الذي سيصبح رواية معتمدة للتاريخ لدى أنصار قحت – على عدة ادعاءات من خالد، منها أنهم (قحت) كانوا أول من نبهوا للأزمة بين الجيش والدعم السريع، وأن الدعم لعب دوراً مهماً وفعالاً في سقوط نظام الإنقاذ، وأن المؤتمر الوطني المحلول عمل على صنع التباينات بين القوات المسلحة والدعم السريع وبين المدنيين والعسكريين، وأن عدة أزمات حدثت بين الجيش والدعم منها واحدة في يونيو 2020 وأخرى حادة في يونيو 2021 كانت دافعاً لمبادرة د. حمدوك، وأن قيادة الدعم السريع أعلنت أنهم لم يكونوا يعلمون بمشاركة الفلول في انقلاب 25 أكتوبر، وأن التباين بين الجيش والدعم أدى لفتح حوارات عديدة بين المكون العسكري والقوى المدنية بعد الانقلاب، وأن قحت أبلغتهم بأنهم لن يكونوا طرفاً في الصراع وطرحوا عملية سياسية شاملة للمدنيين والعسكريين تعالج كافة القضايا وعلى رأسها الإصلاح الأمني والعسكري، وبناءاً على ذلك أصدرت خطها السياسي في فبراير 2022 الذي تطور مع فاعلين دوليين وإقليميين للعملية السياسية التي أثمرت عن الاتفاق الإطاري، وأنهم عملوا على خفض التوتر وبناء الثقة بين الجيش والدعم على مدار أشهر حتى فجر اندلاع المواجهة التي أشعل فتيلها من يريد بالبلاد شراً، وهو النظام البائد.
هذه الادعاءات، التي تراوح بين الأكاذيب وأنصاف الحقائق والرواية الانتقائية للتاريخ، تغفل بإصرار أي دور لقيادة قوى الحرية والتغيير، ولخالد شخصياً، في صنع هذا الواقع السياسي، وخداع المواطنين وتغبيش وعيهم، والسماح باتساع نفوذ وقدرات العسكر.
ظل السيد خالد حتى سبتمبر 2021 من موقعه كوزير شؤون رئاسة مجلس الوزراء في حكومة المحاصصات الانتقالية يؤكد أن الشراكة بين المدنيين والعسكر (واتفاقية سلام جوبا) هي أحسن ما كان يمكن الوصول إليه، وأن الوثيقة الدستورية لم يتم انتهاكها، وأن الأمور طيبة بين مكونات الشراكة، وأن من يعارضون الشراكة يعادون السودان (بل صرح أن من يعارض مؤتمر باريس يقف ضد السودان). وحين كان يتحدث عن تحديات الفترة الانتقالية كان يوجه اللوم لشخصيات شبحية (تبدو خارقة) تابعة للنظام البائد في هياكل الفترة الانتقالية دون أن يتبع ذلك بتوضيح من هم وفي أي هياكل، وماذا فعل هو أو قحت أو الحكومة أو الشركاء لكشفهم وهزيمة مخططاتهم.
تثبيت الحقائق
يظهر المقال وبعض الأحداث الواردة هنا بعض سمات منهج خالد كأحد أهم رموز قوى الحرية والتغيير في التعالي على الجماهير، والوصاية عليها، وعدم الإيمان بها وبقدراتها، والاستعاضة عنها بمساومات الغرف المغلقة مع الشركاء من العسكر والحركات المسلحة والقوى الدولية.
حذر كثيرون منذ المظاهرات الأولى من سرقة الثورة عبر انقلاب عسكري وتشكيل مجلس عسكري يمثل الإنقاذ 2، ويمكن الاطلاع على البيان الصادرفي 25 ديسمبر 2018 بعنوان "حتى لا تُسرق الثورة الشعبية! الوعي الثوري الشعبي هو الضمانة الوحيدة لشعبنا". وظل كثير من المعتصمين أمام القيادة العامة يرفضون أي شراكة مع العسكر، ويحذرون من التنازلات للمجلس العسكري، ويرفضون الرواية التي بدأت بعض مكونات قوى الحرية والتغيير وجهات مرتبطة بالأجهزة الأمنية في ترويجها وهي اشتراك الدعم السريع وأعضاء اللجنة الأمنية في الثورة ودورهم في إسقاط البشير.
