ثورة أكتوبر 1964م السودانية
بدر الدين حامد الهاشمي
26 March, 2023
26 March, 2023
ثورة أكتوبر 1964م السودانية
The Sudanese Revolution of October 1964
الأستاذ الدكتور يوسف فضل حسن
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذه ترجمه مختصرة لمقال للأستاذ الدكتور يوسف فضل حسن (1931م - ) نُشِرَ عام 1967م في الجزء الرابع من المجلد الخامس لمجلة The Journal of Modern African Studies مجلة الدراسات الأفريقية الحديثة (ص 491 – 509).
استشهد الكاتب في مقاله بعدد كبير من المصادر منها التقرير الذي أصدرته وزارة العدل عام 1965م بعنوان: "التحقيق في الأسباب التي أدت إلى انقلاب 17 نوفمبر 1958م)، وكتاب "ثورة شعب" الذي أصدره الحزب الشيوعي السوداني عام 1965م، وكتاب الصادق المهدي "جهاد في سبيل الديمقراطية" بدون تاريخ، وعدد من الكتب والأوراق التي نشرها بعض الكتاب الغربيين مثل هولت وهندرسون وكيلنير؛ إضافة لما ورد في صحيفتي الأيام" و"الصحافة" في أيام الثورة.
والأستاذ الدكتور يوسف فضل حسن غنِيّ عن التَّعريف، ويمكن الاطلاع على سيرته الذاتية ومؤلفاته في هذا الرابط: https://tinyurl.com/53skxv9s .
الشكر موصول لأستاذ محمد عمر الامين البشير لإرساله لي المقال لترجمته.
المترجم
*********** ************ **************
تناول الكاتب في مقدمة ضرورية وطويلة نسبيا (أتت في أكثر من 15 صفحة) خلفية الأحداث التي جرت بالسودان منذ سقوط الدولة المهدية "تحت نيران مدافع رجال الحملة الإنجليزية – المصرية"، وقيام الحكومة الكلولونيالية (التي كان للبريطانيين نصيب الأسد فيها) بفرض السيطرة على البلاد وإدخال المفاهيم الغربية في إدارتها. وذكر أن كل محاولات السودانيين لتحدي تلك الحكومة قد فشلت بصورة تامة بعد عام 1924م، وأن المتعلمين السودانيين - مثلهم مثل غيرهم في آسيا وافريقيا – طالبوا بحق تقرير مصيرهم. ثم تطرق الكاتب لتاريخ نشأة الأحزاب السودانية في ذلك العهد، ولمحاولة البريطانيين إنشاء مؤسسات تشابه مؤسسات "الديمقراطية الغربية" في البلاد مثل المجلس الاستشاري لشمال السودان في 1946م، ثم الجمعية التشريعية في عام 1948م، التي كانت لها بعض السلطات. وذكر بأن السودان، كان - وإلى وقت قريب - يتكون من وحدات قبلية، ليس فيها من طبقات أو امتيازات اجتماعية، وأن زعيم القبيلة لم يكن سوى "الرجل الأول بين رجال متساوين"، لذا لم يكن سكان السودان معتادين على الخضوع لحكم استبدادي. ثم تناول المقال ببعض التوسع قيام أول زارة سودانية، وما دار بعد ذلك من صراعات وتحالفات حزبية. فقد ساءت العلاقة بين طائفة الختمية وبين إسماعيل الأزهري (أول رئيس للوزراء) مما أضطره في 26 فبراير 1956م لتشكيل حكومة قومية. وأدى ذلك الخلاف لخروج "الختمية" من حزب الأزهري (الحزب الوطني الاتحادي) وتشكيل حزب جديد هو "حزب الشعب الديمقراطي". وسرعان ما سقطت حكومة الأزهري وتولى عبد الله خليل سكرتير حزب الأمة رئاسة الوزارة في 7 يوليو 1956م. وأقيمت انتخابات عامة في شهري فبراير ومارس من عام 1958م نال فيها حزب الأمة 63 مقعدا، وحزب الشعب الديمقراطي 27 مقعدا، مقارنة بـ 46 مقعداً للحزب الوطني الاتحادي، و38 مقعدا للأحزاب الجنوبية. واستطاع عبد الله خليل تشكيل حكومته، إلا أنه وُوجِهَ بخلافات عميقة مع حزب الشعب الديمقراطي، شريكه في الحكم، خاصة حول مسألتي كتابة دستور دائم للبلاد، وإصلاح الأوضاع الاقتصادية المتدهورة بها. فقد كان عبد الله خليل يرى أن السودان بحاجة إلى عون خارجي (يبلغ 137 مليون جنيه سوداني) لتمويل خطة التنمية الثالثة (1956 – 1961م). ولم تكن موارد البلاد المحلية تكفي لسداد ذلك المبلغ، خاصةً مع فشل الحكومة ذلك العام في بيع القطن (وهو مصدر دخلها الأكبر). وجاء عرض الحكومة الأمريكية (برئاسة ايزنهاور) في عام 1957م لتقديم معونة للسودان وحل مشكلة التمويل لخطة التنمية تلك. وكما هو متوقع رفض نواب حزب الشعب الديمقراطي (وقليل من نواب حزب الأمة) القبول بتلك المعونة، بذريعة ما قد يتبعها من تداعيات سياسية وعسكرية. غير أنه تم في نهاية المطاف قبول حكومة عبد الله خليل بالمعونة الفنية والاقتصادية الأمريكية في مارس 1958م، وأجازها البرلمان في يوليو من ذات العام. وتم تعليق أعمال البرلمان لبضعة أشهر لتحاشي انتقادات وضغوط المعارضة التي هددت بإسقاط الحكومة. وتأخرت أعمال اللجنة القومية لوضع دستور مستدام لجمهورية السودان، التي كانت قد بدأت أعمالها منذ عام 1956، بسبب مسألتين مثيرتين للجدل هما: مطالبة الجنوبيين منذ عام 1955م بتشكيل حكومة إقليمية، ونظام الرئاسة الذي يجب أن يعتمده السودان. وعندما تمت مناقشة مسألة المعونة الأمريكية في يونيو 1958م، انسحب ممثلو الحزب الوطني الاتحادي من اللجنة، في حين صار ممثلو حزب الشعب الديمقراطي أقل تعاوناً، وبدأوا في التغيب عن اجتماعات اللجنة عندما أدركوا أن عبد الله خليل كان مصمماً على اقتراح مفاده تسمية السيد عبد الرحمن المهدي رئيسا فخريا للدولة. وبالطبع لم يكن السيد علي الميرغني وأنصاره يرحبون بمثل تلك الخطوة، إذ أنها كانت سترفع من شأن خصمهم اللَّدُود. (استشهد الكاتب هنا بما ذكره ك. د. هندرسون في كتابه Sudan Republic الصادر عام 1965م ص 109. المترجم). وتضعضع الائتلاف بين حزب الأمة وحزب الشعب الديمقراطي بسبب تَيْنِكَ المسألتين. وسرعت إشاعات بأن السلطات المصرية تتدخل في الشؤون السودانية وتغدق الأموال على بعض النواب للتأثير على خياراتهم.، التي قد تكون مغايرة لسياسة أحزابهم نفسها. وفكر بعض ساسة حزب الأمة في إمكانية التحالف مع الحزب الوطني الاتحادي وتكون حكومة قومية جديدة تكون أكثر استقرارا. وفي ذلك الأثناء كان زعيما الحزب الوطني الاتحادي وحزب الشعب الديمقراطي (الأزهري وعلي عبد الرحمن) يجريان اتصالات مع جمال عبد الناصر. وأثار ذلك خوف عبد الله خليل من أن يتحد الحزبان مرة أخرى، وهذا مما من شأنه أن يعزز من النفوذ المصري في السودان.
وأفضت تلك الأوضاع السياسية "الفوضوية" (كما سماها الكاتب. المترجم) للتفكير في إدخال القوات المسلحة في المعترك السياسي بحسبانها القادرة على "إنقاذ" البلاد من الدمار السياسي. ويجب هنا القول بأن كثير من المواطنين كانوا – بصورة عامة – في غاية الاستياء من سلوك ومواقف السياسيين ومن أدائهم في البرلمان. وبدأ عبد الله خليل (وهو رجل عسكري سابق، وكان يشغل أيضاً منصب وزير الدفاع) قبل نحو شهرين من تنفيذ انقلاب 17 نوفمبر 1958م العسكري في عقد محادثات سرية مع الفريق إبراهيم عبود القائد العام للجيش حول ذلك الأمر. وبدوره قام الفريق عبود بعقد اجتماع مع كبار قادة الجيش (أحمد عبد الوهاب وحسن بشير نصر ومحمد أحمد التجاني ومحمد نصر عثمان والخواض محمد أحمد ومحمد أحمد عروة وحسين علي كرار وعوض عبد الرحمن صغير) ناقشوا فيه طلب عبد الله خليل تدخل الجيش لاستلام السلطة وضمان استقرار البلاد. وكان هناك من كبار الضباط من رفض مبدئياً تدخل الجيش في الحكم (رغم أن الكاتب ذكر أنه من الصعوبة التأكد من أنهم عبروا – صراحةً - عن ذلك الرأي في اجتماعهم مع الفريق عبود). وكان بعض أولئك الضباط يرغبون في منع صغار الضباط من التحرك، مما من شأنه تعريض كبار الضباط للخطر. ووورد في تقرير صدر عن لجنة التحقيق في أسباب قيام انقلاب 1958م أن قادة الجيش اعتبروا "طلب" وزير الدفاع لهم باستلام السلطة هو بمثابة أمر عسكري واجب التنفيذ دون سؤال أو مراجعة، وأنهم كانوا يظنون أن تدخل الجيش لن يدوم طويلا. وتقرر في ذلك الاجتماع بين الفريق عبود وكبار الضباط أن يتم تحرك الجيش قبل يوم واحد من موعد اجتماع البرلمان، وذلك لتحاشي إسقاط الحكومة. وتمت أيضا في ذلك الاجتماع مناقشة تركيبة الحكومة الجديدة، وهل ستكون حكومة قومية يكون من ضمن وزرائها عسكريون، ومن أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة؛ أم أنها ستكون حكومة عسكرية خالصة. وقر قرارهم في النهاية على أن تتكون الحكومة الجديدة من كبار قادة الجيش، وأن تضم أيضاً بعض الساسة من "غير المتطرفين".
