تسعة أعوامٍ على انفصالِ جنوبِ السودان: دروسٌ لمفاوضاتِ السلامِ السودانية

 


 

 

 


1
تمرُّ اليوم تسعة أعوامٍ كاملة على الذكرى المريرة لانشطار الوطن وتمزيقه إلى دولتين. ففي يوم السبت 9 يوليو عام 2011 برزتْ جمهورية جنوب السودان كأحدثِ دولةٍ مستقلّةٍ في العالم – الدولة رقم 193 بين العائلة الأمميّة، ورقم 54 بين الدول الأفريقية.
وتبدو مرارة هذه الذكرى واضحةً للعيان عندما نتذكّر أن السودان كان وما يزال، منذ بداية هذا القرن، هو الدولة الوحيدة في العالم التي فشل أهلها في التعايش السلمي، وانشطرت إلى دولتين. كما أن انعقاد مفاوضات السلام السودانية في جوبا هو تذكارٌ مريرٌ أخر أن الانفصال أصبح حقيقةً واقعة. فطرفا النزاع السوداني يلتقيان في دولةٍ ثالثة، قبلها كلٌ منهما لقناعته بحيادها في ذلك النزاع، والذي لا يختلف كثيراً عن النزاع الذي قاد لانفصال جنوب السودان في المقام الأول.
هناك الكثير من الدروس والعبر التي لا بُدّ أن نعيها لهذه الذكرى، خصوصاً مع البطء الي ظلَّ مصاحباً لمفاوضات السلام السودانية التي بدأت منذ أكتوبر الماضي، وما تزال بلا نتائج ملموسة يمكن التعويل عليها. سوف نحاول في هذا المقال التركيز والتذكير ببعض الدروس والعبر لتجربة انفصال جنوب السودان بغرض تأمّلها ونحن نحاول أن نصل بالمفاوضات إلى سلامٍ دائمٍ مستدامٍ تحت مظلّة المواطنة والوحدة والحرية والعدالة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.

2
أولُ هذه الدروس هو ضرورة الاتفاق الوطني التام وبوضوح على الوضع الدستوري للبلاد المنبني على المواطنة والمساواة ودولة القانون، والالتزام الصارم والجاد والأمين بهذا الاتفاق:
فقد تركّزت مطالبُ القيادات السودانية الجنوبية منذ أولِ لقاءٍ شماليٍ جنوبيٍ نِدّي عام 1947 على العلاقة الفيدرالية بين شطري البلاد. وقد برز مطلب الفيدرالية بوضوحٍ خلال عدّةِ مؤتمراتٍ واجتماعاتٍ لاحقة، شملت لجنة الدستور عام 1951، وبعدها مؤتمر الحزب الليبرالي الجنوبي عام 1954.
ثم تمّت إثارة مسألة النظام الفيدرالي بواسطة ممثلي الجنوب في الجمعية التشريعية. وبينما حاول الأعضاء الشماليون تركيز نقاش الجمعية على مسألة تقرير المصير للسودان في علاقته مع مصر، فقد ربط الأعضاء الجنوبيون موافقتهم على هذا المطلب بموافقة الأعضاء الشماليين على إقامة نظامٍ فيدرالي بين شطري القطر. ولكنّ النواب الشماليين في الجمعية التشريعية نجحوا نجاحاً تاماً في تجميد النقاش في مطالب النواب الجنوبيين للنظام الفيدرالي.
تواصل هذا المنحى مرّة ثانية في قرار البرلمان في 19 ديسمبر عام 1955، والذي نجح فيه الأعضاء الجنوبيون في الربط بين إعلان الاستقلال من داخل البرلمان وإقامة نظامٍ فيدراليٍ بين الشمال والجنوب. فقد شمل قرار مجلس النواب في 19 ديسمبر عام 1955 الوعد المشهور: "أن مطالب الجنوبيين لحكومة فيدرالية للمديريات الجنوبية الثلاث ستُعطى الاعتبار الكافي بواسطة الجمعية التأسيسية."
إلّا أن الأحزاب الشمالية تنكّرت لوعد الفيدرالية. فقد قررت لجنة الدستور في شهر يونيو عام 1958 "بأن اللجنة أعطت مقترح الفيدرالية الاعتبار الكافي وخلصت إلى أنه لن يكون مُجْدياً للسودان." وأخطرت اللجنةُ القادةَ الجنوبيين بإغلاق باب النقاش في مسألة الفيدرالية.
غير أن الأب سترنينو لوهوري رئيس كتلة الأعضاء الجنوبيين واصل تمسك الجنوب بمطلب الفيدرالية أمام البرلمان السوداني في يونيو عام 1958 حينما أعلن بوضوح: "إن الجنوب لا يكِنُّ أبداً نوايا سيّئة نحو الشمال. إن الجنوب يطالب فقط بإدارة شئونه المحلية في إطار السودان المُوحّد، كما أنه ليست لدى الجنوب نيّةٌ للانفصال عن الشمال لإنه لو كان ذلك هو الحال فليس هناك قوّةٌ على الأرض تستطيع منع الجنوب من المطالبة بالانفصال. فالجنوب يطالب بإقامة علاقة فيدرالية مع الشمال، وهذا بلا ريب حقٌ يستحقه الجنوب بمقتضى حقِّ تقرير المصير الذي يمنحه المنطق والديمقراطية للشعب الحر...."