كان الثوار يعرفون مدى خواء هذه الرواية وخطورتها على مستقبل الفترة الانتقالية، فقد كان أعضاء اللجنة الأمنية وحميدتي شركاء للبشير في جرائمه، ولم تكن مشاركتهم بعدم إبادتهم المتظاهرين خالصة لوجه الثورة أو الشعب، فقد استمروا في قتل المعتصمين والمتظاهرين طوال أبريل ومايو حتى ارتكبوا مجزرة فض الاعتصام. كما كان "انحيازهم" حفاظاً على مصالحهم وفرملةً للثورة وإنقاذاً للنظام.
كان السيد خالد حينها ممن روجوا خدعة "الصلاحيات الشرفية" للمجلس السيادي ووقفوا يتفرجون على العسكر بنوعيهم وهم يستحوذون على مساحات خصصها الاتفاق والوثيقة الدستورية للمدنيين، ويزيدون عدد وعتاد وعلاقات وموارد قواتهم وإمبراطورياتهم (أشار خالد نفسه في 2019 أن عدد قوات الدعم السريع تبلغ حوالي 60 ألف مقاتل، ثم ذكر في 2021 أنها تبلغ حوالي 100 ألف، بينما تشير تقديرات خبراء عسكريين أنها وصلت الآن 160 ألفاَ).
ومن اللافت في مقاله قوله عن الدعم السريع: "... وقائده ذو وضعية دستورية "نائب الرئيس"". هذه عبارة مفتاحية في فهم أداء قحت البائس أثناء الفترة الانتقالية، فرغم أن كثيرين ظلوا يطرحون سؤالاً بسيطاً لقيادات قحت عن المرجعية الدستورية أو السياسية لمنصب "النائب الأول لرئيس المجلس السيادي" الذي اخترعه العسكر وتولاه حميدتي، ويسألون عن مصير المنصب بعد تولي المدنيين رئاسة المجلس في النصف الثاني من الفترة الانتقالية، إلا أن الإجابة الوحيدة جاءت من عضو المجلس محمد الفكي بعد الانقلاب وكانت تدعو للرثاء بأنه لم تكن للمسمى قيمة ولذلك سمحوا له باستعماله.
أما تآمر الكيزان على الفترة الانتقالية بصنع التباينات فلم يكن ليفاجئ إلا من ظنوا أن نظام الإنقاذ يمكن أن يذوب في أيام بدون مقاومة وظنوا في أنفسهم قدرات خارقة تسمح لهم بمشاركة بعض قادة النظام، وملاحقة بعضهم الآخر بنصف قلب ومسرحيات هزلية. وكان خالد صرح برفضه لهتاف الثوار "أي كوز ندوسه دوس" واعظاً الجماهير بخطئه. ثم تفاجأ مع غيره بعودة الكيزان بعد سنتين من الحكومة الانتقالية وكأنهم كانوا في إجازة نقاهة.
وكمثال على هذا التعالي على الجماهير يمكن التذكير بما حدث حين أورد أحد صحفيي قحت في صفحته الخاصة في الفيسبوك فيديو لأحد أصحاب الدرداقات يشكو عسف السلطات وقام بـ "متاقاة" خالد، الذي سرعان ما علق على المنشور طالباً أن يحضر هذا المواطن له في مكتبه، فذكره أحد المتداخلين أن المواطن كان ضمن مجموعة من أصحاب الدرداقات حضرت لمجلس الوزراء قبلها بأسابيع لعرض شكاواهم فلم يقابلهم خالد ولا أي مسؤول ولم يتسلموا مذكرتهم.