وتولى الجيش بقيادة الفريق إبراهيم عبود مقاليد السلطة بالبلاد بانقلاب سلمي في 17 نوفمبر 1958م (دأبت الإذاعة السودانية في عهد عبود على ترديد نشيد عن تلك "الثورة البيضاء". المترجم). واذاع الفريق عبود البيان الأول لثورته عدد فيه أخطاء النظام البرلماني السابق مثل الفساد، وسوء استغلال موارد البلاد، والأزمات السياسية الحادة بين الأحزاب، وتشجيع التدخل الخارجي والتعاون مع السفارات الأجنبية، والفوضى في كل المرافق. وأعلن عبود في بيانه الأول كذلك حل جميع الأحزاب السياسية والبرلمان، وعطل صدور جميع الصحف، ومنع قيام المظاهرات والتجمعات، ونفى عن نفسه وزملائه أي سعي لكسب فردي. (يمكن الاستماع لبيان عبود الأول هنا: https://tinyurl.com/542khjbf. المترجم). وكون عبود "المجلس الأعلى للقوات المسلحة برئاسته (وأحتفظ كذلك برئاسة الوزارة وبوزارة الدفاع وقيادة الجيش). وتم تشكيل الوزارة الجديدة من 7 عسكريين و5 مدنيين (كان أحدهم من الجنوبيين). وأعلن عبود حالة الطوارئ بالبلاد، ومنح الوزراء سلطات مطلقة في اعتقال الأشخاص الذين يعارضون السلطة العسكرية الجديدة.
وكانت مشاعر عامة السودانيين تجاه ذلك الانقلاب مختلطة. فقد كان الساخطون على السياسات الحزبية يرغبون في إعطاء النظام العسكري (الذي كانوا يأملون في أن يكون نظاماً مؤقتا فقط) فرصةً لإصلاح الأحوال. بينما لم يقم السياسيون بأي عمل معارض للنظام العسكري إلا بعد مرور عام كامل على استلامه للسلطة. وكان من بين أولئك الساسة عبد الله خليل نفسه. وما كان مهماً بالفعل هو موقف السيد علي الميرغني (زعيم طائفة الختمية) وموقف السيد عبد الرحمن المهدي (زعيم طائفة الأنصار، التي كانت هي الجهة الوحيدة التي كان بمقدورها محاولة التصدي للعسكر، وكان عبد الله خليل يرى أن مثل تلك المواجهة ستكون عملية انتحارية للأنصار). ورحب السيد علي الميرغني بالانقلاب وباركه، بينما قدم السيد عبد الرحمن المهدي ترحيبا لا يخلو من بعض تردد وتأبٍ، باعتبار أن ذلك الانقلاب هو إجراء مؤقت. وتوفي إمام الأنصار في 24 مارس 1959م عن 74 عاما، وخلفه ابنه الصديق، الذي ظل معاديا للطغمة العسكرية (حتى وفاته في 2 أكتوبر 1961م، وهو في الخمسين من العمر. المترجم).
وأفضت الخلافات بين قادة الجيش، وظهور الاختلافات السياسية في أوساطهم إلى إضعاف وحدة وتماسك وتضامن الجيش. وأشتكى اثنان من أولئك القادة المقربين من الحزب الوطني الاتحادي (وهما محي الدين عبد الله وعبد الرحيم شنان) من عدم ضمهما للمجلس العسكري الأعلى، واتهموا أحمد عبد الوهاب، وهو الرجل الثاني في ذلك المجلس (وكان من المتعاطفين مع حزب الأمة)، بتعيين ضابطين آخرين من أتباعه في مكانيهما. وأتبعوا كلمات الاحتجاج بتحريك جزء من قواتهما من شرق وشمال السودان نحو الخرطوم، واعتقلوا أحمد عبد الوهاب مع اثنين من أصدقائه. غير أن تدخل ووساطة السيدين (الميرغني والمهدي) وعبد الله خليل أفلحت في إطلاق سراح أحمد عبد الوهاب وصديقيه، وفي سحب تلك القوات من الخرطوم. وبعد يومين فقط من ذلك عادت القوتان من شرق وشمال السودان إلى الخرطوم، وهما أكثر قوةً وعتاداً لمنع ما كان يخطط ضدهم من أعمال انتقامية. ونتيجة لتلك الأحداث تمت إعادة تشكيل المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وأُخْرِجَ أحمد عبد الوهاب من عضوية المجلس، وأُدْخِلَ في مكانه الضابطان الناقمان محي الدين عبد الله وعبد الرحيم شنان. غير أنها سرعان ما وجدا نفسيهما في مواجهة حسن بشير نصر الذي كان يشغل منصب نائب القائد الأعلى للجيش ووزير شؤون الرئاسة. ولم تجد كل محاولات الصلح بينهم. وسعى محي الدين عبد الله وعبد الرحيم شنان مجدداً لإحضار قواتهما من الشمالية والشرق إلى الخرطوم، إلا أن فصيلين فقط من قوات الشرق بلغ الخرطوم في 22 مايو 1959م، وحاول محي الدين عبد الله إرجاعهما، إلا أنه اُعْتُقِلَ مع عبد الرحيم شنان وقُدم الاثنان لمحكمة عسكرية عاجلة بتهمة التمرد قضت بإعدامهما. وتم في سبتمبر من نفس العام تخفيض الحكم عليهما إلى السجن المؤبد. وتم بعد ذلك طرد العديد من ضباط الجيش الذين اشتركوا في تلك المحاولة من الخدمة، وطُرِدَ أيضاً ضابط آخر من عضوية المجلس العسكري الأعلى لاتهامه بعدم التبليغ عما كان يعلمه عن تلك المؤامرة.
وكانت آخر محاولات الانقلاب العسكري ضد نظام عبود هي ما قام بعض الضباط في التاسع من نوفمبر 1959م. وكانوا من ذوي الرتب الصغيرة (والمتوسطة)، وكان أغلبهم من مدرسة تدريب المشاة بأم درمان. وكان أولئك الضباط أكثر تأثرا بالأفكار المتطرفة للإخوان المسلمين والشيوعيين من كبار ضباط الجيش. وفشلت محاولتهم الانقلابية وقدم قادتهم لمحكمة عسكرية قضت بإعدام خمسة منهم. وتم تنفيذ الحكم عليهم في 21 ديسمبر من ذات العام. وأثارت تلك الاعدامات حفيظة الشعب السوداني، وأصابته بالصدمة، وأفقدت النظام العسكري الكثير من التعاطف الذي كان قد وجده من قبل.
قام النظام العسكري في 8 نوفمبر 1958م بتوقيع اتفاق مع الجمهورية العربية المتحدة لتقسيم مياه النيل. وقضت تلك الاتفاقية بحصول السودان على 18,500 مليون متر مكعب (أي ربع إجمالي التدفق السنوي للنيل)، وتعويض مالي قدره 15مليون جنية سوداني لإعادة توطين النوبيين المتأثرين من جراء إنشاء السد العالي. ولم تجد تلك الاتفاقية ترحيبا عند بعض السودانيين بسبب أن ذلك التعويض كان يقل كثيرا عما طالبت به الحكومة المدنية السابقة (وكان يبلغ 32 مليون جنيه سوداني، إضافة إلى تحمل تكلفة المباني العامة). وشكك البعض الآخر في كيفية وصول النظام العسكري إلى تلك الاتفاقية وهو – في النهاية - نظام "مؤقت". وكان بعض المهندسين يشككون في جدوى بناء "السد العالي" ويفضلون بتاء سلسلة من السدود الصغيرة على مجرى النيل.
ومع حلول العيد الأول لانقلاب 17 نوفمبر، وبعد استقرار النظام وتذوق قادته للسلطة، نسي الفريق عبود وزملائه الطبيعة المؤقتة لنظامهم، وشرعوا في تطويره، ووضعوا في تقديرهم وحسبانهم أنه أكثر استدامةً. غير أن ذلك التفكير الرغائبي لم يجد موافقة عند كثير من أفراد الشعب السوداني، الذين كانوا لا يثقون في مقدرة الضباط على إنجاز الكثير في المجالات السياسية.
