تطور مؤسستي الشرطة والأمن بين السودان ومصر حتى ثورة 25 يناير بمصر. بقلم: د. المعتصم أحمد علي الأمين

 


 

 



تطور مؤسستي الشرطة والأمن بين السودان ومصر حتى ثورة 25 يناير 2011م بمصر. بقلم: د. المعتصم أحمد علي الأمين


الدكتور المعتصم أحمد علي الأمين( *)
Abstract
This study examines the role of security and police institutions in Egypt which led to congestion of mobs and out braking of a revolution in 25th Jane 2011.
Thus the study examines the factors behind the revolution and gives historical background as well as it answers the enquiry whether such case and revolutionary phenomenon is peculiar to Egypt a lone or it may apply to other countries such as Sudan. Knowing the fact that. Both Egypt and Sudan have similar and joint history. The  Study also accounts for the challenges and role of external force behind progressive controlling  of security  and police forces over stat's institutions such a control was not  available under normal and  political instability conditions.
Finally , the study tries to predict the future of security and police institutions in both contraries  after Arab spring revolutions and possibility of new reformations occurrence . In such case could new reformations lead to establishment of new model free from past shortcomings or the reformations may occur superficially not essentially.   



مقدمـــــة :
مع قيام ثورة 25 يناير 2011 بمصر حدث توتر كبير بين قوات الشرطة المصرية والقوات الأمنية وجموع الشعب المصري، ومازال يؤثر في الحياة السياسية والاجتماعية لمصر بعد مرور أكثر من عامين ونصف على الثورة ومرشحاً لأن يستمر ربما لسنوات قادمات ، وفيما يبدو أنه لم يكن وليد الثورة وحدها  وإنما  نشأ منذ وقت طويل ربما منذ حكومة 23 يوليو 1952م التي اعتمدت القبضة الأمنية والشرطية في التعامل مع التيارات السياسية المعارضة (1) ، ثم ظل هذا التوتر مستمراً ومتراكماً منذ ذلك التاريخ إلى أن انفجر أخيرا بعد أن بلغ السيل الزبي في ثورة مصر الأخيرة.
تحاول هذه الورقة البحث في أسباب تدهور العلاقة بين القوات الشرطية والأمنية من جهة  وبقية أفراد الشعب المصري من جهة أخرى ، واستشراف ومعرفة إحتمالية تكرار مثل هذا التوتر المكبوت  في السودان باعتبار أن البلدين متشابهان في قضايا كثيرة في تاريخهما الطويل ، وقد بدأ ذلك واضحا في شعار مصر للمصريين في عشرينيات القرن الماضي، ثم السودان للسودانيين في أربعينيات القرن العشرين كذلك، كما أننا يجب ألا ّ ننسى أن قيام الفكر الاشتراكي وانبثاقه عن الفكر الشيوعي  في الوطن العربي  تم بنفس الطريقة في البلدين (2) ، ولا تنسي كذلك أن قيام الحركة الإسلامية الحديثة في كلا البلدين كان متشابها ومرا بنفس التطورات لولا أن الحركة الإسلامية السودانية استطاعت أن تصل للحكم عبر إنقلاب عسكري في 1989م ، بينما  وصلت أن حركة الإخوان المسلمين إلي السلطة في مصر عبر صناديق الانتخابات  ، وفي ذلك الأمر تحديداً نجد أن هناك اختلافات طفيفة وأحيانا يكون تأثير السودان واضحا ولكن غالباً ما يكون التأثير المصري هو المسيطر،  رأينا ذلك في التأثيرات الفرعونية والمسيحية والإسلامية(3) .وبالتالي إذا كان هذا هو الواقع على المستوى السياسي فما الذي يمنع من تكرار نفس الأمر على الجانب السياسي والجوانب الأخري القريبة ، أو يحدث أمر مشابه له أو قريب منه يمكنّنا من قراءة التطورات ومآلات المستقبل في كلا البلدين وربما المنطقة العربية والإفريقية كذلك ، والتي دللّت الشواهد على أنها تتأثر ببعضها البعض بأكبر مما  نعتقد أو نتصور .
أما على الجانب الاجتماعي والاقتصادى فكلا البلدين تقريبا مرا بنفس الظروف الاجتماعية بعد الاستقلال المتمثلة في غلاء المعيشة  والهجرات الكثيفة إلى دول الخليج العربي في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين ، وتحول التعليم من تعليم صفوي لخاصة الخاصة من المبرزين إلى تعليم جماهيري بعد أن أعلن طه حسين في بدايات ثورة يوليو 1952م أن التعليم مثل الماء والهواء يجب أن يشاع للجميع ، مماأسهم في إضعاف المؤسسات التعليمية الصفوية التي أنشأها الاستعمار الانجليزي! وإنشاء مؤسسات تعليمية على أنقاضها تهتـم  أحياناً  بالكم وليس بالكيف مما أدى  آخر الأمر إلى تدهور التعليم شيئا فشيئا(4) .
بدايات قيام المؤسسة الشرطية في مصر والسودان
كان هناك اختلاف طفيف في المجتمع الذي نشأت فيه القوى الشرطية في مصر والسودان ولكنه كان مهما ومفصلياً مما انعكس على علاقة الجماهير بالمؤسسة الشرطية في كلا البلدين، وسوف نرى أن هذا الاختلاف ربما يكون السبب الأول الذي أدى إلى التطورات اللاحقة التي أثرت في كلا المؤسستين .
ويتمثل ذلك الاختلاف تحديدا في مدى تماسك المجتمع وترابطه في كلا البلدين حيث نجد أن تماسك المجتمع  المصري كان متخلخلاً لأسباب خاصة به بينما المجتمع السوداني كان أشد تماسكا بفضل تماسك القبائل السودانية وتصديها للتحديات التي واجهت الفرد والجماعة ، كما أن المجتمع السوداني تميز بوجود   الطرق الصوفية الأكثر صرامة وانضباطا عن المجتمع المصري مما عمل أيضا على تماسك المجتمع وهيمنة الطرق الصوفية عليه(أنظر إلي حادثة أختلاف المهدي مع  أستاذه شيخ الطريقة السمانية) لأنها توفر الحماية بالإضافة إلى الراحة النفسية والطمأنينة الدينية والحماية الاقتصادية والولاء لمجتمع أكبر يجد فيه الفرد نفسه منتمياً لكيان يُذيب فيه نفسه لصالح الجماعة  بمحبة ويستفيد من وراء ذلك الكثير(5) .
