تعقيب على الاحتفال بالذكرى الثامنة والثلاثين (الحلقة الثالثة) .. تعقيب على د. النور

 


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

"وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ"
صدق الله العظيم

*(1)*

*الدوغما وموضوع*
*الحركة والثبات*

ما ينطبق على د. النعيم، من غياب الموضوعية، ينطبق على د. النور بصورة صارخة.. *فهو لا يورد أي أدلّة على أقواله، ويعتبرها أمراً نهائياً*.. أرجو ملاحظة ذلك.. ثم هو مولع باللغة، ولا يكاد يهتم بالمعاني.. فهو يورد الكلمة أو العبارة ويستخدمها ويطبقها بصورة خاطئة، قد تكون نقيض ما هي عليه.. وهذا أمر ظهر في حديثه عن *البراغماتية بصورة مخجلة*.. فهو تحدث عن البراغماتية حديثاً كثيراً، ولا يكاد يعرف عنها أي شيء!! بل الأسوأ من ذلك هو *ينسب للبراغماتية عكس ما تقول.*. نسبها للعقلانية، وهي ضد العقلانية بصورة متطرفة.. وقد أوردنا له أقوال مفكريها، في هذا الصدد..

وفي حديثه، في ندوة كمبوني لم يفعل شيئاً أكثر من *نقد الجمهوريين بصورة عدوانية، ودون أي دليل على ما يقول*.. وهذا ما سنراه بوضوح.
هو يتهم الجمهوريين، في عمومهم أنهم أصحاب *عقيدة جامدة، دوغما*، ولا يورد أي دليل على ذلك، ويزعم أن نقده هذا هو نقد ذاتي!! وهو كصاحبه النعيم يتحدث من الداخل، يتحدث *بصفته جمهوريا*.. وهو قد أعلن خروجه عن الفكرة وذكر أسبابه في ذلك، ونحن سنرجع إليه.. ولذلك طالما أنه خارج الفكرة، يجب ألّا يتحدث بصفته جمهوري.. هو ليس جمهورياً.. وهذا ما قاله بنفسه.. وهذا وجه من أوجه *عدم الموضوعية*.. قال د.النور: "هو *أصلو مشكلة الدوغما الدينية، مشكلة الجمود العقيدي الديني، هي فكرة الثبات*، أنه الأشياء ثابتة، وأنه الأشياء عندها نهايات مغلقة.. أنا بفتكر التحرر من الدوغما يبدأ بأن تفهم أنه ما في نهاية مغلقة على الإطلاق.. يعني التفكير السليم والتفكير المتطور، والحياة ذاتها هي كل شيء فيها بيشير إلى أنه الأمور نهاياتها مفتوحة، ومفتوحة على مختلف الاحتمالات، احتمالات الصعود، واحتمالات السقوط الاثنين بيتساووا في تاريخ العالم.. وده المنطق البيهو الحضارات يعني ترتفع وتنهار، النظريات ترتفع وتنهار، النظريات العلمية حتى، تسود وتتغير، تنهار تحل محلها نظرية جديدة، وده ما بيسميهو توماس كون: مسألة البراديم شفت، الهي في كل الأفكار واردة".. *الفكرة ليس فيها أي نهاية مغلقة* كما يزعم النور، على العكس من ذلك الفكرة تتحدث عن المطلق، وتقوم بصورة كلية على المطلق.. وحتى الحرية فيها حرية فردية مطلقة.. *والفكرة ليس فيها ثبات، على عكس ما ينسبه لها النور الفكرة تقوم بصورة مبدئية على الحركة ولكن أهم من ذلك ما هو مصدر الحركة، وما هو اتجاه الحركة، وما هي غاياتها*.. هذا أمر لا يتوفر إلا في الفكرة.. ود. النور لم يتعرض لأي شيء في هذا الصدد.. فاتهامه هذا *اتهام باطل شديد البطلان*، وعلى عكس الأمر كما هو في الواقع.. وما قلته عن الحركة في الفكرة لا يغيب عن الجمهوريين.. فهو *يدمغهم بالجهل بغير حق.. هذا ليس نقداً وإنما هو هجاء!!* بالنسبة لي فقد تعرضت لموضوع مفهوم الحركة في الفكرة، في عدد من كتبي وأوراقي.. بصورة خاصة تعرضت للموضوع في كتاب (الإنسان بين الإسلام والحضارة الغربية).. وفي ورقة (تأصيل مفهوم تطوير التشريع الإسلامي عند الأستاذ محمود).. ومما جاء من الورقة، في هذا الصدد ما نصه: *"الوجود الحادث كله، ليس كائناً، وإنما هو مستمر التكوين*، فهو في حركة دائمة لا تهدأ، ولن تهدأ.. والحركة حسية ومعنوية.. الحركة في جميع حالاتها، وجميع صورها، هي *حركة من الفرع إلى الأصل*.. وكما ذكرنا *الأصل الاصيل هو الذات الإلهية.. فهي الثابت الوجودي الوحيد*.. وكل حركة في الزمان والمكان تطلبه.. الحركة هي سير إلى الله.. والسير إلى الله ليس بقطع المسافات، وإنما بتقريب الصفات من الصفات.. حركة الكون هذه جعلها الله تعالى *لولبية*، وذات سلم سباعي، فكلما قطعت سبع درجات، عادت لتبدأ سبع درجات جديدة.. *والحركة تقوم بصورة مبدئية على الفناء والبقاء، والموت والحياة*، وهذا من أهم قوانينها.. يقول تعالى: "كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ *وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ".. ويقول: "وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ".. قوله ((ويبقى وجه ربك)) يعني البقاء النسبي للوجه الذي يلي الله من الأشياء.. ويبقى البقاء الدائم وجه الله في ذاته.. فالوجه الذي يلي الله من الأشياء هو الفرع ووجه الله هو الأصل*.. فالفرع يبقى بقاءً نسبياً، والأصل يبقى بقاءً دائماً.. *وكل شيء في الوجود الحادث، له قمة وله قاعدة.. القاعدة تمثل الجسد، والقمة تمثل الروح.. فالقاعدة فانية، بمعنى أنها متغيرة متطورة دائماً – وهذا هو الفناء – تطلب القمة.. والقمة أيضاً فانية، بمعنى أنها متحركة في تطور مستمر، تطلب أصلها في نقطة مركز – الله..* فالبقاء النسبي للوجه الذي يلي الله من الأشياء وهذه هي قمة هرم كل شيء.. ويبقى البقاء المطلق وجه الله المطلق، وتلك هي الذات الإلهية المطلقة التي يطلبها التطور في جميع حركاته.

