ثورة أبريل و تجديد المساومة السياسية علي نهج هنتنغتون

 


 

 

 

ساق الشاعر الشفيف عبدالقادر الكتيابي أرجوزة رمزية في معاني التخبط السياسي بعد ثورة أبريل 

مضي أبريل ابريلان والعنزان تنطتحان اهذا جريد ام حجر؟
ولم اجد في تاريخ النخبة السودانية منتوج ذكي ماهر في كشف غمة هذا الفشل بعد ثورة أبريل ، وقد بخلت عليها القريحة الثورية ببنفسجة الشعر و أهازيج النصر ، و روح الثورة والتغيير تسري في العروق و تأبي ان تخاطب الضمير و الوعي التاريخي ، كأن العقل السياسي في اناشيده القديمة لم يصحو من فجيعة أكتوبر التي طرزها بالشعارات والدماء والتطلعات الرومانسية المجهضة التي عجزت أن تزدهي بالقمح والوعد والتمني وجدلة العرس التي كانت في الايادي.

وقفتُ في مقال سابق أثار ردود فعل عديدة زعمت فيها أن صورة الحكم الراهن هي خاتمة مشروع اليمين السياسي ، و أن أي انتخابات ديمقراطية ستعيد إنتاج تمظهرات هذا اليمين السياسي وان اختلفت صوره ومسمياته لأن عمق هذا التحالف علي مختلف أسس التقاطعات الجغرافية والقبلية والثقافية والاجتماعية سيكون أساسا راسخا لقاعدة تحالفات جديدة في المستقبل تدور حول مركز العقيدة السياسية لليمين السياسي ليس لأنه انتصر في معركة الصراع السياسي ضد قوي اليسار التاريخية ولكن لعجز الطرف الآخر عن إنتاج أي بديل سياسي أو فكري يستطيع فرض شروطه السياسية، وذلك لفرط إعتماده علي التمرد وقوة البطش العسكرية في الأرياف والأطراف والهامش لا علي المساومة السياسية.
وجدت في النظرية الكبري للبروفيسور صمويل هنتنغتون الواردة في كتابه ( النظام السياسي في مجتمع متغير) قاعدة تفسيرية لمجمل خيباتنا السياسية، وقد صدر الكتاب عن مركز الدراسات الدولية في جامعة هارفارد عام ١٩٦٨ واعاد تقديمه تلميذه الوفي الدكتور فرانسيس فوكوياما في بداية القرن الجديد.

يقول هنتنغتون أن أكبر أسباب الفشل في بناء نظام سياسي فاعل ومستقر في الدول النامية تحدث عندما تزيد نسبة المشاركة السياسية عن سرعة بناء و اكتمال المؤسسات السياسية، لأن اتساع قاعدة المشاركة السياسية دون بناء مؤسسات و قواعد تنظم الأداء السياسي لهذه الجموع سيعرض هذا البناء الهش للإنهيار فتزيد وتيرة الأزمات والإضرابات والمطالبات النقابية إضافة إلي الانقلابات ومظاهر التمرد ضد الدولة.

ربما ترجع احد أسباب انهيار ثورة أبريل إضافة الي فقدانها الحس الثوري الملهم بالتغيير الي انفتاح باب المشاركة السياسية دون اكتمال بناء المؤسسات السياسية بما يستوعب وينظم هذه المشاركة مما أدي إلي جنوح نحو الفوضي والانفلات خاصة في إضرابات النقابات و انفلات السوق السوداء والذي اعترف الإمام الصادق المهدي بتجرع الهزيمة أمامه.

لكن يربط هنتنغتون كما أشار إلي ذلك فوكوياما بين التغيير السياسي و الحداثة لأنها تعني في أبسط صورها حدوث تنمية اقتصادية تؤدي إلي تجويد مخرجات التعليم وكسر قاعدة القبيلة والجهوية وبروز منظومة ثقافية جديدة ترتكز علي ( الإنجاز والعقل ) بدلا عن الفخر بالانساب و بناء العلاقات الاجتماعية علي أسس المدنية و البندرة الحديثة.

تتفاقم المشاكل ويحدث الانقطاع كما يقول و هنتنغتون عندما يتفوق الحراك الاجتماعي علي صيرورة بناء المؤسسات السياسية، وبالتالي يؤسس هنتنغتون لمفهوم هام في استدامة التطور والاستقرار السياسي وهو ضرورة أن تتناسب المشاركة السياسية والحيوية والحراك الاجتماعي مع بناء وتطور المؤسسات السياسية.

قناعتي أن احد أسباب فشل ثورة أبريل وعدم قدرتها علي أحداث التغيير المنشود هو بطء بناء المؤسسات السياسية مقابل تسارع وتيرة المشاركة السياسية بصورة افتقدت للنضج والرشد السياسي و تزايد ايقاع الحراك الاجتماعي. وفقاً لهذا النقاش يقرر هنتنغتون أن التمسك بالحداثة كمتغير موضوعي لا تؤدي تلقائيا إلي احداث التطور الاقتصادي و تأسيس النظام السياسي ، بل العكس هو الصحيح إذ يجب أولا بناء النظام السياسي الفاعل و من ثم تنتظم حوله بقية العناصر من مشاركة سياسية وحيوية اجتماعية ونهضة اقتصادية و جودة في مخرجات العملية التعليمية.
للخروج من هذا المأزق الفكري والسياسي في ضعف وهشاشة العملية السياسية وتعرضها الدايم للسقوط والانهيار ينادي هنتنغتون بما اسماه ( الاتوقراطية الانتقالية) Authoritrian transition ويعني بها بروز ديكتاتورية حداثوية تستطيع تأسيس نظام سياسي يرتكز علي حكم القانون وتوفير شروط مواتية لحدوث نهضة اقتصادية و تطور اجتماعي ملموس.

