ثلاثة قوى تتحكم في المشهد السياسي
زين العابدين صالح عبد الرحمن
8 January, 2022
8 January, 2022
أن خروج حمدوك من الساحة السياسية بعد تقديم استقالته للشعب السوداني، قد عقد المشهد السياسي تماما، باعتبار أن حمدوك كان يمثل القوى المعادلة للعسكر في الوثيقة الدستورية، و تستطيع ممارسة الضغط من خلال استنفار الشارع لإرجاع عجلة الديمقراطية لمسارها الطبيعي، إضافة إلي أنه يجد الدعم من المجتمع الدولي باعتباره يمثل رمزا للمدنية. و التجربة أثبتت أن حمدوك يملك القدرة على تشخيص الواقع السياسي بصورة جيدة، لكنه لا يملك رؤية واضحة لكيفية إيجاد حل للأزمة، و يرجع ذلك لقلة الخبرة السياسية، و كان يعتقد أن القوى السياسية هي المناط بها تقديم الرؤية، رغم أن التجربة السياسية منذ ديسمبر 2018م أثبتت أن القوى السياسية؛ لا تملك أي رؤية منفردة أو متحالفة، مما يؤكد أن النخبة السياسية متواضعة في قدرتها، و يرجع ذلك أن الثلاثة عقود للإنقاذ قد أثرت سلبا على الأحزاب السياسية، حيث غادرتها القيادات التي تشتغل بالفكر، و صعدت لقمة الأحزاب خاصة التقليدية " الأمة – الآتحادي – الشيوعي" العناصر التنفيذية ذات القدرات المحدودة. و أيضا سيطرت على القوى الجديدة مجموعة من الشباب ناشطين سياسيين" الذين ما استطاعوا أن يخرجوا من تأثيرات أركان النقاش في الجامعات. هذا التواضع في القدرات جعلها تفشل في إدارة الإزمة منذ إعلان إقالة البشير، لذلك راهنة على السلطة و ليس على الديمقراطية.
أن المشهد السياسي تسيطر عليه ثلاثة قوى سياسية، و هي التي تستطيع أن تجعل البلاد في حالة استقرار، أو حالة من السيولة السياسية، و هي التي سوف يقع عليه تشكيل ملامح سودان المستقبل، لتأثيرها القوي في الشارع و نشر شعاراته من خلاله. أن القوى التقليدية قد تراجعت خطواتها كثيرا، خاصة وجودها وسط الأجيال الجديدة، و عجزت أن تقدم أجيال جديدة في القيادة لكي يكونوا أداة للاستقطاب. و القيادات التاريخية مستوعبة أن دورها أصبح محدودا لكنها متمسكه بالثقافة الأبوية " البطريكية" بأنها تعد نفسها مرجعية الخطأ و الصواب للفعل السياسي، و هي نرجسية تصيب أغلبية النخب السياسية. و الأحزاب الحديثة التي انتعش دورها مع الثورة قيدت حركتها مع المحاصصة " السلطة" و ضيقت على نفسها عدسة الشوف، لذلك فشلت أن تقدم أي رؤية لحل الأزمة، و أصبحت تربط كل تطلعاتها بالسلطة و كيفية الرجوع إليها رغم أنها تعرف أن ذلك لن يتم مرة أخرى إلا من خلال صناديق الاقتراع، و كانت قد جاءتها الفرصة، عند تشكيل حكومة المحاصصات الحزبية، و لم تستثمرها في تكوين المؤسسات التي تسهم في تجير الديمقراطية في المجتمع. و ذهبت مع السلطة و نسيت أن السلطة طريق الصراع المستمر الذي لا تخفت جذوته، كل ذلك لأنها بنت قناعتها أن السلطة سوف تجعلها تستفيد من مؤسسات الدولة لخلق دعاية انتخابية لها بعد فترة انتقالية يمكن أن تتمدد لربع قرن.
