توثيق لأختلاط الماء العذب بالصرف الصحي: هل يستبان الرشد الا ضحي الغد؟

 


 

 


blacknims2000@hotmail.co.uk


بسم الله الرحمن الرحيم

الأهداء:
هناك ثلاث طرق تقليدية للتعلم واكتساب المهارات :
 المحاضرة والتي ترجع في أصلها إلى الطريقة السقراطية ، والتي تظهر في "حوارات أفلاطون" (The Dialogues of Plato) ، ولاحقا كسبت هذه الطريقة مساهمة ابداعية هامة تمثلت في نظام "الرواق"الأزهري المسمي بال"دوائر التعليمية" . أبرز النقد الموجه لأسلوب المحاضرة هو أنه أساسا مونولوج في اتجاه واحد وبالتالي لا يدفع في اتجاه تحفيز التفكير الإبداعي.
 اسلوب التعلم الثاني هو "التحقيق" (Inquiry) ,المرتبط بحل المشاكل. والذي يشمل طرق المحاكاة و المعامل وورش العمل والندوات والعصف الذهني (Brain–Storming)
 الطريقة الثالثة هي "أسلوب دراسة الحالة" (Case Study) ، وقد كانت كلية هارفارد لادارة الأعمال الرائدة في تبنيه ، وفيه يطور الطلاب مهاراتهم التحليلية في معالجة مشاكل مفتوحة النهايات و مستمدة من الحياة الواقعية مما يوفر أنسب الطرق لاكتساب المهارات اللازمة لردم الهوة بين النظرية والممارسة. ومثل هذه الحالات تكشف عن مدى تعقيد البيئة التي يتم فيها اتخاذ القرارات وبالتالي تدفع في اتجاه تحفيز التفكير الإبداعي لدي الطلاب
ورغم أن هذه الدراسة تم نشرها في مسودتها الأولي في صحيفة الرأي العام علي حلقات (بتاريخ 31 أغسطس و16 أكتوبر و2 نوفمبر 2006) ، الا أننا نعيد اخراجها هنا لنهديها لخمس جهات:
 أولا لكليات الهندسة و وكليات ادارة الأعمال "كدراسة حالة" لتدريب الطلاب علي التفكير الأبداعي
 وثانيا لتلك الدوائر الأكاديمية القائلة بأن مهارات الصيانة لا يمكن تدريسهها ، ودفعهم لتبني تدريس مهارات الصيانة في مناهج الجامعات والكليات التقنية
 وثالثا لهيئات مياه المدن في العاصمة والأقاليم بهدف تقويم اداءها كما هو وارد في متن الدراسة
 ورابعا للماسكين بملف التخطيط الأستراتيجي للعمل علي قيام معهد قومي للأعطاب والصيانة
وخامسا لجمعيات حماية المستهلك وحماية البيئة ولكل من تهمه قضايا الصحة العامة وسلامة المواطنين ، والله من وراء القصد

* * * *

من وحي أحد عشر يوماً من انقطاع المياه عن وسط الخرطوم:

محاذير اصلأح شبكات المياه ومتطلبات التدريب
لمنشطي الصيانة والتأهيل:

دراسة حالة
وتوثيق
لأختلاط مياه الشرب بمياه الصرف الصحي عام 2006
مع توضيح المعالجات الجذرية المطلوبة
التي لم يأخد بها أحد وقتها !
لنصل الي ما جاء في التقرير المنشور في الراكوبة
بعنوان :
"اختلاط مياه الصرف الصحي بمياه النيل .. الشرب من فضلات الإنسان"
وهل يُستبانُ الرُّشدُ إِلا ضُحى الغَدِ!

بروفيسور د.د. محمد الرشيد قريش
مركز تطوير أنظمة الخبرة الذكية
لهندسة المياة والنقل والطاقة والتصنيع


استهلال:
في اليوم الثامن من شهر أغسطس 2006، ضرب الحفار الخاص بشركة الخرطوم للمياه والخدمات المحدودة (الصرف الصحي) ثلاث مواسير بلاستيكية (PVC)- سعة (14) بوصة- من الخط الناقل الرئيسي المغذي لمنطقة العمارات والمطار ومناطق أخرى من الخرطوم. نتج عن الحدث أن ظل سكان هذه المناطق دون مياه- عدا ما رشح منها في الليل- حتى كتابة هذه السطور (19/8). والأكثر مدعاة للقلق هو أن خلطا قد حصل بين المياه العذبة ومياه الصرف الصحي، في الحفر ذات الصلة.
بتسليط الضوء هنا على هذا الحدث ، يأمل الكتاب في تأثيث أو ترسيخ ثقافة ومنهجية سليمة لأعمال الصيانة والتأهيل تؤمن وصول المياه المنتظم للمستهلكين وتجبنهم مشاكل التلوث. كما يهدف الكاتب هنا- من خلال عرض هذه الحالة - إلى حفز المسئولين إلى استخلاص العبر منها عند تصميم وإشادة وصيانة خطوط المياه والصرف الصحي، إذ أن أغلب المعارف الهندسية المستخدمة اليوم في التصميمات والإنشاءات وتشغيل المنشآت كان قد تم استخلاصها من خلال تحليل الأخطاء الهندسية والتشغيلية السابقة.