3
وقد واصل قادة الجنوب مطلبهم بالنظام الفيدرالي خلال مؤتمر المائدة المستديرة عام 1965 عندما جادل السيد ويليام دينق أن النظام الفيدرالي كفيلٌ باستيعاب التباينات الثقافية والدينية والعرقية بين شطري البلاد. لكن الأحزاب الشمالية المشاركة في المؤتمر كررت وأكدت جميعها، وبلا استثناء، رفضها القاطع لمقترح الفيدرالية، وجادلت بمنطقٍ غريب في ورقتها المشتركة بتاريخ 15 مارس عام 1965:
"يشعر السودانيون خاصةً في الشمال أن الوضع الفيدرالي ما هو إلّا خطوةٌ نحو الانفصال لأنه درجةٌ بعيدة المدى نحو تلاشي الحكومة المركزية، ولأنه نظامٌ ثبت تشجيعه للنعراتِ الإقليمية والعصبيّات المحليّة لا سيما وأنه في هذه الحالة يشكّل نزعةً إلى الابتعاد عن الوحدة، بعكس المعتاد في النظم الفيدرالية التي تقرّب بين مقاطعاتٍ أو دولٍ كانت مستقلّةً أو شبه مستقلّة، أو لم يكن بينها إلّا الرباط الاستعماري."
وعقب انهيار مؤتمر المائدة المستديرة صرح عددٌ من القادة الجنوبيين أن فرصة الحل السلمي الفيدرالي لقضية الجنوب، والتي وفّرها مؤتمر المائدة المستديرة، قد تلاشت.

