تجربة فشل الديمقراطية الأولي في السودان1953 – 1958
بعد الاستقلال كانت جماهير شعبنا تتطلع لاستكماله بالاستقلال السياسي والاقتصادي والثقافي، وترسيخ الديمقراطية والتعددية السياسية ومعالجة مشاكل الديمقراطية بالمزيد من الديمقراطية لا الانقلاب عليها ، وانجاز التنمية المتوازنة في كل أنحاء البلاد، بانجاز الدستور الدائم، وقيام دولة المواطنة التي تسع الجميع غض النظر عن العرق أواللون أوالعقيدة أوالفكر السياسي أوالفلسفي، ولكن ذلك لم يتم مما أدي لدخول البلاد في حلقة جهنمية من انقلابات عسكرية وأنظمة ديكتاتورية شمولية أخذت52 عاما من عمر الاستقلال البالغ 64 عاما، وأسهمت تلك الأنظمة العسكرية في تكريس قهر الجنوب وانفصاله، اضافة للمناطق المهمشة، والتنمية غير المتوازنة ومصادرة الديمقراطية والحقوق الأساسية، وتكريس التنمية الرأسمالية والفوارق الطبقية والتبعية للدول الغربية حتي بلغت ديون السودان حاليا حوالي60 مليار دولار، مما يتطلب الاستفادة من تجارب فشل الديمقراطية الأولي والديمقراطية الثانية والثالثة التي تناولناها في الدراسات السابقة بنجاح الفترة الانتقالية الحالية التي نشأت بعد ثورة ديسمبر 2018 ، في ترسيخ السلام بالحل الشامل والعادل الذي يخاطب جذور الأزمة، ولا يعيد إنتاج المظالم والقهر والحرب، والديمقراطية المستدامة والتنمية المتوازنة، وتحسين الأوضاع المعيشية والاقتصادية، وقيام علاقات خارجية متوازنة تكرّس السيادة الوطنية!!..
* جاء إعلان استقلال السودان من داخل البرلمان ، عندما أتخذ البرلمان في جلسته رقم "43 " يوم الأثنين 19 ديسمبر 1955 قرارا بالاجماع نص علي إعلان الاستقلال ، بعد اقتراح قدمه النائب السيد عبد الرحمن محمد إبراهيم دبكة .
لم يكن استقلال السودان سهلا، فقد كان نتاجا لتراكم نضالي طويل خاضه الشعب السوداني منذ هزيمة الدولة المهدية، وإعلان دولة الحكم الثنائي الانجليزي – المصري عام 1898 ، بدأت مقاومة الشعب السوداني بانتفاضات القبائل في جنوب السودان وجبال النوبة ، والانتفاضات الدينية في أواسط وشرق وغرب السودان والتي كانت مستمرة في السنوات الأولى للحكم الثنائي، وبعد الحرب العالمية الأولى وحتى عام 1926 حيث تم إخضاع آخر القبائل الجنوبية المتمردة ( التبوسا ) ، وعام 1929 عندما تم قمع المعارضة نهائيا بقمع قبيلة الليرى في جبال النوبة ، وقبل ذلك كان إخضاع دار فور بهزيمة السلطان على دينار عام 1916 .
بعد ذلك ظهرت أشكال وأساليب جديدة في الكفاح مثل : قيام الجمعيات والاتحادات السرية " الاتحاد السوداني ، اللواء الأبيض " ، وتأسيس الأندية الاجتماعية " أندية الخريجين ، وأندية العمال والثقافية والرياضية "، وظهرت أساليب نضالية جديدة مثل : المنشورات والكتابة في الصحف، الخطب في المساجد ، انتفاضات وتمرد الجنود السودانيين " تمرد الأورطة السودانية 1900 ، مقاومة العسكريين المسلحة في 1924 "، ثورة 1924 ، الجمعيات الأدبية والثقافية التي تكونت بعد هزيمة ثورة 1924 "جمعية أبى روف وجمعية الفجر" وظهور مجلتا "النهضة السودانية "و"الفجر"، اضرابات العمال من أجل تحسين الأجور وشروط الخدمة ، واضراب طلاب كلية غردون 1931 ، تكوين مؤتمر الخريجين عام 1938 ، ومذكرته الشهيرة عام 1942 التي طالبت بتقرير المصير ، تكوين الأحزاب بعد الحرب العالمية الثانية ، انتزاع الطبقة العاملة لتنظيمها النقابي " هيئة شؤون العمال" عام 1947 ، وقانون النقابات لعام 1948 الذي قامت علي أساسه النقابات وتم تكوين اتحادات العمال والمزارعين والطلاب والشباب والنساء والمعلمين والموظفين التي لعبت دورا كبيرا في معركة الاستقلال، وظهور الصحافة التي لعبت دورا كبيرا في الوعي ، وحركة الدفاع عن الحريات والسلام.
