تجربة انقسام سبتمبر 1970 في الحزب الشيوعي السوداني

 


 

 

1
في هذه الصفحات من تاريخ الحزب الشيوعي السوداني نتناول تجربة انقسام سبتمبر 1970 التي مضى علي ذكراها (52) عاما .
كما أوضحنا في دراسة سابقة بعنوان " الهجوم علي الحزب الشيوعي مقدمة لمصادرة الديمقراطية " ، أن الحزب الشيوعي السوداني منذ تأسيسه خاض صراعا فكريا وعمليا ضد الاتجاهات اليمينية واليسارية التي حاولت تصفيته أو الغاء وجوده المستقل تحت ذرائع مختلفة، علي أن الخيط الذي يربط بين كل هذه الاتجاهات، منذ اول انقسام الذي قاده عوض عبد الرازق السكرتير السابق للحزب، وحتي مجموعة انقسام 1970، ومجموعة الخاتم عدلان التي انقسمت من الحزب وكونت حركة (حق)، بعد فتح الحزب للمناقشة العامة في أوائل التسعينيات من القرن الماضي، وحتى مجموعة الشفيع خضر التي خربت الحزب الشيوعي قبل المؤتمر السادس.
حاولت تلك المحموعات تصفية الحزب الشيوعي وحله وتكوين حزب جديد يقوم علي البرنامج لا الايديولوجية، و عمل توليفة فكرية جديدة تتجاوز الماركسية التي فقدت جدواها، وأنه لا وجود للطبقة العاملة في السودان، وبالتالي لا حاجة للماركسية التي قامت علي نقد المجتمعع الرأسمالي والدفاع عن مصالح الطبقة العاملة والكادحين.
هذا هو باختصار الخيط الناظم الذي يربط بين كل هذه الاتجاهات، ورغم خروج هذه الاتجاهات من الحزب وحاول بعضها تكوين احزاب لها، الا أنها فشلت في تكوين احزاب جماهيرية ديمقراطية ، كما زعمت، فلابقيت داخل الحزب لتصارع من اجل ما تري أنه مفيد لتطور الحزب، ولابنت شيئا جديدا حقق الأهداف التي قامت من اجله.
ونركز في هذا المقال علي تجربة انقسام سبتمبر 1970 بمناسبة مرور 52 عاما عليه.
2
تجربة انقسام سبتمبر 1970.
كما اشرنا سابقا أن جذور انقسام 1970 ترجع الي ما قبل 25/مايو/1969م، بل ترجع جذوره الي فترة تأسيس الحزب الأولي كما في الآتي :
- هل يظل الحزب الشيوعي مستقلا سياسيا وتنظيميا وفكريا ام يكون جناحا يساريا داخل الأحزاب الاتحادية؟.
- بعد اكتوبر 1964م، ونتيجة لصعوبات الثورة المضادة وخاصة بعد حل الحزب الشيوعي، برز اتجاه لتصفية الحزب بأن يتخذ موقف ذيليا في التحالف مع الحزب الوطني الاتحادي باعتباره حزب الرأسمالية الوطنية، في حين كان تحليل المؤتمر الرابع ان الرأسمالية الوطنية مشتتة داخل حزب الامة والحزب الاتحادي وبقية الاحزاب ومن المهم، الصبر والفرز علي الدراسة في هذا الجانب.
- ثم كان هناك الانحراف اليميني الذي تم تصحيحه بتكوين الحزب الاشتراكي نتيجة لدمج الحزب الشيوعي مع التيارات الاشتراكية السودانية، اى حل الحزب الشيوعي ودمجه مع قوى اشتراكية اخري، بعد قرار مؤتمر الجريف التداولي عام 1966م.
- بعد انقلاب 25/مايو/1969م، اتخذ الصراع شكلا جديدا، هل يكون الحزب الشيوعي مستقلا أم يذوب داخل حزب ومؤسسات سلطة البوجوازية الصغيرة الذي كان مزمعا تشكيله علي نمط تجربة الاتحاد الاشتراكي في مصر، ويتم تكرار تجربة الشيوعيين المصريين، ودار صراع حول ذلك ، وهل ما حدث في 25 مايو انقلاب أم ثورة؟