4
غير أن قيادات الإسلاميين، والتي لعبت دوراً أكبر بكثير من حجمها الحقيقي خلال مؤتمر المائدة المستديرة، وفي وأد مقترح الفيدرالية، عادتْ وعرضت، بعد انقلابها العسكري في 30 يونيو عام 1989، على بعض القادة الجنوبيين نفس مقترح الفيدرالية الذي رفضته الحركة الإسلامية من قبل.
فقد التقى وفد حكومة الإنقاذ الذي قاده الدكتور علي الحاج في يوم 24 يناير عام 1992 في مدينة فرانكفورت مع وفد فصيل الناصر الذي قاده الدكتور لام أكول، والذي كان قد انشقَّ من الحركة الشعبية الأم قبل عدة أشهر.
قدّم كلٌ من الوفدين تصوّره لحل النزاع السوداني. تضمّنت مقترحات وفد حكومة الإنقاذ إقامة نظامٍ فيدرالي باعتباره الخيار المناسب لتحديد العلاقة بين الشمال والجنوب، وباعتباره النظام الأمثل الذي يسمح للشعب السوداني بالتعبير عن تبايناته وتعدّديته الثقافية والدينية والعرقية. بل إن وفد الإنقاذ أعاد نفس الجمل التي شملتها ورقة السيد ويليام دينق خلال مؤتمر المائدة المستديرة من أن النظام الفيدرالي كفيلٌ باستيعاب التباينات الثقافية واللغوية والدينية والعرقية بين شطري البلاد.
كان تصوّر فصيل الناصر مختلفاً ومطوّلاً. أوضح تصوّر الفصيل أنه منذ عهد الاستعمار وحتى الاستقلال لم يُمنح جنوب السودان أبداً الفرصة ليقرّر في وحدة البلاد، وأن قرار إلحاق جنوب السودان بالسودان في عام 1946-1947 قد تمّ اتخاذه بواسطة القوى المستعمرة بالتواطؤ مع شمال السودان دون الأخذ في الاعتبار تطلعات شعب الجنوب. وأنه منذ الاستقلال في عام 1956 كانت وحدة السودان تقوم على هيمنة الشمال على الجنوب في جميع المناحي، مما أدّى إلى نكران المساواة والعدل والحريات السياسية والتنمية الاقتصادية. وبينما اعترف التصور بحق الشماليين في تطبيق القوانين والسياسات الإسلامية على أنفسهم، فقد أوضح أن للجنوبيين نفس الحق في اختيار قوانين علمانية ومبادئ سياسية تناسب قيمهم وتطلعاتهم. عليه فقد ختم فصيل الناصر تصوره بالمطالبة بحق تقرير المصير لجنوب السودان، وأنهى مرافعته بالقول إن مقترح الفيدرالية قد تجاوزه الزمن.
قضى كلٌ من الوفدين اليوم الأول من التفاوض يستمع ويجادل مقترح الآخر – الفيدرالية من جانب حكومة الإنقاذ، وحق تقرير المصير من جانب فصيل الناصر. غير أن وفد حكومة الإنقاذ وافق في اليوم الثاني للمفاوضات على طرح فصيل الناصر كما هو، وبلا تعديلٍ أو إضافة. عليه فقد تمّ التوصّل في يوم 25 يناير عام 1992 إلى إعلان فرانكفورت والذي تضمّن لأول مرة في تاريخ السودان اعترافاً حكومياً صريحاً بحق تقرير المصير لشعب جنوب السودان.

5
بعد عامين ونصف من إعلان فرانكفورت أصدرت دول الإيقاد في يوليو عام 1994، بناءً على طلب وساطة حكومة الإنقاذ، "مبادئ الايقاد" والتي اشتملت على حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان.
التقطت الحركة الشعبية لتحرير السودان الأم مقررات الإيقاد ونجحت في انتزاع حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان من جميع الأحزاب الشمالية المعارضة فرادى وجماعات. بدأ ذلك الجهد باتفاق القاهرة مع الحزب الاتحادي الديمقراطي في 13 يوليو عام 1994 والذي أعلن فيه الحزب موافقته على مبادئ الايقاد وحق تقرير المصير لشعب جنوب السودان.
تبعت ذلك موافقة حزب الأمة على حق تقرير المصير في اتفاق شقدوم مع الحركة الشعبية في 14 ديسمبر عام 1994. ثم تلى ذلك موافقة الحزبين معاً على حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان في وثيقةٍ واحدةٍ جمعتهما مع وفد قوات التحالف السودانية والحركة الشعبية في 27 ديسمبر عام 1994.

6
صارت الخطوة المُتبقّية للحركة الشعبية، بعد هذه الاتفاقيات، هي تأكيد حق تقرير المصير بواسطة اجتماعٍ عام للتجمع الوطني الديمقراطي بكل أحزابه وتنظيماته الشمالية. وقد تم لها ذلك بنجاح في مؤتمر القضايا المصيرية الذي انعقد في مدينة أسمرا في 23 يونيو عام 1995. كان أول وأهم القرارات التي وردت في إعلان أسمرا هو ذلك المتعلق بحق تقرير المصير لشعب جنوب السودان. وقد تضمّن الإعلانُ عدّةَ فقراتٍ عن حق تقرير المصير، منها أن حق تقرير المصير حقٌّ إنسانيٌ ديمقراطيٌ أساسيٌ للشعوب، يحقّ لأي شعبٍ ممارسته في أي وقت. وأقرّ الإعلان بأن ممارسة حق تقرير المصير توفّر حلّاً لقضية إنهاء الحرب الأهلية وتُيسّرُ استعادةَ الديمقراطية وتعزيزها.
وأّكّد إعلان أسمرا أن شعب جنوب السودان سيمارس حقه في تقرير المصير قبل انتهاء الفترة الانتقالية، وأن الخيارات التي ستُطرح للاستفتاء في الجنوب هي الوحدة والاستقلال. وأشار الإعلان بأن ممارسة حق تقرير المصير بجانب كونه حقاً ديمقراطياً وإنسانياً أصيلاً للشعوب، فإنه أيضاً أداة لوضع نهاية فورية للحرب الأهلية ولإتاحة فرصة فريدة وتاريخية لبناء سودانٍ جديدٍ قائمٍ على العدالة والديمقراطية والاختيار الحر.