كما قاومت الحركة الوطنية والجماهيرية محاولات الاستعمار لامتصاص المد الجماهيري باحداث اصلاحات دستورية وتغييرات شكلية تبقي علي جوهر النظام الاستعماري والسلطات المطلقة للحاكم العام مثل : المجلس الاستشاري لشمال السودان عام 1943 ، والجمعية التشريعية عام 1948 التي دخلها حزب الأمة والزعامات القبلية ، وقاومها الاتحاديون والشيوعيون وجماهير الشعب السوداني، وتمّ تقديم الشهداء في مقاومتها كما حدث في عطبرة ، ومحاولات تكوين "لجان العمل" في الورش لتفتيت وحدة العمال في السكة الحديد التي رفضها العمال وطرحوا البديل "النقابة" التي توحد العمال والفنيين.
هذا التراكم النضالي أدي في النهاية لتوقيع اتفاقية الحكم الذاتي لعام 1953 التي كانت نتاجا لنضال الشعب السوداني ، ونتج عنها تكوين أول برلمان سوداني في نهاية عام 1953..
اتفاقية 1953 :
- أعطت اتفاقية فبراير 1953 التي تمّ توقيعها بين الحكومتين المصرية والبريطانية الحكم الذاتي وتقريرالمصير للشعب السوداني، ووقع عن الحكومة المصرية اللواء أ. ح محمد نجيب، وعن الحكومة البريطانية رالف استيفنسون، وعُرفت باتفاقية ( نجيب – استيفن)، وكان الهدف ممارسة الشعب السوداني لحق ممارسة تقرير المصير في جو محايد، وفترة انتقالية لانهاء الإدارة الثنائية ، والاحتفاظ بسيادة السودان للسودانيين حتى يتم تقرير المصير، وبوحدة السودان بوصفه اقليما واحدا، وتقرير مصير السودان بواسطة الجمعية التأسيسية المنتخبة، إما بالارتباط مع مصر أو الاستقلال التام.
- اتخذت الاتفاقية ترتيبات انتقالية مثل: تعيين لجنة انتخابات محايدة مكونة من سبعة أشخاص ، ولجنة للسودنة مكونة من ستة أشخاص ، ومشروع لقانون لانتخاب جمعية تأسيسية، وضمان حيدة الانتخابات ، وجلاء القوات العسكرية المصرية والبريطانية من السودان فور اصدار قرار من البرلمان.
- حددت مهام الجمعية التأسيسية في: تقرير مصير السودان كوحدة لا تتجزأ ، وإعداد دستور للسودان يتواءم مع القرار الذي تتخذه في هذا الصدد، ووضع قانون لانتخاب برلمان دائم ، وتقرير مصير السودان اما بالارتباط مع مصر أو الاستقلال التام ، وتتعهد الحكومتان المصرية والبريطانية باحترام قرار الجمعية التأسيسية.
من عيوب الاتفاقية التي انتقدها الحزب الشيوعي أنها أعطت الحاكم العام سلطات مطلقة عندما أشارت إلي أن الحاكم العام إبان فترة الانتقال السلطة الدستورية العليا داخل السودان ، ويمارس سلطاته وفقا لقانون الحكم الذاتي بمعاونة لجنة خماسية تسمى لجنة الحاكم العام تتكون من اثنين من السودانيين ترشحهما الحكومتان ، وعضو مصري ، وعضو بريطاني، وعضو باكستاني، إضافة إلي أنها أخرت الاستقلال لمدة ثلاث سنوات هي فترة الانتقال.