1 - القوى الأولى التي تتحكم في العملية السياسية هي الشارع، الذي تتحكم فيه فئة الشباب من الجنسين، و هي مرحلة متقدمة جدا في الوعي السياسي، أن يتوحد الشارع حول شعاراته التي تتمركز في شعارين " الدولة المدنية الديمقراطية - و حرية سلام و عدالة" و هما شعارأن يحددان مسار القوى السياسية، لكن مشكلة الشارع، أنه متمحور في لجان المقاومة بصورة أفقية، ليس له قيادة موحدة تتحدث بأسمه، و يرجع ذلك لقلة الخبرة السياسية، و أيضا للاختراقات التي تحاول القوى السياسية أن تحدثها في جدار الشارع لكي تحمله شعاراتها، و تلونه بلونها الباهت. و لكن الشارع يملك موقف سلبي من الأحزاب السياسية، الموقف يجعله يرفض أي تصور منها، الأمر الذي يفقد فرص الحوار بينهما. و إذا استطاع الشارع أن يختار قيادة بعيدا عن التأثيرات الحزبية سوف يغير الواقع السياسي، و يرسم ملامح سودان المستقبل، و يكون ذلك دافعا قويا للأحزاب، أن تجري تحديثأ داخل بناءاتها التنظيمية و فكرية تحدث تغيرات جوهرية تتماشى مع الشعارين، و سوف تغيب عن الساحة القيادات التاريخية ذات الحمولات للموروث السياسي الذي لم يقدم للبلاد سوى الفشل، و لجان المقاومة في الأحياء تحاول أن تقدم رؤية للحل تطرح في طاولة الحوار الوطني، لكن إدخال أرنبة أنف الأحزاب يؤثر سلبا عليها. و لكن المحاولات نفسها هي تدل على استخدام العقل بصورة إيجابية. و قوة الشارع أن يحافظ على استقلاليته، حتى يستطيع أن يفكر بحرية و ليس بحرية منقوصة تفرضها تصورات لأحزاب تتمرق في الفشل، هذا هو التحدي المفروض على الشارع.
2- أن الحزب الشيوعي أحد الاعبين الأساسيين في الشارع السياسي، رغم أنه لا يملك رؤية واضحة يقدمها للحوار الوطني، و الحزب الشيوعي خوفه من التصنيفات السياسية التي رمتها به القوى الأخرى منذ تكوينه في وسط الاربعينيات من القرن الماضي حتى اليوم، و يعتقد أنها تصنيفات غير موضوعية تحد من دوره في المجتمع خاصة خارج المدن، و تجعله دائما يتعامل من خلال واجهات يحملها رؤيته السياسية، و ألآن يعمل بطاقة تتجاوز كل طاقات القوى السياسية الأخرى، التي كانت متحالفة معه في فترة سابقة، حتى أنه يريدها أن تخرج من المسرح السياسي، أو تأتمر بقيادته، و قالت قيادات الزملاء أنها بصدد تحالف جديد يقوم على أسس جديدة تؤمن بالثورة الدائمة الرجوع غير المفهوم "للتروتسكية". أن الحزب الشيوعي يحاول أن يشكل تنظيمات جديدة تعتمد على " تجمع المهنيين الذي يسيطر عليه الزملاء " و بعض لجان المقاومة و تنظيمات أخرى شبابية و نسوية، و هي التي تفرض نفسها على المسرح السياسي، و بالتالي تفرض شروط المساومة السياسية الجديدة و تقديم وثيقة فيها رؤية الحل كما يريدها الزملاء. و هذا ما جاء في ميثاق " تجمع المهنيين" أن السلطة يجب أن تسلم إلي " القوى الثورية" و لكنه لم يعرف القوى الثورية، و لم يحدد من منٌ تتكون، لكن كمال كرار القيادي في الشيوعي حددها في حديثه "للجزيرة نيت" قال تتكون من " تجمع المهنيين و الحزب الشيوعي و بعض لجان المقاومة" و الحزب الشيوعي رغم محاولات أختراق لجان المقاومة المستمرة و نشر شعاراته، لكنه لم يستطيع السيطرة على الشارع، لذلك لن يراهن على الانتخابات باعتبارها الطريق الذي سوف يبعد العسكر تماما عن المسرح السياسي. و الزملاء يعلمون أن الانتخابات يؤثر فيها المجتمع التقليدي الذي تسيطر علي 70% فيه الأحزاب التقليدية. و لذلك لم يستطيع الزملاء مغادرة منصة التحريض للنقل لمربع جديد يقدمون فيه رؤية سياسية للحل تخلق حوارا شاملا تشارك فيها كل القوى السياسية يصل لتوافق وطني، لأنهم يتطلعون أن الثورية تقدم لهم السلطة في طبق من ذهب يسيطرون فيها على الفترة الانتقالية و يفرضون شروط بناء سودان المستقبل، و تستمر الفترة الانتقالية حتى يقتنعوعن أن الانتخابات سوف تعيدهم للسلطة. و هي الشمولية المغلفة بورق سلفان.