7
نعم، هذه نفس الأحزاب السياسية الشمالية السودانية، ومعظمها بنفس قياداته، التي رفضت بلا استثناء الفيدرالية واعتبرتها خطوةً نحو الانفصال، تعود وتقبل جميعها، وبلا استثناء، وبوضوح حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان، مع خياري الوحدة والانفصال. بل لقد ذهبت هذه الأحزاب خطوةً أكبر وأخطر عندما أعلنت أن حق تقرير المصير حقٌّ إنسانيٌ ديمقراطيٌ أساسيٌ للشعوب، يحقّ لأي شعبٍ ممارسته في أي وقت.
كان يمكن أن يظل السودانُ دولةً موحدة لو قبلت الأحزاب الشمالية مطلب الفيدرالية الذي تم عرضه رسمياً في خمسينيات القرن الماضي، ثم خلال مؤتمر المائدة المستديرة عام 1965. رفضت هذه الأحزاب الفيدرالية واعتبرتها "خطوة نحو الانفصال." ثم عادت نفس هذه الأحزاب وقبلت حق تقرير المصير مع خياري الوحدة والانفصال.

8
ثاني هذه الدروس هو ضرورة الالتزام الصارم بالوعود والاتفاقيات التي يتم عقدها مع التنظيمات والحركات المسلحة:
كما أوضحنا أعلاه فقد عبّد نقض وعد إعطاء الفيدرالية الاعتبار الكافي في خمسينيات القرن الماضي الطريق للحرب الأهلية الأولى، وقاد إلى رفع سقف مطالب القادة الجنوبيين من الفيدرالية إلى حق تقرير المصير. لكن نقض وعد الحكم الذاتي وخرق اتفاقية أديس أبابا كانا المسمارَ الأخير في نعش الوحدة بين الشمال والجنوب، كما سنناقش أدناه.

9
استولى العسكر بقيادة العقيد جعفر نميري على السلطة في 25 مايو عام 1969. كان واضحاً أن مشكلة الجنوب قد احتلت قائمة اهتمامات الحكومة الجديدة. فقد أشار العقيد نميري في بيانه الأول إلى هذه المشكلة، وإلى الحرب المتواصلة والمتصاعدة في الجنوب وضرورة إيقافها وإحلال السلام من خلال التفاوض. وفي يوم 9 يونيو عام 1969، أي بعد أسبوعين من الانقلاب، أصدرتْ الحكومة بياناً عن سياستها في الجنوب أطلقتْ عليه "بيان 9 يونيو."
اعترف البيان بالخلافات التاريخية والثقافية بين طرفي البلاد، وبحقِّ الجنوبيين في تنمية عاداتهم وتقاليدهم داخل إطار السودان الموحّد. أشار البيان بعد ذلك إلى اجتماعٍ مشترك بين مجلس قيادة الثورة ومجلس الوزراء تمّت فيه مناقشة مشكلة الجنوب بتأنّي وعمق، وخلص الاجتماع المشترك إلى ضرورة الاعتراف بحق الجنوب في الحكم الذاتي في إطار السودان الموحّد.
بدأت بعد أسابيع من صدور إعلان 9 يونيو اتصالاتٌ سرية بين الحكومة والقيادات السياسية للجنوبيين التي أعادت تنظيم نفسها في "حركة تحرير جنوب السودان." أدّت تلك الاتصالات إلى لقاءاتٍ سرية بين الحكومة الجديدة وحركة تحرير جنوب السودان في لندن، ثم في أديس أبابا، وتحوّلت تلك الاجتماعات إلى مفاوضات بين الاثنين في بداية شهر فبراير عام 1972.
قامت الحكومة الإثيوبية ومجلس الكنائس العالمي ومجلس الكنائس الأفريقي بدور الوسيط في هذه المفاوضات بناءً على طلب الخرطوم، ولعبوا دوراً إيجابياً أدّى إلى توقيع اتفاقية أديس أبابا في 27 فبراير عام 1972. وقد تمّت إجازة قانون الحكم الذاتي للإقليم الجنوبي (المُكوّن الأساسي للاتفاقية) في 3 مارس عام 1972. وهكذا بعد قرابة ثلاثة أعوام من صدور بيان 9 يونيو عام 1969 تمّ التوصّل لاتفاقٍ بين شمال السودان وجنوبه، وعاد السلام إلى جنوب السودان بعد 17 عامٍ من الحرب والموت والدمار.