أما سبب ترابط القبيلة في السودان بأكثر منها على مستوى جمهورية مصر  فيرجع إلى التاريخ البعيد والحديث نسبيا والذي جعل من القبيلة في السودان أكثر تماسكاً بفضل اتساع الإقليم السوداني وتنوعه، وعدم تركزه في منطقة جغرافية واحدة يستطيع الحكام  والولاة السيطرة عليها، وفرض نفوذهم كما حدث في مصر ، حيث نجد أن القبائل السودانية تنتشر حول  روافد النيل الشاسعة وفي تلال البحر الأحمر وفي الصحاري الشمالية والغربية وفي مرتفعات جبل مرة ومرتفعات النوبة وفي الغابات الاستوائية المطيرة واراضي المستنقعات في جنوب السودان مما عمل على  نمو  نفوذ القبيلة واستقلاليتها وحال دون تمكّن السلطات السودانية في الممالك القديمة كما في مملكة سنار والفور وتقلي والمسبعات والعبدلاب وغيرها من إحكام سيطرتهاعلى هذه القبائل وتذويبها تحت لوائها  مما عمل في نهاية الأمر على الاعتراف بهذه القبائل وتقاسم السلطة والنفوذ معها.
أما في جمهورية مصر فمما لاشك فيه أنه توجد قبائل كما في السودان وخصوصا في صحراء سيناء والصحراء الشرقية والغربية إلا أن تأثيرها في الحياة السياسية المصرية كان محدودا بسبب قلة أعدادها مقارنة بسكان الدلتا ومجرى حوض النيل حتى أسوان جنوبا ، كما أنها كانت فقيرة مما جعل تأثيرها الثقافي محدوداً وليست ذات خطر ُيذكر اللهم إلا أبان ضعف السلطة المركزية في مصر حيث تنشط في عملية السلب والنهب والسيطرة على أطراف المدن ، ولاينجو من خطرها حتي الحجاج المتوجهين إلى ساحل البحر الأحمر عند مدينة القصير في غابر التاريخ (6).
كذلك تمّيزت السلطة المركزية بقوة قبضتها الإدارية والعسكرية على طول الدلتا ونهر النيل وخصوصا في عهد محمد علي باشا الذي استمر لحوالي 35 عاما من السلطة المطلقة 1805م – 1840م والذي استطاع السيطرة ليس على مصر فحسب  ولكن  الوصول عسكريا إلى تركيا نفسها حيث مقر خليفة المسلمين،  بالإضافة إلى الشام والحجاز والسودان وأجزاء من جزر البحر الأبيض المتوسط وجنوبي أوروبا مما تسبب في ضغط شديد على المجتمع المصري الذي وقعت على كاهله كل تلك الأعباء والتضحيات وكان تعداده محدودا يقدر بحوالي 4 ملايين نسمة فقط ، فتصور مدى  الخسائر التي حدثت في  الأنفس والثمرات   في هذه الفترة المحدودة حيث لم تقل أعداد القتلى والمفقودين في الهضاب التركية والصحاري العربية والسهول السودانية عن حوالي 250 الف شاب من جملة السكان بمعنى أن جميع الأسر تقريبا تأثرت بفقدان فرد أو اثنين في هذه الحروب ، وكانوا من الذين يعول عليهم لأنهم الأصغر سنا والأصلح لخدمة الأسرة ودعمها اقتصاديا وبشريا من خلال التزاوج والتصاهر ورفد الأسر بأجيال جديدة (7).
ثم أعقبت هذه الفترة مباشرة البدء في حفر قناة السويس في عهد الخديوي إسماعيل 1856- 1882م وقد كان هذا المشروع من أكبر المشاريع الاقتصادية ذات الجدوى الكبيرة ربما لم تعرف مصر له مثيلاً منذ ذلك التاريخ وحتى وقتنا الراهن بخلاف قيام السد العالي في ستينيات القرن العشرين ،  وهي بدورها تكلفت تضحيات جسيمة في سبيل إنشائها حيث  يتطلب العمل سنوياً من كل  قرية مصرية شباباً في سن صغيرة للعمل في حفر القناة من البحر الأحمر وحتي البحر الأبيض المتوسط بعمق أكثر من عشرة أمتار لمرور السفن القارية، وقد كان هذا العمل على سبيل أعمال السُخرة ولم يكن يُعطى للعامل إلا ما يقيم أوده من طعام وشراب ، وقد توفي مئات الآلاف من الشباب في هذا العمل القاسي أو أصيب كذلك آلالاف بعاهات مستديمة وأصبحوا عالة على المجتمع بدلا من أن يساهموا في ترقية المجتمع وأسرهم اقتصاديا في وقت كانوا في أشد الحاجة إلى أبنائهم بعد انتهاء موجات الحروب الواسعة في عهد محمد علي .
وبالتالي نستطيع أن نقول إن تماسك المجتمع المصري  قد ضعف  كثيراً وخصوصا القاطنين في الدلتا وحول مجرى نهر النيل بفعل الحروب وأعمال السُخرة والأمراض وسوء التغذية وكف المجتمع مؤقتاً عن الأنجاب والتكاثر بفعل موت الشباب في الحروب أو نقلهم إلى معسكرات العمل حول قناة السويس .
لذلك عندما تكونت الشرطة الحديثة مع مجيء الاستعمار البريطاني في 1882م كان المجتمع المصري في أضعف حالاته الاقتصادية ويفتقر إلى التماسك والتضامن التقليدي بين الأسر نتيجة للخسائر الهائلة في الأرواح التي حدثت في ثلاثة أرباع القرن الماضي بالرغم من التطور الظاهري في مجال الري والبنية التحتية وتطور الزراعة إلا أن الذين استفادوا من ذلك قلة من الباشوات والبكوات المنحدرين من أسر تركية أو شركسية بينما عانى الملايين من أفراد الشعب من المسغبة والجوع ونقص في الأنفس والثمرات وافتقاد العائل الذي يُعتمد عليه الآباء والأمهات بعد أن عجزوا عن العمل لكبر سنهم.