******* ******* ******
تناول الكاتب في نحو عشر صفحات الجهود السياسية التي بذلتها الأحزاب السياسية في معارضة الحكم العسكري، والتي كانت بمثابة بذور ثورة أكتوبر. وذكر أنه "على مدى السنوات الخمس التالية، حملت مجموعة سياسية أو أخرى شعلة مقاومة الحكم العسكري. وكانت شعلة المقاومة تلك قد تأججت بفعل إخفاقات النظام العسكري نفسه"؛ وأن الصديق عبد الرحمن المهدي زعيم الأنصار كان – إلى يوم وفاته - هو "محور الارتكاز" في معارضة الطغمة العسكرية والمطالبة بالعودة لنظام حكم ديمقراطي. وكان الصديق قد بعث للرئيس عبود في 21 أكتوبر عام 1959م بسلسلة من المذكرات حول الأوضاع السياسية بالبلاد، جاء في بعضها أنه كان – مثل أبيه – يؤيد النظام العسكري على اعتبار أنه نظام مؤقت، سيقوم بإفساح المجال لحكومة (مدنية) من خلال التشاور والمؤسسات الديمقراطية. وذكر الصديق أيضاً أنه بعد مضي عشرة أشهر صار مقتنعاً – لعدد من الأسباب – أن من واجبه تجاه البلاد وشعبها مطالبة المجلس الأعلى للقوات المسلحة بعودة الجيش إلى ثكناته، وأن يفرغ العسكريون لأداء واجبهم الوطني في حماية البلاد من الأخطار الخارجية، عوضاً عن التدخل في السياسة. وفصل الصديق المهدي كيفية العودة لتطبيق نظام ديمقراطي بالبلاد (وتفاصيل كل ذلك مذكورة في كتاب الصادق المهدي "جهاد في سبيل الديمقراطية: مطلب الأمة". المترجم). ولم تلق السلطات العسكرية الحاكمة بالاً لتلك المذكرات. وبعد ذلك أرسل إسماعيل الأزهري زعيم الحزب الوطني الاتحادي برسالة مماثلة لما أرسله الصديق المهدي للنظام العسكري. وكان ذلك هو بداية التعاون المشترك بين حزب الأمة والحزب الوطني الاتحادي في معارضة نظام نوفمبر. وانضم الشيوعيون و"الاخوان المسلمون" لاحقا لذلك التحالف السياسي الذي سُمِّيَ "الجبهة الوطنية المتحدة". ثم اجتمع الصديق المهدي في 17 فبراير 1961م ببعض أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة وكرر على مسامعهم نفس المطالب التي سجلها في مذكراته السابقة. ورد عليه عضو المجلس العميد المقبول الأمين الحاج بما يفيد أن نظامهم هو بالفعل "نظام مؤقت"، غير أنه لا ينبغي لأحد تحديد فترة بقائه في الحكم، وأنهم ليسوا في عجلة من أمرهم، إذ أن البرنامج الذي وضعوه يسير بوتيرة جيدة. وذكر العميد المقبول في لقاء آخر مع الصديق المهدي أن "الجيش قد أتى للحكم بالقوة، ولن يسلم السلطة إلا بالقوة". وتوقفت مثل تلك اللقاءات بعد 12 مارس 1961م. وقامت الحكومة بعد ذلك بحظر نشاط "منظمة شباب الأنصار"، وحددت تحركات الصديق المهدي وأحمد المهدي. واحتجت "الجبهة الوطنية المعارضة" على حادثة تعذيب معارض شيوعي مسجون في مدينة الأبيض، فبعث اثنا عشر سياسيا معارضا (منهم الصادق المهدي وإسماعيل الأزهري وعبد الخالق محجوب وعبد الله خليل) في 7 يوليو 1961م ببرقية احتجاج على فظائع الحكومة. وبعد أربعة أيام على تلك البرقية تم اعتقال كل من وقعوا عليها (باستثناء الصادق المهدي) ونُفُوا إلى مدينة جوبا. وكان هذا سبب آخر من أسباب نقمة الشعب السوداني (خاصة الطلاب والعمال) على الطغمة العسكرية. وهدد المعتقلون في يناير 1962م بالإضراب عن الطعام، فتم إطلاق سراحهم وأُعِيدُوا للخرطوم قبل أيام من بدء ذلك الإضراب. وفسر البعض ذلك على أنه يدل على شعور الحكومة بالأمن والأمان وبقدرتها على اجتثاث كل تحدٍ يواجهها.
وفي أغسطس 1961 وقع صدام مسلح بين أفراد من "شباب الأنصار" ورجال الشرطة في ميدان المولد النبوي بأم درمان نتج عنه مقتل 12 من أولئك الشباب و5 من رجال الشرطة. وخلافا ما توقعه البعض، لم يقابل الصديق المهدي عنف الحكومة بعنف مماثل، ومنع أنصاره من الاستجابة لذلك العنف.
عَابَ الكاتب على "الجبهة الوطنية المتحدة" عدم انتاجها لأي برنامج سياسي متماسك ومقنع بالنسبة لمنتقدي السياسات الحزبية كما كانت تُمَارَسُ في غضون السنوات الأربع من "الحكم الذاتي". واستثنى الكاتب من ذلك الحزب الشيوعي (الذي كان يمارس نشاطه بصورة غير قانونية)، وإلى حد ما، حركة الإخوان المسلمين، والذين كان لهم نهج إيديولوجي مقنع لحل مشاكل السودان (الراهنة). ووقع عبء معارضة النظام العسكري على هذين التنظيمين الأيديولوجيين؛ الذين توليا تلك المهمة بالتغلغل في أوساط الطلاب والعمال والمزارعين والهيئات والمنظمات المهنية. وبالفعل واصلت مجموعات الضغط المختلفة تلك مناكفة ومعارضة النظام العسكري حتى سقط.
وأفْرَدَ الكاتب عدداً من الفقرات لنشاط الحزب الشيوعي والمنظمات العمالية والشبابية والطلابية التي تتبع له في معارضة نظام عبود؛ ولما تعرض له قادة وأعضاء ذلك الحزب وصحيفته من قمع متواصل من النظام، وخضوع للمحاكم العسكرية. وذكر أن الشيوعيين واصلوا رغم ذلك في معارضة النظام بتوزيع المنشورات السرية.
كذلك تناول الكاتب النشاط الطلابي (الذي قاده اتحاد طلاب جامعة الخرطوم) المعارض لطغمة نوفمبر العسكرية منذ سبتمبر 1959م، ومحاولات الحكومة إحداث تغييرات في إدارة جامعة الخرطوم بجعل رئيس الدولة هو رئيس الجامعة (chancellor). وفي 5 نوفمبر 1963م صدر قرار بوضع جامعة الخرطوم تحت إشراف وزارة التعليم. وقُوبِلَ ذلك القرار بمعارضة قوية من الطلاب والأساتذة. وغدا طلاب الجامعة هم طلائع المنادين بالعودة لحكم مدني ديمقراطي. وبذا لم يكن مستغرباً أن يشعل طلاب الجامعة شرارة ثورة أكتوبر1964م.
وتطرق الكاتب أيضاً لما قام به نظام 17 نوفمبر من محاولات بناءة للعودة لمؤسسات ديمقراطية. فأعلن عبود في 17 نوفمبر 1959م عن تكوين لجنة برئاسة محمد أحمد أبو رنات (رئيس القضاء) لإصلاح نظام الحكومات المحلية بالبلاد. وأُدْخِلَتْ توصيات تلك اللجنة في "قانون إدارة المديريات" الذي صدر عام 1960م، الذي شُكِلَتْ بموجبه مجالس ريفية وبلدية ومجالس للمديريات تتمتع بسلطات استشارية في الأمور المحلية التي تخص القرى والدساكر والمدن والمديريات. وكان اختيار أعضاء تلك المجلس يتم جزئيا بالانتخاب وجزئيا بالتعيين (مع احتفاظ المسؤول الحكومي بحقه في رفض ترشيح أي متقدم إن كان يرى أن ذلك ليس في المصلحة العامة).
وفي الأول من يوليو1961م عين الرئيس عبود أبو رنات رئيساً لمفوضية ثانية للدستور مهمتها إدخال الانتخابات في المجالس المحلية، وتشكيل "مجلس تشريعي مركزي" يتكون من 72عضوا (54 منهم تختارهم مجالس المديريات، و18 يختارهم الرئيس بنفسه). وتؤول لذلك المجلس المركزي التشريعي وللرئيس كل السلطات التشريعية بالبلاد. وكانت حقيقة أن رئيس وزعيم المجلس كانا من كبار ضباط الجيش قد أضعفت كثيرا من فعاليته الديمقراطية، ومن قبول الشعب السوداني به. وقاطعت الأحزاب السياسية (عدا الحزب الشيوعي السوداني) انتخابات ذلك المجلس المركزي، الذي كان يفتقر للتأييد الشعبي، رغم أن بعض أعضائه ناقشوا لاحقاً بعض مشاكل البلاد الاقتصادية وقضايا الفساد وجنوب السودان (انظر مقال ب. شارما المترجم بعنوان: الانتخابات في السودان خلال العهد العسكري هنا: https://tinyurl.com/2u5ahwrm .المترجم).
أشار الكاتب إلى أن سلوك ضباط الجيش (الذين صاروا – إلى حد ما - من النخب الصفوية المميزة) لم يساعد على تحسين صورة الحكومة عند المواطنين. فقد انتشرت في البلاد شائعات عن الفساد والأفعال غير الأخلاقية، إضافة لاستيلاء البعض على الأراضي الحكومية من دون وجه حق، والمحسوبية في منح الرخص التجارية، والافراط في الانفاق على وزارة الدفاع ومجالس المديريات، والصرف البذخي على الإعلام، خاصة على محطة تلفزيون لا يتعدى بثها العاصمة، وإرسال أقرباء كبار المسؤولين إلى أوروبا للعلاج على نفقة الدولة. وتدهورت الأحوال الاقتصادية بالبلاد. واضطرت الحكومة – مع ارتفاع كل تلك النفقات - لزيادة الضرائب على سلع ضرورية مثل السكر، مما فاقم من سخط المواطنين وزاد من نقمتهم من الحكومة.
تناول الكاتب أيضاً مسالة إعادة استيطان سكان وادي حلفا بعد قيام السد العالي، والمشاكل التي أحاطت بتلك المسألة. وتطرق لسياسة حكومة عبود في جنوب السودان، وعن الندوات التي أقيمت بجامعة الخرطوم لمناقشة تلك القضية، خاصة تلك الندوة التي أقيمت مساء الأربعاء 21 أكتوبر، واقتحام الشرطة العنيف لداخليات الطلاب حيث مكان إقامة الندوة، والذي أفضى لمقتل الطالب أحمد القرشي. وذكر أن مقتل ذلك الطالب "الذي ربما كان حدثاً عرضياً" هو الذي أدى لاندلاع المظاهرات الاحتجاجية ضد الطغمة العسكرية.
ثورة أكتوبر
ذكر الكاتب أنه لن يقوم بتقديم وصف مفصل لأحداث تلك الثورة، غير أنه سيبرز تصميم السودانيين العزل (بقيادة طبقة المثقفين- الانتلجنسيا) وقوتهم الأخلاقية التي أفلحت في إسقاط الحكم العسكري.
1/ في يوم الخميس 22 أكتوبر أغلقت السلطات جامعة الخرطوم، غير أن الطلاب رفضوا مغادرة داخلياتهم. وفي نفس اليوم قدم أساتذة الجامعة استقالاتهم، وأعلنوا انهم لن يسحبوها إلا بعد سقوط النظام العسكري، وإقامة نظام دستوري يضمن استقلالية الجامعة. كان ذلك يعني فعليا بداية الأضراب السياسي، الذي أخذ به (لاحقاً) بقية المهنيين. وكان موكب تشييع أحمد القرشي، الذي شارك فيه عشرات الآلاف من المواطنين، مظاهرةً ضخمة ضد النظام مِنْ الطِّراز الأوّل. وأعقب ذلك الموكب قيام الجماهير بمظاهرات حاشدة في أرجاء العاصمة المثلثة، حدثت (في قليل منها. المترجم) حالات تخريب. وفي مساء ذلك اليوم شرعت القوات النظامية وهي على دباباتها وعرباتها المصفحة بالطواف في دوريات حراسة على شوارع العاصمة. غير أن ذلك لم يَفُت فِي عَضُدِ المدنيين من أجل المضي قدما في تحدي النظام والسعي لإسقاطه.