عندما تنجح ( الديكتاتورية الانتقالية) في تأسيس هذه الشروط كجزء من مقتضيات الحداثة تبرز تلقائيا مظاهر الانتقال التدريجي نحو الديمقراطية الكاملة والمشاركة المدنية. و يدلل هنتنغتون علي ذلك بما انجزه سوهارتو في اندونيسيا ولي كوان يو في سنغافورة وبارك دون هي في كوريا و جيانغ كينغ في تايوان وغيرهم.

٠يقر هنتنغتون ان الحروب الداخلية و العنف ربما تكون احد ممسكات التوحد الوطني مثل الحرب الاهلية في امريكا او حرب الثلاثين عاما في اوروبا وغيرها، ولعل الغريب في الامر ان يعتبر فوكوباما ان السودان دولة فاشلة نتيجة عجزها عن بناء نظام و مؤسسات سياسية فاعلة
اذا طبقنا نظرية هنتنغتون علي الواقع السوداني يثور السؤال التالي: هل نجح عبود او جعفر نميري ان يكون سلطة تعبر عن الاتوقراطية الانتقالية كما أرادها هنتنغتون؟، بما يعني أنه نجح في وضع الأسس الضرورية لبناء المؤسسات وحكم القانون والنهضة الاقتصادية بما يمهد لقيام نظام ديمقراطي حقيقي وفاعل.
تجد تجربة عبود بعض التعاطف، ويقول المنتقدون أن تجربة نميري لم تستوف أسس الديكتاتورية الانتقالية بما يعزز الانتقال الديمقراطي السلس.

الآن تلوح في الأفق رغم مظاهر الاحتقان السياسي فرصة حقيقية لبناء نظام سياسي ينال التوافق والرضاء الكامل وبناء دولة القانون و تحقيق النمو الاقتصادي لتكون تلك أسس فاعلة لإكمال مشروع الحداثة بمكوناته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتوفير أسس الانتقال السلس نحو الديمقراطية الكاملة.
و حسب نظرية هنتنغتون فإنه لا يشترط الانخراط في تحقيق التحول الديمقراطي ضربة لازب لكن لا بد من توفير مطلوباته و شروطه. و لعل المحلل الراشد والموضوعي لا تنقصه الدراية ليكتشف ان تحقيق التحول الديمقراطي عبر الوسائل الجارية من عنف وتمرد لن يكتب له النجاح لسبب بسيط وهو أن الحركات حاملة السلاح تفتقد الديمقراطية في نفسها لذا ينحصر سعيها وهدفها في الوصول للسلطة عن طريق إسقاط النظام وليس تحقيق التحول الديمقراطي الذي تفتقده هي في نفسها وستكون هي أول ضحاياه لإفتقادها للقاعدة الشعبية وادوات العمل السياسي المدني والقوة الناعمة . و لمزيد من الإيضاح أنني لا أزعم أن التحالف السياسي الحاكم يعتبر ديكتاتورية انتقالية كما أسماها هنتنغتون لكن يمكن إجراء مساومة تاريخية لتحقيق أهدافها والقيام بوظائفها في هذه المرحلة التاريخية الحرجة و الهامة في تأريخنا الحديث.

لعل اولي الشروط لتحقيق هذا الهدف الذي اسماه هنتنغتون الموجة الديمقراطية الثالثة هو استغلال العملية السياسية الجارية لأحداث التغيير عبر توسعة مواعين المشاركة السياسية و نبذ العنف وتبني العمل السياسي المدني والمشاركة في كتابة الدستور والانتخابات وبناء نظام سياسي فاعل وإحداث النهضة الاقتصادية وتعزيز مباديء الشفافية وحقوق الانسان ومحاربة الفساد وحكم القانون. لأن هذه مطلوبات حتمية لإستدامة العملية الديمقراطية. وبعبارة ادق فإن الهدف من هذا الطرح هو تغيير أسلوب وأولويات الخطاب السياسي لعضوية النادي السياسي خاصة المعارضة فبدلا من تبني أجندة الحرب و العنف و تغيير النظام يصبح الهدف يعني بتعزيز مبدأ المشاركة في العملية السياسية و التنافس الديمقراطي لتحقيق مطلوبات التحول الديمقراطي الكامل . في المقابل مطلوب من منظومة الوفاق الوطني السياسية وعلي رأسها الحزب الحاكم تهيئة المناخ ، وتسوية الملعب وتوفير مطلوبات المشاركة السياسية.

قد جربنا ديمقراطية يستمنستر علي النمط الصوري الشكلاني وكذلك الديكتاتوريات المتعددة فلا بأس أن نجرب نظرية هنتنغتون في كتابه(النظام السياسي في مجتمع متغير) احد أدوات المساومة التاريخية و ذلك بتحقيق مطلوبات الحداثة وبناء نظام سياسي ومؤسسات فاعلة ومتماسكة كشرط ضروري للاستقرار السياسي و النهضة الاقتصادية والتغيير الديمقراطي بدلاً من إهدار الطاقات الوطنية في الاستئصال السياسي و العنف والتمرد والمحاولات المرهقة لإسقاط النظام التي لم تعد تجد فتيلا ليس لعامل التفوق والقوة العسكرية الراجحة لجانب الحكومة لكن لعدم توفر القناعة الشعبية بهذا النمط من التغيير وآثاره بادية للنخب والجماهير في سوريا والعراق واليمن وليبيا.

kha_daf@yahoo.com

 

آراء