الخداع وتزييف التاريخ
الحديث عن التوترات والأزمات السابقة بين الدعم السريع والقوات المسلحة لا يدل إلا على خداع الجماهير وإحساس الوصاية عليهم طوال السنين الماضية، حين استأثر خالد وقادة قحت بنقاش واتخاذ القرارات في مصائر البلاد وحياة المواطنين من وراء ظهورهم، ثم لم يتحملوا مسؤولية فشل مناهجهم وخياراتهم.
هذه الوصاية تظهر بشدة في تصريح عضو المجلس السيادي محمد حسن التعايشي: "الصيغة السياسية التي افرزتها تداعيات الاتفاق السياسي لم تكن مقبولة للغالبية العظمى من السودانيين الذين صنعوا الثورة ولم تكن محل إعجاب لمعظم من هم على رأس هذه الحكومة نفسها وانا واحد منهم". والسؤال: من أعطاهم الحق ليقرروا في مصير الوطن مراراً وتكراراً بعكس رغبات الشعب حتى بعد فشلهم الكارثي في تحليلاتهم وقراراتهم؟
وسردية المقال عن الحوارات التي قادت للعملية السياسية والاتفاق الإطاري تثبت خداع قحت لجماهير الشعب السوداني التي قاومت انقلاب 25 أكتوبر منذ ساعاته الأولى. فقد ظلت قوى الحرية والتغيير ومناصروها ينكرون أي حوار مع الانقلابيين، وحتى حين كانت تصريحات قادة كفضل الله برمة ناصر تكشف مشاركته في حوارات كهذه كان قادة قحت بمن فيهم أعضاء حزب الأمة يردون بأنه لا يمثل مؤسسات الحزب. وكانت الرواية الرسمية أن الرؤية السياسية لقوى الحرية والتغيير (الصادرة في ديسمبر 2019) ثم ورقة الموقف التي قدمتها لليونيتامس في فبراير 2022 سبقتا أي لقاءات أو حوارات مع الانقلابيين، وأن الاجتماع في منزل السفير السعودي في يونيو 2022 كان اجتماعاً غير رسمي، ولم تكن ولن تكون هناك لقاءات أو مفاوضات مباشرة. ونجد صفحة قوى الحرية والتغيير الرسمية ترفع شعار (لا تفاوض لا شراكة لا شرعية) حتى يوم 28 فبراير، وقبلها بأيام تنفي مقابلة أعضاء في المجلس العسكري الانقلابي. بينما يؤكد مقال خالد وجود حوارات مستمرة منذ الانقلاب.
تسويق الدعم السريع
رغم بيانات وتصريحات قوى الحرية والتغيير ومكوناتها وقياداتها بمن فيهم السيد خالد عمر بعد بدء المعارك متخذين موقفاً سليماً بالدعوة لإيقاف الحرب وعدم تأييد أي من طرفيها، إلا أنه لا يمكن إغفال أنها تحمل مسؤولية الحرب بشكل شبه كامل لفلول النظام البائد، ولا تتضمن أي إدانة للبرهان وحميدتي ولا لقيادة الجيش والدعم السريع بما يعني إعفاءهم من أي دور في إشعال الحرب واستمرارها والضحايا والدمار الناتجين عنها. وفي هذا الموقف إغفال لمسؤولية الرجلين وقيادتهما في الاستعداد للحرب، والتحرش بالطرف الآخر، ووضع وتنفيذ خططها، وعدم قيامهم بأي فعل أوإدلائهم بأي تصريح بعد اندلاعها يشي عن رغبتهم في إيقافها أو يعطي مصداقية لموقف قحت بأنها مفروضة عليهما.
وإلى جانب هذا الإعفاء المجاني للمجرمين الانقلابيين البرهان وحميدتي، فإنه لا يخفى على فطن استمرار قحت في تسويق صورة حميدتي كرجل مؤمن بالديمقراطية والمدنية وراغب وداعم للتحول الديمقراطي. وما أورده خالد عن حميدتي في مقاله يؤكد هذه الصورة ووجود تقارب بين الرجل وقحت يصل إلى درجة التحالف الضمني. ومن ناقش أحد كوادر قحت (بمختلف مستوياتها التنظيمية) في الأشهر الماضية لا شك لاحظ لمظاهر هذا التقارب والتسويق.
