تصحيح المفاهيم الخاطئة عن العقاب الأخروي فى المنظور القيمى الاسلامى .. بقلمك د. صبري محمد خليل/ أستاذ فلسفه القيم الاسلاميه في جامعه الخرطوم

 


 

 

Sabri.m.khalil@gmai.com

مفهوم العدل الالهى: يقرر المنظور القيمى الاسلامى ان الفعل الالهى المطلق يتصف بالعدل (وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً)( الأنعام :115) ، فالعدل الالهى لازم التحقق سواء فى المبتدا او المنتهى ، اى ان كل فعل خير يثاب سواء فى الدنيا او الاخره ، وكل فعل شرير يعاقب سواء فى الدنيا او الاخره (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهفمن يعمل) , كما انه – اى العدل الالهى – لازم التحقق على وجه الاجمال" المجموع"، ان لم يكن على وجه التفصيل" الاحاد" ، فلكل الناس نصيب من النعم الالهيه التى لا تحصى (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ) ، ومجموع ما يناله كل فرد منها مساوي لنصيب غيره ، لكن الافراد يختلفون فقط فى نوع ومجال وزمن تحقق هذه النعم الالهيه لكل منهم .

اثابه فاعل الخير تشمل المسلم والكافرمع اختلاف الكيفيه والتوقيت:
فالمنظور القيمى الاسلامى يقرر ان فعل الخيرهو فطره انسانيه (فطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها)،وهذا يعنى انه امكانيه مطلوبه قيميا من المسلم والكافر. والعداله الالهيه تقتضى ان يثاب فاعل الخير- كما يعاقب فاعل الشر – المسلم والكافر، فالاختلاف بينهما لا يرجع الى الاثابه ذاتها – فهو ثابت فى حقهما معا - بل الى كيفيتها وتوقيتها ، قال تعالى :(هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ )، ينقل القرطبى فى تفسيره (قال محمد ابن الحنيفة والحسن : هي مسجلة للبر والفاجر ، أي مرسلة على الفاجر في الدنيا والبر في الآخرة(..
اختلاف انتفاع المسلم والكافر بفعل الخير فى الكيفيه والتوقيت : ويترتب على هذا انتفاع المسلم والكافر ايضا بفعل الخير،وان الاختلاف بينهما لا يرجع الى الانتفاع ذاته – فهو ثابت فى حقهما – لكن يرجع الى كفيته وتوقيته. فقد اتفق العلماء ان الكافر ينتفع بفعل الخير- الذى لا تشترط فيه النيه - في الدنيا . أما في الآخرة فرغم انهم فاتفقوا انه لا ينتفع به بمعنى أنه لا ينجيه من النار نهائيا ، ولكنهم اختلفوا في انتفاعه به بمعنى تخفيف العذاب عنه على مذهبين:الأول: النفى، الثاني:الاثبات بمعنى انه يمكن أن ينفعه الله به تفضلا ، استندا الى بعض النصوص، وقال بهذا المذهب العديد من العلماء ,يقول الْبَيْهَقِيُّ( ... وَيَجُوز أَنْ يُخَفِّف عَنْهُمْ مِنْ الْعَذَاب الَّذِي يَسْتَوْجِبُونَهُ عَلَى مَا اِرْتَكَبُوهُ مِنْ الْجَرَائِم سِوَى الْكُفْر بِمَا عَمِلُوهُ مِنْ
الْخَيْرَات) . ويقول ابن حجر فى معرض الرد على النفاه ( وَهَذَا لَا يَرُدّ الِاحْتِمَال الَّذِي ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ , فَإِنَّ جَمِيع مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ فِيمَا يَتَعَلَّق بِذَنْبِ الْكُفْر , وَأَمَّا ذَنْب غَيْر الْكُفْر فَمَا الْمَانِع مِنْ تَخْفِيفه). وسئل الشيخ محمد الرملي : هل يثاب الكافر على القرب التي لا تحتاج إلى نية ... ؟ فأجاب:
نعم يخفف الله عنه العذاب في الآخرة - أي عذاب غير الكفر- كما خفف عن أبي لهب في كل يوم اثنين بسبب سروره بولادة النبي (صلى الله عليه وسلم) , وإعتاقه ثويبة حين بشرته بولادته (عليه الصلاة والسلام) (للمزيد انظر: هل ينتفع الكافر بعمل الخير في الآخرة؟ موقع رابطة العلماء السوريين / الاستشارات والفتاوى / رقم الفتوى : 47 / 5 مايو 2013(.

العذاب الاخروى ليس غايه فى ذاته بل وسيله لتحقيق العدل: فالعذاب الاخروى ليس غايه فى ذاته ، وانما هو وسيله لتحقيق العداله الالهيه كما تقرر العديد من النصوص كقوله تعالى (مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ) .

