ثورة الجياع وحقيقة الاوضاع في السودان!!

 


 

آدم جمال أحمد
24 December, 2018

 



شهدت الساحة السياسية ومعظم المدن السودانية احتجاجات عارمة من مسيرات ضخمة ومظاهرات ضد النظام وتردي الأوضاع ، بصورة تلقائية لم تحركها أي جهة سياسية او حزبية ، يطالبون بحقهم المشروع في توفير الخبز والوقود وتحسين الأوضاع المعيشية ، من خلال رسائل مطلبية ، باعتباره حق مكفول ينص عليه الدستور والقانون ، لحكومة عجزت في توفير ابسط المقومات من الدقيق والوقود والدواء لمواطنيها بانتظام في جميع بقاع السودان ، فكيف ان ينتظر منها الشعب خيراً ، فما كان من الأجدى بها ان تذهب من غير ان يتباكى عليها احد ، اما كان هذا هو نفس السبب الذي جعل الإسلاميين يتعللون بالانقلاب ومجي حكومة الإنقاذ ، فلماذا تقوم الحكومة وأجهزتها بقمع المظاهرات وتتسبب في سقوط جرحي وشهداء والتنديد بها ومحاولة الصاق التهم بحجة ان هناك مندسين وايادي خفية وخلايا اجنبية هي من قامت بأعمال الحرق والتخريب والمساس بالممتلكات العامة ، وهو امر مرفوض وغير مقبول ٫ ولكن بنفس القدر يجب بان لا تتخذها الحكومة ذريعة تبرر بها خيبتها وفشلها في معالجة الازمة الاقتصادية والظروف المعيشية التي يعاني منها المواطن ، الذي دفعه الجوع والفقر والمرض والبطالة والتهميش واهدار الموارد للخروج الي الشارع ، وهي تعلم ذلك والجميع يعلمون بان المعارضة السودانية هشة وضعيفة تواجه تحدياً واختبارا صعبا في عدم قدرتها على تحريك الشارع وضمان استمراريته ، ومدى قدرتها على التحمل في ظل شق الحكومة الصف الحزبي بالترغيب تجاه المنظومة السياسية ، فالحقيقة الماثلة بان من يقود المظاهرات المشروعة حالياً ليست أحزاب المعارضة او قيادات المعارضة السلمية او المسلحة او حتي لجان الثورة الشعبية ، التي حاولت الدخول ببيانتها وتصريحاتها ، التي تريد الاصطياد في الماء العكر واختطاف الثورة الشعبية ، وهي بدخولها اقعدت بالمظاهرات السلمية وافرغتها عن محتواها ، بالرغم ان اندلاع شرارتها الساخطة انطلقت من مدينة عطبرة التي خرجت عن بكرة أبيها في تجمع غير مسبوق تطالب بالإصلاح ثم تلتها المدن السودانية الأخرى في بورتسودان والقضارف وسنار ودنقلا وبربر وود مدني والأبيض والخرطوم وغيرها ، عمتها احتجاجات عارمة تندد بالغلاء وتدعوا لرحيل النظام الحاكم في أعقاب استفحال الأزمة الاقتصادية وندرة السيولة وتردي الأوضاع المعيشية.
واشتدت المظاهرات في عطبرة وبورتسودان والعاصمة القومية ، التي هزت عرش الحكومة وكادت ان تقلع شجرة المؤتمر الوطني ، التي لم تشهد حراكاً مثلما تشهده هذه الآيام جراء زيادة اسعار الخبز والمحروقات والازمة الاقتصادية الخانقة ، والجدل الدائر حول هذه الميزانية الجديدة ، في ظل احتدام النقاش حولها الذي قدمها وزير المالية الذى يصر عليها ويتحدى من يأتي له ببديل ، وخبراء الاقتصاد الذين يحذرون الحكومة من مغبة المضي في هذه السياسة والزيادة في ارتفاع الأسعار وتدني الأوضاع في البلاد ، ومن غضبة الشارع وأن يتقوا غضب الحليم الذى طالما أمهلهم كثيراً ، وأن صبره بدأ ينفد بعد أن صبر على الحكومة طويلاً ، وكان يتوقع انفراجا وشيكاً على الأزمة الاقتصادية والضائقة المعيشية والضنك الذى يمر به ثلاثون عاماً ، في اجتياز الصعاب والوصول الى الرخاء ، ولكن صبره قد طال ، وحزب المؤتمر الوطني لا يتحسب لردة فعل الشارع تجاه ارتفاع الأسعار وعدم إيجاد معالجات عاجلة وحلول جذرية للازمة والضائقة المعيشية؟! بسبب التهاون من بعض المسؤولين والتصريحات المستفزة وغير المسؤولة من بعضهم ، مما يؤكد خطورتها على الحكومة وزوال عرشها.