أما في السودان فقد تعرض المجتمع كذلك إلى محن قاسية مع الاضطراب السياسي الذي حدث مع ضعف الدولة السنارية ثم غزو محمد علي باشا للسودان في 1821م وحملات محمد بك الدفتردار الانتقامية وامتصاص الشعب بالضرائب الباهظة وحملات جلب الرقيق والرجال من جنوب وجنوب أواسط البلاد ومن شمالها تارة آخرى كما مع قبائل الجعليين ، ثم قيام الثورة المهدية في عام 1882م وحروبها الداخلية مع قبائل شتى مثل الكبابيش والبطاحين والشكرية ، وحروبها الخارجية مع الحبشة وفي توشكي ضد مصر والمجاعات ثم حملات إعادة ضم السودان ومعارك النخيلة وكرري وأم دبيكرات أفقد السودان الألوف من أرواح شعبه  إلا أنه لم يكن تأثيرها خطيرا في المجتمع كما حدث في الحالة المصرية بسبب تصدي  القبيلة في السودان لكل هذه المحن ومحاولتها المستميتة لحماية أفرادها ووجودها  سواء كان ذلك بالاختباء في الغابات الكثيفة كما حدث لقبائل الجنوب أو هروبها ونزوحها لخارج السودان كما في حالة بعض الجعليين بعد مقتل إسماعيل باشا في 1822م حيث لجأوا إلى الهضبة الإثيوبية ، أو عبر التصالح مع السلطة المسيطرة بعد التضحية بقيادتها المنخرطة في أعمال عدائية ضد السلطة  كما في حالة الكبابيش في عهد الخليفة عبدالله التعايشي 1885- 1898م والشكرية ، أو قبائل الهبانية في عهد الإدارة البريطانية في السودان.
وبالتالي يمكن أن نتوصل إلى نتيجة بعد كل ذلك  وهي أن كلا المجتمعين في مصر والسودان قد تعرض لمحن كبيرة إلا أن السودان ظل محافظا على تماسك مجتمعه التقليدي جزئياً بفعل التنظيم القبلي الأكثر سيطرة على مكوناته الداخلية وإمكانيات الهجرة الواسعة، بينما ساعد اضمحلال القبيلة في مصر وخصوصا في دلتا نهر النيل ومجراه بفعل تداخل الأراضي الزراعية وضيقها وسيطرة الحكومات المركزية لسنوات طويلة والدفع بالتنظيمات القبلية التي يمكن أن تشكل خطورة على السلطات بالهجرة إلى السودان ، كل ذلك عمل على اختفاء القبلية والاستعاضة عنها بعائلات كبيرة أصغر عِـوضاً عن التنظيم القبلي المحكم  الذي مالبث أن تعرض إلى ضربات قاسية مع حروب محمد على الخارجية ومشروع حفر قناة السويس وحروب استعمار مصر من قبل بريطانيا في 1882م كما أسلفنا مما أثر على تماسك هذه العائلات بعد أن أفقدها المئات من شبابها مع إمكانيات محدودة للهجرة أو الهروب إلا على المستوى الفردي ، وسوف يكون لهذا الأمر تأثيرات بالغة على عمل مؤسسة الشرطة في كلا البلدين فيما بعد ، لأن مؤسسة الشرطة المصرية عملت في ظل مجتمع ربما لاتوجد بينه روابط متينة مثل الروابط القبلية التي يمكن أن نقول إنها ربما التنظيم الأكثر إحكاما منذ فجر التاريخ الإنساني وحتى يومنا الحاضر بخلاف الطرق الصوفية.  بينما نشأت وعملت مؤسسة الشرطة السودانية في إطار مجتمع أكثر تماسكا من الناحية التنظيمية  والاستقلالية مما انعكس  ذلك الأمر على كلا المؤسستين فيما بعد ومنع من حدوث تجاوزات ضد الشعب الذي تحميه قبائله .
مؤسسة الشرطة المصرية في العهد الوطني
قبيل أن ينال كلا البلدين استقلالهما من بريطانيا نستطيع أن نقول إن المؤسسة الأمنية والشرطية شهدت قبضة حديدية من قبل الإداريين البريطانيين بالاستعانة بالحكم المحلي سواء أكانوا من عمد القرى المختلفة كما في الحالة المصرية أو زعماء القبائل كما في السودان ، لذلك خف العبء كثيرا على المؤسستين بفضل هذا التنظيم المتناهي في دقته ، كما أن البلاد عموما شهدت فترة استقرار ونماء بالرغم مما قيل عن مثالب الإنجليز وتسخيرهم خيرات البلدين لصالح بريطانيا إلا أن فترة الاستقرار الطويلة التي فرضت على المنطقة انعكست إيجابا على التنمية  ونمو السكان ، بيد أن الذي اختلف في الحالة المصرية أن مجندين كُثراً في مؤسسة الشرطة المصرية وحرس الحدود كانوا ينحدرون من أصول سودانية أو من قبائل حدودية مشتركة مثل البشاريين والعبابدة والكنوز  والشايقية والنوبة  (الهجانة ) مما سمح  للشخصية السودانية أن تطّلع بصورة جيدة على أداء نظيرتها المصرية في العهد الاستعماري.  وبمجيء الفترة الاستقلالية بعد العام 1954م والأعوام التي تلت ذلك اختلفت التوجهات العامة في كلا البلدين حيث زادت حكومة 23 يوليو بقيادة الرئيس جمال عبدالناصر من قبضتها على المجتمع المصري بقوة وقسوة لتوطيد النظام العسكري الجديد وكان من أوائل الأنظمة العسكرية القمعية في قارة إفريقيا مما تطلب تقوية المؤسسة الأمنية والشرطية  لضرب المعارضين بحسم  لدرجة أن أكبر حركة إسلامية منظمة في ذلك التاريخ وهي حركة الإخوان المسلمين ما لبثت أن تراجعت كثيرا إبان اصطدامها  بالحكم العسكري بالرغم من القوة المعنوية والأيديولوجية والتنظيمية التي حازتها  منذ بواكير ثلاثينيات القرن العشرين (8) .