انتخابات 1953
في ظل الآمال العراض بنهضة السودان، جرت الانتخابات في آخر العام 1953 ، بلغ عدد الدوائر 97 دائرة تنافس عليها 227 مرشحا يمثلون 6 أحزاب وتنافس 22 مرشحا علي دوائر الخريجين الخمسة ، وكانت التييجة الوطني الاتحادي 53 ، الأمة 22 ، المستقلون 7 ، الجنوب 7 ، الجمهوري الاشتراكي 3 ، ، وحصل الوطني الاتحادي علي 3 في الخريجين ومستقل علي مقعد ، والجبهة المعادية للاستعمار( تحالف الشيوعيين والديمقراطيين) علي مقعد ، وحصل الوطني الاتحادي علي أصواته في مناطق الوعي، اضافة الي تأييده لمواقفه المناهضة للاستعمار.
أثار حزب الأمة حصول الوطني الاتحادي علي أموال مصرية لدعم حملته الانتخابية، وعبر عن عدم رضائه في حوداث مارس 1954 يوم افتتاح البرلمان الذي حضره الرئيس المصري محمد نجيب التي راح ضحيتها عدد كبير من القتلي والجرحي، وكانت بداية سيئة لعهد الاستقلال والعنف في الحياة السياسية أدي لتقويض الديمقراطية فيما بعد.
ماهي انجازات برلمان 1953 :
فتح الطريق لتوسيع النضال الجماهيري من أجل إلغاء القوانين المقيدة للحريات مثل :
- إلغاء قانون النشاط الهدام في جلسة مجلس النواب المنعقدة مساء الثلاثاء 30 /3/ 1954.
- التمسك بوحدة البلاد والتنمية المتوازنة، ، وتوسيع التعليم وزيادة ميزانيته.
- تكوين الجبهة الاستقلالية من مندوبي حزب الأمة والحزب الجمهوري الاشتراكي والجبهة المعادية للاستعمار وشخصيات مستقلة وعمالية والتي اتفقت علي الاستقلال التام ، وكفالة الحريات وعدم ربط البلاد بالأحلاف العسكرية ومعونات الدول التي تؤثر علي سيادتنا.
- رغم تلك العيوب والقنابل الموقوتة التي تركها الاستعمار مثل : مشكلة الجنوب ، وتكريس الانقسام الطائفي والقبلي في المجتمع السوداني نتيجة لسياسة " فرق تسد " التي مارسها طيلة حكمه ، والتنمية غير المتوازنة التي أدت لانفجار المناطق الأكثر تخلفا بعد الاستقلال ،وسيطرة شركاته وبنوكه علي مفاتيح الاقتصاد الوطني ، وجعل السودان دائر في فلك النظام الرأسمالي في تبادل غير متكافئ مصدرا للمواد الخام " قطن ، صمغ عربي ، جلود..الخ" ، الا أنه تم جلاء القوات المصرية والبريطانية .
- اقرار دستور السودان الانتقالي المؤقت لعام 1956 الذي كفل الحقوق والحريات الأساسية.
- إعلان الاستقلال من داخل البرلمان في 19 ديسمبر 1955 ، وإعلان الاستقلال رسميا في أول يناير 1956.
- استكمال السيادة الوطنية باصدار العملة الوطنية عام 1957.
- جاء استقلال السودان نظيفا بدون ارتباط بالأحلاف العسكرية التي كان يعج بها العالم يومئذ مثل : حلف الاطلنطي وحلف وارسو ، وحلف بغداد..الخ ، والحرب الباردة التي كانت مستعرة بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، وكان استقلالا حقيقيا عكس هيبة السودان ، وقال فيه الرئيس الراحل إ سماعيل الأزهري " جئنا باستقلال نظيف مثل : صحن الصيني ،لا فيه شق ولا طق".
اضافة لدعم حركات التحرر في المنطقة ودعم كتلة عدم الاتحياز ورفض العدوان الثلاثي علي مصر عام 1956، ورفض القوى الوطنية والنقابات للمعونة الأمريكية المشروطة.