2/ في يوم الجمعة 23 أكتوبر تواصلت المظاهرات، وكان المتظاهرون أفضل تنظيما في هذا اليوم من اليوم السابق. وكون أساتذة الجامعة مع المهنيين الآخرين (مثل القضاة والمحامين والمهندسين والأطباء) واتحاد نقابات عمال السودان واتحاد مزارعي مشروع الجزيرة تنظيما موحدا اسموه "جبهة الهيئات" دعا لقيام إضراب مدني عام بالبلاد. وقامت الأحزاب السياسية التقليدية (مثل الأمة والحزب الوطني الاتحادي) والشيوعيون والإخوان المسلمين بإحياء معارضتها القديمة للنظام العسكري في تنظيم أسموه "الجبهة القومية". وعملت الجبهتان معاً حتى نجحت الثورة. وعلى الرغم من أن كل قطاعات الشعب السوداني كانت قد شاركت في الثورة، إلا أن الشيوعيين كانوا هم من أدوا أكبر دور فعال في تنظيم المظاهرات والتجمعات.
3/ في يوم السبت 24 أكتوبر، وعلى الرغم من فرض السلطات لحظر للتجوال، تجمعت أعداد كبيرة من ممثلي المهنيين - على رأسهم المحامين - وأفراد عامة الشعب (أمام مبنى القضائية) بغرض تقديم مذكرة احتجاج إلى الرئيس عبود ضد ممارسات الحكومة البالغة العنف، غير أن قوات الأمن منعتهم من التقدم، وأحاطت بهم. وأعلن (عابدين إسماعيل نقيب المحامين) للجماهير عن بدء الإضراب السياسي العام، فتفرقوا. (كما ورد في "يوميات ثورة أكتوبر" لكليف طومسون سمحت السلطات، بعد شد وجذب، لوفد صغير من المحتجين بتقديم تلك المذكرة لمسئول في القصر الجمهوري. المترجم).
4/ في يوم الأحد 25 أكتوبر وضح جلياً أن الإضراب قد نجح نجاحاً كبيراً، فقد شل دولاب العمل بالبلاد تماماً، وأوقف جميع الاتصالات، وتم إغلاق المتاجر. واِستَمَرّ الحال هكذا لأربعة أيام متوالية. وتكرر ما حدث في الخرطوم في بقية مدن البلاد المختلفة، إلا أن عنف القوات الأمنية فيها كان أقل وطأة مما شهدته الخرطوم. بل إن بعض المدن الأخرى قررت مساعدة جماهير العاصمة في الإطاحة بالديكتاتورية العسكرية؛ فبعثت مدينة كسلا (التي تبعد نحو 500 كيلومتر شرق الخرطوم) بقطار محمل بالمواطنين ليساند جماهير العاصمة.
ربما كان ذلك المزاج العام الذي اتسم بالتصميم والوحدة هو الذي منع الطغمة العسكرية من اتخاذ إجراءات فورية ومتناسقة ومتضافرة. ولم يكن العسكريون يتوقعون مثل تلك الدرجة العالية من التحدي الكامل. وبالإضافة لذلك، كان معظم أفراد الجيش السوداني في تلك الأيام يقاتلون في جنوب البلاد. وفي الواقع، بدا أن السرعة التي تجمع بها الدعم للثورة، وانعدام الثقة المتبادلة بين الضباط، قد شل قدرتهم على التحرك السريع لقمع الثورة. وكان بعض أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة، بقيادة حسن بشير نصر، قد دعوا لاتخاذ موقف أكثر صرامة وحسماً ضد المتظاهرين. غير أن ذلك لم يكن ممكنا بسبب موقف الضباط اللبراليين، الذي رفضوا إطلاق الرصاص على المواطنين العزل، بل دعوا لحل المجلس الأعلى للقوات المسلحة. ونتيجةً لتلك الضغوط المتزايدة، بدأ الرئيس عبود وزملائه في التنازل. ففي الساعة الثامنة والنصف من مساء الاثنين 26 أكتوبر أذاع عبود للأمة بياناً أعلن فيه عن حل المجلس الأعلى للقوات المسلحة ومجلس الوزراء (* انظر نص البيان في نهاية المقال. المترجم) وتلقت الجماهير ذلك النبأ بفرح عظيم، فقد كانت هذه أول إنجازات ثورتهم الشعبية ونجاحها الأول. وبقي أمل الجماهير معلقاً بالمفاوضات بين ممثلي "الجبهة القومية الموحدة" وممثلين للقوات المسلحة (لم يكن من بينهم أي عضو في المجلس الأعلى للقوات المسلحة المحلول)، التي كان هدفها هو تصفية الحكم العسكري. وبدأت المفاوضات في يوم الثلاثاء 27 أكتوبر وشرعت في بحث أفضل الطرق والوسائل التي يمكن بها الوصول لتسوية سياسية. غير أنه بدا بعد ذلك أن الرئيس عبود قد غير رأيه عندما أعلن في مؤتمر صحفي عن نيته في تكوين مجلس أعلى جديد للقوات المسلحة، ودعوة "المجلس المركزي" للانعقاد لمناقشة أحداث تلك الأيام. ورفض ممثلو "الجبهة القومية الموحدة" بصورة قاطعة ما أتى به عبود. وكان مما عزز موقفهم هو استمرار الإضراب العام وتواصل المظاهرات. وزاد من أوار تلك المظاهرات ما تناقله الناس عن قرب وقوع انقلاب عسكري مضاد، فتوجهوا نحو القصر الجمهوري الذي كان محاطاً بحراسة مسلحة كثيفة. وأطلق أولئك الجنود النار على المتظاهرين فقتلوا منهم عشرين فرداً، وجرحوا نحو مِئة متظاهر. وقيل إن ضابطا كبيراً هو من كان قد أصدر الأمر بإطلاق النار (ذكرت المؤرخة ويليو بيريدج في كتابها عن انتفاضتي أكتوبر 1964م وأبريل 1985م بأن الضابط زين العابدين محمد أحمد عبد القادر أقر بأن فرقته هي من أطلقت النيران، ولكن لم يكن ذلك بأمر منه، إذ أن بعض الجنود تصرفوا بطريقة فردية وأطلقوا النار بصورة عشوائية على متظاهرين رفضوا الامتثال لتحذيرات القوات لهم من التقدم نحو القصر. المترجم). وزادت تلك الحوادث موقف المفاوضين المدنيين صلابةً.
وتواصلت المفاوضات من أجل الوصول إلى حل يرضي الطرفين. وبحلول صباح الجمعة 29 أكتوبر، اختفت كل نقاط الخلاف، وتم التوصل لاتفاق مكون من تسع نقاط شملت المطالبات الرئيسية التي قدمها المدنيون (في هذا الرابط يمكن الاطلاع على بنود ميثاق ثورة أكتوبر الذي وقع عليه ممثلو الأحزاب السودانية وجبهة الهيئات والتجار: https://tinyurl.com/mtyayzzd . المترجم). وبقي عبود في منصبه، رئيسا وقائداً للجيش. غير أنه سرعان ما تعرض لضغوط دعته للاستقالة من منصبيه وذلك في منتصف نوفمبر 1964م.
وفي يوم 30 أكتوبر 1964م تكونت حكومة انتقالية ضمت ممثلين لكل الأحزاب السياسية ونقابات العمال والمزارعين. وبذا تكون الثورة قد حققت كل أهدافها الآنية بسرعة وبالقليل من إراقة الدماء، بشكل ملحوظ. ولم يتضح بعد ما إذا كانت تطلعات الثوار المفكرين خلال ست سنوات من معارضة الاستبداد العسكري قد حققت تسوية دائمة.
___ _______ _______
*بيان الفريق إبراهيم عبود مساء الأثنين 26 أكتوبر 1964م أيها المواطنون: أحييكم أطيب تحية.
فقد كنت في مناسبات كثيرة مضت قد تحدثت إليكم أن جيشكم الباسل عندما تقلد زمام الحكم لم يكن ينوي أن يبقى فيه الى الأبد. وقد وضعنا كما تعلمون مخططا معينا بغرض نقل إدارة شؤون البلاد وحكمه ووضع دستور يرتضيه أبناء هذا البلد. كل ذلك في خطوات متئدة وتروٍ تام لنأخذ النظام السياسي الذي نرنو إليه كاملا ومتينا. والآن بناءً على رغبة الشعب الجامعة وكخطوة أولى للإسراع نحو تحقيق هذا الهدف المنشود فقد قررت الآتي:
أولاً: حل المجلس الأعلى للقوات المسلحة
ثانياً: حل مجلس الوزراء. كما أنني سأحتفظ في الوقت الحالي بكل سلطاته الدستورية إلى أن أشرف بنفسي على إتمام الوضع النهائي الذي يرتضيه شعبنا الكريم.
أيها المواطنون: لقد طلبت منكم في حديثي إليكم أمس واليوم أن تلتزموا جانب الهدوء والسكينة وأن تكفوا عن عمل التخريب والإرهاب فهي أعمال بغيضة لكم ولي ولا تعود علينا إلا بالضرر والخسارة. وأنا الآن أطلب منكم مرة أخرى الكف عن الأعمال التخريبية فإن ما حدث فيه الكفاية. كما أطلب أيضاً أن يعود كل منكم إلى عمله بروح طيب وعملية وبهذا وحده وتحت ظل الهدوء والسكينة يمكنني تحقيق رغباتكم وأنتم وجيشكم الباسل يد واحدة. عاش السودان والعزة لشعبنا والسلام عليكم.