وللأسف، رغم ما يظنه قادة قحت من قدرات سياسية متوهمة، فتبعات هذه الرقصة الأخيرة غير المبررة قيمياً ولا سياسياً قد تكون الأكثر كارثية عليهم وعلى الوطن.
husamom@yahoo.com
"كعادة سلك يعتمد على أنصاف الحقائق وأنصاف المواقف لتسويق مواقف قحت وسط وسط لا ذاكرة له، وغير نقدي، ولا يحتاج أن يسمع أكثر من هذا الكلام البكائي. هو يمسك العصا من النصف باستهبال فحواه أننا كنا نعرف الكثير، والشيلة التي شلناها عنكم كانت ثقيلة، ولم نكن نكلمكم بها لنبل أخلاقنا.
أقبح ما في المقال (وهو مقصود) تصوير قحت وكأنها وصي على الشعب، وكانت تمارس دوراً أبوياً رسالياً حكيماً بين قوتين، والمصيبة في عدم القدرة على مجرد توجيه إصبع لوم لهؤلاء المجرمين، والجرأة في لوم وعتاب من كان يقول لهم حساباتكم غير صحيحة. بالجد حاجة مقرفة".
الفقرتان السابقتان هما رد صديق عزيز سألته عن رأيه في مقال خالد عمر يوسف المنشور يوم الخميس 27 أبريل، ولي مع هذا الصديق اختلافات عدة في الرؤى والمواقف وهو دائم الاعتراض على كتاباتي الناقدة لقوى الحرية والتغيير وقياداتها.
المعارك الصغرى ومكافحة نشر الأكاذيب
مقالي هذا ليس انشغالاً بمعارك "صغيرة" كما كرر خالد، وإنما بهدف "تثبيت الحقائق ومكافحة نشر الأكاذيب" كما ذكر في ختام مقاله الذي كان مثالاً على منهجه القائم على طمس الحقائق وتزييف التاريخ كما شهدنا في السنين الأخيرة.
يختار خالد أهدافاً وروايات بائنة الضعف لدحضها ولتسويق مواقفه، كدأب منظري وقيادات قوى الحرية والتغيير في ابتذالهم للنقاشات السياسية باختيار سيناريوهات وخيارات مفرطة السذاجة ينسبونها لمعارضي رؤاهم ويتناولونها بالسخرية والتهوين، متجاوزين التحليلات والأسئلة والخيارات الأكثر جدية التي يطرحها معارضوهم.
مقولتا أن الحرب بسبب الاتفاق الإطاري، وأن الحرية والتغيير اتفقت مع الدعم السريع على انقلاب هما فعلاً ساذجتان، ولكن منتقدي الحرية والتغيير والاتفاق الإطاري طرحوا أسئلة أهم، كان يمكن للمقال أن يتناولها. من هذه الأسئلة دور قوى الحرية والتغيير وممارساتها – منذ سقوط البشير، ومروراً بفض الاعتصام والاتفاق والوثيقة الدستورية، والحكومتين الانتقاليتين، وما بعد انقلاب 25 أكتوبر، وحتى العملية السياسية واتفاقها الإطاري وورشها – في إشعال الحرب، ومنها أيضاً صواب توفير قحت الدعم والغطاء السياسي لحميدتي في الأشهر الأخيرة وحتى بعد اندلاع المعارك، ومنها رفضها القاطع لتحميل البرهان وحميدتي وقيادتي الجيش والدعم السريع المسؤولية المباشرة عن قيام الحرب والأرواح والخسائر والدمار، وإصرارها بدلاً عن ذلك على إلقاء كل المسؤولية على عاتق فلول النظام "البائد".