لقاء السيدين
بعد تكوين حكومة الأزهري وفشل ضغوط حزب الأمة والصراع داخل الوطني من طائفة الختمية لاقصائه ، وبعد شعر زعماء الطائفتين السيد علي الميرغنى والامام عبد الرحمن المهدي أن حكومة الأزهري بدأت تعبر عن استقلالها عن الطائفتين ، تمّ الاجتماع التاريخي بين السيدين لأول مرة منذ 20 عاما في 10 أكتوبر 1955 الذي مهد الطريق لجهد مشترك يستهدف اقصاء الأزهري ، وكانت جلسة البرلمان في 10 نوفمبر 1955 ، عندما انحاز عدد من نواب الحزب الوطني الاتحادي الموالين للسيد علي الي جانب حزب الأمة في التصويت علي الميزانية العامة ، كان من المتوقع أن تسقط حكومة الأزهري ويشكل ميرغنى حمزة حكومة ائتلافية تضم الختمية وحزب الأمة، غير أن السيدين لم يقدرا مزاج الرأي العام ، فقد اندلعت المظاهرات المؤيدة لأزهري ، وحين عاد مجلس النواب للانعقاد في 15 نوفمبر فاز الأزهري بالأغلبية، وفشلت محاولة السيدين، بعد ذلك طرح السيدين حكومة قومية لكبح حرية الأزهري ، والمساعدة في اختيار رئيس وزراء جديد( تيم نبلوك: صراع السلطة والثروة في السودان)، لكن الأزهري قاوم حتى إعلان استقلال السودان في 23 ديسمبر والذي اصبح نافذا في أول يناير 1956.
تحت الضغوط من داخل الحزب تمّ تشكيل الحكومة القومية في فبراير 1956 ، وجاء انقسام الوطني الاتحادي بتشكيل حزب الشعب الديمقراطي في مايو 1955 الذي حصل علي مباركة السيد علي وثلاثة مجموعات كانت قد انسلخت عن الوطني هي: مجموعة ميرغني حمزة( الجمهوريون المستقلون)، ومجموعة محمد نور الدين ( الاتحاديون) ومجموعة علي عبد الرحمن ( تيم نبلوك ، مرجع سابق ، ص 201)، بنهاية يونيو 1956 استقال الأزهري ، تمّ تشكيل حكومة ائتلافية برئاسة عبد الله خليل.
واصل الأزهري وحزبه الوطني الاتحادي في المعارضة ، ورفض شعارالدستور الإسلامي الذي رفعه الإخوان المسلمون الذي يهدف لاستغلال الدين في السياسة، كما في الشعارات التي رفعها الوطني الاتحادي خلال انتخابات 1958 ( لاقداسة مع السياسة)، وقى تعاونه مع النقابات والحزب الشيوعي والتكوينات المهنية في معارضة حكومة السيدين ، وفي أكتوبر 1958 تم تكوين جبهة وطنية ضمت : الحزب الشيوعي ، اتحاد نقابات عمال السودان، اتحاد المزارعين، اتحادات الطلاب، الحزب الفدرالي الجنوبي، الحزب الوطني الاتحادي، ودعا ميثاق الجبهة الي: إلغاء القوانين المقيدة للحريات، رفض المعونة الأمريكية التي باركها حزب الأمة، تأكيد التزام السودان بالحياد الايجابي، في سياسته الخارجية، وتطبيع العلاقات مع مصر التي تدهورت العلاقات معها بسبب النزاع حول حلايب ، واتفاقية مياه النيل، وصياغة دستور قومي ديمقراطي، كما عبر حزب الشعب الديمقراطي عن تأييده لاضراب اتحاد العمال في 21 أكتوبر لتحسين الأجور والأوضاع المعيشية التي تدهورت، والاعتراف باتحاد العمال.
الوضع الاقتصادي:
فشلت حكومة السيدين في تقديم الحلول الاقتصادية والمعيشية والسياسية التي واجهت البلاد ، فلم يحدث تغيير يذكر في التركيبة الاقتصادية الاجتماعية التي نشأت في العهد الاستعماري، من حيث سيطرة بريطانيا علي التجارة الخارجية من خلال سيطرة البنوك ، وكانت الشركات البريطانية تسيطر علي معظم الصادر والوارد، أما المتبقي فقد سيطرت عليه الشركا الأجنبية الأخري( الأجانب المتسودنين) من يونانيين وشوام ، والجزء الضئيل عملت فيه الرأسمالية السودانية المحلية، وظل القطن يشكل 60 % من عائدات الصادر ، والارتباط الوثيق بالنظام الرأسمالي العالمي في تبادل غير متكافئ، إضافة لتصدير الفائض الاقتصادي للخارج، وكانت الصناعة تشكل 9 % من الناتج القومي الاجمالي، والقطاع التقليدي يساهم ب 43,4 %، و90 % من سكان السودان مرتبطين بالقطاع التقليدي ( رعاة وفقراء المزارعين)، حسب احصاء 55 / 1956 ، وكان القطاع الزراعي يساهم ب 61 % من الناتج القومي الاجمالي، إضافة لضعف ميزانيتي التعليم والصحة 2% ، 4 % علي التوالي، ونسبة الأمية 86,5%، اضافة للتنمية غير المتوازنة بين أقاليم السودان.