10
تكوّنت اتفاقية أديس أبابا من ثلاثة أجزاء. كان الجزء الأول هو قانون الحكم الذاتي للإقليم الجنوبي الذي تمّت إجازته بواسطة الحكومة السودانية بعد أن تمّ الاتفاق على مضمونه خلال المفاوضات التي انتهت في 27 فبراير عام 1972. بالإضافة إلى مواده الأربعة وثلاثين، فقد اشتمل القانون أيضاً على ملحقين، اختصّ الأول بالحقوق الأساسية والحريات، والثاني على بنود الإيرادات.
أما الجزء الثاني من الاتفاقية فقد اشتمل على اتفاقٍ بشأن وقف إطلاق النار، بينما تكوّن الجزء الثالث من أربع بروتوكولات خاصة بالتنظيمات المؤقّتة، الأول بشأن التدابير الإدارية المؤقتة، والثاني خاص بقوات الشعب المسلحة في الإقليم الجنوبي، والثالث عن العفو العام والترتيبات القضائية، والرابع والأخير عن إعادة التوطين.
عرّف قانون الحكم الذاتي "الإقليم الجنوبي" بأنه يتكوّن من مديريات جنوب السودان الثلاثة، أعالي النيل وبحر الغزال والإستوائية، بحدودها القائمة في اليوم الأول من يناير عام 1956، وأيّة مناطق أخرى كانت جغرافياً وثقافياً جزءاً من الكيان الجنوبي على نحو ما قد يتقرّر عن طريق الاستفتاء.
أشار القانون إلى أن الإقليم الجنوبي يتمتّع بحقِّ الحكم الذاتي داخل نطاق السودان الموحّد، وتكون له أجهزة تشريعية وتنفيذية تمارس الاختصاصات والسلطات المضمّنة في القانون. أعلن القانونُ اللغةَ العربية اللغةَ الرسمية للسودان، واللغةَ الإنجليزية لغةً رئيسيةً لإقليم جنوب السودان، وذلك مع عدم المساس باستعمال أيّة لغةٍ أو لغاتٍ أخرى قد تساعد على أداء المهام التنفيذية والإدارية في الإقليم، وأكّد على حقِّ الأقليات في استعمال لغاتها وتطوير ثقافاتها وعاداتها.
أنشأ القانون مجلس الشعب الإقليمي والذي يتمُّ انتخابه عن طريق الاقتراع السِرّي المباشر، ومنَحَه السلطات الكاملة للتشريع في المسائل المحلية لحفظ النظام العام والأمن الداخلي في الإقليم الجنوبي، ولإدارته بطريقةٍ رشيدةٍ في المجالات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية.
أنشأ القانون أيضاً المجلس التنفيذي العالي وأسند إليه السلطات التنفيذية التي يباشرها نيابةً عن رئيس الجمهورية. أوضح القانون أن اختيار رئيس المجلس التنفيذي العالي وعزله يتمُّ بواسطة رئيس الجمهورية بناءً على توصية مجلس الشعب الإقليمي. أشار القانون كذلك إلى حق مجلس الشعب الإقليمي أن يطلب بأغلبية ثلاثة أرباع أعضائه، ولأسباب محدّدة تتعلّق بالمصلحة العامة، من رئيس الجمهورية إعفاء رئيس المجلس التنفيذي العالي، ويتعيّن على الرئيس الموافقة على مثل هذا الطلب.
أوضحت المادة الأخيرة من القانون أنه لا يجوز تعديل الاتفاقية إلّا بأغلبية ثلاثة أرباع مجلس الشعب القومي، وموافقة ثلثي مواطني إقليم جنوب السودان في استفتاءٍ عام يُجرى في المديريات الجنوبية الثلاثة.
تضمّن القانون ملحقاً عن الحقوق والحريات الأساسية أوضح فيه أن السودانيين يتمتّعون بنفس الحقوق والواجبات والمساواة أمام القانون بغض النظر عن العرق أو الموطن أو اللغة أو الدين، وأن لكل المواطنين الحقّ في حرية الدين والفكر، ولهم الحق في ممارسة شعائرهم الدينية في العلن، وإنشاء المؤسسات الدينية وفقاً للقانون.