وفى ظل هذه التعرجات والمحن العصيبة التي يمر بها السودان من أزمات عديدة .. أزمة حروب وأزمة ديون وأزمة سيولة وأزمة اقتصاد وأزمة قضايا عالقة ومفاوضات عرجاء مع الحركات الحاملة للسلاح ، نجد أن الحكومة كانت تهون من خروج الشارع في مظاهرات ضدها وتتحدى المعارضة ، وتتهمها وتقول إن جزء منها متحالف مع حركة عبدالواحد محمد نور وحكومة إسرائيل التي تعمل على تحريك الشارع ضدها ، تحاول الحكومة ان تبعث بإيحاءات مبطنة تحمل في طياتها التهم العنصرية والجهوية لتذكر المتظاهرين في نهر النيل والشمالية والخرطوم بدخول حركة العدل والمساواة ام درمان والحركة الشعبية ام روابة لضرب الثورة وشق صفها .. فلماذا لا يتحمل رئيس الجمهورية وحكومته مسؤوليتهم الاخلاقية فى تحسين الأوضاع المعيشية والتنمية وتحقيق الرفاهية وأحلام الكثير من السودانيين الذين وقفوا معها فى أحلك الظروف وهي تقتل آخر ما تبقى من أمل لدى الشعب المغلوب على أمره ، فالحوار الوطني لم يجلب الا حكومة (نفاق لا وطني عريضة) عفواً حكومة وفاق وطني ، ليس لها من القرارات او المواقف سوى تلك المتعلقة بمزيد من تمكين وانتخاب البشير وعصر جيوب السودانيين المعصورة أصلاً ، وبموجبها صارت الحكومة ترهق الخزانة العامة والموارد المحدودة للدخل القومي بتعيين العشرات من الوزراء والمستشارين وجيش جرار من كبار الدستوريين ، حتى أصبحت الدولة تنتج لتصرف عليهم ، وتعمل فى خدمة هؤلاء بدلاً من خدمة الشعب ورفاهيته ، فبالتالي ترهلت الحكومة لدرجة ما عادت تستطيع فيها الإيرادات تغطية حتى الإنفاق الجاري ، فالترهل الحكومي في السودان هو المشكلة الأساسية والمؤثر الأساسي فى دورة الاقتصاد السوداني!!.
ولا بد أن تقر الحكومة بأن الأزمة الاقتصادية المستفحلة حالياً ، هي نتاج سياسات اقتصادية فاشلة وإدارة سياسية عاجزة عن السيطرة على الأزمة منذ سنين طويلة بسبب الفساد الذى تفشى ، وسط كبار رجال الدولة في الجهاز التنفيذي ، فهناك أزمة اقتصادية طاحنة فى الأسواق والبيوت ، وهى أزمة قديمة قدم حكم الإنقاذ؟! ، وهذا يطابق ما صرح به الرئيس عمر البشير (أنهم ما كانوا يتخيلون أن يصبر عليهم الشعب السوداني نصف المدة التي حكموها) ، وهذا اعتراف صريح بأن ما تعرّض له أهل السودان فى عهده فوق الاحتمال والصبر ، فما الذى يريده المؤتمر الوطني أكثر من ذلك لهذا الشعب الرابط على بطنه وظهره أكوام من الحجارة !! .. لأنه لم يتبقى للناس من قدرة على الاحتمال أو الصبر كي يحتملوا زيادة فى الأسعار أكثر مما هو حادث الآن ، خاصة بعد الارتفاع الجنوني للدولار والسلع في الاسواق؟! ، رغم أن موارد كثيرة ضخمة قد توفرت للخزانة العامة طيلة السنين الماضية كانت عرضة للصرف البذخي والاستعراضي فى احتفالات واستثمارات خاصة داخل وخارج الوطن ، إلى أن تحول البعض إلى طبقة جديدة غير مألوفة من أثرياء السلطة يتمرغون في النعم والملذات ويتطاولون فى البنيان.