*فالفناء، إذاً ليس صيرورة إلى العدم، كما يتصور البعض، وإنما هو انتقال من مرحلة نقص، إلى مرحلة كمال*.. من منطقة كثافة إلى منطقة لطافة.. من البعد عن الله إلى القرب منه.. فالذي يفنى هو دائماً الجانب *الأقل استجابة للتطور*، وهو يفنى لأنه أدى دوره المنوط به، فيسلم الأمر إلى ما هو أكمل منه، وأكفأ.

وهذا الذي قلناه عن الفناء، ينطبق على الحياة والموت.. فالموت فناء، بالمعنى الذي ذكرناه، والحياة بقاء.. يقول تعالى: "الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ" يعني ليمتحنكم، وليبلوكم *بالموت، الذي يعينكم على أن ترتقوا في سلم التطور نحو الحياة، التي تستغني عن الموت، لعدم الحاجة إليه كوسيلة للتطور، فتتوسلون في تطوركم الروحي، ونموكم الروحي، بما هو ألطف من الموت.. وهذا هو العلم بالله*.. فالموت الحسي، هو عبارة عن ميلاد جديد، في عالم جديد، أكبر من العالم الذي كنا فيه قبل الموت، وهو يشبه ميلاد الطفل، فهو قبل أن يولد كان في رحم أمه، وكانت هذه هي حياته التي لا يود الخروج منها.. وبعد الميلاد يخرج إلى حياة أكبر بكثير من الحياة في رحم الأم.. فالموت عامل أساسي في تطور الحياة، والموت الحسي في الاسلام، حياة أكبر من الحياة الدنيا، يقول المعصوم: "الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا".. ويقول تعالى: ((لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد)) فبالموت يكشف الغطاء، الأمر الذي يؤدي إلى حدة البصر.. الموت الحسي هو حياة جديدة، في حيز جديد، نسبتها إلى الحياة الدنيا، مثل نسبة حياة الجنين وهو في بطن أمه، وحياته بعد أن يولد، ويبرز إلى الحياة الدنيا الواسعة.. وبالطبع حياة الناس بعد الموت، تتفاوت بتفاوت الصلاح بين الناس في الحياة الدنيا.

