تعديل الوثيقة الدستورية وأزمات الفترة الانتقالية

 


 

 

في خضم الأحداث الهزاهز التي تتجاذب أطراف الفترة الانتقالية، مر حديث لا يمكن وصفه إلا أنه إفادة خطيرة أدلى بها لقناة الجزيرة مباشر السيد إبراهيم الأمين القيادي في حزب الأمة وأحد مندوبي نداء السودان البارزين، ضمن قوى الحرية والتغيير الذين قادوا التفاوض مع المجلس العسكري للتوافق على صيغة الحكم الحالية، إلا أنه لم يجد الوقفة التي يستحقها رغم الدلالات الكثيفة التي بثها، فذكر : (بأسف الشديد وأنا أتحدث فيه لأول مرة، حدث تلاعب وحدث اختراق للوثيقة الدستورية في أول شهر دون علم وفدي التفاوض العسكريين والمدنيين. ثلاثة فقط عملوا على تعديل في الوثيقة الدستورية ودة كان السبب أني قدمت استقالتي من نداء السودان في لجنة التفاوض لأني شعرت أن هناك خطر كبير جداً في التعامل مع الوثيقة الدستورية)

تأتي خطورة إفادة السيد إبراهيم الأمين من كشفه عن مدى الاستهانة التي استهلت بها القوى السياسية تعاملها مع الوثيقة الدستورية، والسعي لنقض عراها قبل أن يجف الحبر الذي وقعت به. وقد تراكمت آثار النظرة التي لا ترى في الوثيقة الدستورية سوى وريقة يتم الرجوع إليها فيما يدعم وجهة النظر ويتغاضى عنها حين تقف في مصلحة فريق آخر، فزادت مساحات الانتهاك لمقتضياتها مع مرور الأيام، وعوضاً عن أن تكون طريقاً للعبور من بوابات الانتقال الآمن، أصبحت مهدداً لكل الوضع السياسي، وأداء أجهزة الدولة.

لم يكن الحديث عند تعديل الوثيقة الدستورية بغير آليات التعديل الدستوري أمراً مخفياً، فقد تسربت أنباء ذلك التعديل، وأكدت ذلك وزارة العدل. فعند تعيين أول وزارة من عمر الفترة الانتقالية أوضح السيد وزير العدل الدكتور نصر الدين عبد الباري أن هناك وثيقتان دستوريتان كلاهما تم التوقيع عليه، وتتكون إحداهما من ٧٠ مادة بينما تضم الوثيقة الأخرى ٧٨ مادة، وتم اختيار الوثيقة المعدلة لاعتمادهما بصورة نهائية من قبل رئيس مجلس السيادة ونشرها في الجريدة الرسمية. وكان على وزارة العدل بصفتها المستشار القانوني للحكومة، أن تصدر إعلانا وافياً يملك الشعب كافة الحقائق ويضع أمامه الصورة كاملة حول الظروف والوقائع التي تعلقت بالتعديل الذي تم، وأن تزيل الغموض الذي لا بس إصدار وثيقة دستورية خلاف الوثيقة المعتمدة أصلاً وتوضيح التعديلات التي أدرجت والجهات التي قامت بهذا التعديل ومدى دستوريته والآثار التي يرتبها على مجمل العملية السياسية خلال الفترة الانتقالية. إلا أن الوزارة آثرت الاختباء وراء جدار من الصمت.

بالنظر للتعديلات التي أدرجت على الوثيقة فإن بعضاً منها كان إعادة لترقيم بعض المواد وتحسين طريقة إخراجها، إلا أن هناك تعديلات جوهرية يرجع اليها السبب في جزء كبير من الإخفاقات التي لازمت الفترة الانتقالية، ومظاهر الفشل في البناء المؤسسي وفتح أبواب التشاكس بين مكونات منظومة الحكم، ويمكن توضيح أهم التعديلات على النحو التالي:

أولاً: تمت إضافة نص في المادة (78) أجاز للمجلس التشريعي تعديل أو إلغاء الوثيقة الدستورية بأغلبية ثلثي أعضائه. وهو تعديل بالطبع جوهري وتم استغلاله من قبل مجلسي السيادة والوزراء، ليس فقط في الحالات التي تستدعي ذلك مثل النص على سيادة أحكام اتفاقيات السلام على نصوص الوثيقة وإنما في إضافة نصوص ذات أهمية أخرى، ومن ذلك تعديل المادة (15) التي تتعلق بتشكيل مجلس الوزراء، فقد كانت تنص صراحة على أن يتم تشكيل مجلس الوزراء من كفاءات مستقلة، فحذفت كلمة (مستقلة) ومن ثم فتح الباب لتعيين منسوبي الأحزاب السياسية بما في ذلك قادتها دون أن يثبتوا أي جدارة. وكان أثر بعضهم سالباً على أداء الفترة الانتقالية.