لذلك فى ظل وتيرة الاحتجاجات الجماهيرية والأزمة الاقتصادية الحالية ، من الطبيعي أن ترتفع وتيرة الغضب الشعبي والاحتجاجات والتظاهرات وتنطلق ثورة الجياع بصرف النظر عن سلمية بعضها وغلواء البعض الآخر ، واستخدام الشرطة للقوة العنيفة في تفريق المتظاهرين وكبح جماح الذين يمارسون التخريب وإتلاف الممتلكات العامة ، فهل كانت الحكومة تتوقع أن تمر ارتفاع أسعار الخبز مروراً سلساً ، وان الشعب قابل لتقبل أي إجراءات تمس معاشه باستكانة ورضاء وعن طيب خاطر ، فالأمر فى مجمله يقع ضمن سياق معادلة منطقية ، فالحكومة تتحمّل الأزمة وتداعياتها ومعالجتها فوراً ، او ان تحل الحكومة نفسها وتشكل حكومة انتقالية لتصاريف الأعباء لإنقاذ البلد وتجنبها من التفكك والسقوط في الفوضى حتى تعبر الجسر وتمر العاصفة ، لان الاحتجاجات الشعبية التي حدثت فى العاصمة المثلثة ومدن السودان الأخرى ، لم تكن بصورة منظمة ، أو تقف من خلفها جهات بعينها ، فلذلك يجب علينا أن ننظر لمجريات وتداعيات الأزمة برؤى ثاقبة وحيادية وبصورة منطقية بعيدة عن العواطف ، حتي يتيح ذلك للحكومة وضع المعالجات والحلول الجذرية بالنظر والتدقيق علي خضم هذه الأزمة ، فقوى المعارضة حالياً تحرِّض سراً وعلانية على التظاهر وإيصال الأمور الى منتهاها غير عابئة ولا مدركة لمآلات الأمور اذا ما مضت باتجاه المواجهة ، وأخذتها العزة بالحدث وتعتبر الأمر بمثابة (ثمرة ناضجة) آيلة للسقوط فى أي لحظة ، وترسخت لديها هذه القناعة الى حد تشجعت بإصدار البيانات والتصريحات التي تعج بها مواقع التواصل الاجتماعي اليومية ، ولكن الأمر يثير سؤالين هناك صعوبة فى الإجابة عليهما .. فالسؤال الاول .. هل بالفعل رفع أسعار الخبز وإثارة الشارع السوداني والتظاهرات التي كسرت حاجز الصمت وتحدت الحكومة وخرجت الى الشوارع هل من شأنها تهديد بقاء السلطة القائمة وإسقاطها؟.. أما السؤال الثاني هل غضب الشارع السوداني بالضرورة أن يدفع قوى المعارضة باتجاه الجلوس على مقاعد الحكم بديلاً للحكومة الحالية ، وفى ذات السياق هل تستطيع قوي المعارضة أن تتقدم صفوف الشارع لتكون قائدة له ، ومن ثم بديلاً جاهزاً؟
بالنسبة لإجابة السؤال الأول .. هنالك خلط لدى العديد من المراقبين ما بين احتمال الغضب وحدود الغضب الجماهيري ، ومآلات ونتائج كل ذلك ، نجد أن البعض يعتقد بأن خروج المواطنين الى الشارع واحتجاجهم هو بمثابة اسقاط للسلطة الحاكمة ، أو هكذا يدور التصور الشائع فى الأذهان ، غير أن الأمر ليس بهذه البساطة ولا نقول السطحية ، ففي إطار المناخ الديمقراطي الذى لا يمنع التظاهر ، لا شيء يحول دون تعبير المواطنين عن احتجاجهم على سياسات الدولة ، فهذا الأمر ليس جديداً ، وقد نسى البعض إن الاحتجاجات – مهما كان طابعها سياسياً أو حزبياً