فحتى حياتنا في الدنيا هذه، الموت مهم لها.. فالخلايا تتجدد من خلال موت خلايا قديمة، تحل محلها خلايا جديدة.. وهنالك في علم الأحياء، ما يعرف بـ(الموت المبرمج).. *القاعدة هي أن الحياة في الوجود، هي حياة واحدة، هي حياة الله في ذاته.. وحياة جميع الأحياء – بما فيهم المادة غير العضوية، هي من حياة الله، التي لا حياة غيرها*.. وحياة الأحياء تكون حسب استعداد الحي للتلقي من حياة الله، وهذا استعداد يتفاوت بين الأحياء تفاوتاً كبيراً.. والموت والفناء إنما هما وسيلة الحي لزيادة فرصته في الحياة، والترقي في مراقيها، وذلك بإعداد مواعينه بالصورة التي يتهيأ بها للمزيد من الحياة.. فالذي يفنى ويموت من الحياة، هو نقص الحياة، بمعنى أن ما يموت من الحي هو الجزء الأقل استجابة للحياة، وهو يموت استعداداً لمزيد من الحياة.

الموت *الحقيقي هو: الغفلة عن الله.. والحياة الحقيقية هي: عدم الغفلة عن الله*، الحضور معه وخلق الصلة به تعالى.. فبزيادة هذه الصلة، نحن نزيد من استعدادنا لتلقي الحياة، فنتطور في مجالها كل ما زادت صلتنا.. في الآية التي أوردناها: (( كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون))، عبارة *(وإليه ترجعون) هي روح الآية، وهي أعظم بشارة إلينا.. فهي تعني أننا راجعون إلى الله،* أردنا أو لم نرد!! هي تعني أننا صائرون إلى الكمال، والكمال المطلق.. وإلى العلم، والعلم المطلق.. وإلى الخير، والخير المطلق... إلخ.