تم إضافة مجلس شركاء الفترة الانتقالية كجسم دستوري يمثل فيه أطراف الاتفاق السياسي في الوثيقة الدستورية ورئيس الوزراء وأطراف العملية السلمية الموقعة على اتفاق سلام جوباً، وأثبتت التجربة العملية عدم نجاعته في أن يكون مجلساً تنسيقياً لحل التباينات في وجهات نظر الأطراف، وإنما عقد الوضع بصورة أكبر بخلق صلاحيات وسلطات لصالح المكون العسكري لم تمنحه لها الوثيقة الأصلية.
لم تتضمن الوثيقة الدستورية الأصلية نصاً يحدد كيفية تعديلها أو يعطي أي جهة حق التعديل، وهي بهذا الفهم تتصف بصفة عدم المرونة، وتدخل في إطار الدساتير المتعارف عليها فقهاً بأنها دساتير جامدة. ومن ثم يصعب التسليم من ناحية قانونية بإمكانية تعديلها على النحو الذي جرت به بعد توقيعها. وقد ناقش القضاء السوداني هذا الأمر بصورة مستفيضة في قضية جوزيف قرنق (ضد) حكومة السودان وهي القضية المشهورة بقضية حل الحزب الشيوعي السوداني. وخلصت فيها المحكمة إلى بطلان حل الحزب الشيوعي، وأسست ذلك على عدة قواعد من بينها أن الحقوق الأساسية المضمنة في الدستور الانتقالي المعدل عام ١٩٦٤ محصنة من التعديل التشريعي أو الدستوري، ذلك أن الدستور الانتقالي لم يتضمن آلية للتعديل، ومن ثم قصد إلى بقاء تلك النصوص على حالها خلال الفترة الانتقالية التي تمتد لعامين.

وقد كانت هذه القضية من أخطر قضايا فترة الديمقراطية الثانية، واستغلت فيها الاحزاب التقليدية أغلبيتها داخل الجمعية التأسيسية لإجراء تعديلات دستورية غير مشروعة للعبث بالنظام الديمقراطي وإهدار الحقوق الاساسية، مما أدى الى الاسراع بزوال كل النظام الديمقراطي وعودة الحكم العسكري مرة أخرى بعد أقل من خمس سنوات على الثورة عليه.

ثانياً: جرى تعديل البند (و) من المادة (12) بإدراج نص يفيد (إلى حين تشكيل مجلس القضاء العالي بعين مجلس السيادة رئيس القضاء) وتم الاستناد إلى هذا النص بتعيين السيدة نعمات عبد الله رئيسة للقضاء، والاستغناء عن مجلس القضاء العالي بأكمله طوال المدة المنصرمة من عمر الفترة الانتقالية، رغم أن مهام مجلس القضاء العالي لا تقتصر على تعيين رئيس القضاء وحده وإنما تشمل مهام قانونية ودستورية أخرى. إضافة إلى ذلك فقد استغل النص المذكور مدخلاً للسيطرة على السلطة القضائية بإقالة رئيسة القضاء، مع أن هذا الحق لا يصدر إلا عن مجلس القضاء العالي المغيب، ولا يوجد في الوثيقة الدستورية الأصلية أو المعدلة ما يبيحه.
وكان أخطر ما جره هذا التعديل هو تعطيل تشكيل المحكمة الدستورية، الذي ينعقد اختصاص تعيين رئيسها وأعضائها لمجلس القضاء العالي. ومن ثم فقدت الفترة الانتقالية آلية الرقابة الدستورية التي تم اللجوء إليها حين تتعقد الأزمات ذات الطبيعة الدستورية.

ثالثاً: تم تعديل البند (ي) من المادة 12 بمنح مجلس السيادة صلاحية تعيين السيد تاج السر الحبر نائباً عاماً إلى حين تشكيل المجلس الأعلى للنيابة. واستغل هذا النص في تعيين النائب العام وتغييب المجلس الأعلى للنيابة طيلة الفترة المنصرمة من عمر الفترة الانتقالية.

من الضروري احترام الرأي العام بكشف الغموض عن الملابسات التي لازمت تعديل الوثيقة الدستورية بغير آليات التعديل القانونية، وتمليكه كافة المعلومات عن هذا الحدث الجلل. ويتعين العمل على تجاوز آثار التعديل بإقامة المؤسسات التي أثر التعديل على تغييبها كالمجلس التشريعي ومجلس القضاء العالي والمحكمة الدستورية والمجلس الأعلى للنيابة حتى تسهم في تنفيذ مقتضيات الفترة الانتقالية بالسلاسة اللازمة.
أبوذر الغفاري بشير عبد الحبيب

abuzerbashir@gmail.com
//////////////////////

 

آراء