الكسر في الخط الرئيسي " أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فأنهار به" (التوبة 109)

حدوث كسر في خط مياه رئيسي من قبل أطراف خارجية ليست بدعاً في عالم المياه. لكنه حدث لا ينبغي أن يتكرر حدوثه إن كان هناك تخطيط سليم، كما سنرى بعد حين. فخطوط المياه الرئيسية معرضة لعوامل كثيرة داخلية (مثل تآكل المواسير والضغط الداخلي والمفاجئ Surges والضغوط الخارجية مثل أحمال التربة وأحمال حافلات النقل الزائدة الخ...)، كما أنها معرضة لفقدان الدعم الصلب للمواسير بسبب تعرية التربة أو بسبب هبوط الأرض، أو قد ترجع أسباب الإخفاق لعوامل تصميمية (كعدم توازن الحمل على المأسورة ولكون عامل الأمان الذي اختير عند تصميم الخطوط المعدنية لم يسمح للخط بالتمدد في ظروف الإجهاد الحراري ). غير أن كون الخطوط موضوع هذه الحالة هي خطوط بلاستيكية فإن هذا يستبعد احتمالات التآكل وتقييد التمدد، لكنه لا يستبعد بصورة تلقائية- من دون تقصي الأمر- وجود عوامل أخرى مساعدة، رغم أن الحدث قدح زناده ضرب الحفار للأنابيب، إذ أن أغلب الإخفاقات الهندسية هي عادة مزيج من الأخطاء البشرية وأخطاء التصميم والمواد والظروف البيئية الموضوعية. والمواسير البلاستيكية المستعملة لنقل المياه – وهي عادة في حدود (4-16) بوصة- رغم أنها لا تتأثر بالتآكل، إلا أنها الأكثر تضرراً من سوء حالة الفرشة الأرضية للأنابيب، مثلاً من المواسير الخرسانية سابقة الإجهاد (Prestressed Concrete)، كما أن من عيوبها أنها قابلة لنفاذ المواد البترولية الخطيرة إلى داخليها في حالة ما إذا حدث الكسر قرب محطات بنزين عاملة أو مهجورة. وفي هذه الحالة موضع الدراسة، كان شارع الأسفلت هو الفاصل بين المأسورة ومحطة النحلة القريبة والتي تم تقديرها على بعد (60) متراً تقريباً من موقع الحادث.

إخفاقات التخطيط على مستوى المهام :

1- الإخفاق المعلوماتي وغياب التنسيق بين جهات الاختصاص- "لا ضرر ولا ضرار".
كان يبغي أن تتوافر عند بدء الصيانة معلومات خرائط مفصلة أو معلومات كافية عن الموقع لدى منسوبي هيئة مياه ولاية الخرطوم وشركة الخرطوم للمياه والخدمات. على شكل نظام معلوماتي مرجعي، كما كان ينبغي قبل الحفر وجود ممثلين للخدمات المحتمل وجود مشاركتها في موقع الحدث- أو الاتصال تلفونيا. بممثليها- لتحديد كل الخدمات تحت الأرض عند الموقع، كما كان ينبغي تواجد مهندس شركة الخرطوم للمياه والخدمات عند حفرهم قرب موقع الحدث، لا أن يترك الأمر لعامل الحفر- وقديماً قالت العرب: "قتل أرضاً عالمها وقتلت أرض جاهلها" (أي عرف العالم مسالكها فقطعها ولم يصل، وهلك بها الجاهل لجهله بأحوالها وطرقها).

2- الخلل في قواعد الصيانة ومعاييرها الأدائية- “وجعلنا من الماء كل شيء حي “ (الأنبياء 30)
بجانب الالتزام بمعايير جودة الصيانة وخفض كلفتها، كان يبغي أن يكون اصلاح العطب- من قبل هيئة مياه الخرطوم- مبنياً على أساس- بل وعقيدة - تقليص فترة انقطاع خدمات المياه عن المشتركين، وتقليل تعطيل حركة المرور. لكن في هذه الحالة استغرق إعادة المياه أحد عشر يوماً لم تنعم خلالها قطاعات واسعة من السكان والمرافق الخدمية - كالمستشفيات ومطار الخرطوم- بالمياه. بكل ما يعني ذلك من أضرار غير محدودة. ومثل هذه الكسورات في الدول المتقدمة لا تستغرق أكثر من (6-8) ساعات لإعادة خدمات المياه للمستهلكين، فمثلاً في مايو من العام الماضي حدث كسر كبير في واشنطون في خط سعة (36) بوصة، قطع المياه عن قطاعات واسعة من المستهلكين لكن تم إعادة المياه لأغلبهم في إحدى عشرة ساعة: فهل يبرر تفاوت الإمكانات التقنية هنا أن يستغرق إعادة المياه لخط متوسط السعة- إذ أن الخطوط الكبيرة تتراوح بين (16-60) بوصة- أحد عشر يوماً. خاصة وأن التقنية المعنية هنا تعتبر تقنية منخفضة (Low Tech) أم أن "الصانع المهمل- كما يقول المثل الغربي- يلقي بالملائمة على أدواته" !