11
غير أن حظَّ اتفاقية أديس أبابا لم يختلف عن وعود السياسيين الشماليين التي تم نقضها من قبل. فبعد أشهر قليلة من المصالحة الوطنية بين الرئيس جعفر نميري وأحزاب الجبهة الوطنية المعارضة (الأمة والاتحادي الديمقراطي وجبهة الميثاق الإسلامي) عام 1977 قرّر الرئيس نميري ألّا يكون استثناءً لمن سبقه من السياسيين الشماليين – مدنيين كانوا أم عسكريين – فيما يختصُّ بقضية جنوب السودان. قام الرئيس نميري بنقض عهوده للجنوب، وأهدر في غطرسةٍ واستعلاء إنجازه الذي كان سيميّزه إلى الأبد عن بقية السياسيين الشماليين.
بدأ الرئيس نميري بعد أشهر من مصالحته مع أحزاب الجبهة الوطنية في تمزيق اتفاقية أديس أبابا بنداً بعد الآخر، وقسّم الإقليم الجنوبي إلى ثلاثة أقاليم، وأعلن الشريعة الإسلامية قانوناً للبلاد. ثم تدخل بصورةٍ سافرةٍ تتناقض مع اتفاقية أديس أبابا في تعيينات وعزل القيادات التنفيذية والتشريعية والعسكرية في الجنوب.
وقد عبّد ذلك الخرق الكبير لاتفاقية أديس أبابا الطريقَ لقيام الحركة الشعبية واشتعال الحرب الأهلية الثانية التي قادت إلى حق تقرير المصير في فرانكفورت، وتأكيده في مشاكوس، ثم نيفاشا، ثم الاستفتاء وانفصال الجنوب.

12
الدرس الثالث الذي يجب أن نعيه من المفاوضات والاتفاقيات التي قادت إلى انفصال جنوب السودان هو ضرورة التوقّف عن الادعاء بالتدخّل الأجنبي واتهام الدول الأخرى والمنظمات الإقليمية والعالمية بمحاولات تفكيك السودان:
نعم تدخّلت دول الجوار والدول الكبرى وبعض المنظمات في شئون السودان. لكن هذا التدخّل كان بناءً على طلب الحكومات المتعاقبة في السودان، بدءاً بحكومة الفريق عبود عام 1964 وانتهاءً بحكومة الإنقاذ. فقد جاء تدخّل دول الإيقاد بطلبٍ وبإلحاحٍ من حكومة الإنقاذ. وعندما التقى وفد حكومة الإنقاذ بوفد فصيل الناصر ووافق في إعلان فرانكفورت على حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان لم يجلس طرفٌ ثالثٌ مع الوفدين لِيُتهم بالتأثير على سير المفاوضات.
وبعد التوقيع على إعلان فرانكفورت عام 1992، ثم على مقررات أسمرا عام 1995، ثم اتفاقية الخرطوم بين حكومة الإنقاذ وبعض الفصائل المنشقة من الحركة الشعبية، كان التدخّل الدولي بغرض إقناع السودان بالوفاء بالتزاماته المضمّنة في إعلان فرانكفورت، ثم مشاكوس ونيفاشا، وليس لإرغام الحكومة والمعارضة على قبول مقررات ومطالب جديدة.
أين إذاً ما سميناه التدخّل الأجنبي؟

13
أحيّي في نهاية هذا المقال الزميلات والزملاء الذين قاموا بالتحضير والتنظيم لإقامة "ملتقى جامعة الخرطوم للبناء الوطني والانتقال الديمقراطي"، وأثمّن هذا الجهد الكبير. وآمل أن تكون الحقائق والأفكار والآراء التي تناولها هذا المقال مفيدةً للمنظّمين والمشاركين والمتابعين لهذا الملتقى التاريخي الهام.

Salmanmaslman@gmail.com
Www.salmanmasalman.org

 

آراء