ثورة أكتوبر وتوق الشعب السوداني إلى حركة حقوق مدنية (3-4)

 


 

 


مجتزأ من ورقة: عبد الله الفكي البشير، "ثورة أكتوبر ومناخ الستينيات: الانجاز والكبوات (قراءة أولية)‎"، نُشرت ضمن كتاب: حيدر إبراهيم وآخرون (تحرير)، خمسون عاماً على ثورة أكتوبر السودانية (1964- 2014): نهوض السودان المبكر، مركز الدراسات السودانية، القاهرة، 2014.


عبد الله الفكي البشير

abdallaelbashir@gmail.com


القادة والعبث بإرادة الجماهير والفوضى الدستورية


إن ثورة أكتوبر دشنت صراعاً مكشوفاً بين قوى الحداثة والتجديد مقابل القوى الرجعية التقليدية المحافظة. وحملت شعارات أكتوبر مبادئ ومطالب لدولة ديمقراطية حديثة بدءاً من قانون انتخابات جديد وممثل للتطلعات مروراً بالوحدة الوطنية وحل مشكلة الجنوب ثم إلغاء الإدارة الأهلية، نهاية بالتنمية المستقلة.  لقد ثارت الجماهير من أجل استعادة الديمقراطية، وضد سياسة الحسم العسكري في جنوب السودان، وهي تتشوق لتحقيق التسوية الوطنية وبناء الوحدة. كان مؤتمر المائدة المستديرة فرصة عظيمة للانحياز لمبادئ ثورة أكتوبر وأشواق الجماهير في تحقيق التسوية الوطنية وبناء الوحدة، غير أن حكومة الأحزاب التقليدية نكصت بعهدها في تطبيق توصيات المؤتمر، وعاد قادة التمرد لممارسة القتال، وتفاقمت حالة الحرب الأهلية بعد المجازر الجماعية للجنوبيين في واو وجوبا.  أكثر من ذلك أن الأحزاب التقليدية كلها لم تكن تعمل على تحقيق مبادئ أكتوبر، بل أنها بلا استثناء عملت على اجهاض ثورة أكتوبر".  فقد تآمرت على سر الختم الخليفة رئيس مجلس الوزراء، فقدم في يوم 18 ديسمبر 1965 استقالته بعد أن وجد نفسه عاجزا عن إيجاد الحلول للمسائل المتنازع عليها.  ونتج عن ذلك التآمر الفوضى الدستورية والتلاعب في قانون الانتخابات. ولقد لخص الأستاذ محمود محمد طه مجمل الوضع عندما قال: "وما كان للأحزاب السلفية أن تبلغ ما أرادت لولا أن الثوار قد بدا لهم أن مهمتهم قد أنجزت بمجرد زوال الحكم العسكري، وان وحدة صفهم، قد استنفدت أغراضها".

الشاهد أن الأحزاب التقليدية تمكنت، في سبيل تحقيق مصالحها الضيقة مع عدم الوعي أو عدم الرغبة في التغيير الشامل والجذري، من العبث بإرادة الجماهير ومبادئ ثورة أكتوبر، ففارقت أشواق الجماهير نحو التغيير في اتجاه انتصار الحقوق المدنية والاعتراف بالتعدد الثقافي والتحول الديمقراطي. كما خلقت الأحزاب التقليدية حالة من الفوضى الدستورية، جاءت بكبوات كبرى سياسية وفكرية، فأسست لسوابق ظل السودان يعاني، ولايزال، من آثارها ونتائجها، بل قسمته وجعلته يعيش في مناخ من التشظي والتفتت.