3 – الإسلاميون بتكويناتهم المختلفة، يعتبرون من المؤثرين بقوة أيضا في المشهد السياسي، و أن عدم إيجاد حوار صريح معهم حول عملية التحول الديمقراطية يجعل التفكير بعيدا عن النظرة الموضوعية. و الإسلاميون ينقسمون لثلاثة تيارات. التيار الأول المؤتمر الشعبي الذي يمثل القاعدة السياسية التقليدية للحركة الإسلامية، و هؤلاء رهانهم الوصول إلي الانتخابات التي تزيل عنهم حالة الإقصاء المفروضة عليهم. التيار الثاني يمثله المؤتمر الوطني الذين يراهنون على فشل الأحزاب في إدارة الصراع في الفترة الانتقالية، و هذا الفشل سوف يغير مجرى العمل السياسي لصالحهم، و هؤلاء لهم وجود في الساحة حتى إذا لم يكن الوجود بشكل ظاهر لكنه فاعل، و هم الذين استطاعوا أن يحاصروا " قوى الحرية و التغيير خاصة المجلس المركزي" و كما قال أمين حسن عمر سوف ننتظر الانتخابات حتى نعرف من الذي يملك جماهير في المجتمع. التيار الثالث يضم الإسلاميين الذين خرجوا من المؤتمر الوطني قبل الثورة مجموعة " غازي صلاح الدين – الأخوان المسلمين – مجموعات انصار السنة – حزب التحرير الإسلامي – تيارات الشباب الإسلامي الجديدة و المجموعات الصوفية" كل هؤلاء لهم حركة في الشارع السياسي، و يشكلون كتلة انتخابية قوية، و لكن دورهم الآن ينحصر بين المراقبة للواقع، و تحضير انفسهم لمعارك المستقبل، باعتبار أن تدخلهم بالصورة المباشرة سوف يكون في مصلحة القوى الأخرى، تكون دافعا لهم لتوحيد صفوفهم، لذلك يفضلون العمل التكتيكي على الدخول في إجراءات رؤيتهم الإستراتيجية، و فاعليتهم القوية سوف تظهر عندما يحين موعد الانتخابات، كما يطالبون المشاركة في المؤتمر الدستوري الذي يضع التصور العام لدولة المستقبل.