يقوم المقال – الذي سيصبح رواية معتمدة للتاريخ لدى أنصار قحت – على عدة ادعاءات من خالد، منها أنهم (قحت) كانوا أول من نبهوا للأزمة بين الجيش والدعم السريع، وأن الدعم لعب دوراً مهماً وفعالاً في سقوط نظام الإنقاذ، وأن المؤتمر الوطني المحلول عمل على صنع التباينات بين القوات المسلحة والدعم السريع وبين المدنيين والعسكريين، وأن عدة أزمات حدثت بين الجيش والدعم منها واحدة في يونيو 2020 وأخرى حادة في يونيو 2021 كانت دافعاً لمبادرة د. حمدوك، وأن قيادة الدعم السريع أعلنت أنهم لم يكونوا يعلمون بمشاركة الفلول في انقلاب 25 أكتوبر، وأن التباين بين الجيش والدعم أدى لفتح حوارات عديدة بين المكون العسكري والقوى المدنية بعد الانقلاب، وأن قحت أبلغتهم بأنهم لن يكونوا طرفاً في الصراع وطرحوا عملية سياسية شاملة للمدنيين والعسكريين تعالج كافة القضايا وعلى رأسها الإصلاح الأمني والعسكري، وبناءاً على ذلك أصدرت خطها السياسي في فبراير 2022 الذي تطور مع فاعلين دوليين وإقليميين للعملية السياسية التي أثمرت عن الاتفاق الإطاري، وأنهم عملوا على خفض التوتر وبناء الثقة بين الجيش والدعم على مدار أشهر حتى فجر اندلاع المواجهة التي أشعل فتيلها من يريد بالبلاد شراً، وهو النظام البائد.
هذه الادعاءات، التي تراوح بين الأكاذيب وأنصاف الحقائق والرواية الانتقائية للتاريخ، تغفل بإصرار أي دور لقيادة قوى الحرية والتغيير، ولخالد شخصياً، في صنع هذا الواقع السياسي، وخداع المواطنين وتغبيش وعيهم، والسماح باتساع نفوذ وقدرات العسكر.
ظل السيد خالد حتى سبتمبر 2021 من موقعه كوزير شؤون رئاسة مجلس الوزراء في حكومة المحاصصات الانتقالية يؤكد أن الشراكة بين المدنيين والعسكر (واتفاقية سلام جوبا) هي أحسن ما كان يمكن الوصول إليه، وأن الوثيقة الدستورية لم يتم انتهاكها، وأن الأمور طيبة بين مكونات الشراكة، وأن من يعارضون الشراكة يعادون السودان (بل صرح أن من يعارض مؤتمر باريس يقف ضد السودان). وحين كان يتحدث عن تحديات الفترة الانتقالية كان يوجه اللوم لشخصيات شبحية (تبدو خارقة) تابعة للنظام البائد في هياكل الفترة الانتقالية دون أن يتبع ذلك بتوضيح من هم وفي أي هياكل، وماذا فعل هو أو قحت أو الحكومة أو الشركاء لكشفهم وهزيمة مخططاتهم.
تثبيت الحقائق
يظهر المقال وبعض الأحداث الواردة هنا بعض سمات منهج خالد كأحد أهم رموز قوى الحرية والتغيير في التعالي على الجماهير، والوصاية عليها، وعدم الإيمان بها وبقدراتها، والاستعاضة عنها بمساومات الغرف المغلقة مع الشركاء من العسكر والحركات المسلحة والقوى الدولية.
حذر كثيرون منذ المظاهرات الأولى من سرقة الثورة عبر انقلاب عسكري وتشكيل مجلس عسكري يمثل الإنقاذ 2، ويمكن الاطلاع على البيان الصادرفي 25 ديسمبر 2018 بعنوان "حتى لا تُسرق الثورة الشعبية! الوعي الثوري الشعبي هو الضمانة الوحيدة لشعبنا". وظل كثير من المعتصمين أمام القيادة العامة يرفضون أي شراكة مع العسكر، ويحذرون من التنازلات للمجلس العسكري، ويرفضون الرواية التي بدأت بعض مكونات قوى الحرية والتغيير وجهات مرتبطة بالأجهزة الأمنية في ترويجها وهي اشتراك الدعم السريع وأعضاء اللجنة الأمنية في الثورة ودورهم في إسقاط البشير.