3- تلوث مياه الشرب:
في الحالة المشار إليها عالية، حدث خلط بين المياه العذبة ومياه الصرف الصحي، وبسبب المخاطر الصحية الكبيرة التي يمكن أن تنجم عن مثل هذا الأمر، هناك إجراءات عيارية (Standard Procedures) تتبع عادة لمعالجة هذا الأمر:
أولاً: بعد إصلاح الخط، من الضروري أن تكون هيئة مياه ولاية الخرطوم قد قامت بتطهير منطقة الحفر المفتوحة ومعالجتها بالمركبات الكيميائية المناسبة، مثل محلول الكلور (المخلوط بمسحوق كلوريت الكالسيوم المنخفض (Calcium Hypochlorite) مع رش الجزء الداخلي من المواسير وقطع تركيب المواسير بتركيز مخفف -1%- من نفس المحلول. لكن أكثر الوسائل عملية لمعالجة التلوث تتمثل في عمل غسيل (Flushing) لجزء الخط المعطوب، ثم معالجته بالكلور (باستخدام طريقة الكتل المعدنية Slug Method) مع مراعاة أن كفاءة هذا التطهير تتأثر سلباً بالمعيار الهيدروجيني للمياه (PH-value) وكدر المياه والمواد العضوية وغير العضوية المتواجدة فيها.
ثانياً: بعد تطهير الخط، من الضروري أن تكون هيئة مياه ولاية الخرطوم قد عملت على التأكد من سلامة المياه من خلال أخذ عينات منها وإخضاعها لاختبارات جودة المياه المعتادة في كل الأحوال، وهي تنقسم إلى نوعين:
أ‌) طريقة مخلفات الكلور (Chlorine Residuals) في المياه المعالجة بالكلور، وهذه المخلفات تلعب دوراً أساسياً في تأمين سلامة المياه، رغم أن الكلور نفسه مادة مسرطنة وبالتالي ينبغي حساب جرعته بدقة شديدة ورصد ومراقبة هذه الملفات بصورة دورية.
ب‌) اختبار الكوليفورم (Coliform Test) للمواد البكتيرية:
من الضروري بمكان ألا تكون هيئة مياه ولاية الخرطوم قد قامت بتشغيل الخط بعد إصلاحه قبل التأكد من سلبية عينات المياه وخلوها من بكتريا الكوليفورم (والمؤسسات العالمية عادة تضع مقدار1/100 1]على 100 [ ملي ليتر كسقف أعلى لمتوسط العينات في الشهر)، كما أنه من الضروري أيضاً أن تكون هيئة مياه ولاية الخرطوم تجري مثل هذه الاختبارات بصورة دورية في مواقع الكسور- بل وعلى مستودعات المياه نفسها- إذ أن مخاطر التلوث عند مواقع الكسر خطيرة وترتبط بكل الأوبئة المنتشرة حالياً، كالأمراض البكتيرية (مثل التايفويد والكوليرا والدوسنتاريا الباسيلية) والأمراض المعوية (مثل الدوسنتاريا الأميبية) والأمراض الفيروسية (مثل التهاب الكبد الوبائي) وفي حالة انتفاء قيام الهيئة بمثل هذه الاختبارات الموضعية عند كسر الأنابيب، فإن هذا قد يوفر تفسيراً محتملاً لانتشار هذه الوبائيات، وهي فرضية تنتفي أو تثبت بالبحث العلمي المناسب.

التخطيط السليم على مستوى الشبكة "أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى، أمن يمشي سوياً على صراط مستقيم"(الملك 22):
قضية التخطيط- بمعناه الواسع على مستوى الشبكة- ومتطلبات النهوض بمرفق مياه المدن، قضية كنا قد عالجناها بإسهاب في ورشة عمل ترقية خدمات مياه المدن لولاية الخرطوم قبل أحد عشر عاماً، ويكفي هنا أن نشير إلى ثلاث من قضايا التخطيط الشبكي ذات الصلة بالحدث موضوع هذه المقالة، لنخلص بعدها إلى الدعوة ليقام معهد وطني للأعطاب.
1- الممرات الخدمية الموحدة (Common Utility Corridors):
ينبغي الآن النظر بجدية في تجميع خدمات المياه والصرف الصحي والكهرباء والاتصال إلخ …في ممرات موحدة توفر خرائطها التفصيلية لكل تلك المؤسسات الخدمة. ورغم أن هناك ثلاثة تقنيات لمثل هذه الممرات، فإن أبسطها وأقلها كلفة يتمثل في حفر خندق متدرج العتبات، والمتباعدة حسب متطلبات الفصل بين هذه الخدمات وميزة مثل هذه الممرات أنها تخفض التكلفة الإنشائية لهذه البنى التحتية المدفونة تحت الأرض وتيسر التعرف فعليها وتعقبها. كما أنها تخفض كلفة الفحص والصيانة لها وتوفر مساحة الأرض و"حق الطريق" (Right of Way) المخصصين لها، وهي إضافة تخفض وتيرة التعديات على البيئة، فالحفر يعري ويجرف التربة التحتية للطرق المرصوفة في منطقة الكسر مما يؤدي إلى انهيار تلك الطرق.
2- انخفاض ضغط الخط- "إنما تعرف الشجرة من ثمارها":
مناطق وسط العاصمة المتضررة بالكسر المشار إليه- وربما غيرها- تعاني من ضعف ضغط المياه في الخطوط والذي يمكن إرجاعه لأسباب كثيرة منها التآكل (Corrosion) ،واستخدام مواسير غير مناسبة مما يؤدي الي ضمورطاقة (النقل) الهيدروليكي (كما يعكسه معادل سي C-Factor). غير أن ضعف الضغط هذا هو الذي يدفع بالمستهلكين إلى استخدام الطلمبات الخاصة لدفع المياه، وهذا بدوره يؤدي إلى توليد اندفاعات التيار العارضة (Transients) الضارة بالنظام، كما تؤدي الطلمبات أيضاً للتلوث العضوي المياه. وبالنسبة لشركة المياه فهناك فوائد للضغط المتدني تتمثل في رخص كلفته وفي تقليله لفاقد المياه بجانب خفض الطلب على المياه. كما أن للضغط العالي سلبياته المتمثلة --مثلاً- في انفجار المواسير.
إذن فالمطلوب هو أن تسعى الشركة إلى تحقيق موازنة عملية بحيث يكون الضغط عالياً بما فيه الكفاية لمقابلة احتياجات المستهلكين، دون الحاجة لاستخدام الطلمبات بجانب مقابلة احتياجات مكافحة النيران، وفي الدول المتقدمة صناعياً يكون الضغط للمنشآت التجارية أكثر من (60) رطلاً للبوصة المربعة وما بين (40-50) رطلاً للقطاع السكني، وعندما تكون الظروف مواتية (كما في نظام نقل المياه الإنسيابي، ومع ضمان الصلابة الهيكلية للمواسير لضمان تحملها للضغوط العارضة بسبب طرق المياه Water Hammer) تقوم بعض هذه الدول بتوليد الكهرباء من مثل هذه الشبكة، إذ أن البنى التحتية موجودة سلفاً، حيث تعمل الأنابيب كقناة ضبط لجريان المياه (Penstock)، كما أن كلفة الماء هنا هي كلفة ساقطة أصلاً (Sunk Cost).
المطلوب إذاً هنا من هيئة مياه ولاية الخرطوم هو أن تقوم بقياس هذا الضغط بصورة دورية إن لم يكن هذا من إجراءاتها بقياس هذا الضغط بصورة دورية إن لم يكن هذا من إجراءات المعتادة، إذ أن مثل هذا الرصد الدوري يكشف حجم التسرب والفقد للمياه، كما يكشف قصور طاقة الضخ (مثلاً بسبب بلي المضخات أو بسبب الخطأ في معدل الانحدار الهايدروليكيHydraulic Gradient (ويمكن- بالطبع- رفع ضغط المياه المنخفض حالياً بترفيع قوة الطلمبات أو زيادة سعات التخزين أو بإقامة خط رئيسي مواز، مما يحقق في ذات الوقت- تقليل استهلاك الطاقة وزيادة اعتمادية النظام المائي، ونفس الشيء يمكن تحقيقه- بدرجة أقل- من خلال تنظيف الخط بالكشط واستخدام السدادات (Pegs) .