هذه القوى الرئيس الفاعلة في المشهد السياسي و التي ترسم مستقبلها بصورة فاعلة و لها تأثير في الشارع و وسط المجتمع. هناك قوى أخرى؛ لها حظوتها القوية في الانتخابات، باعتبار أن وجودها في الريف يشكل قاعدة أساسية، كما لها وجود في المدن يتمدد و يتقلص حسب حركة قاعدتها الجديدة في المجتمع. و هذه القوى " حزب الأمة القومي بكل تفرعاته و أيضا الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل و بكل مجموعات الاتحاديين و التي سوف تندمج معه عندما يحين موعد الانتخابات. و لها تأثير أيضا لكن ليس في المرحلة الحالية، لأنها لم يكون لها استعدد كاملة لإحداث أختراق وسط الأجيال الجديدة. كان أمام حزب الأمة دورا كبيرا في الفترة الانتقالية، و رسم ملامح مستقبلها إذا استطاع أن يتجاوز الخلافات داخله، و ينطلق من منصة حزب الأمة، و يقدم أطروحته " خارطة الطريق" من تلك المنصة ذات الإرث التاريخي، لكنه حاول أن يشعب المسألة نتيجة للترضيات على حساب الهدف الإستراتيجي، أراد أن يكون حزب الأمة و في نفس الوقت حزب عضو في منصة تحالف " المجلس المركزي" و أيضا دعاة تفاهم مع العسكر، و مد خيوط التواصل مع الشارع، هذا التشعب أضعف "خارطة الطريق" و جعلها تحاول أن ترضي الجميع دون التركيز على قضية التحول الديمقراطية بالصورة التي تفرض شروطها بعيدا عن المجاملات السياسية. لذلك أصبح تأثير الحزب في الشارع ضعيفا لا تمكنه من تمرير رؤيته كما كان في السابق. و هناك قوى الحرية و التغيير المجلس المركزي؛ هذه القوى مشاركتها في السلطة أضعفتها تماما، و هي تحاول أن تجد لها قبول الآن في الشارع، من خلال تبنيها لشعارات الشارع، و في نفس الوقت تصدر بيانت و تصريحات باعتبار إنها توجه الشارع، و ستخدم مناورة مكشوفة لأن الشارع لا يريد التعامل معها، و يفرض عليها قيود جعلها تستجدي بدلا أن تطرح رؤية سياسية للحل، تخلق حوارا في الساحة السياسية. و تحاول أن ترجع حالة القصور التي وقعت فيها من خلال نقد موضوعي للسلطة التي لم تديرها بالشكل المطلوب، و هي تحصر خطابها في الانقلاب، لأنها ما تزال تحصر رؤيتها العودة للسلطة مرة أخرى، بدعوتها الرجوع إلي ما قبل انقلاب 25 أكتوبر. لذلك هي أصبحت غير مؤثرة في المسرح السياسي، و ضعف أدائها جعل حركتها في المسرح محدود و تربطها بأنها تأتمر بأمر الشارع بدلا أن تقود الشارع. و هي تعلم أن الرجوع للفترة قبل الانقلاب إحياء للوثيقة الدستورية لن ترجع مجموعة المجلس المركزي بل كل الذين وقعوا في اعلان الحرية و التغيير. فغياب السلطة عنها سوف يخلق لها تحدي كبيرا.
هناك قوى أخرى هي مجموعة الميثاق و الحركات المسلحة و هؤلاء لا يستطيعون التفكير خارج الآطار الذي تتحكم فيه المجموعية العسكرية. و أصبحوا يمثلون الجوقة التي يتحكم فيها العسكر و يوظفونها التوظيف الذي يخدم رؤيتهم. و يصبح الصراع مع العسكر و نجاح عملية التحول الديمقراطي و عملية الاستقرار السياسي في البلاد محكومة بالتوافق السياسي بين القوى الرئيس الثلاث " الشارع بكل لجان مقاومته – الشيوعيون بكل واجهاتهم المدنية و السياسية – و الإسلاميون بكل تياراتهم " هؤلاء الذي يتصارعون الآن أيديولوجيا على الساحة، و إذا كان هناك اتفاقي بين أثنين دون الثالث لن يؤدي الاتفاق إلي حل جذري للمشكلة يفضي إلي الاستقرار السياسي و المجتمعي. أما العسكر يريدون فقط ضمانات لهم تجنبهم من أي مسألة قانونية في المستقبل، و الشارع أكثر المؤهلين أن يقدم رؤية تنطلق من مباديء ديمقراطية. أن النظر الموضوعية للمسرح السياسي، و قراءة الواقع قراءة تنطلق من معطياته بعيدا عن تدخل العاطفة و الرغائبية، سوف يكون المدخل الصحيح للحل الذي يفضي للدولة المدنية الديمقراطية. و نسأل الله حسن البصيرة.
zainsalih@hotmail.com