ويعود تنامى نفوذ  حكم 23 يوليو واستفرادها بالعنف إلى عدة أسباب لعل من أهمها تحريكها الشارع المصري العريض من خلال رفع شعارات براقة مثل الاعتماد على النفس والإصلاح الزراعي والتصنيع العسكري ومواجهة الغرب وتحديه من خلال تأميم قناة السويس 1956م ومن ثم التصدي لإسرائيل  وحلفائها من الغربيين في المنطقة والدعوة لإخلاء المنطقة العربية من القواعد العسكرية الأجنبية ، واستجلاب السلاح من دول الكتلة الشرقية ، وذهبت أبعد من ذلك من خلال دعم ثورات التحرر العربية والإفريقية واقتلاع الأنظمة التقليدية الموالية للغرب كما في الحالة اليمنية عندما بعثت مصر بأكثر من خمسين ألفاً من جنودها لدعم اللواء عبدالله السلال ضد أسرة حميد الدين الحاكمة في صنعاء منذ قرون خلت !.
كل ذلك النشاط والتحدي والشعارات الإعلامية البراقة رفد السلطة المصرية بشعبية واسعة ليست في مصر وحسب وإنما شملت معظم دول العالم الثالث ، إلا أن من أكبر مساوئها  أنها وضعت كل انتباهها نحو الخارج وتركت الشؤون الداخلية للبلاد في أيدي قلة في المؤسسة العسكرية والشرطية والأمنية دون مراقبة أو مراجعة من قبل السلطة العليا لأكثر من عقد من الزمان( 1956-1966م) للدرجة التي توحشّت فيها المؤسسة الأمنية وأطلقت يدها بلا تحفظ في المجتمع المصري بأسره ، ونتج عن ذلك خسائر فادحة ليس على المستوى المادي فحسب ولكن الأخطر من ذلك على المستوى المعنوي والخُلقي حين صارت أغلبية المجتمع أكثر سلبية في التصدي للقضايا الملحة بفعل العنف والتجسس وأحكام الإعدام ، كما تقوقع المفكرون والأدباء وصناع الرأي على أنفسهم سنوات طويلة،  وارتفاع قيم الانتهازية والنفاق في ظل  المجتمع الذي تسيطر عليه المؤسسة الأمنية بأقوى أدوات القهر والتسلط (9) .
حينها لم ينتبه قائد البلاد   الرئيس جمال عبدالناصر لهذا الانحراف الكبير في المؤسسات الأمنية والشرطية أو ربما انتبه ولكنه لم يقدر على شييء إلا بعد أن وقعت الكارثة إثر هزيمة 1967م وسيطرت إسرائيل على كامل سيناء والضفة الغربية والقدس الشرقية وهضبة الجولان مما استدعى التفكير في إعادة  بناء الجيش المصري ! وكذلك المؤسسة الأمنية والشرطية ولكن بخسائر كبيرة لعل من أهمها اغتيال أو انتحار نائب رئيس الجمهورية المشير عبدالحكيم عامر وكذلك اللواء صلاح نصر مدير عام المخابرات المصرية  والفريق صدقي قائد الطيران وكثير من الكوادر العليا والوسيطة داخل هذه المؤسسات الحساسة.
بيدأن تحديث الجيش المصري ونشوب حرب الاستنزاف بين 1968- 1970م ووفاة الرئيس جمال عبدالناصر نفسه في  30 سبتمبر 1970م ونشوب حرب اكتوبر 1973م والصدام مع الحرس القديم من قبل الرئيس أنور السادات في 15 مايو 1971م لم يمكّن من إحداث تغيير شامل  وحقيقي في هذه المؤسسات واستمرت في سيرتها القديمة المتسمة بقدر كبير من اللؤم والقبضة الأمنية التي لاترحم ، وقد زاد من قبضتها بعد ذلك حوادث العنف الديني من قبل جماعات الجهاد والتكفير والهجرة واغتيال الرئيس أنور السادات نفسه في 6 أكتوبر 1981م ؛ مما قدم هدية ثمينة لهذه المؤسسات لزيادة قبضتها في العهد الجديد ، ومن ثم إعادة سيطرتها على الشعب المصري مرة أخرى بلا محاسبة أو مراقبة ربما بأسوأ من السابق مع توالي العمليات المحدودة من قبل الجماعات المتشددة التي حالت دون حراك الشعب المصري ، ومطالبته بتعديل سلوك المؤسسة الأمنية والشرطية التي استفحل تجاوزها للدرجة التي ّضج منها الشعب المصري وطلب الخلاص من هذا الأمر بأي وسيلة كانت . ويعتبر تزايد هيمنة المؤسسة الأمنية والشرطية  وانحرافها من أكبر دوافع تّفجر ثورة 25 يناير 2011م ، وطرد الرئيس محمد حسني مبارك من سدة الحكم بعد أيام قليلة من قيام الثورة وأبرز مثال على ذلك اغتيال الطالب خالد سعيد وإدعاء أنه تناول جرعة زائدة من المخدرات !!.