أهمية منشط الصيانة والتحدي الذي يمثله تقادم البنى التحتية وتآكل راس المال الثابت :
تمثل أعمال الصيانة والتشغيل أحدى أعمدة مهنة الهندسة الأربع، بجانب أعمال التصميم والإنشاء (أو التصنيع) والابتكار.
ورغم الاستثمارات الضخمة التي تم- ويتم حالياً- ضخها في البنى التحتية، يظل توجه الاهتمام بمجمله منصباً على تشييد المزيد من البنى التحتية (من إنشاءات ومصانع)، وما ينطوي عليه ذلك من أعمال التصميم والابتكار، خاصة فيما يختص بالتدريب والتأهيل وتطوير القدرات فيهما، رغم أن الصيانة- والتي تبقى ماكينة التشغيل دائرة- تمثل أيضاً "بوليصة التأمين" الأساسية للحفاظ على هذه الاستثمارات الضخمة في البنى التحتية، إذ أن إخفاقات الصيانة- من خلال تأثيرها على التشغيل- هي عادة وراء أكبر انهيارات النظم الهندسية وعجزها الأدائى.

فجوة التخصصات المتداخلية (Interdisciplinary Studies ):

أحد أسباب إهمال أعمال الصيانة والتشغيل يمكن إرجاعه إلى إخفاق الجامعات المتواتر في تدريس المعارف البينية والمتداخلة كمنشط التشغيل والصيانة (تماماً كمثل إخفاقها في تدريس مجالات المعرفة البينية الأخرى كأعمال الإنشاء والتصنيع والتصميم وتحليل الأنظمة إلخ...) لأن الجامعات والمدارس عامة- كما يقول المفكر البرازيلي الشهير إيفان إيلش (Ivan Illich) "هي المكان الخاطئ لتعلم المهارات العملية" !
عوائق تدريس الصيانة وأعمال التأهيل:
بالنسبة للصيانة والتأهيل، هناك أسباب موضوعة تقف حائلاً أمام تدريسهما في الجامعات، فمثلاً في جانب الطلبة:
1- تفتقر مهنة الصيانة لهالة الجاذبية والتشويق التي تزين عنق كثير من التخصصات الهندسية الأخرى وتدفع بالدارسين لطلبها.
2- إنصراف الطلبة مؤخراً عن المجالات الحاضنة لأعمال الصيانة (كالهندسة المدنية والميكانيكية)، إلى مجالات أكثر جذباً وإغراء كالالكترونيات، عمق من حجم المشكلة.
وفي جانب المنهج التعليمي، من النادر أن يرى المرء في كليات الهندسة كورسات ذات صلة مباشرة بتأهيل البنى التحتية، مثل الهندسة الجيوتقانية الأرضية (Geotechnical Engineering) وهندسة ضبط جودة المياه (Water Quality Engineering) وعلى جانب هيئة التدريس، من السهل أن يستبين المرء شيئين:
أولاً: افتقار الأساتذة لخبرات عملية في مجال الصيانة والتأهيل
ثانياً: غياب المعارف والخبرات الخاصة بالصيانة وتأهيل البنى التحتية عن ساحات كليات الهندسة، لعدم توثيق خبرات الصيانة والتأهيل في الدوريات العلمية، وإخفاق مهندسي الصيانة المهنيين في إيصال تجاربهم العملية للوسط الأكاديمي، على شكل تقارير أو من خلال ورش العمل.