خيانة مبادئ الثورة والكبوات الكبرى

الكبوة السياسية: حل الحزب الشيوعي السوداني


لقد تم حل الحزب الشيوعي السوداني وطرد نوابه المنتخبين بعد سلسلة من الإجراءات تم بناء عليها تعديل الدستور- "فقد عُدل الدستور مرتين للتمكين للحكم الطائفي في الاستمرار: مرة ليتمكن أزهري من أن يكون رئيساً دائماً لمجلس السيادة، في إطار الاتفاق بين الحزبين على اقتسام السلطة‏.‏‏. ومرة أخرى لحل الحزب الشيوعي، وطرد نوابه من الجمعية التأسيسية‏.‏‏. فقد عدلت الجمعية التأسيسية المادة 5/2 من الدستور، والتي تعد بمثابة روح الدستور‏.‏‏. وهي المادة التي تنص على الحقوق الأساسية، كحق التعبير، وحق التنظيم‏".   تقدمت الحكومة في جلسة 8 ديسمبر 1965 بمشروع قانون حل الحزب الشيوعي. وحددت جلسة يوم 9 ديسمبر موعداً للقراءة الثانية وقدم للقراءة الثالثة وأجيز في نفس الجلسة، ونشر بغازيتة حكومة السودان بتاريخ 9 ديسمبر 1965. رفع الحزب الشيوعي السوداني قضية إلى المحكمة العليا  للطعن في قرار الحل وعدم دستوريته. "ولما حكمت المحكمة العليـا بعدم دستورية ذلك التعديــل (مجلة الأحكام القضائية 1968) أعلن رئيس الوزراء آنذاك، السيد الصادق المهدي، "أن الحكومة غير ملزمـة بأن تأخذ بالحـكم القضائـي الـخاص بالقضيــة الدستورية... فتعرض القضاء السوداني بذلك لصـورة مـن التحقيـر لم يتعـرض لـها في تاريخه قط!! ولما رفعت الهيئة القضائية مذكرة إلى مجلس السيادة تطلب فيها تصحيح الوضع بما يعيد للهيئة مكانتها (الرأى العام 27/12/1966) وصف مجلـس السيادة حكم المحكمة العليا بالخطأ القانوني (الأيام 20/4/1967). فاستقال رئيس القضاء السيد بابكر عوض الله، وقد جاء في الاستقالة: "إنني لم أشهد في كل حياتي القضائية اتجاها نحو التحقير من شأن القضاء، والنيل من استقلاله كما أرى اليوم‏.‏‏. إنني أعلم بكل أسف تلـك الاتجاهات الخطـيرة عنـد قــادة الحكم اليـوم، لا للحـد مـن سلطـات القضـاء في الدستـور فحسب، بل لوضعـه تحت إشـراف الهيئة التنفيذية"- وهذه صورة ناصعة لفشل التجربة الديمقراطية في بلادنا، مما حولها إلى دكتاتورية مدنية- إن قصور تجربتنا الديمقراطية مرده الأساسي إلى قصور الوعي -وعي الشعب، ووعي القلة التي تحكم الشعب- مما أفرغ مدلول كلمة الديمقراطية من محتواها.. هذا وفشل الديمقراطية في ظل البلاد المتخلفة أدى إلى الانقلابات العسكرية، في كل مكان، في النصف الأخير من هذا القرن وليس في الانقلابات العسكرية حل".

تبع ذلك حل الجمعية التأسيسية وتمت الدعوة لانتخابات عامة مع استبعاد دوائر الخريجين التي كان يسيطر عليها الحزب الشيوعي السوداني. وقدمت الحكومة حججا لذلك. يقول إبراهيم محمد حاج موسى: "إن هذه الحجج لم تكن الدافع لإلغاء دوائر الخريجين، ولكن الدافع الوحيد هو أن التجربة الأخيرة لدوائر الخريجين في انتخابات سنة 1965 أعطت الأحزاب السياسية درسا قاسيا وأظهرت مدى انصراف الخريجين عن هذه الأحزاب ومناصرتها، حيث لم ينل حزب الأمة أي مقعد في هذه الدوائر الخمسة عشرة، كما أن الحزب الوطني الاتحادي لم ينل إلا مقعدين، في حين حصل الحزب الشيوعي السوداني على 11 مقعداً. فخشية من أن يحتل الشيوعيون هذه المقاعد مرة أخرى، عملت الحكومة الإئتلافية على استبعاد دوائر الخريجين".

وفي تناقض عجيب مع قرار حل الحزب الشيوعي، تأتي نتائج انتخابات عام 1968، فيفوز عبد الخالق محجوب سكرتير الحزب الشيوعي في دائرة أم درمان جنوب ليكون نائبًا برلمانيًا عن دائرة جغرافية، وليست دائرة من دوائر الخريجين. ويسقط الصادق المهدي، رئيس حزب الأمة، في دائرة كوستي الجنوبية، ويسقط حسن الترابي، الأمين العام لجبهة الميثاق الإسلامي، في دائرة المسيد.