مؤسسة الشرطة والأمن السوداني في العهد الوطني:
أما فيما  يختص بالتطورات في السودان بُعيد الاستقلال فقد شهد نظاماً  ديمقراطياً أول أمره استمر لعامين مما عمل على إعلاء صوت الجماهير عبر انتمائها للأحزاب التقليدية والحديثة فخفف ذلك من قبضة القوى العسكرية والأمنية في ذلك العهد المبكر من الاستقلال ، وبذلك تشابهت هنا التجربة الديمقراطية في كل من مصر والسودان قبيل الحكم العسكري ، والاختلاف يكمن في أن التجربة الديمقراطية المصرية التي كانت  في عهد الاستعمار البريطاني استمرت لفترة طويلة نسبيا بدأت منذ 1923م ، وانتهت في 1952م وبالتالي أصبحت أكثر عراقة وتجّذراً  في تربة المجتمع المصري بالرغم من أن هذه التجربة كانت في العهد الاستعماري القابض مما أفقدها كثيرا من حيويتها واستقلاليتها ، كما أن ظروف الحرب العالمية الثانية(1939- 1945م) والهجوم الألماني الإيطالي على غرب مصر أثرا في هذه التجربة، أضف إلى ذلك أن الملكية المصرية  لم تكن ملكية إسمية شرفية وإنما كانت ملكية مطلقة عمل فيها الملك على منع حزب الوفد الجماهيري من الاستمرار في الحكم  ربما عشرات المرات  بالرغم من فوزه  في كل الانتخابات التي عقدت  في تلك الفترة ، كما أن الديمقراطية المصرية أختلفت في أنها كانت ذات تأثير صفوي  ولم تصل إلى الجماهير المرهقة اقتصاديا بالرغم من ولاء الجماهير لحزب الوفد   بينما الديمقراطية السودانية كانت شعبية بسبب ارتباط الجماهير الوثيق بالأحزاب السياسية التي تهيمن عليها الطوائف الصوفية لا العلمانية كما في مصر مما عمل على تفاعل الجماهير معها لأنها جمعت  بين المحبة الدينية والولاء الحزبي والارتباط الجهوي أضف إلى ذلك أن فترة الحكم العسكري الأولى التي أعقبت الديمقراطية(1958م-1964م) تميّزت بعدة صفات مختلفة عما جرى في مصر أبان حكم 23 يوليو لعل من أهمها أن من قاموا بها لم يكونوا من صغار الضباط كما في مصر ، ولكن من كبار الضباط فانعكس ذلك في الرغبة في استقرار المجتمع ، وعدم مفاجأته بقرارات ثورية تهز أسسه الثابتة التي تعود عليها الناس ، كما أن علاقات النظام الخارجية ظلت ثابتة ومستقرة بل مزدهرة مع الكتلة الشرقية والغربية على السواء بعكس ما حدث في مصر.وكان انعكاس ذلك الأمر ايضا على مؤسستي الأمن والشرطة في السودان حيث حافظتا على تقاليدهما المحافظة القديمة لأن حجم التحديات الداخلية والخارجية كان قليلاً نسبيا بالرغم من تفّجر الحرب الأهلية في جنوب السودان بصورة أعنف عن السابق( 1961م-1964م) إلا أن هذه الحرب كانت تدور بعيدا في الغابات الاستوائية باقصى جنوب السودان وكان تأثيرها محدودا في الشمال إلا عند الجيش والاحزاب السياسية التي تود العودة للحكم مرة أخرى مستغلة مشكلة الحرب البعيدة يومئذٍ(10).
بعد انتهاء ِحقبة الحكم العسكري الأول المحدودة( 1958م-1964م) ، واستلام الديمقراطيين الحكم؛ ظلت الأوضاع في المؤسسات الشرطية والأمنية في حالهما بالرغم من الدعوات بتطهير هاتين المؤسستين بشبهة فساد مظنون ألم بهما إلا أن تلك الأصوات ظلت خافتة ولم تؤثر فيهما .
ويؤرخ لبداية التغيير الحقيقي في مؤسسة الشرطة والأمن وتزايد نشاطهما مع وصول الحكم العسكري الثاني بقيادة الرئيس جعفر محمد نميري 1969- 1985م إلى سدة الحكم ، وينبع ذلك  التغيير من أن الضباط الأحرار الذين قادوا التغيير تأثروا كثيرا بالتجربة المصرية أو تجربة الرئيس جمال عبدالناصر بالرغم من أنها كانت مهزومة وفي مرحلة غروبها النهائي إلا أن ذلك الأمر لم يمنع من تقليدها عاطفياً وليس عقلياً  ، وكانوا أيضا  من الضباط  صغار السن والمنفعلين بالأحداث الخارجية والمستعدين للتغيير وإعادة تركيب المجتمع على أساس اشتراكي ، كما أن الخلافات كانت بينهم عميقة ، وقد ظهر ذلك جليا مع الانقلاب المضاد الذي حدث بعد عامين من وصول الثوار إلى سدة الحكم بقيادة الرائد هاشم العطا في 19 يوليو 1971م ، حيث هزّ هذا الانقلاب الفاشل سكينة المجتمع التقليدي القديم بعد أن أسال دماء كثيرة من الطرفين .
ومن هنا يمكن أن نقول إن مؤسستي الشرطة والأمن على وجه الخصوص أصبحت أكثر تمكنّا من المجتمع عما كانتا عليه في السابق ، وقد انعكس ذلك في درجة الرهبة منهما في المجتمع ، كما أن الصرف عليهما صار من أوليات وزارة المالية  وأصبحا من الرغبات التي يتطلع الشباب للانخراط فيهما بشتى الطرق، ويمكن أن نلاحظ أيضا أن التجاوزات  أصبحت تحدث بين الفينة والأخرى دون أن تثير استهجان البعض مثل اختطاف واغتيال صاحب جريدة الناس  محمد مكي وإغتيال الإمام الهادي المهدي  1970م.
وقد تقوى نفوذ هاتين المؤسستين بصورة أكبر بعد المحاولة الفاشلة لغزو الخرطوم انطلاقا من الجماهيرية الليبية في 2 يوليو 1976م ، بحيث صارتا  بعدها من أكبر المؤسسات صاحبة النفوذ في الدولة ، وصار خطرهما عظيما ، إلا أنه ولحسن الحظ لم تستمر هذه الحالة من الغليان طويلا بعد أن حدثت المصالحة الوطنية بعدعام من الغزو الخارجي للسودان في  1977م، وصار زعماء المعارضة وزراء للداخلية بعد التطورات الجديدة مثل الأستاذ أحمد عبدالرحمن محمد بالرغم من محدوية الصلاحيات التي مُنحت له، وقد عمل هذا التطور علي إيقاف التورم في الأجهزة الأمنية ووصولها لمرحلة أخطر من ذلك تهدد معها بتدمير الروح  المعنوية والخلقية لأفراد الشعب جراء المراقبة والقمع العنيف داخل أغبية السجون والتجاوزات غير المحدودة ومنها القتل والاغتصاب تجاه المعارضين الحقيقيين أو من يظن أن بهم شبهة معارضة كما حدث أحياناً مع فئات من الشعب المصري في عهد الرئيس جمال عبدالناصر 1954- 1970م.