كان الثوار يعرفون مدى خواء هذه الرواية وخطورتها على مستقبل الفترة الانتقالية، فقد كان أعضاء اللجنة الأمنية وحميدتي شركاء للبشير في جرائمه، ولم تكن مشاركتهم بعدم إبادتهم المتظاهرين خالصة لوجه الثورة أو الشعب، فقد استمروا في قتل المعتصمين والمتظاهرين طوال أبريل ومايو حتى ارتكبوا مجزرة فض الاعتصام. كما كان "انحيازهم" حفاظاً على مصالحهم وفرملةً للثورة وإنقاذاً للنظام.
كان السيد خالد حينها ممن روجوا خدعة "الصلاحيات الشرفية" للمجلس السيادي ووقفوا يتفرجون على العسكر بنوعيهم وهم يستحوذون على مساحات خصصها الاتفاق والوثيقة الدستورية للمدنيين، ويزيدون عدد وعتاد وعلاقات وموارد قواتهم وإمبراطورياتهم (أشار خالد نفسه في 2019 أن عدد قوات الدعم السريع تبلغ حوالي 60 ألف مقاتل، ثم ذكر في 2021 أنها تبلغ حوالي 100 ألف، بينما تشير تقديرات خبراء عسكريين أنها وصلت الآن 160 ألفاَ).
ومن اللافت في مقاله قوله عن الدعم السريع: "... وقائده ذو وضعية دستورية "نائب الرئيس"". هذه عبارة مفتاحية في فهم أداء قحت البائس أثناء الفترة الانتقالية، فرغم أن كثيرين ظلوا يطرحون سؤالاً بسيطاً لقيادات قحت عن المرجعية الدستورية أو السياسية لمنصب "النائب الأول لرئيس المجلس السيادي" الذي اخترعه العسكر وتولاه حميدتي، ويسألون عن مصير المنصب بعد تولي المدنيين رئاسة المجلس في النصف الثاني من الفترة الانتقالية، إلا أن الإجابة الوحيدة جاءت من عضو المجلس محمد الفكي بعد الانقلاب وكانت تدعو للرثاء بأنه لم تكن للمسمى قيمة ولذلك سمحوا له باستعماله.
أما تآمر الكيزان على الفترة الانتقالية بصنع التباينات فلم يكن ليفاجئ إلا من ظنوا أن نظام الإنقاذ يمكن أن يذوب في أيام بدون مقاومة وظنوا في أنفسهم قدرات خارقة تسمح لهم بمشاركة بعض قادة النظام، وملاحقة بعضهم الآخر بنصف قلب ومسرحيات هزلية. وكان خالد صرح برفضه لهتاف الثوار "أي كوز ندوسه دوس" واعظاً الجماهير بخطئه. ثم تفاجأ مع غيره بعودة الكيزان بعد سنتين من الحكومة الانتقالية وكأنهم كانوا في إجازة نقاهة.
وكمثال على هذا التعالي على الجماهير يمكن التذكير بما حدث حين أورد أحد صحفيي قحت في صفحته الخاصة في الفيسبوك فيديو لأحد أصحاب الدرداقات يشكو عسف السلطات وقام بـ "متاقاة" خالد، الذي سرعان ما علق على المنشور طالباً أن يحضر هذا المواطن له في مكتبه، فذكره أحد المتداخلين أن المواطن كان ضمن مجموعة من أصحاب الدرداقات حضرت لمجلس الوزراء قبلها بأسابيع لعرض شكاواهم فلم يقابلهم خالد ولا أي مسؤول ولم يتسلموا مذكرتهم.
الخداع وتزييف التاريخ
الحديث عن التوترات والأزمات السابقة بين الدعم السريع والقوات المسلحة لا يدل إلا على خداع الجماهير وإحساس الوصاية عليهم طوال السنين الماضية، حين استأثر خالد وقادة قحت بنقاش واتخاذ القرارات في مصائر البلاد وحياة المواطنين من وراء ظهورهم، ثم لم يتحملوا مسؤولية فشل مناهجهم وخياراتهم.