هذا هو الواقع الذي واجهته حكومات ما بعد الاستقلال مؤتلفة ومنفردة ، ولم تغير هذا الواقع البائس الذي لخصه محمد أحمد المحجوب ( وزير خارجية ذلك العهد) بقوله : " كان الشئ الكثير متوقعا من الأحزاب ، فقعدت جميعها عن تحقيق هذه التوقعات ، اذ لم تكن لديها برامج مفصلة ومحددة لمعالجة النمو الاقتصادي والاجتماعي" ( محمد أحمد المحجوب الديمقراطية في الميزان: دار جامعة الخرطوم بدون تاريخ ، ص 177 )، كما تدهورت الأوضاع المعيشية.
لم تحدث تنمية تذكر سوى قيام امتداد المناقل لزيادة المساحة المزروعة من القطن، رغم ذلك كان محصول القطن أقل من مستوى الإنتاج العادي، ولم تعدل الحكومة سياستها تجاه مشروع الجزيرة ومطالب حركة المزارعين، ونجحت الحكومة في ابعاد القيادة الديمقراطية المستميتة في الدفاع عن مطالب المزارعين ( أزمة مشروع الجزيرة، اصدار الحزب الشيوعي ، ص 7 "، كما أن صادرات السودان من الماشية لم تكن تناسب ما يمتلكه من ثروة في هذا المجال ، في قطاع النقل لم يتم شئ يذكر سوى اتمام خط السكة الحديد الي نيالا، وكانت ايرادات الحكومة تعتمد علي الضرائب وعلي رسوم الإنتاج والاستهلاك، مما يعرض دخل الدولة لنقص كبير في حالة تعرض محصول القطن للعجز،اضافة للعجز في ميزان المدفوعات عامي 1957 / 1958 ، مما اضطر الحكومة لسد العجز بالمعونات والقروض الأجنبية، اضافة لمشروع المعونة الأمريكية الذي كان يهدف الي ربط البلاد بالأحلاف العسكرية الذي وافق عليه حزب الأمة وعارضته أحزاب الوطني الاتحادي والشعب الديمقراطي والحزب الشيوعي والنقابات العمالية والمهنية والاتحادات الطلابية.
انتخابات 1958 :
عندما جرت انتخابات 1958، قامت حكومة الائتلاف الأمة والشعب الديمقراطي بتعديل قانون انتخابات 1953 ، تم إلغاء دوائر الخريجين، وتمّ تقسيم الدوائر عدديا مطلقا دون اعتبار لمراكز ثقل المدن والوعي، والغي شرط التعليم للمرشح، وأُجيز قانون جديد للجنسية في يوليو 1957 بدلا عن قانون 1948 ، الذي استفاد منه حزب الأمة حيث حصل أعداد كبيرة من غرب افريقيا علي الجنسية ، وأُدخل نظام مراكز الاقتراع المتنقلة لاعطاء القبائل الرحل حق التصويت، وارتفع عدد الدوائر الي 173 ، وجرت الانتخابات التي كانت نتيجتها: الأمة 63 ، الوطني الاتحادي 44 ، الأحرار 40 ، حزب الشعب 16.
كان من المفارقات في الانتخابات حصل الحزب الوطني الاتحادي في المديريات الشمالية علي 340 ألف صوت ، وحصل علي 40 مقعدا، بينما حصل حزب الأمة علي 310 ألف صوت ، ولكنه حصل علي 62 مقعدا، بهذا الاسلوب تم تقليص التهديد الذي يمثله الوطني الاتحادي( تيم نبلوك، المرجع السابق، ص 202 – 204).