على ما تقدم هنالك دائماً الجديد في البيئة.. والبيئة روحية ذات مظهر مادي، *والتواؤم مع البيئة يعني التواؤم مع مظهرها وجوهرها*، وفي كل حالاتها.. عبارة (البقاء للأصلح) عبارة صحيحة تماماً في الدين، ولكن الاختلاف يأتي في فهم كلمة الأصلح.. *فالأصلح في الفهم الديني، هو الأكثر مقدرة على التواؤم مع البيئة في مظهرها المادي ومظهرها الروحي*.. والمظهر الروحي هو الأصل، والمظهر المادي هو الفرع.. *فمهما حدث من تواؤم مع المظهر المادي، فهو تواؤم ناقص، ولا يمكن أن ينتج عنه إلّا بقاءً ناقصا ومحدودا*.. يقول تعالى: "وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ".. الصالحون هنا تعني: المقرّبون، العارفون بالله، الطائعون له، المتخلقون بأخلاقه.. والأرض تعني كوكب الأرض، كما تعني أرض الجسد، وهذا الأخير هو الأهم.. والصلاح يكون بطاعة مرضاة الله كما جاء بها رسله.. *فبهذه الطاعة يكون تواؤمنا مع جوهر البيئة، ومع مظهرها*.. فحركة التطور في جميع مراحلها، وأطوارها، هي عبارة عن إعداد للمحل في الأرض – بمعنييها – للميراث الأعظم، ميراث الصالحين لها. فمن أجل هذا الميراث العظيم جعل الله ما لا ينفع الناس، يذهب جفاءً، وما ينفع الناس هو الذي يبقى في الأرض.. وهذا قانون أساسي، يقول تعالى: "فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ".. الزبد هنا هو ما لا ينفع الناس، فهو يفنى.. أما ما ينفع الناس، فيبقى (يمكث في الأرض).. وهذا يجري بصورة دائمة.. *والوجود كله يعمل لغاية واحدة، هي الإنسان*.. فما يخدم هذه الغاية – حسب حكم الوقت – هو الذي يبقى، وما يعوق هذه الغاية حسب حكم الوقت، هو الذي يفنى.. وقد كان هذا الذي يفنى قبل فنائه صالحاً لخدمة الغاية، فلما تجاوزه الوقت، وأصبح غير صالح استحق الفناء، بعد أن أدى رسالته، ليفسح المجال لما هو أكمل منه في تحقيق الغاية، حسب حكم الوقت الجديد، أو حسب ظروف البيئة الجديدة.. وهذا ما يقودنا إلى موضوع *(حكم الوقت)*، وموضوع *الحق والباطل*.. وذهب الحديث إلى حكم الوقت، وعرفه بأنه (حكمة الله من وراء خلقه في الوقت المعين).. فالله تعالى في كل وقت جديد له حكمة فيما يظهره في الوقت.. وذهب الحديث عن الحق والباطل إلى القول: *"والحق والباطل كلاهما فَانٍ، الباطل فَانٍ، بمعنى أنه متحول يطلب الحق، والحق فَانٍ بمعنى أنه متحول يطلب الحقيقة.. والحق يأتي عليه يوم يصبح فيه باطلاً، فيفنى*.. يقول تعالى: ((وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا".. (إن الباطل كان زهوقاً) يعني أن الباطل بطبيعته فَانٍ، *والحق لا يفنى إلّا عندما يجيء الحق الذي هو أكبر منه، وأكثر منه مناسبة للوقت*.. هذا هو فهم الفكرة لعدم الثبات.. وهو فهم عند كل جمهوري، على تفاوت بينهم.. فد. النور ينسب للجمهوريين، وللفكرة، عكس ما هم عليه.. هو يقول: "أصلو مشكلة الدوغما الدينية، مشكلة الجمود العقيدي الديني، هي فكرة الثبات، أنو الأشياء ثابتة، وأنو الأشياء عندها نهايات مغلقة".. *إذا كان ما تقوله هذا هو مشكلة الدوغما، فالفكرة الجمهورية هي أبعد شيء عن الدوغما.. والعقيدة فيها منفتحة على الإطلاق*.. وهذا التصور الذي ذكرناه لا وجود له إلّا في الإسلام، كما تمثله الفكرة.. *والنهاية المغلقة هي التي يقوم عليها الفكر العلماني، بصورة أساسية*، لأنّ الكون عنده له بداية وله نهاية.. ومن المفترض أنك تعلم ذلك، لأنك أشرت إلى نظرية البِيغ بانغ – الانفجار العظيم.. وهي تمثل بداية الكون في الفكر العلمي.. على كل، بما أنك فارقت الفكرة الجمهورية، فأنت حسب تعريفك للدوغما بأنها الجمود العقيدي، فهذا ما ينطبق عليك أنت بالذات.. إن وجدت أي فكر له تصور للحركة والقوانين التي تحكمها، والغايات التي تستهدفها، بالصورة التي ذكرنا أخبرنا به.. وأنا على يقين أنك لن تجد هذا الفكر عن الحركة، بهذه المواصفات.

قولك: "بنشير إلى أنو الأمور نهايتها مفتوحة، ومفتوحة على مختلف الاحتمالات، احتمالات الصعود واحتمالات الهبوط الإثنين بتساون في تاريخ العالم، ودا المنطق البيهو قاعدة الحضارات يعني ترتفع وتنهار.....إلخ".. هذا قول شديد الخطأ، *فاحتمالات الصعود والهبوط، ليستا متساويتين.. الأمر كله صعود، حتى عند يحدث الهبوط، هو مجرد احتشاد للصعود.. فالحركة لولبية وليست خطية*، كما أنها لا تقوم على الذبذبة، كما يفيد قولك.. كل هذا الذي ذكرته لا معنى له ولا قيمة، وأصلاً لا توجد أي ضرورة لقوله، سوى رغبتك في التقليل من الآخرين، بغير حق، وهجائهم.

يتبع...

خالد الحاج عبد المحمود
رفاعة في 8/4/2023م

awadhow@gmail.com
//////////////////////////////

 

آراء