هذه الوصاية تظهر بشدة في تصريح عضو المجلس السيادي محمد حسن التعايشي: "الصيغة السياسية التي افرزتها تداعيات الاتفاق السياسي لم تكن مقبولة للغالبية العظمى من السودانيين الذين صنعوا الثورة ولم تكن محل إعجاب لمعظم من هم على رأس هذه الحكومة نفسها وانا واحد منهم". والسؤال: من أعطاهم الحق ليقرروا في مصير الوطن مراراً وتكراراً بعكس رغبات الشعب حتى بعد فشلهم الكارثي في تحليلاتهم وقراراتهم؟
وسردية المقال عن الحوارات التي قادت للعملية السياسية والاتفاق الإطاري تثبت خداع قحت لجماهير الشعب السوداني التي قاومت انقلاب 25 أكتوبر منذ ساعاته الأولى. فقد ظلت قوى الحرية والتغيير ومناصروها ينكرون أي حوار مع الانقلابيين، وحتى حين كانت تصريحات قادة كفضل الله برمة ناصر تكشف مشاركته في حوارات كهذه كان قادة قحت بمن فيهم أعضاء حزب الأمة يردون بأنه لا يمثل مؤسسات الحزب. وكانت الرواية الرسمية أن الرؤية السياسية لقوى الحرية والتغيير (الصادرة في ديسمبر 2019) ثم ورقة الموقف التي قدمتها لليونيتامس في فبراير 2022 سبقتا أي لقاءات أو حوارات مع الانقلابيين، وأن الاجتماع في منزل السفير السعودي في يونيو 2022 كان اجتماعاً غير رسمي، ولم تكن ولن تكون هناك لقاءات أو مفاوضات مباشرة. ونجد صفحة قوى الحرية والتغيير الرسمية ترفع شعار (لا تفاوض لا شراكة لا شرعية) حتى يوم 28 فبراير، وقبلها بأيام تنفي مقابلة أعضاء في المجلس العسكري الانقلابي. بينما يؤكد مقال خالد وجود حوارات مستمرة منذ الانقلاب.
تسويق الدعم السريع
رغم بيانات وتصريحات قوى الحرية والتغيير ومكوناتها وقياداتها بمن فيهم السيد خالد عمر بعد بدء المعارك متخذين موقفاً سليماً بالدعوة لإيقاف الحرب وعدم تأييد أي من طرفيها، إلا أنه لا يمكن إغفال أنها تحمل مسؤولية الحرب بشكل شبه كامل لفلول النظام البائد، ولا تتضمن أي إدانة للبرهان وحميدتي ولا لقيادة الجيش والدعم السريع بما يعني إعفاءهم من أي دور في إشعال الحرب واستمرارها والضحايا والدمار الناتجين عنها. وفي هذا الموقف إغفال لمسؤولية الرجلين وقيادتهما في الاستعداد للحرب، والتحرش بالطرف الآخر، ووضع وتنفيذ خططها، وعدم قيامهم بأي فعل أوإدلائهم بأي تصريح بعد اندلاعها يشي عن رغبتهم في إيقافها أو يعطي مصداقية لموقف قحت بأنها مفروضة عليهما.
وإلى جانب هذا الإعفاء المجاني للمجرمين الانقلابيين البرهان وحميدتي، فإنه لا يخفى على فطن استمرار قحت في تسويق صورة حميدتي كرجل مؤمن بالديمقراطية والمدنية وراغب وداعم للتحول الديمقراطي. وما أورده خالد عن حميدتي في مقاله يؤكد هذه الصورة ووجود تقارب بين الرجل وقحت يصل إلى درجة التحالف الضمني. ومن ناقش أحد كوادر قحت (بمختلف مستوياتها التنظيمية) في الأشهر الماضية لا شك لاحظ لمظاهر هذا التقارب والتسويق.
وللأسف، رغم ما يظنه قادة قحت من قدرات سياسية متوهمة، فتبعات هذه الرقصة الأخيرة غير المبررة قيمياً ولا سياسياً قد تكون الأكثر كارثية عليهم وعلى الوطن.
husamom@yahoo.com