تسييس الطرق الصوفية…هل يُنجي الانقلابيين من الطوفان!!

 


 

 

ليست هنالك مكبلات وكوابح تعترض انطلاقة قطار الدولة المدنية الحديثة سوى المضي قدماً في تمكين الدولة الثيوقراطية، التي تأسست بناءً على اطروحات معلومة خرجت للعلن منذ بواكير عمر الدولة الحديثة، بعد رفع العلم على سارية القصر الجمهوري، وهذه المشروعات الداعمة لثيوقراطية الدولة كانت قد وزعت ككتيبات للجذب والتحشيد السياسي أيام الديمقراطية الثالثة، وهي الدستور الاسلامي ومشروع النهضة الإسلامية والرسالة الثانية من الإسلام والإسلام هو الحل، ومخطيء من يظن أن التبشير بالحكم الثيوقراطي ابتدرته الجبهة الإسلامية القومية لوحدها، فالتباري حول كرسي الحكم في بلاد يغلب على أهلها التصوف والتبتل والتعبد، لا بد وأن ينطلق من مخاطبة جذور المعتقد الذي يدين به غالب الناس بحسب زعم هؤلاء، لذلك تهافتوا نحو الإرث الديني المتمركز في صميم وجدان الأمة، واستغلوه كفحم حجري يزيد من وتيرة الاحتراق داخل محرك القاطرة الموصلة للسلطة، هذا الإستغلال المغرض لاتجاهات الوجدان الجمعي المشبّع بالتصوف لم يتوقف حتى الآن، ولم تتوقف المحاولات الفاشلة المستحيلة وغير الممكنة للجمع بين الزيت والماء في إناء واحد، وقد أفقرت البلاد جراء الطاقات الجبّارة المهدرة طيلة العقود الماضية، وأخفقت في صناعة الدولة المدنية المبرأة من وساوس الكهنة وهلاويس الحاخامات وهرطقات الدجالين والمشعوذين، التي أضاعت الوقت في المراوحة بين عبث العسكريين وزياراتهم المتكررة للقباب.
حينما يتمسك ولا يتنازل الثوار عن مشروع بناء الدولة المدنية، فإنّهم لا يفعلون ذلك من باب المكايدة للقوى القديمة المتمسكة بمشروعها الفاشل، إنّما يستميتون في قطع الطريق أمام هذا الفشل المُدمن، فمنجزات العولمة قد كشفت لهم المخبوء من الأضرار البليغة والسموم النقيعة، التي تجرعتها شعوب أخرى أخضعها دجّالوها لأنظمة حكم لا تراعي حتمية رفع سقف أولوية بناء المؤسسات الاقتصادية والصحية والتعليمية، ففي عالم هذا اليوم العولمي لا يمكنك إقناع طفل برأيك ما لم تكن محيط إحاطة كاملة بمغذى موجهات التطبيقات التربوية المحمّلة في جوّاله اللوحي، فهؤلاء الثوار الصغار في زمانهم هذا تأتيهم الفكرة من الفضاءات البعيدة، مستفيدين من طفرات التكنلوجيا المتقدمة بفضل جهد ومثابرة علماء واقعيين وليسوا ميتافيزيقين، لذلك لن يقدر الحالمون باستمرار المشاريع القديمة على مقارعة هؤلاء الصغار، فالبون بين الزمانين كبير والفرق بين المفاهيم عميق جداً، فهؤلاء الشباب لن يصغوا لمن يطعمهم وعوداً بالأرتباط بالحور العين، بل يحترمون من يحترم عقولهم ويؤيدون من يوقف نهب ثروات بلادهم من ذهب وفضة وأحجار كريمة، ويقيمون وزناً لرجل يخاطب أهدافهم العليا من الرجال النزهاء المخلصين، غير المداهنين الكاذبين آكلي فتات موائد كل الحكومات، فالرجال الفاسدين لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتحولوا إلى ثوريين، أولئك الذين تشهد عليهم سجلات النظام (البائد).
مع بروز القوى الشبابية الثورية الحديثة لا يجدي التمسح والتبرك والتباكي على حوائط الأضرحة، فالزمان لم يعد هو ذلك الزمان ولا الرجال، وما نراه من تهافت كسيح وركض فضيح لتقبيل أيادي الشيوخ، لن يُنجي مختطفي عذراء وحسناء الثورة الديسمبرية الشبابية المجيدة من الطوفان، فالجوع وحده كفيل بتعجيل الرحيل، وقد قيل في الأثر الصوفي أن الطاغوت والطاعون لا يذهبان إلّا بذهاب أحد أقطاب الأمة، فمنذا الذي يقوم مقام الذبيح ولد ابراهيم الخليل عليهما السلام؟، حتى يكون القربان الذي يضع حداً لسيل هذه الدماء الغالية، والنافرة من فوهات الجروح التي خلّفتها طلقات بنادق العسكر على الأجساد الصغيرة، وكذلك ورد في الأدب الصوفي أن فضيلة المحبة تأتي على رأس الفضائل، فكيف لمن يجلس على ركام جماجم الأطفال أن تكون له حبّة خردل من محبة، فهذه الطرق الصوفية منذ أن أدركنا الوعي عرفناها بحياديتها العفيفة وبُعدها الحكيم عن الولوج في سم خياط السياسة، وهي الركيزة الأصيلة الممسكة لتدين غالب أهل السودان، إذ أنها لم تنهار رغم قيام الكثير من المساجد الضرار المجاورة لمسجدها الكبير الفسيح ذي المنارة السامقة، ورسالة التصوف تعتبر من الرسائل الإنسانية النبيلة المهذبة للروح، والمشذبة لها من شوائب أوساخ دنيا السلطة والمال، فلا يجب أن يكون رموزها متواطئين مع حملة البنادق الموجهة إلى صدور أبناءنا وبناتنا في الساحات العامة.

اسماعيل عبدالله
ismeel1@hotmail.com
5 أغسطس 2022

 

آراء