المصدر: https://tinyurl.com/3ur937fj
alibadreldin@hotmail.com
/////////////////////////
The Sudanese Revolution of October 1964
الأستاذ الدكتور يوسف فضل حسن
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذه ترجمه مختصرة لمقال للأستاذ الدكتور يوسف فضل حسن (1931م - ) نُشِرَ عام 1967م في الجزء الرابع من المجلد الخامس لمجلة The Journal of Modern African Studies مجلة الدراسات الأفريقية الحديثة (ص 491 – 509).
استشهد الكاتب في مقاله بعدد كبير من المصادر منها التقرير الذي أصدرته وزارة العدل عام 1965م بعنوان: "التحقيق في الأسباب التي أدت إلى انقلاب 17 نوفمبر 1958م)، وكتاب "ثورة شعب" الذي أصدره الحزب الشيوعي السوداني عام 1965م، وكتاب الصادق المهدي "جهاد في سبيل الديمقراطية" بدون تاريخ، وعدد من الكتب والأوراق التي نشرها بعض الكتاب الغربيين مثل هولت وهندرسون وكيلنير؛ إضافة لما ورد في صحيفتي الأيام" و"الصحافة" في أيام الثورة.
والأستاذ الدكتور يوسف فضل حسن غنِيّ عن التَّعريف، ويمكن الاطلاع على سيرته الذاتية ومؤلفاته في هذا الرابط: https://tinyurl.com/53skxv9s .
الشكر موصول لأستاذ محمد عمر الامين البشير لإرساله لي المقال لترجمته.
المترجم
*********** ************ **************
تناول الكاتب في مقدمة ضرورية وطويلة نسبيا (أتت في أكثر من 15 صفحة) خلفية الأحداث التي جرت بالسودان منذ سقوط الدولة المهدية "تحت نيران مدافع رجال الحملة الإنجليزية – المصرية"، وقيام الحكومة الكلولونيالية (التي كان للبريطانيين نصيب الأسد فيها) بفرض السيطرة على البلاد وإدخال المفاهيم الغربية في إدارتها. وذكر أن كل محاولات السودانيين لتحدي تلك الحكومة قد فشلت بصورة تامة بعد عام 1924م، وأن المتعلمين السودانيين - مثلهم مثل غيرهم في آسيا وافريقيا – طالبوا بحق تقرير مصيرهم. ثم تطرق الكاتب لتاريخ نشأة الأحزاب السودانية في ذلك العهد، ولمحاولة البريطانيين إنشاء مؤسسات تشابه مؤسسات "الديمقراطية الغربية" في البلاد مثل المجلس الاستشاري لشمال السودان في 1946م، ثم الجمعية التشريعية في عام 1948م، التي كانت لها بعض السلطات. وذكر بأن السودان، كان - وإلى وقت قريب - يتكون من وحدات قبلية، ليس فيها من طبقات أو امتيازات اجتماعية، وأن زعيم القبيلة لم يكن سوى "الرجل الأول بين رجال متساوين"، لذا لم يكن سكان السودان معتادين على الخضوع لحكم استبدادي. ثم تناول المقال ببعض التوسع قيام أول زارة سودانية، وما دار بعد ذلك من صراعات وتحالفات حزبية. فقد ساءت العلاقة بين طائفة الختمية وبين إسماعيل الأزهري (أول رئيس للوزراء) مما أضطره في 26 فبراير 1956م لتشكيل حكومة قومية. وأدى ذلك الخلاف لخروج "الختمية" من حزب الأزهري (الحزب الوطني الاتحادي) وتشكيل حزب جديد هو "حزب الشعب الديمقراطي". وسرعان ما سقطت حكومة الأزهري وتولى عبد الله خليل سكرتير حزب الأمة رئاسة الوزارة في 7 يوليو 1956م. وأقيمت انتخابات عامة في شهري فبراير ومارس من عام 1958م نال فيها حزب الأمة 63 مقعدا، وحزب الشعب الديمقراطي 27 مقعدا، مقارنة بـ 46 مقعداً للحزب الوطني الاتحادي، و38 مقعدا للأحزاب الجنوبية. واستطاع عبد الله خليل تشكيل حكومته، إلا أنه وُوجِهَ بخلافات عميقة مع حزب الشعب الديمقراطي، شريكه في الحكم، خاصة حول مسألتي كتابة دستور دائم للبلاد، وإصلاح الأوضاع الاقتصادية المتدهورة بها. فقد كان عبد الله خليل يرى أن السودان بحاجة إلى عون خارجي (يبلغ 137 مليون جنيه سوداني) لتمويل خطة التنمية الثالثة (1956 – 1961م). ولم تكن موارد البلاد المحلية تكفي لسداد ذلك المبلغ، خاصةً مع فشل الحكومة ذلك العام في بيع القطن (وهو مصدر دخلها الأكبر). وجاء عرض الحكومة الأمريكية (برئاسة ايزنهاور) في عام 1957م لتقديم معونة للسودان وحل مشكلة التمويل لخطة التنمية تلك. وكما هو متوقع رفض نواب حزب الشعب الديمقراطي (وقليل من نواب حزب الأمة) القبول بتلك المعونة، بذريعة ما قد يتبعها من تداعيات سياسية وعسكرية. غير أنه تم في نهاية المطاف قبول حكومة عبد الله خليل بالمعونة الفنية والاقتصادية الأمريكية في مارس 1958م، وأجازها البرلمان في يوليو من ذات العام. وتم تعليق أعمال البرلمان لبضعة أشهر لتحاشي انتقادات وضغوط المعارضة التي هددت بإسقاط الحكومة. وتأخرت أعمال اللجنة القومية لوضع دستور مستدام لجمهورية السودان، التي كانت قد بدأت أعمالها منذ عام 1956، بسبب مسألتين مثيرتين للجدل هما: مطالبة الجنوبيين منذ عام 1955م بتشكيل حكومة إقليمية، ونظام الرئاسة الذي يجب أن يعتمده السودان. وعندما تمت مناقشة مسألة المعونة الأمريكية في يونيو 1958م، انسحب ممثلو الحزب الوطني الاتحادي من اللجنة، في حين صار ممثلو حزب الشعب الديمقراطي أقل تعاوناً، وبدأوا في التغيب عن اجتماعات اللجنة عندما أدركوا أن عبد الله خليل كان مصمماً على اقتراح مفاده تسمية السيد عبد الرحمن المهدي رئيسا فخريا للدولة. وبالطبع لم يكن السيد علي الميرغني وأنصاره يرحبون بمثل تلك الخطوة، إذ أنها كانت سترفع من شأن خصمهم اللَّدُود. (استشهد الكاتب هنا بما ذكره ك. د. هندرسون في كتابه Sudan Republic الصادر عام 1965م ص 109. المترجم). وتضعضع الائتلاف بين حزب الأمة وحزب الشعب الديمقراطي بسبب تَيْنِكَ المسألتين. وسرعت إشاعات بأن السلطات المصرية تتدخل في الشؤون السودانية وتغدق الأموال على بعض النواب للتأثير على خياراتهم.، التي قد تكون مغايرة لسياسة أحزابهم نفسها. وفكر بعض ساسة حزب الأمة في إمكانية التحالف مع الحزب الوطني الاتحادي وتكون حكومة قومية جديدة تكون أكثر استقرارا. وفي ذلك الأثناء كان زعيما الحزب الوطني الاتحادي وحزب الشعب الديمقراطي (الأزهري وعلي عبد الرحمن) يجريان اتصالات مع جمال عبد الناصر. وأثار ذلك خوف عبد الله خليل من أن يتحد الحزبان مرة أخرى، وهذا مما من شأنه أن يعزز من النفوذ المصري في السودان.
وأفضت تلك الأوضاع السياسية "الفوضوية" (كما سماها الكاتب. المترجم) للتفكير في إدخال القوات المسلحة في المعترك السياسي بحسبانها القادرة على "إنقاذ" البلاد من الدمار السياسي. ويجب هنا القول بأن كثير من المواطنين كانوا – بصورة عامة – في غاية الاستياء من سلوك ومواقف السياسيين ومن أدائهم في البرلمان. وبدأ عبد الله خليل (وهو رجل عسكري سابق، وكان يشغل أيضاً منصب وزير الدفاع) قبل نحو شهرين من تنفيذ انقلاب 17 نوفمبر 1958م العسكري في عقد محادثات سرية مع الفريق إبراهيم عبود القائد العام للجيش حول ذلك الأمر. وبدوره قام الفريق عبود بعقد اجتماع مع كبار قادة الجيش (أحمد عبد الوهاب وحسن بشير نصر ومحمد أحمد التجاني ومحمد نصر عثمان والخواض محمد أحمد ومحمد أحمد عروة وحسين علي كرار وعوض عبد الرحمن صغير) ناقشوا فيه طلب عبد الله خليل تدخل الجيش لاستلام السلطة وضمان استقرار البلاد. وكان هناك من كبار الضباط من رفض مبدئياً تدخل الجيش في الحكم (رغم أن الكاتب ذكر أنه من الصعوبة التأكد من أنهم عبروا – صراحةً - عن ذلك الرأي في اجتماعهم مع الفريق عبود). وكان بعض أولئك الضباط يرغبون في منع صغار الضباط من التحرك، مما من شأنه تعريض كبار الضباط للخطر. ووورد في تقرير صدر عن لجنة التحقيق في أسباب قيام انقلاب 1958م أن قادة الجيش اعتبروا "طلب" وزير الدفاع لهم باستلام السلطة هو بمثابة أمر عسكري واجب التنفيذ دون سؤال أو مراجعة، وأنهم كانوا يظنون أن تدخل الجيش لن يدوم طويلا. وتقرر في ذلك الاجتماع بين الفريق عبود وكبار الضباط أن يتم تحرك الجيش قبل يوم واحد من موعد اجتماع البرلمان، وذلك لتحاشي إسقاط الحكومة. وتمت أيضا في ذلك الاجتماع مناقشة تركيبة الحكومة الجديدة، وهل ستكون حكومة قومية يكون من ضمن وزرائها عسكريون، ومن أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة؛ أم أنها ستكون حكومة عسكرية خالصة. وقر قرارهم في النهاية على أن تتكون الحكومة الجديدة من كبار قادة الجيش، وأن تضم أيضاً بعض الساسة من "غير المتطرفين".