بيد أن نفوذ المؤسسة الأمنية كان مستمرا ولكن بصورة أكثر اعتدالا وكادت ان ترث الحكم بعد الرئيس جعفر نميري متمثلة في اللواء عمر محمد الطيب قبيل الأطاحة به في أبريل 1985م  إلا أن الله لم يّقدر ذلك .
بمجيء الفترة الانتقالية بقيادة الدكتور الجزولي دفع الله والفريق سوار الذهب تم توجيه ضربة قاصمة للمؤسسة الأمنية السودانية على وجه الخصوص عندما  تم حلها نهائيا وفصل كل ضباطها  ومصادرة مبانيها  ، مما قضى على المؤسسة الأمنية قضاء مبرما لم تتعافي منه قط، وهذا تطور لم تشهده المؤسسة الأمنية المصرية حتى مع  حكم 23 يوليو 1952م  التي اعتمدت  علي الأجهزة  القديمة بعد تطهير الجهاز الأمني من قدامى الضباط  في العهد الملكي وكانوا أساسيين في عهد الثورة ولم يحدث تغيير  كبير  بها مما حافظ على تماسكها وإستفادت من قدرته للتصدي لمظاهر الانقلاب على السلطة  ،كماأن نجوم المؤسسة الأمنية الناصرية ظلوا فاعلين  حتى أواخر عهد الرئيس محمد حسني مبارك مثل السيد صفوت الشريف الأمين العام للحزب الوطني الحاكم واللواء عمر سليمان مدير المخابرات العامة المصرية لأكثر من عشرين عاما.
أما مؤسسة الشرطة السودانية وبرغم من استمراريتها إلا أننا سوف نرى بعد قليل أنها تعرضت أيضا لمراقبة من السلطة قبيل وبعد مجيء ثورة الانقاذ الوطني 1989م ولعل أخطر الملفات التي علقت في أذهان  الناس وأثرت فيها حادث مقتل الطالبة أميرة الحكيم ، مما سمح فيما بعد بإجراء تغييرات في صفوف الشرطة السودانية ( مثل  دمج كثير من وحدات الشرطة  في الشرطة العامة  مثل الدفاع المدني وحرس الصيد والجمارك ) دون أن يعترض على ذلك المجتمع  ، مما يدلل على أن المجتمع كان في نفسه شيء ضد مؤسسة الشرطة في ذلك العهد ولم يتبدد إلا ربما أخيرا .
نمو وتزايد نفوذ المؤسسة الأمنية في عهد الانقاذ الوطني
يمكن  القول هنا أن المؤسسة الأمنية في عهد الانقاذ قد توسع نفوذها كثيرا بدرجة لم يعرفها  تاريخ السودان من قبل، وأصبحت تتشابه إلى حد كبير مع المؤسسة الأمنية التي نشأت  في عهد الرئيس جمال عبدالناصر ويتمثل الاختلاف في الأيديولوجية الموجهة وإتفقت على زيادة وإتساع الصراع مع الخارج والقضاء على حكومة ديمقراطية كانت موجودة ولها جماهيريتها الواسعة ، كما أن من قاموا بالتغيير كانوا أقلية لذلك خشوا من  إنفلات السلطة من أيديهم ، كما أن الإيديولوجية  لكلا الطرفين كانت متحكمة في مسار الدولة ومتحكمة في انطلاقة مسيرتها الاقتصادية والسياسية ، ويمكن إن نقول أن نتائج كلا الحكومتين كانت متشابهة وتتمثل في خسران أراضٍ  واسعة يمتلكها الطرفان سواءاً كانت شبه جزيرة سيناء عقب حرب يونيو 1967م أو جنوب السودان بأكمله ، والذي يمثل ربع مساحة البلاد عقب تنفيذ إتفاقية السلام الشامل في 2005م كأول حدث إنفصالي معترف به في إفريقيا (11)  !.
يرجع نمو المؤسسة الأمنية السودانية أساسا للصراع السياسي في جنوب السودان ودارفور  والذي أخذ بعدا دوليا واسعا وتدخلت فيه أطراف  إقليمية معلومة لمناصرة جنوب السودان ودارفور ، وقد هدّد هذا الأمر في آخر المطاف بوصول الصراع إلى وسط السودان وتهديد أسس الدولة السودانية التي قامت منذ تأسيس السلطنة الزرقاء في 1505م ، وذلك بتمكين الجنوبيين من ذوي الأصول الإفريقية الخالصة من الحصول على السلطة في كل أنحاء السودان متحالفين مع جماعات شتى ربما لها رؤيتها الجهوية والعنصرية بكل المخاطر التي يمكن أن يحملها هذا التغيير ويمكن أن تصل لحد  الإبادة الجماعية ، ومن هنا توسع نفوذ الأجهزة الأمنية السودانية بصورة لافتة بالإضافة إلى التصدي للأحزاب التقليدية والعقائدية مثل حزب البعث العربي الإشتراكي والحزب الشيوعي السوداني وغيرها من أحزاب.
وتزايد نفوذ المؤسسة الأمنية من بعد ذلك نشط مع توالي الحرب في جنوب السودان وسقوط الآلاف من الشهداء  فعمل تلقائياً إلى تزايد نفوذ المؤسسة الأمنية ، وقد زاد من تماسك المؤسسة الأمنية  أن جذور الجهاز الأمني القديم تم بتره مع الفترة الانتقالية( 1985م) كما قلنا سابقا مما عمل على قيام جهاز جديد غير مرتبط كثيرا بالتقاليد الأمنية القديمة والشكل الهرمي المعروف وسيطرة البيروقراطية بالإضافة إلى أن الارتباط العقائدي بين أفراده والذي تمتد جذوره ربما من المدارس الثانوية والجامعات السودانية والعربية وخصوصا جامعة الخرطوم  في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي مما قوى العلاقات في المستقبل وجعلها أكثر حيوية وفاعلية وأزال كثيراً من سطوة التراتيبية  المعطلة  .