تم تكوين حكومة ائتلافية ثانية برئاسة عبد الله خليل، لكنها ايضا فشلت مثل الحكومة السابقة، فضلا عن أنها حكومة متنافرة ،والشكوك بين طائفتي الانصار والختمية ، وصعوبة التعاون بينهما، كما وصفه ب.م. هولت بأن : "الائتلاف كان انتهازيا واصطناعيا، كان هدفه ايعاد الأزهرى ونوابه "( هولت ، تاريخ السودان الحديث، لندن 1961 ، ص 174)، اضافة لتنقل النواب من حزب لآخر، والفشل في إعداد الدستور الدائم، يقول محمد أحمد المحجوب في مؤلفه ،الديمقراطية في الميزان : " لم نتفق علي دستور دائم وأُهدرت مساعينا خلال سنى الحكم المدني اهدارا في المشاحنات التي لانهاية لها" ، كما كان الجنوبيون يطالبون باتحاد فدرالي بدلا من الوحدة، وتواصلت الحرب الأهلية التي انفجرت عام 1955 ، بعد خرق المواثيق بين الأحزاب الجنوبية وحكومة الأزهري بمنح الجنوب الحكم الفدرالي.
انقلاب 17 نوفمبر 1958
كما رصدنا سابقا فشل حكومتي الائتلاف بين الأمة والشعب الديمقراطي في استكمال الاستقلال السياسي بالاستقلال الاقتصادي والثقافي، وتحويل جهاز الدولة إلي جهاز ديمقراطي ، وسياسة خارجية ضد الاستعمار، ومواجهة القنابل الموقوتة التي تركها الاستعمار بعد خروجه مثل : حرب الجنوب التي انفجرت عام 1955 قبل إعلان الاستقلال، والانقسام الطائفي والقبلي والطبقات والفئات الرأسمالية وشبه الإقطاعية التي ارتبطت مصالحها به ، وإلغاء القوانين المقيدة للحريات، إضافة للانقسام الذي حدث في الصف الوطني وخروج الختمية من الحزب الوطني الإتحادي، ومحاولة القوي اليمينية تفتيت وحدة العمال عن طريق خلق مركزين أو أكثر للحركة النقابية ، وإقحام الصراع الحزبي وسط اتحاد المزارعين الذي ينبغي أن يضم المزارعين على إختلاف إتجاهاتهم السياسية." للمزيد من التفاصيل ،راجع ثورة شعب، اصدار الحزب الشيوعي 1965 ". بالاضافة الي الأزمة الاقتصادية التي اشرنا لها سابقا وغيرها ، هذه القضايا كلها تفاقمت من خلال انشغال الجماهير الوطنية في (حريق العملة) ومعارك السباب والمهاترات.
من جانب آخر تصاعدت الحركة الجماهيرية التي رفعت راية الوحدة ومقاومة التدخل الاستعماري باسم المعونة الأمريكية، وإلغاء جميع القوانين المقيدة للحريات، وتشكلت جبهة واسعة داخل وخارج البرلمان ، ووصلت المقاومة ذروتها في الإضراب العام التاريخي الذي دعا إليه اتحاد العمال وتمّ تنفيذه يوم 21 أكتوبر 1958، وصحب ذلك الإضراب مظاهرات لا مثيل لضخامتها وتماسكها إشترك فيها العمال والمزارعون والطلاب وصغار التجار، وبدأت الجماهير العاملة تبرز كقوة داعية للديموقراطية والوحدة والتقدم. كما ارتفعت شعارات الوحدة وسط الجماهير المعادية للاستعمار ولحكم اليمين، أماحزبي الائتلاف، فعانيا من انقسامات في صفوفهما، وأقتربت عناصر من نواب حزب الامة نحو القوى الوطنية، وظهر جليا أن جبهة تضم أغلبية من نواب البرلمان قد تكونت وأنها ستطيح بحكومة عبدالله خليل وتقيم مكانها حكومة أقرب تمثيلا لمصالح الشعب "." راجع ثورة شعب، مرجع سابق".
– في تلك اللحظات تمّ تدبير انقلاب 17 نوفمبر 1958.الذي كان عبارة عن تسليم عبدالله خليل بالتعاون مع الاستعماريين الأمريكان والانجليز السلطة للقيادة الرجعية في الجيش بهدف المحافظة علي كل المصالح الاستعمارية ووقف التطور الديمقراطي في البلاد.
alsirbabo@yahoo.co.uk
///////////////////
//////////////////////