وتولى الجيش بقيادة الفريق إبراهيم عبود مقاليد السلطة بالبلاد بانقلاب سلمي في 17 نوفمبر 1958م (دأبت الإذاعة السودانية في عهد عبود على ترديد نشيد عن تلك "الثورة البيضاء". المترجم). واذاع الفريق عبود البيان الأول لثورته عدد فيه أخطاء النظام البرلماني السابق مثل الفساد، وسوء استغلال موارد البلاد، والأزمات السياسية الحادة بين الأحزاب، وتشجيع التدخل الخارجي والتعاون مع السفارات الأجنبية، والفوضى في كل المرافق. وأعلن عبود في بيانه الأول كذلك حل جميع الأحزاب السياسية والبرلمان، وعطل صدور جميع الصحف، ومنع قيام المظاهرات والتجمعات، ونفى عن نفسه وزملائه أي سعي لكسب فردي. (يمكن الاستماع لبيان عبود الأول هنا: https://tinyurl.com/542khjbf. المترجم). وكون عبود "المجلس الأعلى للقوات المسلحة برئاسته (وأحتفظ كذلك برئاسة الوزارة وبوزارة الدفاع وقيادة الجيش). وتم تشكيل الوزارة الجديدة من 7 عسكريين و5 مدنيين (كان أحدهم من الجنوبيين). وأعلن عبود حالة الطوارئ بالبلاد، ومنح الوزراء سلطات مطلقة في اعتقال الأشخاص الذين يعارضون السلطة العسكرية الجديدة.
وكانت مشاعر عامة السودانيين تجاه ذلك الانقلاب مختلطة. فقد كان الساخطون على السياسات الحزبية يرغبون في إعطاء النظام العسكري (الذي كانوا يأملون في أن يكون نظاماً مؤقتا فقط) فرصةً لإصلاح الأحوال. بينما لم يقم السياسيون بأي عمل معارض للنظام العسكري إلا بعد مرور عام كامل على استلامه للسلطة. وكان من بين أولئك الساسة عبد الله خليل نفسه. وما كان مهماً بالفعل هو موقف السيد علي الميرغني (زعيم طائفة الختمية) وموقف السيد عبد الرحمن المهدي (زعيم طائفة الأنصار، التي كانت هي الجهة الوحيدة التي كان بمقدورها محاولة التصدي للعسكر، وكان عبد الله خليل يرى أن مثل تلك المواجهة ستكون عملية انتحارية للأنصار). ورحب السيد علي الميرغني بالانقلاب وباركه، بينما قدم السيد عبد الرحمن المهدي ترحيبا لا يخلو من بعض تردد وتأبٍ، باعتبار أن ذلك الانقلاب هو إجراء مؤقت. وتوفي إمام الأنصار في 24 مارس 1959م عن 74 عاما، وخلفه ابنه الصديق، الذي ظل معاديا للطغمة العسكرية (حتى وفاته في 2 أكتوبر 1961م، وهو في الخمسين من العمر. المترجم).
وأفضت الخلافات بين قادة الجيش، وظهور الاختلافات السياسية في أوساطهم إلى إضعاف وحدة وتماسك وتضامن الجيش. وأشتكى اثنان من أولئك القادة المقربين من الحزب الوطني الاتحادي (وهما محي الدين عبد الله وعبد الرحيم شنان) من عدم ضمهما للمجلس العسكري الأعلى، واتهموا أحمد عبد الوهاب، وهو الرجل الثاني في ذلك المجلس (وكان من المتعاطفين مع حزب الأمة)، بتعيين ضابطين آخرين من أتباعه في مكانيهما. وأتبعوا كلمات الاحتجاج بتحريك جزء من قواتهما من شرق وشمال السودان نحو الخرطوم، واعتقلوا أحمد عبد الوهاب مع اثنين من أصدقائه. غير أن تدخل ووساطة السيدين (الميرغني والمهدي) وعبد الله خليل أفلحت في إطلاق سراح أحمد عبد الوهاب وصديقيه، وفي سحب تلك القوات من الخرطوم. وبعد يومين فقط من ذلك عادت القوتان من شرق وشمال السودان إلى الخرطوم، وهما أكثر قوةً وعتاداً لمنع ما كان يخطط ضدهم من أعمال انتقامية. ونتيجة لتلك الأحداث تمت إعادة تشكيل المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وأُخْرِجَ أحمد عبد الوهاب من عضوية المجلس، وأُدْخِلَ في مكانه الضابطان الناقمان محي الدين عبد الله وعبد الرحيم شنان. غير أنها سرعان ما وجدا نفسيهما في مواجهة حسن بشير نصر الذي كان يشغل منصب نائب القائد الأعلى للجيش ووزير شؤون الرئاسة. ولم تجد كل محاولات الصلح بينهم. وسعى محي الدين عبد الله وعبد الرحيم شنان مجدداً لإحضار قواتهما من الشمالية والشرق إلى الخرطوم، إلا أن فصيلين فقط من قوات الشرق بلغ الخرطوم في 22 مايو 1959م، وحاول محي الدين عبد الله إرجاعهما، إلا أنه اُعْتُقِلَ مع عبد الرحيم شنان وقُدم الاثنان لمحكمة عسكرية عاجلة بتهمة التمرد قضت بإعدامهما. وتم في سبتمبر من نفس العام تخفيض الحكم عليهما إلى السجن المؤبد. وتم بعد ذلك طرد العديد من ضباط الجيش الذين اشتركوا في تلك المحاولة من الخدمة، وطُرِدَ أيضاً ضابط آخر من عضوية المجلس العسكري الأعلى لاتهامه بعدم التبليغ عما كان يعلمه عن تلك المؤامرة.
وكانت آخر محاولات الانقلاب العسكري ضد نظام عبود هي ما قام بعض الضباط في التاسع من نوفمبر 1959م. وكانوا من ذوي الرتب الصغيرة (والمتوسطة)، وكان أغلبهم من مدرسة تدريب المشاة بأم درمان. وكان أولئك الضباط أكثر تأثرا بالأفكار المتطرفة للإخوان المسلمين والشيوعيين من كبار ضباط الجيش. وفشلت محاولتهم الانقلابية وقدم قادتهم لمحكمة عسكرية قضت بإعدام خمسة منهم. وتم تنفيذ الحكم عليهم في 21 ديسمبر من ذات العام. وأثارت تلك الاعدامات حفيظة الشعب السوداني، وأصابته بالصدمة، وأفقدت النظام العسكري الكثير من التعاطف الذي كان قد وجده من قبل.
قام النظام العسكري في 8 نوفمبر 1958م بتوقيع اتفاق مع الجمهورية العربية المتحدة لتقسيم مياه النيل. وقضت تلك الاتفاقية بحصول السودان على 18,500 مليون متر مكعب (أي ربع إجمالي التدفق السنوي للنيل)، وتعويض مالي قدره 15مليون جنية سوداني لإعادة توطين النوبيين المتأثرين من جراء إنشاء السد العالي. ولم تجد تلك الاتفاقية ترحيبا عند بعض السودانيين بسبب أن ذلك التعويض كان يقل كثيرا عما طالبت به الحكومة المدنية السابقة (وكان يبلغ 32 مليون جنيه سوداني، إضافة إلى تحمل تكلفة المباني العامة). وشكك البعض الآخر في كيفية وصول النظام العسكري إلى تلك الاتفاقية وهو – في النهاية - نظام "مؤقت". وكان بعض المهندسين يشككون في جدوى بناء "السد العالي" ويفضلون بتاء سلسلة من السدود الصغيرة على مجرى النيل.
ومع حلول العيد الأول لانقلاب 17 نوفمبر، وبعد استقرار النظام وتذوق قادته للسلطة، نسي الفريق عبود وزملائه الطبيعة المؤقتة لنظامهم، وشرعوا في تطويره، ووضعوا في تقديرهم وحسبانهم أنه أكثر استدامةً. غير أن ذلك التفكير الرغائبي لم يجد موافقة عند كثير من أفراد الشعب السوداني، الذين كانوا لا يثقون في مقدرة الضباط على إنجاز الكثير في المجالات السياسية.