بيد أن الاختلاف مع الجهاز الأمني في العهد الناصري تمثل في أن الصعوبات أمام الحكومة السودانية كانت أكبر  وخصوصا على الجانب الدولي حيث  إنعدم وجود مناصر خارجي كما في العلاقة بين مصر والاتحاد السوفيتي ، ولم  يوجد انتصار سياسى ظاهر يشار إليه يلف المواطنين حول السلطة مثل تأميم قناة السويس 1956م. كما أن الصراع بين الاتحاد السوفيتي وأمريكا أخفى صوت المنظمات الطوعية ومنظمات حقوق الإنسان التي أصبحت قوة عالمية هائلة عقب إنهيار الاتحاد السوفيتي 1990م، كما أن انتشار الأقمار الصناعية وأجهزة البث الرقمي والانترنت والهواتف المحمولة جعل الحكومات أكثر معاناة مع منظمات المجتمع المدني سواء أكانوا من الساعين للإصلاح عن حق أم من أصحاب الأجندة الخفية المرتبطين بقوى الضغط العالمية.
لذلك كان موقف السودان أكثر تعقيدا فيما يختص بالحقبة الزمنية التي وجد نفسه فيها مع إنطلاقة   الإنقاذ الوطني 1989م ، حيث ووجه بثورة عارمة من قبل الإعلام الدولي باضطهاد حقوق الإنسان في جنوب السودان واتهامات بالرق وعدم السماح بالحريات الدينية والتعذيب وانتهت بتهمة الإبادة الجماعية.
لذلك لم يكن أمام جهاز الأمن  المهُلة أو الوقت لكي   يخرج عن مساره   كماحدث في مصر الناصرية إذ لم توفر له سانحة الاستقرار والتحكم والسيطرة لوقت طويل بهدوء مع الضغوطات الهائلة التي وُجهت له ووجهت للسلطة من قبله طوال العقدين الماضيين .
أما السبب الآخر فيتمثل في أن الصراعات داخل أجنحة الحزب الحاكم منذ قيام الثورة لم توفر كذلك فترة كافية لسيطرة مجموعة واحدة منسجمة لمدة طويلة على المؤسسة الأمنية ، ولعل أشهر الانشقاقات  تمت في العام 1999م مع خروج الأمين العام الدكتور حسن الترابي من السلطة ومعه طائفة لايستهان بها  بعضهم من المؤسسة الأمنية عمل على إضعافه بغير شك  ، ولعل بعض هذه الجماعات استطاعت فيما بعد أن تثير مشكلة دارفور بأكبر مما يتوقع  مما زاد الأمور ضغثا على أبالة (12) .
مآلات المؤسسة الأمنية في البلدين بعد سقوط نظام الرئيس حسني مبارك
وأخيرا يمكن القول أن المؤسسة الأمنية والشرطية في مصر بعد الثورة في يناير2011م  قد تواجه بتعقيدات كبيرة بسبب ارتباطها بالأنظمة السابقة التي بدأت قبل حكم 23 يوليو 1952م واستمرت بوتيرة واحدة ومنتظمة في كل الحقب اللاحقة حتى مرحلة الرئيس محمد حسني مبارك ، مما جعلها مرتبطة بالسلطة الحاكمة ومسؤولة عن فسادها  في ذهن الجماهير وبالتالي ومع اندلاع الثورة وضغوطاتها المتواصلة لمحاسبة المتورطين بقتل الثوار ويقدر عددهم بأكثر من ثمانمائة قتيل وعدة آلاف من الجرحى وعمليات التعذيب السابقة  ، وبالرغم من تلكؤ المجلس العسكري السابق في إجراء المطلوب وتبرئة كبار ضباط الداخلية  وعجز حكومة حزب الحرية والعدالة   إلا أن إصرار الثوار قد يؤدي آخر المطاف إلى إحداث تغيير جذري في أجهزة الشرطة والأمن المصريين ، ويمكن الافتراض أنه كلما تأخرت محاسبة المتورطين فإنه ربما يحدث انفجار وتغيير شامل  يكون أكثر استجابة لمطالب الجماهير التي ذاقت حلاوة النصر وتعرفّت علي قدرتها الهائلة في صنع التغيير بالرغم من ضغوطات المجتمع الدولي والدول الإقليمية والمستفيدين من النظام السابق بالداخل والذين يقدر عددهم بالملايين وهم ما اصطلح على تسميتهم بالفلول.
بيد أنه من جهة أخرى لايمكن الاستهانة بعناصر الثورة المضادة التي تسعى بكل ما تستطيع من قوة إلى إرجاع الأوضاع كما كانت عليه في السابق ويناصرها في ذلك بعض الدول العربية والغربية وإسرائيل ، والذي شجعها أكثر على الاستمرار في المحاولة أن جماهير الثورة المصرية لم تعد كتلة واحدة صماء كما كانت في السابق تسعى نحو هدف واحد هو إسقاط نظام الرئيس محمد حسني مبارك حيث تحولت إلى جماعات عدة مختلفة ومتنافرة منها العلماني المتطرف في علمانيته ومنها السلفي الجهادي والمعتدل وحركة الأخوان المسلمين وحركات الشباب مثل كفاية وحركة  6 أبريل والأحزاب السياسية القديمة والطامعين في وراثة الثورة والوصول إلى سدة الرئاسة  بعد الإطاحة بالرئيس محمد مرسى.