العدل الالهى مرتبط بالرحمه- الالهيه مفهوم "العفو الالهى"وقاعده "جواز اخلاف الله تعالى وعيده"عند اهل السنه :غير ان العدل الالهى ليس عدل مجرد، بل عدل مرتبط بالرحمه – الالهيه - ( عْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ). ومن مظاهر هذا الارتباط العفو الالهى ، الذى اشارت اليه العديد من النصوص: (انَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا)(النساء: 43) . ويشمل التجاوُزُ عن الذنب وتَرْك العِقاب عليه ( وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) .
واتساقا معه قررت اهل السنه قاعده (لايجوز على الله تعالى اخلاف وعده – اى وعده للمحسن بالثواب- ولكن يجوز عليه اخلاف وعيده- اى وعيده للمسى
بالعقاب-) ،وقد نقل ان القيم هذه القاعده فى كتاب مدارج السالكين فى معرض بيانه اقوال العلماء فى تفسير الايه" مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا " (هذا وعيد وإخلاف الوعيد لا يذمّ، بل يمدح، والله تعالى يجوز عليه إخلاف الوعيد، ولا يجوز عليه خلف الوعد (.

قاعدة" كل مسلم يدخل الجنة فى الحال او المآل : وقد قررت العديد من النصوص ان من قال لا إله الا الله دخل الجنة ومنها قوله (صلى الله عليه وسلم)، من قال: لا إله إلا الله صدقًا من قلبه دخل الجنة) (اخرجه أبو يعلى في مسنده 6/10)، ورتب أهل السنة على هذه النصوص قاعدة ان كل مسلم يدخل الجنة فى الحال " المبتدأ " (اى ان كل مسلم مطيع لإرادة الله يدخل الجنه وتحرم عليه النار)، او فى المآل "المنتهى "(اى ان المسلم العاصى لارادة الله امره متوقف على المشيئه الالهيه ( وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء)، ان شاء غفر له ذنوبه وادخله الجنه بدون عقاب، سواء بدون شفاعة او بشفاعة الشافعين كالملائكة والأنبياء - وعلى راسهم الرسول (صلى الله عليه وسلم)- بعد اذن الله لهم (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه)، وان شاء أدخله النار لينال عقابه على ذنوبه ثم أخرجه منها ايضا بدون شفاعة او بشفاعة الشافعين بعد الاذن الالهي.

خلود المسلم مرتكب الكبيره فى النار معلق وليس مطلق: واذا كانت النصوص تقرر خلود المسلم مرتكب الكبيره فى الناركما فى قوله تعالى ( وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا )( النساء: 48 ).فان علماء اهل السنه قد قررو ان هذا الخلود ليس خلود مطلق كما هو الحال عند الكافر الذى بلغته الرسلات السماويه وانكرها ، بل هو خلود معلق , اى متوقف على مشيئه اللهتعالى، ان شاء انفذه وان شاء اوقفه ، استناد الى نصوص اخرى كقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ). يقول الطبري في “تفسيره”(وقد أبانت هذه الآية أنّ كل صاحب كبيرة ففي مشيئة الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه عليه، ما لم تكن كبيرة شركًا بالله)، ويقول الطحاوي ( وأهل الكبائر في النار لا يخلدون، إذا ماتوا وهم موحدون، وإن لم يكونوا تائبين، بعد أن لقوا الله عارفين مؤمنين، وهم في مشيئته وحكمه، إن شاء غفر لهم وعفا عنهم (.

لا يدخل كل الكفار النار " مفهوم اهل الفتره عند اهل السنه : " والنصوص تقرر ان العذاب الاخروى مقصور على من بلغته الرسالات السماويه وانكرها ، قال تعالى: (كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً).لذا قال العديد من علماء هل السنه إنّ أهل الفترة معذورون اى من ماتوا على الكفرفى فتره انقطاع الرسالات، يقول الامام الغزالى ) ... ولم تبلغهم الدعوة، فإنهم ثلاثة أصناف:صنف لم يبلغهم اسم محمد"صلى الله عليه وسلم"
أصلًا، فهم معذورون...) (فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة ص 84). اما كيفيه حسابهم فقال بعض العلماء يحاسبون حسب فطرتهم ،وقريب منه قول آخرون أنهم يمتحنون يوم القيامة ، ومنهم ابن كثير الذى يقول : ومنهم من ذهب إلى أنهم يمتحنون يوم القيامة في العرصات؛ فمن أطاع دخل الجنة. وانكشف علم الله فيه بسابق الشقاوة. وهذا القول يجمع بين الأدلة كلها. وقد صرحت به الأحاديث المتقدمة المتعاضدة الشاهد بعضها لبعض. وهذا القول هو الذي حكاه أبو الحسن علي بن إسماعيل عن أهل السنة والجماعة، وهو الذي نصره أبو بكر البيهقي في كتاب الاعتقاد.

....................................

الموقع الرسمي للدكتور/ صبري محمد خليل خيري | دراسات ومقالات

https://drsabrikhalil.wordpress.com
//////////////////////////

 

آراء