******* ******* ******
تناول الكاتب في نحو عشر صفحات الجهود السياسية التي بذلتها الأحزاب السياسية في معارضة الحكم العسكري، والتي كانت بمثابة بذور ثورة أكتوبر. وذكر أنه "على مدى السنوات الخمس التالية، حملت مجموعة سياسية أو أخرى شعلة مقاومة الحكم العسكري. وكانت شعلة المقاومة تلك قد تأججت بفعل إخفاقات النظام العسكري نفسه"؛ وأن الصديق عبد الرحمن المهدي زعيم الأنصار كان – إلى يوم وفاته - هو "محور الارتكاز" في معارضة الطغمة العسكرية والمطالبة بالعودة لنظام حكم ديمقراطي. وكان الصديق قد بعث للرئيس عبود في 21 أكتوبر عام 1959م بسلسلة من المذكرات حول الأوضاع السياسية بالبلاد، جاء في بعضها أنه كان – مثل أبيه – يؤيد النظام العسكري على اعتبار أنه نظام مؤقت، سيقوم بإفساح المجال لحكومة (مدنية) من خلال التشاور والمؤسسات الديمقراطية. وذكر الصديق أيضاً أنه بعد مضي عشرة أشهر صار مقتنعاً – لعدد من الأسباب – أن من واجبه تجاه البلاد وشعبها مطالبة المجلس الأعلى للقوات المسلحة بعودة الجيش إلى ثكناته، وأن يفرغ العسكريون لأداء واجبهم الوطني في حماية البلاد من الأخطار الخارجية، عوضاً عن التدخل في السياسة. وفصل الصديق المهدي كيفية العودة لتطبيق نظام ديمقراطي بالبلاد (وتفاصيل كل ذلك مذكورة في كتاب الصادق المهدي "جهاد في سبيل الديمقراطية: مطلب الأمة". المترجم). ولم تلق السلطات العسكرية الحاكمة بالاً لتلك المذكرات. وبعد ذلك أرسل إسماعيل الأزهري زعيم الحزب الوطني الاتحادي برسالة مماثلة لما أرسله الصديق المهدي للنظام العسكري. وكان ذلك هو بداية التعاون المشترك بين حزب الأمة والحزب الوطني الاتحادي في معارضة نظام نوفمبر. وانضم الشيوعيون و"الاخوان المسلمون" لاحقا لذلك التحالف السياسي الذي سُمِّيَ "الجبهة الوطنية المتحدة". ثم اجتمع الصديق المهدي في 17 فبراير 1961م ببعض أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة وكرر على مسامعهم نفس المطالب التي سجلها في مذكراته السابقة. ورد عليه عضو المجلس العميد المقبول الأمين الحاج بما يفيد أن نظامهم هو بالفعل "نظام مؤقت"، غير أنه لا ينبغي لأحد تحديد فترة بقائه في الحكم، وأنهم ليسوا في عجلة من أمرهم، إذ أن البرنامج الذي وضعوه يسير بوتيرة جيدة. وذكر العميد المقبول في لقاء آخر مع الصديق المهدي أن "الجيش قد أتى للحكم بالقوة، ولن يسلم السلطة إلا بالقوة". وتوقفت مثل تلك اللقاءات بعد 12 مارس 1961م. وقامت الحكومة بعد ذلك بحظر نشاط "منظمة شباب الأنصار"، وحددت تحركات الصديق المهدي وأحمد المهدي. واحتجت "الجبهة الوطنية المعارضة" على حادثة تعذيب معارض شيوعي مسجون في مدينة الأبيض، فبعث اثنا عشر سياسيا معارضا (منهم الصادق المهدي وإسماعيل الأزهري وعبد الخالق محجوب وعبد الله خليل) في 7 يوليو 1961م ببرقية احتجاج على فظائع الحكومة. وبعد أربعة أيام على تلك البرقية تم اعتقال كل من وقعوا عليها (باستثناء الصادق المهدي) ونُفُوا إلى مدينة جوبا. وكان هذا سبب آخر من أسباب نقمة الشعب السوداني (خاصة الطلاب والعمال) على الطغمة العسكرية. وهدد المعتقلون في يناير 1962م بالإضراب عن الطعام، فتم إطلاق سراحهم وأُعِيدُوا للخرطوم قبل أيام من بدء ذلك الإضراب. وفسر البعض ذلك على أنه يدل على شعور الحكومة بالأمن والأمان وبقدرتها على اجتثاث كل تحدٍ يواجهها.
وفي أغسطس 1961 وقع صدام مسلح بين أفراد من "شباب الأنصار" ورجال الشرطة في ميدان المولد النبوي بأم درمان نتج عنه مقتل 12 من أولئك الشباب و5 من رجال الشرطة. وخلافا ما توقعه البعض، لم يقابل الصديق المهدي عنف الحكومة بعنف مماثل، ومنع أنصاره من الاستجابة لذلك العنف.
عَابَ الكاتب على "الجبهة الوطنية المتحدة" عدم انتاجها لأي برنامج سياسي متماسك ومقنع بالنسبة لمنتقدي السياسات الحزبية كما كانت تُمَارَسُ في غضون السنوات الأربع من "الحكم الذاتي". واستثنى الكاتب من ذلك الحزب الشيوعي (الذي كان يمارس نشاطه بصورة غير قانونية)، وإلى حد ما، حركة الإخوان المسلمين، والذين كان لهم نهج إيديولوجي مقنع لحل مشاكل السودان (الراهنة). ووقع عبء معارضة النظام العسكري على هذين التنظيمين الأيديولوجيين؛ الذين توليا تلك المهمة بالتغلغل في أوساط الطلاب والعمال والمزارعين والهيئات والمنظمات المهنية. وبالفعل واصلت مجموعات الضغط المختلفة تلك مناكفة ومعارضة النظام العسكري حتى سقط.
وأفْرَدَ الكاتب عدداً من الفقرات لنشاط الحزب الشيوعي والمنظمات العمالية والشبابية والطلابية التي تتبع له في معارضة نظام عبود؛ ولما تعرض له قادة وأعضاء ذلك الحزب وصحيفته من قمع متواصل من النظام، وخضوع للمحاكم العسكرية. وذكر أن الشيوعيين واصلوا رغم ذلك في معارضة النظام بتوزيع المنشورات السرية.
كذلك تناول الكاتب النشاط الطلابي (الذي قاده اتحاد طلاب جامعة الخرطوم) المعارض لطغمة نوفمبر العسكرية منذ سبتمبر 1959م، ومحاولات الحكومة إحداث تغييرات في إدارة جامعة الخرطوم بجعل رئيس الدولة هو رئيس الجامعة (chancellor). وفي 5 نوفمبر 1963م صدر قرار بوضع جامعة الخرطوم تحت إشراف وزارة التعليم. وقُوبِلَ ذلك القرار بمعارضة قوية من الطلاب والأساتذة. وغدا طلاب الجامعة هم طلائع المنادين بالعودة لحكم مدني ديمقراطي. وبذا لم يكن مستغرباً أن يشعل طلاب الجامعة شرارة ثورة أكتوبر1964م.
وتطرق الكاتب أيضاً لما قام به نظام 17 نوفمبر من محاولات بناءة للعودة لمؤسسات ديمقراطية. فأعلن عبود في 17 نوفمبر 1959م عن تكوين لجنة برئاسة محمد أحمد أبو رنات (رئيس القضاء) لإصلاح نظام الحكومات المحلية بالبلاد. وأُدْخِلَتْ توصيات تلك اللجنة في "قانون إدارة المديريات" الذي صدر عام 1960م، الذي شُكِلَتْ بموجبه مجالس ريفية وبلدية ومجالس للمديريات تتمتع بسلطات استشارية في الأمور المحلية التي تخص القرى والدساكر والمدن والمديريات. وكان اختيار أعضاء تلك المجلس يتم جزئيا بالانتخاب وجزئيا بالتعيين (مع احتفاظ المسؤول الحكومي بحقه في رفض ترشيح أي متقدم إن كان يرى أن ذلك ليس في المصلحة العامة).
وفي الأول من يوليو1961م عين الرئيس عبود أبو رنات رئيساً لمفوضية ثانية للدستور مهمتها إدخال الانتخابات في المجالس المحلية، وتشكيل "مجلس تشريعي مركزي" يتكون من 72عضوا (54 منهم تختارهم مجالس المديريات، و18 يختارهم الرئيس بنفسه). وتؤول لذلك المجلس المركزي التشريعي وللرئيس كل السلطات التشريعية بالبلاد. وكانت حقيقة أن رئيس وزعيم المجلس كانا من كبار ضباط الجيش قد أضعفت كثيرا من فعاليته الديمقراطية، ومن قبول الشعب السوداني به. وقاطعت الأحزاب السياسية (عدا الحزب الشيوعي السوداني) انتخابات ذلك المجلس المركزي، الذي كان يفتقر للتأييد الشعبي، رغم أن بعض أعضائه ناقشوا لاحقاً بعض مشاكل البلاد الاقتصادية وقضايا الفساد وجنوب السودان (انظر مقال ب. شارما المترجم بعنوان: الانتخابات في السودان خلال العهد العسكري هنا: https://tinyurl.com/2u5ahwrm .المترجم).
أشار الكاتب إلى أن سلوك ضباط الجيش (الذين صاروا – إلى حد ما - من النخب الصفوية المميزة) لم يساعد على تحسين صورة الحكومة عند المواطنين. فقد انتشرت في البلاد شائعات عن الفساد والأفعال غير الأخلاقية، إضافة لاستيلاء البعض على الأراضي الحكومية من دون وجه حق، والمحسوبية في منح الرخص التجارية، والافراط في الانفاق على وزارة الدفاع ومجالس المديريات، والصرف البذخي على الإعلام، خاصة على محطة تلفزيون لا يتعدى بثها العاصمة، وإرسال أقرباء كبار المسؤولين إلى أوروبا للعلاج على نفقة الدولة. وتدهورت الأحوال الاقتصادية بالبلاد. واضطرت الحكومة – مع ارتفاع كل تلك النفقات - لزيادة الضرائب على سلع ضرورية مثل السكر، مما فاقم من سخط المواطنين وزاد من نقمتهم من الحكومة.
تناول الكاتب أيضاً مسالة إعادة استيطان سكان وادي حلفا بعد قيام السد العالي، والمشاكل التي أحاطت بتلك المسألة. وتطرق لسياسة حكومة عبود في جنوب السودان، وعن الندوات التي أقيمت بجامعة الخرطوم لمناقشة تلك القضية، خاصة تلك الندوة التي أقيمت مساء الأربعاء 21 أكتوبر، واقتحام الشرطة العنيف لداخليات الطلاب حيث مكان إقامة الندوة، والذي أفضى لمقتل الطالب أحمد القرشي. وذكر أن مقتل ذلك الطالب "الذي ربما كان حدثاً عرضياً" هو الذي أدى لاندلاع المظاهرات الاحتجاجية ضد الطغمة العسكرية.
ثورة أكتوبر
ذكر الكاتب أنه لن يقوم بتقديم وصف مفصل لأحداث تلك الثورة، غير أنه سيبرز تصميم السودانيين العزل (بقيادة طبقة المثقفين- الانتلجنسيا) وقوتهم الأخلاقية التي أفلحت في إسقاط الحكم العسكري.
1/ في يوم الخميس 22 أكتوبر أغلقت السلطات جامعة الخرطوم، غير أن الطلاب رفضوا مغادرة داخلياتهم. وفي نفس اليوم قدم أساتذة الجامعة استقالاتهم، وأعلنوا انهم لن يسحبوها إلا بعد سقوط النظام العسكري، وإقامة نظام دستوري يضمن استقلالية الجامعة. كان ذلك يعني فعليا بداية الأضراب السياسي، الذي أخذ به (لاحقاً) بقية المهنيين. وكان موكب تشييع أحمد القرشي، الذي شارك فيه عشرات الآلاف من المواطنين، مظاهرةً ضخمة ضد النظام مِنْ الطِّراز الأوّل. وأعقب ذلك الموكب قيام الجماهير بمظاهرات حاشدة في أرجاء العاصمة المثلثة، حدثت (في قليل منها. المترجم) حالات تخريب. وفي مساء ذلك اليوم شرعت القوات النظامية وهي على دباباتها وعرباتها المصفحة بالطواف في دوريات حراسة على شوارع العاصمة. غير أن ذلك لم يَفُت فِي عَضُدِ المدنيين من أجل المضي قدما في تحدي النظام والسعي لإسقاطه.