أو مطلبياً – جرت مئات المرات فى السنوات المنصرمة فى أنحاء وأماكن عديدة فى السودان وعلى وجه الخصوص فى العاصمة الخرطوم ، تظاهرات بسبب إمدادات المياه وأخرى بسبب الكهرباء ، وأخرى بسبب المواصلات وارتفاع أسعار المحروقات ، بل هنالك احتجاجات بسبب الطرق ، فلذلك أن ما حدث فى شوارع العاصمة الخرطوم وبعض المدن عبارة عن احتجاجات اقتصادية دخلت إليها أصابع بعض القوى السياسية لتعديلها جينياً لتحقق مصالحها فى إسقاط النظام من مقعده والجلوس فى مكانه..!
وكان يمكن لهذه الاحتجاجات أن تتطور وتتسع قاعدياً ، بقوة دفع ذاتي ، يقوم فيها المتظاهرون بتكوين لجان من الثوار لتنظم نفسها لتمارس أعلى درجات الضغط على الحكومة لتتراجع عن قراراتها او اسقاطها مثل ما حدث في عهد حكومة جعفر نميري في زيادة السكر عام 1982 ، وما حدث في عهد حكومة الصادق المهدى أبان الديمقراطية الثالثة عام 1988..! ، ولكن ظهور البيانات الصادرة من قيادات المعارضة والحركات المسلحة وحديثهم عن المظاهرات واسقاط النظام ، أقام حاجزاً معنوياً سميكاً بين الجماهير ذات الأجندة الاقتصادية المباشرة والقوى المعارضة.
أما فيما يخص السؤل الثاني .. فإن من المستحيل تماماً أن ينفتح الطريق لقوى المعارضة السودانية بكل ما علِق بثيابها من أوحال لكى تتسيّد الساحة وهى ليست بحال بديلاً مفضلاً لدى قطاع كبير من جموع الشعب السوداني ، فقد جرت تجربتها من قبل مراراً حين كانت ظروفها أفضل ، فما بالك وقد غرقت فيما غرقت فيه الآن؟ فلذلك من الصعوبة بمكان في ظل هذه التداعيات وعدم التعامل بموضوعية أن تؤدى هذه الاحتجاجات والتظاهرات الى سقوط السلطة القائمة ، ما دام ظهرت على سطح الأحداث نفس الوجوه لمعارضة تريد ان تختطف ثمرة المظاهرات من أول وهلة ، او تسليم السلطة للجيش مما يعنى لا مساحة لها في أرض الواقع إن كنا نسلِّم بأن السياسة هي فن الواقع.
وختاماً في تقديري أن الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يعيشها الوطن هذه الأيام يقع على عاتق السلطة التنفيذية والحزب الحاكم بتشكيل حكومة انتقالية قومية ، تشارك فيه كل ألوان الطيف السياسي بما فيها المعارضة والقوى الحاملة للسلاح لإنقاذ البلاد ، لان هذه التنازلات من الحكومة يصب في مصلحة الوطن والمواطن ، وكما يجب ألا تسعد المعارضة كثيراً ولا تطمئن لهذا المظاهرات ، وألا تراهن كثيراً عليها بأنها البديل ، فصدور بعض البيانات وتصاعد بعض التصريحات المستفزة مثل تصريح الصادق المهدي (دخان المرقة) ، وغيره يمضى بالأحداث إلى نقطة صفرية من الأحلام والأماني ، تتساوى فيها الخيارات وتتماثل فيها البدائل!!..

ولنا عودة ............

آدم جمال أحمد – سيدني – أستراليا

٢٤ ديسمبر ٢٠١٨م

elkusan67@yahoo.com
/////////////

 

آراء