فجوة الهندسة التقنية (Engineering Technology):
السلم الهندسي السائد اليوم هو سلم ثلاثي يتكون من "المهندسين" و "التقنيين" (Technicians) والفنيين (Craftsmen).
إخفاق كليات الهندسة في إعداد الكوادر المدربة في مجالات الصيانة والتأهيل هو- من جانب آخر- نتيجة منطقية لفجوة التعليم التقني التي خلقها غياب "المعاهد التكنولوجية" (الجامعية) ، والتي يشكل "المعهد الفني" السابق أقرب المؤسسات السودانية لها. مثل هذه المعاهد التكنولوجية تزود مهنة الهندسة "بالمهندسين التقنيين" (Engineering Technologists) ، وهم فئة تختلف اختلافاً جذرياً عن "المهندسين" (الأكاديميين) الذين تدفع بهم الجامعات اليوم إلى سوق العمل. هذه الاختلافات بين الفئتين تتمثل في توجهما التعليمي وفي الدور المهني المناط، بهما أداؤه، وفي نوعية المعضلة الهندسية التي يتصدى كل منها لحلها. ويختلفان أيضاً في طبيعة التعليم والتدريب الذي يتلقيانه وفي تصميم المناهج الدراسية لهما ونوعها. وفي الجرعة المطلوب إعطائها لكل منهما من "الرياضيات" و "العلوم الطبيعية" و "تطبيقات الهندسة". وفي المعامل الدراسية التي توفر لهما التدريب، وفي قدرة منسوبيها- عند التخريج- على الاضطلاع بأعمال التصميم الهندسي... إلخ... مما فصلناه بإسهاب في مقترح "المشروع القومي للنهوض بالتعليم الفني والتقني والهندسي"، ويمكن لمن رغب في الاستزادة من الأمر الاتصال بالكاتب.
ما نريد أن نؤمن عليه هنا هو:
أولاً، أن أعمال الصيانة والتأهيل لا ينبغي أن تسند إلى خريجي كليات الهندسة الأكاديمية البحتة، إذ أن هذا يشكل فقداً مزدوجاً: فهم أصلاً غير متدربين على مثل هذه المهام، وبالتالي لن يحسنوا أداءها، ومن جهة أخرى، فإننا نحرم المهام الأخرى التي دربوا عليها من قدراتهم ومواهبهم ، وكما يقول المتنبي في أحد أبلغ حكمه : "وضع الندى في موضع السيف بالعلى، مضر كوضع السيف ي موضع الندى"!
وثانيا: فان مهام الصيانة والتأهيل ينبغي أن تتم شراكة بين "المهندسين التقنيين" و"الفنيين" (Technicians)، فالمهندس التقني (Engineering Technologist)، هو الذي يحدد المشكلة ويقرر في خيارات معالجتها بالإصلاح أو التأهيل أو التبديل، ويقوم باختيار المعدات والمواد ثم يبرمج مهام العمل، ومن ثم يشرف على الفنيين وهم يقومون بتنفيذ مهام الصيانة تلك.

التعليم المطلوب للمهندسين التقنيين في مجالي الصيانة والتأهيل:
فكرة تدريب المهندسين التقنيين على أعمال الصيانة والتأهيل هي- في مظهرها- الخارجي- واضحة وبسيطة، تتلخص في تعليمهم المعارف وتدريبهم على المهارات التي يستطيعون بها الاضطلاع بمهام الصيانة. لكن كالعادة في مثل هذه المواقف "فالشيطان يكمن في التفاصيل"- كما يقولون- حيث يتساءل معارضو الفكرة: "ماذا ندرسهم"؟ و "كيف ندرسهم ذلك"؟، ليخلص بعضهم إلى القول بأن مهارات الصيانة والتأهيل لا يمكن تدريسها!!
"ماذا ندرسهم"؟:
المهارات الهندسية الخمس التي يحاول الأستاذ تطويرها لدى طلبته، قد لا تبدو- من أول وهلة- ذات صلة مباشرة بأعمال الصيانة هذه المهارات هي:
1- المهارات الروتينية (كتنفيذ خطوات مهام العمل).
2- المهارات التحليلية (كاختيار الطرق الروتينية المختلفة).
3- المهارات الأستراتيجية (كالمفاضلة بين الطرق الروتينية المختلفة)
4- المهارات الإسقاطية (كالنمذجة باستخدام الحاسوب).
5- مهارات التصميم الإبداعي (كتطور منتجات أو طرق جديدة للعمل، أو دمج طرق العمل القديمة على نهج جديد).
وبنظرة فاحصة يمكن أن نرى أن القدرات المطلوبة من المهندس التقني- في مجال الصيانة والتأهيل- تتركز في المهارتين الأوليتين (1 & 2) وتتركز قدرات خريجي كليات الهندسة اليوم في المهارتين الأخيرتين (4 & 5)، بينما تشترك الفئتان في المهارة الثالثة (المهارة الاستراتيجية). هذا يؤكد بأن البرامج الهندسية الحالية لها من القدرات "الكامنة" ما لم تم توجيهه وتركيزه- مثلاً في إطار تنظيمي جديد- لقمين بتوفير التعليم المطلوب في مجال الصيانة والتأهيل ولتأكيد هذه الفكرة حول القدرات الكامنة في كليات الهندسة حالية، سنستدعي للذاكرة هنا خطوات الصيانة الضرورية لأصلاح خط المياه المعطوب ، موضوع دراسة الحالة هذه ، وذلك لتبيان الكورسات التي يمكن أن تدرس لتوفير المهارات المطلوبة لكل مرحلة من مراحل إصلاح الخط عاليه:

الكورسات المطلوبة لأداء مهام صيانة الخط المعطوب:
هناك خمس مهام مطلوبة لإنجاز عمل صيانة الخط موضوع هذه الدراسة، تتمثل في:
1- مرحلة جمع المعلومات عن الموقع:
يحتاج المهندس التقني ومساعدوه من الفنيين توفر معلومات وخرائط مفصلة عن الموقع. هذا يعني أن على المهندس التقني أن يكون متدرباً على استخدام قواعد البيانات من خلال كورسات الكمبيوتر الأولية، وكورسات "قواعد البيانات الجغرافية" (GIS) وكورسات "إدارة الأفراد"، كما ينبغي أن يكون للمهندس التقني الخلفية الهندسية المناسبة عن خواص التربة وهو ما تضفيه عليه كورسات "مواد البناء" وكورسات "إدارة هندسة الطرق المرصوفة" وكورسات "الهندسة الجيوتقانية" (الأرضية).
2- تحديد المعايير الأدائية للصيانة:
ينبغي أن يكون إصلاح أي كسر لأنابيب المياه يستند على قاعدة تقليل مدة انقطاع الخدمات عن المستهلكين وتقليص فترة تعطيل حركة المرور، هذا بجانب الالتزام بالمعايير الفنية وأساليب العمل القياسية للصيانة وخفض كلفتها، ومعايير جودة المياه، وهذه القدرات تضفيها على المهندسين التقنيين كورسات "السياسة العامة" و "الاقتصاد الهندسي" و "التخطيط المالي" بجانب كورسات "إدارة هندسة الإنشاء" و "إدارة الهندسة الصيانية".
3- تحليل مهام الصيانة المطلوبة لإصلاح الأعطاب:
لا يكفي هنا- لهذه المهمة- أن يكون المهندس التقني المناط به هذا العمل ملماً بمهارات الصيانة وهندسة خواص التربة والاختبارات الموضعية، بل ينبغي أن يكون قادراً على تحليل معدلات تدفق المياه ومعدلات أنسياب حركة المرور، وهي مهارات تضفيها عليه كورسات "الهيدولوجيا" و "الهيدروليكا" وكورسات "تحليل حركة المرور" وكورسات" التصميم البنيوي للحديد والأعمال الخرسانية وأنابيب البلاستيك" وكورسات "الهندسة القيمية".
4- اختيار نظام الصيانة للخط والمقاطع:
هذه المهام تتطلب من المهندس التقني تملك مهارات المعالجات الصيانية للخط والمقاطع، وهو ما تضفيه عليه كورسات "هندسة الصيانة وإدارتها"، بجانب كورسات "إدارة الطرق المرصوفة" وكورسات "الاقتصاد الهندسي".
5- التنفيذ والتوثيق:
هذه المهام تتطلب توافر المهارات المتصلة بمنشط الصيانة والبناء والتشييد وضبط وتيرة العمل ومن ثم توثيق المهام المنجزة وهي مهارات تأمنها كورسات "هندسة الصيانة" و "هندسة مواد البناء وإدارتها".
6- التطهير بعد الإصلاح:
هذه المهام تتطلب توافر مهارات تطهير الموقع والمواسير والمعدات بعد إصلاح العطب، وهي مهارات تصنيفها على المهندس التقني كورسات "الاختبارات الموضعية" وكورسات "جودة المياه ومعالجتها" وكورسات "كيمياء المياه".


متطلبات التعليم والتدريب لمنشطي الصيانة والتأهيل :نماذج تعليمية مقترحة :

في مقترح "المشروع القومي للنهوض بالتعليمي الفني والتقني والهندسي" أنف الذكر، كنا قد اقترحنا نماذج تنظيمية جديدة للتعليم التقني يمكن استخدامها كإطار تنظيمي لتقديم كورسات الصيانة التي تم ذكرها من قبل، ويكفي أن نشير هنا لنماذج "الهندسة العكسية" و "الهندسة الشرعية" و "الهندسة القيمية" و "دوائر الجودة" و "استخدام أجهزة المحاكاة الصناعية في التدريب"، كبعض من تلك الأطر التنظيمية المناسبة.
إذن، فكليات الهندسة الموجودة على الساحة، لديها- كما أسلفنا- القدرات الكامنة "لتعليم" مهندسي الصيانة التقنيين. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل لدى هذه الكليات قدرات كامنة أو غير كامنة- "لتدريب" هؤلاء المهندسين؟ وهل تستطيع هذه الكليات إدارة برنامجين متزامنين ومختلفين- كما أوضحنا سلفاً- للتعليم الهندسي؟ أم الأجدى النظر في استعارة وتطوير بعض النظم التعليمية الهندسية المتوافرة على الساحة- كنموذج "الهندسة العسكرية" (والذي سنتطرق إليه أدناه) أو نموذج "كلية غردون" للتعليم الهندسي (وهو نموذج فذ نأمل أن نفرد له مقالاً منفصلاً إن شاء الله) أو ابتداع تنظيمات جديدة لأداء هذه الرسالة خارج إطار نموذج كليات الهندسة الأكاديمية، خاصة وأن هذا النموذج نفسه مأزوم ويعاني من الانفصام بين بيئته الأكاديمية وبيئته الحياة الهندسية المهنية العلمية، إذ أن هناك فجوة كبيرة بينهما تتمثل في التوجه التعليمي، وفي النظرة للمعارف الهندسية وفي نوع المعرفة وفي أهمية علم الرياضيات وفي منهج حل المعضلات الهندسية... إلخ مما قد فصلناه في مقترح "المشروع القومي للنهوض بالتعليم الفني والتقني والهندسي" آنف الذكر. كما أن الركون إلى مؤسسات "التدريب المهني" لا تفي إلا بجانب يسير من طيف المهارات المطلوبة، وهو الجزء الخاص "بالتقنيين والفنيين"( Technicians & Craftsmen)، ويبقى الجزء الخاص بتدريب "المهندسين التقنيين" (Engineering Technologists) والخاص بأبحاث وتطوير أعمال الصيانة والتأهيل غائباً.