وبالتالي إذا تمكنت القوي المضادة للثورة من الوصول إلى غاياتها فإن مصير قوى الشرطة والأمن  لن  يتغير كثيرا مع وجود طلاء خارجي خفيف للإيحاء   بأن العهد الجديد قد استجاب لطموحات الناس على عكس الحقيقة ، وهذا الأمر يشابه كثيرا ما درج عليه التاريخ المصري من أن التغيير لايكون جذريا  أو شاملا وإنما يكون تغييراً محدوداً في القيادة  بينما تتم المحافظة  علي الجسم القديم  ومعاودة بناء نظام قديم جديد بقيادة جديدة وهكذا دواليك ، حدث ذلك في كل سلطنات  المماليك التي حكمت مصر لأكثر من 400 عام ، وحدث ذلك مع حكم 23 يوليو التي أزاحت طائفة صغيرة من العهد الملكي السابق بينما أبقت على كل الكوادر السابقة وخصوصا في البوليس السياسي واستمرت فيما بعد بنفس الوتيرة .
أما فيما يختص بالسودان وعلى الرغم من نمو حجم الجهاز الأمني في العهد الأخير إلا أن حالة العداء مع الخارج والمراقبة اللصيقة من قبل معارضي الداخل والخارج، والصراع بين أجنحة النظام المختلفة وإتفاقيات السلام العديدة التي إبرمت مثل اتفاقية الخرطوم للسلام واتفاقية السلام الشامل واتفاقية أبوجا وإتفاقية الدوحة وأنجمينا كلها عملت على تقليل فرص الجهاز الأمني في أن ينمو بصورة أخطبوطية كما حدث في مصر، لذلك من المستبعد توقع مصير مشابه للطرفين ، ولكن هذا لايمنع أن تؤثر تقلبات السياسة السودانية على الجهاز الأمني مثلما فعلت مع جهاز الأمن  في عهد الرئيس جعفر نميري وخصوصا وإننا نختلف عن الدولة المركزية المصرية التي تقدس  الديمومة والاستمرارية والبناء على القديم ونفضل كما أثبتت حوادث التاريخ السابقة التغيير المتعجل الذي  يطيح بكل التجارب السابقة نتيجة لضغوط الإعلام والجماهير والأحزاب السياسية وربما حتى الضغوط الخارجية ثم نندم على ذلك فيما بعد.



نتائج الدراسة :
1-    لم تعد الثورات العربية عفوية كما بدأت .
2-    توجد تراكمات تاريخية تحد من إنتشار الثورات العربية خارج سياقها الطبيعي.
3-    تحقيق مطالب الكرامة الإنسانية للفرد من أهم أسباب الثورة وتأتي قبل الضائقة الاقتصادية .
4-    نشأة الأجهزة الأمنية في السودان تختلف عن مثيلتها المصرية لذلك ربما لا تتطابق المواقف السياسية وتطوراتها في البلدين .
5-    حركات الثورات السودانية المتتالية في أكتوبر 1964م وابريل 1985م عملت على إخراج الشحنات الثورية وعدلت من مسار الحكم في السودان.
توصيات الدراسة :
1-    لم تعد الجماهير العربية والإفريقية ذات وعي محدود بعد أن زاد التعليم ووسائل الإتصال الحديث ومعرفة ما يدور من أحداث في العالم الخارجي .
2-    الإستجابة لمطالب الجماهير بالسرعة الكافية يعمل علي تقليل الإنفجار الثوري.
3-    ضرورة الإهتمام بالإنسان من حيث حفظ كرامته الإنسانية أولا ومعيشته الاقتصادية ثانيا .
4-    ضرورة تدريب الأجهزة الأمنية والشرطة علي تفعيل واجباتها دون المساس بالكرامة الإنسانية .
5-    ضرورة الإنتباه للثورة الجماهيرية الحقيقية والثورات التي تحاول بعض الأطراف الخارجية صناعتها .


المراجـــــــع :
1-فؤاد عبدالرحمن محمد البنا، الإخوان المسلمون والسلطة السياسية في مصر، إصدار مركز البحوث والدراسات الإفريقية ، جامعة إفريقيا العالمية، الخرطوم بلا تاريخ، ص 425.
2- د. محمد سعيد القدال ، تاريخ السودان الحديث 1830 – 1955م ، الناشر ، مركز عبدالكريم ميرغني ، الخرطوم 2002م ، ص 496 .
3-ج. سبنسر تريمنجهام ، الإسلام في السودان ، ترجمة  فؤاد محمد عكود، إصدار المجلس الأعلي للثقافة، القاهرة 2001م،  ص 164.
4- يحيى محمد إبراهيم ، تاريخ التعليم الديني في السودان ، دار الجيل ، بيروت ، 1987م ، ص  40 .
5- موسوعة أهل الذكر بالسودان ، تحرير البروفسور يوسف فضل حسن  وعبدالحميد محمد أحمد ، المجلد الأول ، شركة مطابع السودان للعملة المحدودة ، الخرطوم 2004م، ص 49.
6 – عبدالرحمن الجبرتي ، عجائب الآثار في التراجم والأخبار ، الجزء الثاني ، تحقيق عبدالعزيز جمال الدين ، الناشر مكتبة مدبولي ، القاهرة، 1997م ،ص 748.
7-عبدالرحمن الرافعي ، عصر محمد علي ، ط رابعة ، دار المعارف ، القاهرة 1982م ، ص 280.
8- فؤاد عبدالرحمن محمد البنا ، الإخوان المسلمون والسلطة السياسية في مصر ، مرجع سابق، ص 188.
9-د. عبدالرحيم عمر محي الدين، الترابي والإنقاذ  صراع الهوية والهوى، ط رابعة، الناشر ، دار  كاهل للدراسات والطباعة والنشر المحدودة  ، الخرطوم 2009م، ص 496.
10- الامين عبدالرحمن أحمد عيسى ، الفريق إبراهيم عبود وعصره الذهبي، شركة مطابع السودان للعملة المحدودة ، الخرطوم  2005م ، ص 177.
11- د. بهاء الدين مكاوي محمد قيلي ، تسوية النزاعات في السودان  نيفاشا نموذجا، إصدار مركز الراصد للدراسات ، الخرطوم 2006م ، ص 279.
12- شمس الهدى إبراهيم إدريس ، حريق أمدرمان لصالح من ؟ ، شركة مطابع السودان للعملة المحدودة ، الخرطوم 2009م ، ص 94.

Matasm al-ameen [matasm.alameen@gmail.com]

 

آراء