من المهم الإشارة إلى أنه على إثر حادثة حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من البرلمان، قامت أقوى محاولة لبناء سلطة المثقف، كان ذلك يوم أن وُلد "المؤتمر الوطني للدفاع عن الديمقراطية". كان تأسيس المؤتمر، فور إذاعة خبر قرار الجمعية التأسيسية (البرلمان) بحل الحزب الشيوعي السوداني وطرد نوابه من البرلمان، جاء النداء من اتحاد طلاب جامعة الخرطوم لعقد مؤتمر بدار الاتحاد لكافة المنظمات الديمقراطية تحت شعار "الدفاع عن الديمقراطية". استجابت التنظيمات والهيئات، فوُلد في نوفمبر 1965 "المؤتمر الوطني للدفاع عن الديمقراطية" والذي ضم 32 تنظيما ومنظمة.  لقد كانت بحق هبة قوية من أجل بناء سلطة للمثقفين، وإن لم تأت ثمارها بعد.


الكبوة الفكرية: مهزلة محكمة الردة نوفمبر 1968


في نهار يوم الاثنين 18 نوفمبر 1968م، شهدت سماء الخرطوم ولأول مرة في تاريخ السودان، صدور حكم شرعي بردة مفكر إسلامي. صدر الحكم الشرعي من محكمة الخرطوم العليا الشرعية، وهي محكمة غير مختصة، حكمت المحكمة غيابياً على الأستاذ محمود محمد طه رئيس الحزب الجمهوري بأنه مرتد عن الإسلام وأمرته بالتوبة عن جميع الأقوال والأفعال التي أدت إلى ردته.  لقد صدر الحكم بالردة عن الإسلام، في حق الأستاذ محمود محمد طه، في ظل نظام ديمقراطي وبتحالف واسع بين الأحزاب التقليدية ورجال الدين والفقهاء والقضاة الشرعيين. وفي مفارقة عجيبة كان ثلث أعضاء مجلس الوزراء في حكومة ذلك النظام الديمقراطي من أوائل قانونيي السودان ومحامييه وقضاته. فقد تشكلت الحكومة من ثمانية وزراء من الحزب الاتحادي الديمقراطي وستة وزراء من حزب الأمة واثنين من جبهة الجنوب . كان مجلس الوزراء يتكون من ستة عشر وزيراً. كان محمد أحمد المحجوب رئيس الوزراء ووزير الخارجية، قد درس القانون وعمل قاضيا واشتغل بالمحاماة منذ أربعينيات القرن الماضي. وكان الشيخ علي عبد الرحمن الأمين، نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية، قد عمل بالقضاء الشرعي وكان وزيرا للعدل في الحكومة السودانية قبل الاستقلال. ومن الوزراء، إبراهيم المفتي، وزير الري والقوة الكهربائية المائية، الذي درس الحقوق وتم الاحتفاء به كأول محامٍ سوداني يتخرج في أول مدرسة للحقوق في السودان، والرشيد الطاهر بكر، وزير الأشغال والعدل، الذي درس القانون وعمل بالمحاماة، وعبد الماجد أبو حسبو، وزير الإعلام والشؤون الاجتماعية، والذي تولى وزارة العدل أيام المداولات بشأن الدستور الإسلامي، وهو أيضا درس القانون.  لقد رسب القادة القانونيون في امتحان محكمة الردة، إذ ليس هناك وضع أمثل للقانونيين والمشغولين بالحقوق، لإسهامهم في بناء دولة القانون وترسيخ الثقافة القانونية وتمكينها ونشرها في المجتمع، من أن يكونوا في مواقع سيادية وفي ظل نظام ديمقراطي، بيد أن هذا لم يحدث.