نموذج الهندسة العسكرية :

تتسم بيئة العمل في مسرح العمليات الحربية بعدة خصائص ويحكمها عادة الإرث العسكري الاستراتيجي كما ورد في كتابات الصيني سن تزو (Sun Tzu) والفرنسي أنطوان جوميني (Antoine Jomini) والبريطاني ليدل هارت (Liddell Hart) وغيرهم، وفي هذا الإرث تحتل "نظرية الحرب" كما صاغها الاستراتيجي الروسي الشهير كلاوفيتش (Karl Von Clausewitz) مكانة بارزة. في هذه النظرية يظفر عامل الوقت بالأسبقية القصوى، ويتبع من هذا بصورة منطقية أهمية التنفيذ السريع للمهام الإنشائية والصيانية الجماعية، كإزالة الركام، والإصلاح والترميم والبناء السريعين تحت ظروف الطوارئ (كما في حالة الإعادة السريعة لخدمات المياه والطرق والجسور ومدرجات الطائرات والسكك الحديدية والكهرباء... إلخ التي تم أعطابها أثناء الصراع)، وتكاد متطلبات تنفيذ مهام الأصلاح والترميم السريعين عند المهندسين العسكريين تطابق متطلبات العمل في مهام الصيانة والتأهيل في زمن السلم (كمهام إصلاح خط المياه المعطوب موضوع هذه الورقة ، وغيرها من أعمال الصيانة والتأهيل). هذا يعني أن متطلبات التدريب للمهندسين العسكريين والمدنيين قد تتقاطع هنا، رغم أن المهندسين العسكريين ليس في وسعهم التخصص في مجال معرفي ضيق حتى لا يحرمهم ذلك من المرونة المهنية المطلوبة لمعالجة المشكلات المتنوعة في مسرح العمليات، بل ينشدون التخصص في منظومة أوسع من مجالات المعرفة العملية كالتخصص في "هندسة إمدادات المياه والصرف والطرق" مجتمعين، بينما ينشد المهندس التقني(Engineering Technologist) التخصص في مجال معرفي واحد "كهندسة إمدادات المياه" أو "هندسة الصرف" أو "هندسة الطرق".
هذا الاختلاف في النطاق المعرفي لا يمنع من القول بأن لكل منهما ما يمكن أن يقدمه لزميله في المهنة، فنموذج التعليم الهندسي التقني يستطيع أن يتبنى أساليب التنفيذ السريع لمهام الإصلاح والبناء لموازنة مهام الدمار والأعطاب الكبيرة في زمن الحرب وهي ظروف تشابه مهام إزالة ركام التخلف وتأهيل المنشآت تحت ظروف لوجستية بائسة، كما هو الحال في الدول النامية، بينما يستطيع نموذج التعليم التقني الهندسي أن يقدم لنموذج الهندسة العسكرية- في المقابل- قدرات خفض كلفة المهام، ومهارات "هندسة الجودة والاعتمادية"، بجانب الخبرات الصناعية، ومتابعة ما يستجد من معارف المهنة.


مهارات الصيانة وإعادة البناء في عصر الصراعات الداخلية والخارجية- “سارهقة صعودا” (المدثر 17):

في البلاد الغارقة في أزمة تآكل البنى التحتية وانهيارها المتدرج، تزاداد بيئة العمل الهندسي المدني كل يوم اقتراباً من أن تتحول بمجملها إلى بيئة "هندسة وإدارة أعمال الصيانة والتأهيل"، إذ أن الكثير من الأعمال الإنشائية ما تكاد تتم إلا وتنهار، وما على المرء هنا إلا أن يستدعي إلى الذاكرة مسلسل الانهيارات الإنشائية التي انتظمت البلاد في الفترة الأخيرة. واليوم تكتسب أعمال الصيانة والتأهيل بعداً جديداً من الأهمية الاستراتيجية في ظل الحصار التقني وحظر استيراد قطع الغيار.. إلخ وفي ظل عصر الصراعات التي تستهدف البشر والحجر وتدخل البلد في دوامة متواترة من الهدم والبناء ، بحيث أصبح الأمر أشبه بلعنة "سيسفص" (Sisyphus) في الميثولوجيا الأغريقية القديمة الذي قضى عليه "الرب" بأن يظل دوماً صاعداً جبلاً شديد الانحدار، حاملاً على ظهره صخرة ضخمة، وما أن يبلغ قمة الجبل حتى تفلت الصخرة من بين يديه وتتدحرج لأسفل الجبل لكي يعاود حملها والصعود بها من جديد، ذلك دأبه أبداً، في صورة أشبه بمصير الوليد بن المغيرة المخزومي في الأية المشار اليها عاليه ، وهي صورة استعارها الروائي الفرنسي البيركامو في كتابه(Camus-The Myth of Sisyphus) كمجاز لعبثية الحياة نفسها! ورغم أننا لا نوحي هنا بعبثية البناء تحت ظروف الصراع، لكننا نورد الأمر لنشير إلى أهمية الصيانة والتأهيل السريعين، ليس فقط في ظل دورة البناء والهدم في زمن الحرب، بل وفي زمن السلم أيضاً.