2/ في يوم الجمعة 23 أكتوبر تواصلت المظاهرات، وكان المتظاهرون أفضل تنظيما في هذا اليوم من اليوم السابق. وكون أساتذة الجامعة مع المهنيين الآخرين (مثل القضاة والمحامين والمهندسين والأطباء) واتحاد نقابات عمال السودان واتحاد مزارعي مشروع الجزيرة تنظيما موحدا اسموه "جبهة الهيئات" دعا لقيام إضراب مدني عام بالبلاد. وقامت الأحزاب السياسية التقليدية (مثل الأمة والحزب الوطني الاتحادي) والشيوعيون والإخوان المسلمين بإحياء معارضتها القديمة للنظام العسكري في تنظيم أسموه "الجبهة القومية". وعملت الجبهتان معاً حتى نجحت الثورة. وعلى الرغم من أن كل قطاعات الشعب السوداني كانت قد شاركت في الثورة، إلا أن الشيوعيين كانوا هم من أدوا أكبر دور فعال في تنظيم المظاهرات والتجمعات.
3/ في يوم السبت 24 أكتوبر، وعلى الرغم من فرض السلطات لحظر للتجوال، تجمعت أعداد كبيرة من ممثلي المهنيين - على رأسهم المحامين - وأفراد عامة الشعب (أمام مبنى القضائية) بغرض تقديم مذكرة احتجاج إلى الرئيس عبود ضد ممارسات الحكومة البالغة العنف، غير أن قوات الأمن منعتهم من التقدم، وأحاطت بهم. وأعلن (عابدين إسماعيل نقيب المحامين) للجماهير عن بدء الإضراب السياسي العام، فتفرقوا. (كما ورد في "يوميات ثورة أكتوبر" لكليف طومسون سمحت السلطات، بعد شد وجذب، لوفد صغير من المحتجين بتقديم تلك المذكرة لمسئول في القصر الجمهوري. المترجم).
4/ في يوم الأحد 25 أكتوبر وضح جلياً أن الإضراب قد نجح نجاحاً كبيراً، فقد شل دولاب العمل بالبلاد تماماً، وأوقف جميع الاتصالات، وتم إغلاق المتاجر. واِستَمَرّ الحال هكذا لأربعة أيام متوالية. وتكرر ما حدث في الخرطوم في بقية مدن البلاد المختلفة، إلا أن عنف القوات الأمنية فيها كان أقل وطأة مما شهدته الخرطوم. بل إن بعض المدن الأخرى قررت مساعدة جماهير العاصمة في الإطاحة بالديكتاتورية العسكرية؛ فبعثت مدينة كسلا (التي تبعد نحو 500 كيلومتر شرق الخرطوم) بقطار محمل بالمواطنين ليساند جماهير العاصمة.
ربما كان ذلك المزاج العام الذي اتسم بالتصميم والوحدة هو الذي منع الطغمة العسكرية من اتخاذ إجراءات فورية ومتناسقة ومتضافرة. ولم يكن العسكريون يتوقعون مثل تلك الدرجة العالية من التحدي الكامل. وبالإضافة لذلك، كان معظم أفراد الجيش السوداني في تلك الأيام يقاتلون في جنوب البلاد. وفي الواقع، بدا أن السرعة التي تجمع بها الدعم للثورة، وانعدام الثقة المتبادلة بين الضباط، قد شل قدرتهم على التحرك السريع لقمع الثورة. وكان بعض أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة، بقيادة حسن بشير نصر، قد دعوا لاتخاذ موقف أكثر صرامة وحسماً ضد المتظاهرين. غير أن ذلك لم يكن ممكنا بسبب موقف الضباط اللبراليين، الذي رفضوا إطلاق الرصاص على المواطنين العزل، بل دعوا لحل المجلس الأعلى للقوات المسلحة. ونتيجةً لتلك الضغوط المتزايدة، بدأ الرئيس عبود وزملائه في التنازل. ففي الساعة الثامنة والنصف من مساء الاثنين 26 أكتوبر أذاع عبود للأمة بياناً أعلن فيه عن حل المجلس الأعلى للقوات المسلحة ومجلس الوزراء (* انظر نص البيان في نهاية المقال. المترجم) وتلقت الجماهير ذلك النبأ بفرح عظيم، فقد كانت هذه أول إنجازات ثورتهم الشعبية ونجاحها الأول. وبقي أمل الجماهير معلقاً بالمفاوضات بين ممثلي "الجبهة القومية الموحدة" وممثلين للقوات المسلحة (لم يكن من بينهم أي عضو في المجلس الأعلى للقوات المسلحة المحلول)، التي كان هدفها هو تصفية الحكم العسكري. وبدأت المفاوضات في يوم الثلاثاء 27 أكتوبر وشرعت في بحث أفضل الطرق والوسائل التي يمكن بها الوصول لتسوية سياسية. غير أنه بدا بعد ذلك أن الرئيس عبود قد غير رأيه عندما أعلن في مؤتمر صحفي عن نيته في تكوين مجلس أعلى جديد للقوات المسلحة، ودعوة "المجلس المركزي" للانعقاد لمناقشة أحداث تلك الأيام. ورفض ممثلو "الجبهة القومية الموحدة" بصورة قاطعة ما أتى به عبود. وكان مما عزز موقفهم هو استمرار الإضراب العام وتواصل المظاهرات. وزاد من أوار تلك المظاهرات ما تناقله الناس عن قرب وقوع انقلاب عسكري مضاد، فتوجهوا نحو القصر الجمهوري الذي كان محاطاً بحراسة مسلحة كثيفة. وأطلق أولئك الجنود النار على المتظاهرين فقتلوا منهم عشرين فرداً، وجرحوا نحو مِئة متظاهر. وقيل إن ضابطا كبيراً هو من كان قد أصدر الأمر بإطلاق النار (ذكرت المؤرخة ويليو بيريدج في كتابها عن انتفاضتي أكتوبر 1964م وأبريل 1985م بأن الضابط زين العابدين محمد أحمد عبد القادر أقر بأن فرقته هي من أطلقت النيران، ولكن لم يكن ذلك بأمر منه، إذ أن بعض الجنود تصرفوا بطريقة فردية وأطلقوا النار بصورة عشوائية على متظاهرين رفضوا الامتثال لتحذيرات القوات لهم من التقدم نحو القصر. المترجم). وزادت تلك الحوادث موقف المفاوضين المدنيين صلابةً.
وتواصلت المفاوضات من أجل الوصول إلى حل يرضي الطرفين. وبحلول صباح الجمعة 29 أكتوبر، اختفت كل نقاط الخلاف، وتم التوصل لاتفاق مكون من تسع نقاط شملت المطالبات الرئيسية التي قدمها المدنيون (في هذا الرابط يمكن الاطلاع على بنود ميثاق ثورة أكتوبر الذي وقع عليه ممثلو الأحزاب السودانية وجبهة الهيئات والتجار: https://tinyurl.com/mtyayzzd . المترجم). وبقي عبود في منصبه، رئيسا وقائداً للجيش. غير أنه سرعان ما تعرض لضغوط دعته للاستقالة من منصبيه وذلك في منتصف نوفمبر 1964م.
وفي يوم 30 أكتوبر 1964م تكونت حكومة انتقالية ضمت ممثلين لكل الأحزاب السياسية ونقابات العمال والمزارعين. وبذا تكون الثورة قد حققت كل أهدافها الآنية بسرعة وبالقليل من إراقة الدماء، بشكل ملحوظ. ولم يتضح بعد ما إذا كانت تطلعات الثوار المفكرين خلال ست سنوات من معارضة الاستبداد العسكري قد حققت تسوية دائمة.
___ _______ _______
*بيان الفريق إبراهيم عبود مساء الأثنين 26 أكتوبر 1964م أيها المواطنون: أحييكم أطيب تحية.
فقد كنت في مناسبات كثيرة مضت قد تحدثت إليكم أن جيشكم الباسل عندما تقلد زمام الحكم لم يكن ينوي أن يبقى فيه الى الأبد. وقد وضعنا كما تعلمون مخططا معينا بغرض نقل إدارة شؤون البلاد وحكمه ووضع دستور يرتضيه أبناء هذا البلد. كل ذلك في خطوات متئدة وتروٍ تام لنأخذ النظام السياسي الذي نرنو إليه كاملا ومتينا. والآن بناءً على رغبة الشعب الجامعة وكخطوة أولى للإسراع نحو تحقيق هذا الهدف المنشود فقد قررت الآتي:
أولاً: حل المجلس الأعلى للقوات المسلحة
ثانياً: حل مجلس الوزراء. كما أنني سأحتفظ في الوقت الحالي بكل سلطاته الدستورية إلى أن أشرف بنفسي على إتمام الوضع النهائي الذي يرتضيه شعبنا الكريم.
أيها المواطنون: لقد طلبت منكم في حديثي إليكم أمس واليوم أن تلتزموا جانب الهدوء والسكينة وأن تكفوا عن عمل التخريب والإرهاب فهي أعمال بغيضة لكم ولي ولا تعود علينا إلا بالضرر والخسارة. وأنا الآن أطلب منكم مرة أخرى الكف عن الأعمال التخريبية فإن ما حدث فيه الكفاية. كما أطلب أيضاً أن يعود كل منكم إلى عمله بروح طيب وعملية وبهذا وحده وتحت ظل الهدوء والسكينة يمكنني تحقيق رغباتكم وأنتم وجيشكم الباسل يد واحدة. عاش السودان والعزة لشعبنا والسلام عليكم.
المصدر: https://tinyurl.com/3ur937fj
alibadreldin@hotmail.com
/////////////////////////