قررت اللجنة المركزية في اغسطس 1969 فتح مناقشة عامة ، تعرض فيها وجهات النظر المختلفة علي الفروع والأعضاء، ويتم حسم الصراع في مؤتمر تداولي، وبالفعل صدرت وثيقتان: وثيقة عبد الخالق محجوب ووثيقة معاوية ابراهيم وتمت المناقشة في الفروع واعداد مجلة الشيوعي 134، 135، 136،..الخ، وانعقد المؤتمر التداولي في اغسطس 1970م، أى بعد عام من فتح المناقشة العامة.
وبعد المداولات كانت النتيجة أن الأغلبية الساحقة لأعضاء المؤتمر التداولي وقفت مع الوجود المستقل للحزب، ورفض ذوبانه داخل حزب السلطة ومؤسساتها، حسب ما جاء في الوثيقة التي صدرت عن المؤتمر التداولي..
3
ولكن الجناح الآخر لم يقبل بقرارات المؤتمر ولم يقبل بالديمقراطية الحزبية، أي الالتزام برأي الاغلبية والتمسك بوحدة الحزب والصراع من داخله للدفاع عن رأيه، فالتجربة العملية هي الكفيلة في النهاية بتأكيد صواب أو خطا هذا الرأي أو ذاك.
سلك هذا الجناح مسلكا غير ديمقراطي ولجأ الي التآمر، اذ بعد نهاية المؤتمر مباشرة عقد 12 عضوا من اعضاء اللجنة المركزية (مجموع اعضائها 33) اجتماعا سريا عبروا فيه عن رفضهم لقرارات المؤتمر والتكتيكات التي خرج بها، ثم حضروا اجتماع اللجنة المركزية في 26/8/1970م، دون أن يكشفوا عن خططهم، وبعدها نشروا رسالة وقعوا عليها جميعا، وكان ذلك اعلانا رسميا بالانقسام في سبتمبر 1970 . وتبع ذلك بيان آخر وقع عليه مايزيد عن الخمسين من بعض كوادر الحزب، وتم عقد اجتماعات في بورتسودان وعطبرة والجزيرة للوقوف ضد قرارات المؤتمر وتبعتها اجتماعات في العاصمة (محمد سعيد القدال، الحزب الشيوعي وانقلاب 25 مايو 1969 ، 1986، ص،55).
بذلت اللجنة المركزية جهدا كبيرا لتفادي الانقسام، وفي دورة في اكتوبر 1970، أعلنت اللجنة المركزية عن فشل كل المساعي التي بذلت لتفادي الانقسام، وتوصلت الي أن الجماعة التي وقع افرادها الخطاب خلقوا انقساما كامل الحدود والمعالم، وعليه قررت:
- فصل قادة الانقسام الموقعين علي خطاب الاثني عشر من عضوية الحزب.
- فصل العناصر التي اشتركت معهم في الانقسام بتوقيع الخطاب الآخر.
- أن تطبق كل منظمات الحزب ولجانه اللائحة علي المشتركين في اعمال التكتل.
- حل لجنة الحزب في الجزيرة والمناقل
( دورة اللجنة المركزية ، اكتوبر 1970م).
من الواضح أن الانقسام كان كبيرا شمل حوالي ثلث اعضاء اللجنة المركزية وبعض الكوادر القيادية واغلب قيادة منطقة الجزيرة والتي تقرر حلها واعادة تسجيلها من جديد.
4
أشرنا سابقا الي أن السلطة كانت طرفا في هذا الصراع من خلال تسخير كل امكاناتها لدعم الانقساميين في مخططهم لتصفية الحزب الشيوعي الذي يقف عقبة كاداء أمام السلطة، من خلال كشف اخطائها للجماهير، وبالتالي فشلت مساعي السلطة لهدم القلعة من الداخل. وبعد ذلك ازدادت السلطة شراسة ولجأت لوسائلها التقليدية التي خبرها الحزب الشيوعي وصرعها منذ ديكتاتورية عبود والاحزاب التقليدية، ونظمت السلطة انقلاب 16/نوفمبر/1970م، الذي اسفر عن الوجه اليميني الكالح للسلطة وعن ديكتاتوريتها التي طالما غلفتها بشعارات يسارية، وكانت النكتة الشائعة في الشارع يومها ( أن السلطة تؤشر يسارا وتتجه يمينا)، وكان من نتائج انقلاب 16/نوفمبر/1970م، ابعاد ثلاثة من اعضاء مجلس الثورة ( بابكر النور، فاروق حمد الله، هاشم العطا)، واعتقل عبد الخالق وعزالدين علي عامر، واختفي الكادر القيادي للحزب تحت الأرض، وهكذا انتقل الصراع من محيط الافكار الي ميدان المواجهة.