ضرورات قيام معهد قومي للأعطاب والصيانة والتأهيل- "إن العصا قد قرعت لذي الحلم":

لقد تعلم الناس من التجارب أن صيانة المنشآت العامة أو الخاصة أسرع من أعمال الإنشاء الجديدة وأقل كلفة منها، فمثلاً أثبتت أبحاث الطرق المسفلتة أن ترك هذه المنشآت تتردى بصورة كبيرة قبل إصلاحها يكلف 4-5 مرات أكثر من صيانتها في بداية الأعطاب. من ناحية أخرى، فإن أعمال الصيانة تشكل- مع أعمال البناء- أول درجات سلم الدراية التقنية وتمهد لتملك ناصية معارف الإنشاء والتصنيع، ومن ثم تملك مهارات التصميم والتكييف والتحسينات، لتنتهي الدولة مالكة لزمام القدرات التقنية الذاتية ومن ثم تحقيق السيادة التقنية الكاملة عند نهاية المطاف.
من السهل أن نرى الآن أن الأوان قد حان لإنشاء معهد متخصص الأعطاب ومعالجتها من خلال الصيانة والتأهيل والتبديل، تضاف إليه في المستقبل إدارات للتصميم الهندسي وأعمل التكييف والتحسينات التقنية، إذ أن هذه المناشط مجتمعة تمثل لحمة القدرات التقنية الذاتية، ويمكن تلمس الدور المحوري لمثل هذا المعهد في المحافظة على استثمارات البلاد الضخمة في البنى التحتية وفي تطوير قدرات الصيانة والتأهيل وتعميقها من خلال عرض مهامه الأساسية المحتملة والمتمثلة في:
1- مسح وحصر البنى التحتية وتحديد عناصرها ومشاكلها.
2- جرد وتحديد نطاق قدرات البلاد في الصيانة والتأهيل والبرامج التعليمية المتوافرة لدفع هذه القدرات.
3- حصر وتجميع تجارب الصيانة في القطاعات المختلفة كالمياه والنقل والكهرباء... إلخ ووضعها في متناول الجميع، خاصة تجارب الصيانة للمعدات المشتركة بين أكثر من قطاع (كالتيربينات الغازية --Gas Turbines-- المستخدمة في الطائرات وفي توليد الكهرباء في أوقات الذروة).
4- تطوير طرق أفضل لتقييم ورصد احتياجات المنشآت من الصيانة، ومعايير أفضل للمفاضلة بين الإصلاح والتأهيل والتبديل، وفي تقييم الأداء والاستفادة من تجارب الدول الأخرى في الصيانة والتأهيل.
5- إجراء الفحوصات والأبحاث العلمية حول الاختبارات الأتلافية وغير الأتلافية ودراسة التآكل وآثار الإجهاد والتنبؤ بالتلف التدريجي وتطوير الكودات المعيارية وتطوير دليل لإجراءات التشغيل لمهام الصيانة المختلفة.
6- تقديم كورسات وسمنارات عن الصيانة والتأهيل لتوسيع قاعدة القدرات الوطنية في هذا المجال.
7- تجسير الهوة بين التعليم الأكاديمي وبيئة العمل المهني من خلال:
أ‌. توفير الفرصة لطلبة الكليات الهندسية للتدريب العملي في مجالات الصيانة والتأهيل.
ب‌. توفير منبر متميز لأساتذة كليات الهندسة لاكتساب المهارات العملية وإجراء الأبحاث في مجالات الصيانة والتأهيل

وعلى الله قصد السبيل، و"لله الحجة البالغة " ،
"وأنا أوإياكم لعلي هدى أو في ضلال مبين"

بروفسير قريش مهندس مستشار وزميل في "الجمعية الهندسية " و خبير في المياه والنقل والطاقة والتصنيع، عمل مديرا للمركز القومي للتكنولوجيا ومحاضرا غير متفرغ بجامعة الخرطوم وبروفيسورا مشاركا في جامعتي ولاية مينيسوتا الأمريكية وجامعة الملك عبد العزيز ومستشارا لليونسكو بباريس و وخبيرا بالأمم المتحدة (الأسكوا) ،ومستشارا لها ، وخبيرا بمنظمة الخليج للأستشارات الصناعية ، وهو حائزعلي الدكتوراه الأولي له في هندسة النظم الصناعية والنقل والتي أتم أبحاثها بمعهد M.I.T.)) . كزميل "مركز الدراسات الهندسية المتقدمة" ، و حيث قام بوضع مواصفات تصميمية أولية لطائرتين تفيان بمتطلبات الدول النامية وأثبت --بالمحاكاة الرياضية علي شبكات الدول النامية-- تفوقهما علي الطائرات المعروضة في السوق العالمي ، وهو أيضا حائز علي (M. Phil.) و علي دكتوراة ثانية من جامعة مينيسوتا الأمريكية في موارد المياه بتخصص هيدرولوجيا و هيدروليكا، وعلي ماجستير اقتصاد وبحوث العمليات ، و هومجاز كعضو بارز" من قبل "معهد المهندسين الصناعيين" وكعضو من قبل "معهد الطيران والملاحة الفضائية " الأمريكي و"أكاديمية نيويورك للعلوم" والجمعية الأمريكية للمهندسين المدنيين" و الجمعية الأمريكية لضبط الجودة والمعهد البريطاني للنقل ".

المراجع:
1. Hass, R. “Education, Training & Research Needs...”, Proc. Can. Conf. 1987
2. Tack, G “The Engineering Task in Future Wars”, Proc of ICE, 1954

 

آراء