مضى أكثر من ثلاثة أشهر، ولا ندري بالضبط مسار السلام المتعلق بالحركات المسلحة. ربما هناك تفاهمات، وجولات سرية، ومناقشات لم تستو لتكون في متناول الرأي العام. ولكن - على كل حال - الشهور تمضي بسرعة بينما تتعاظم تحديات الحكومة الانتقالية.
صحيح أن السلام أولوية. فدونه لا يمكن وضع حد لتجاذبات النخب التاريخية حول السلطة المتصلة بشؤون الثروة، والسيادة، والنفوذ. فبلادنا منذ استقلالها ظلت في فترة انتقال واحدة بتتنوع فروعها. هناك موضوع نوع الحكم الذي ضيع كل فرص التنمية العمرانية والبشرية، وكذلك موضوع النظر في العلاقة بين الدين والدولة، وكذا موضوع الاقتصاد، أو إدارة التنوع، بما يعني تفجير طاقات البلاد. كل هذه المواضيع نوقشت، وطبق النخب ما أفرزته. ومع ذلك فإننا نكاد الآن قد عدنا لستين عاما للوراء لنعيد إنتاج الجدل حول الفيدرالية، أو الحكم الذاتي. بمقاييس ضمور الوعي، والتعدد الكثيف لقومياتنا، ونوع التعليم الذي بذرته الفترة الاستعمارية، نجد أن أوضاعنا غير مستغربة. ذلك ما دمنا مجتمعات ما قبل الحداثة، إذ أولوياتنا ما تزال تتعلق بكيفية التفكير لإيجاد نظم تعليمية وصحية، مع فشلنا في توفير الماء، والغذاء، والعلاج، لمواطنينا. ولكن المستغرب هو عدم وجود الجدية الكافية لمعالجة التركة المثقلة التي أنتجتها الحكومات السابقة، والتي لا ظهرا قطعت، ولا أرضا أبقت. بل تدهور السودان حتى انفصل. وبدأ اليوم في وضع جديد تنوشه المخاطر، وفي ذات الوقت تحفه الآمال العراض بأن يتجاوز كبواته التاريخية عبر فرع الانتقال الحالي.
-٢- نلاحظ أن هناك تصريحات تبشيرية من المجلس السيادي، والسلطة المدنية، والحركات المسلحة، حول إمكانية التوصل إلى سلام عادل بإرادة جديدة. وبرغم ملاحظتنا أن المجلس السيادي أنشط في هذا المسار نرى أن أكثر جهة فاعلة في فهم الحلول هي الشق المدني من السلطة، والذي هو مدعوم من قوى الحرية والتغيير، ومنظمات المجتمع المدني، وقبل كل هذا الدعم الذي يجده من قاعدة الثورة السودانية، وهي تمثل أغلبية السودانيين. إن ارتباط السلام بموضوع تأخير تعيين حكام الأقاليم، وتكوين المجلس التشريعي، صار كأنه يجد الرضا من كل الأطراف المعنية بالعملية السلمية. بل سيجد كل الرضا من السودانيين إذا كان السلام قد لاح قاب أو أدنى، وبالتالي يبقى كل أمر هين لو أن بشائر السلام تلوح قبل انقضاء الستة أشهر التي حددتها الوثيقة. على أن البطء في عدم التقاء الوفود المعنية بالسلام عبر جولات متواصلة وجادة حتى الآن يشكك في إمكانية تعيين الحكام، والمجلس التشريعي في الوقت القريب. فنحن نعلم تماما أن هناك أكثر من طرف في العملية السلمية، وأن هذه الأطراف جميعها لا تملك فضيلة اختزال العملية السلمية عبر مائدة مستديرة تجمع الحركات جميعها. فكل حركة لها أجنداتها في العملية السلمية، وتريد مسارا لوحدها دون الآخرين، نظرا لتعدد أجنداتها، وتباين قياداتها، وانطلاقا من مواقفها.
-٣- خلاصة الموضوع هو أن اكتمال البناء الهيكلي للسلطة المدنية ينبغي أن يكون أولوية الآن في ظل سلحفائية الخطوات المبذولة لتحقيق السلام، وخصوصا أن المفاوضات مع هذا الفصيل، أو ذاك تتطلب وقتا ربما يتجاوز العام في ظل حتمية صعوبة القضايا المفصلية التي ستنطرح من خلال جولات التفاوض. إن وجود المجلس التشريعي كجسم رقابي، وعادل في تكوينه، ربما يساعد في ضبط السعي للسلام وتسريعه. ومن ناحية أخرى فإن ممثليه الذين سيأتون من كل بقاع السودان ستكون لهم الفاعلية في تحريك أمر السلام قاعديا. ذلك بخلاف أن وجود المجلس التشريعي - فوقا عن فائدته في حلحلة قضايا أخرى - فإنه سيعزز خطوات الشق المدني في السلطة، ويعطيه دعما كبيرا في تجويد استراتيجية رؤيته للسلام. فتأجيل تكوين المجلس التشريعي، وتعيين حكام الأقاليم، يعطي انطباعا لكأنما ترنوا الحركات المسلحة للحصول على المناصب أكثر من الحصول على سلام شامل، وعادل، ومستحق. ولذلك ينبغي أن تكون الأولوية لنوع السلام وليس مناصبه. وبهذا المستوى نستطيع تحقيق السلام إذا رغبت الأطراف جميعها لخلق الدولة الوطنية، ولاحقا إذا فرض التفاوض وجود ضرورة لإشراك بعض المفاوضين في المجلس التشريعي وتوظيفهم كحكام ولايات بعينها فليس هناك ما يمنع إنجاز مقتضيات السلام على ما عداها.