  أما مواقف زعماء الأحزاب التقليدية من محكمة الردة في نوفمبر عام 1968، فقد عبر عنها كل من الصادق المهدي وحسن الترابي. ففي نوفمبر من عام 1968، علَّق الصادق المهدي، رئيس حزب الأمة، على آراء الأستاذ محمود محمد طه ومحكمة الردة الأولى، قائلا: "إن أفكار رئيس الحزب الجمهوري خارجة عن نطاق الدين والشريعة الإسلامية وإن التفكك والانحراف الذي تعيشه بلادنا هو الذي سهل من قبل لدعاوي الكفر والإلحاد أن تتفشى وإذا أردنا حقاً القضاء على الردة والإلحاد فيجب أن نسعى جميعاً لإقامة دولة الإسلام الصحيحة".  وأضاف الصادق المهدي وهو يعلق على آراء الأستاذ محمود: "إن الوضع الحالي كله خارج الشريعة الإسلامية وهذا ما مهد قبلاً لإعلان مثل هذه الأفكار والدعاوي الغريبة دون أن تجد من يردعها".  كما كتب حسن الترابي، الأمين العام لجبهة الميثاق الإسلامي، في يوم 29 نوفمبر عام 1968 مقالاً بعنوان: "السياسة الصحيحة نحو محمود محمد طه واضرابه"، يقول فيه: "إن الانحراف الفكري لمحمود يوافق الاتجاه العام للحركات الشاذة في تاريخ الفكر الإٍسلامي وحاضره فهي نزعة للانفساخ من التزامات الدين وواجباته من الصلاة إلى الجهاد وهي جنوح لتحكيم الهوى وجعله فوق الرسالة بإنكار السنة والتصرف بالتفسيرات الذاتية في آيات القرآن. وبها لا يعدو الدين أن يكون أداة لتسخير الاتباع لأهواء القائد وتقديسه بصورة عمياء كما نشاهد". ثم تناول الترابي في نفس المقال حكم المحكمة الشرعية الذي صدر يوم 18 نوفمبر 1968، بردة الأستاذ محمود عن الإسلام، قائلا: "أما حكم المحكمة الشرعية فقد اقتضاه اختصاص المحاكم بالأحوال الشخصية للمسلمين وضرورة الفصل في الصفة الدينية للمواطن لتنبني على ذلك أوضاعه القانونية الشخصية وهو حكم قد صدر في إجراءات قضائية رسمية". وأضاف الترابي قائلا: "ولعل ردة الفعل الهوجاء التي ظهرت من محمود خير دليل على أن الحكم قد كان له آثاره الفعالة في حصر المرض الذي يحاول محمود وأشياعه أن ينشروه. والذين تولوا مع محمود الحملة على القضاء الشرعي لا يقصدون أشخاص القضاة وإنما يهدف أغلبهم للنيل من الإسلام في كل مظهر من مظاهره بصورة منافقة ماكرة".

مثَّلت هذه المواقف أكبر دليل على غياب الورع الأخلاقي والخيانة لمبادئ ثورة أكتوبر. ويكفي أن نلفت انتباه القارئ للاطلاع على رأي الزعيمين المهدي والترابي اليوم بشأن الردة. فالآراء قد تبدلت تماماً، والمواقف قد اختلفت كلية. الشاهد أن في رأي الترابي والمهدي بشأن الردة عام 1968 مقروناً برأيهما اليوم دليل قوي عن أزمة الأخلاق في الفكر الإسلامي ودليل قوي كذلك عن محنة أهل السودان في زعمائهم ومفكريهم. إن تبديل الآراء وتغيير المواقف، كما تجلى في موقفي المهدي والترابي تجاه حكم الردة، يعبر بجلاء عن حالة اليتم الفكري واليتم القيادي التي تعيشها شعوب السودان والإسلام. بيد أن العزاء والمراهنة ستكون على تطور الوعي والذي هو في اندياح الآن، ونمو الحس العدلي لدى الشعوب، الأمر الذي يؤدي إلى بناء الرأي العام الجديد، وبعث المعايير الأخلاقية في قراءة المواقف والوقائع، والمناداة بالحقوق الإنسانية، وتحرير الشعوب من الأوصياء على العقول، عندها سنكون نحن في قلب "الثورة الكبرى، ثورة العقول".

الشاهد أن محكمة الردة في نوفمبر 1968، والتي تمت في عقد الستينيات، عقب ثورة أكتوبر، بتآمر واضح ومكشوف، مثلت سابقة خطيرة أسست لعدم الاستقرار وغياب الحرية في السودان. فقد تم استدعاء تلك المحكمة، في ظل قوانين سبتمبر 1983 (ما سمي بالشريعة الإسلامية) والتي أدت إلى انهيار اتفاقية أديس أبابا 1972، إلى محاكمة يناير 1985 وتنفيذ حكم الإعدام على الأستاذ محمود محمد طه في صبيحة يوم الجمعة 18 يناير 1985. لقد ساهمت تلك السابقة وتنفيذ حكم الاعدام فيما بعد، في أن يخسر السودان وحدته واستقراره منذ ذلك الوقت، وحتى يوم الناس هذا.


نلتقي مع الحلقة الرابع والأخيرة، وهي تتناول المحاور الآتية: الكبوة الدستورية: الدستور الإسلامي 1968،

الكبوة الأخلاقية: الفشل في حقن الدماء وتحقيق التسوية الوطنية، وخاتمة: نحو الثورة الكبرى ثورة العقول

 

آراء