كما شهدت الفترة بين نوفمبر 1970 ومايو 1971م، هجوما مكثفا علي الحزب الشيوعي شنه النميري في عدة مناسبات، من بينهاالخطابات التي القاها في استاد الخرطوم في 23/نوفمبر/1970، ثم الخطاب الملتهب في 12/فبراير 1971/والذي حرض فيه علنا علي ضرب الشيوعيين وتمزيق الحزب الشيوعي، وفي ابريل 1971م، اقيم مهرجان في ميدان سباق الخيل بالخرطوم والتي شاركت فيه قوى سياسية رأت أن الوقت قد حان لتصعيد الحملة ضد الحزب الشيوعي الي ذروتها، وفي ذلك المهرجان استنفر الناس لضرب الشيوعيين معيدا للاذهان احداث 1965- 1966م، وبلغ ذلك الهجوم ذروته باعتقال اعداد من كوادر الحزب الشيوعي في مايو 1971، وتقديم اعداد منهم للمحاكمات في العاصمة والاقاليم، وكان ذلك بهدف تعطيل نشاط الحزب في المنظمات الجماهيرية، وقد اتهمت وثائق الحزب الانقساميين بتحريض السلطة علي تلك الاعتقالات(قدال، المرجع السابق: ص، 56).
واستمر الهجوم علي الحزب الشيوعي، ورد الحزب علي تلك الحملة ببيانات جماهيرية مثل بيان الحزب الشيوعي في نهاية مايو 1971م والذي عدد فيه جرائم النظام ومآسيه، هكذا تواصلت الحملة، وفي هذه الظروف وقع انقلاب يوليو1971م، وبعد فشل الانقلاب استكمل النميري حملته الصليبية ضد الشيوعيين، باعدام قادة الحزب الشيوعي من مدنيين وعسكريين وتم اعتقال وتشريد الالاف من الشيوعيين والديمقراطيين ، اضافة للمحاكمات غير العادلة، ولكن الحزب الشيوعي صمد أمام تلك العاصفة وبدأت فترة جديدة في مقاومة النظام مع قوى المعارضة الأخري، حتي تمت الاطاحة به في انتفاضة مارس ابريل 1985م.
5
هكذا أوضحت التجربة أن الصراع الداخلي في الحزب لم يكن معزولا عن الصراع الطبقي الدائر في المجتمع حول اى الطريق يسلك: طريق يميني يفضي للتنمية الرأسمالية ام طريق انجاز الثورة الوطنية الديمقراطية بافقها الاشتراكي.
ومهما اختلفت اشكال الصراع، فان المحتوي واحد: الغاء الوجود المستقل للحزب، والهجوم علي مرتكزاته الفكرية(الماركسية)، والهجوم علي منطلقاته الطبقية ( التعبير عن مصالح الطبقة العاملة والكادحين)، والهجوم علي كادره القيادي، وتخريبه من الداخل بزرع الغواصات (نلاحظ أن جل وثائق انقسامي 1970، كانت هجوما شخصيا علي الشهيد عبد الخالق محجوب)..الخ.
كما اكدت التجربة أن كل الانقسامات السابقة لم تنجح في ادعائها ببناء حزب جديد ديمقراطي ومتطور، بل اصابها داء الانقسامات الاميبية، كما حدث في انقسام 1952، وانقسام 1970م، ومجموعة "حق" 1994م، فلا حافظ الانقساميون علي حزبهم ولا بنوا شيئا جديدا يفيد ويوسع من دائرة التقدم والاستنارة.
كما أن من اهم دروس الصراع الفكري الداخلي هو الا ينكفي الحزب علي نفسه وينشغل بصراعاته الداخلية، بل يجب الا ينعزل ذلك الصراع عن نشاط الحزب الجماهيري، والذي من خلاله تمتحن صحة الآراء المصطرعة داخل الحزب.

alsirbabo@yahoo.co.uk
//////////////////////

 

آراء