ثورة السودان وضرورة استئصال (الحمدوكية) الخبيثة

 


 

مالك جعفر
21 August, 2020

 

 

 

مالك جعفر*

صحافي اقتصادي سابق في (الشرق الأوسط) اللندنية

مجموعة مؤشرات متضاربة تخنق الراهن السياسي السوداني. أغربها خروجْ واشنطن بتحذير الى رعاياها عن عنفْ وعمليات إرهاب متوقعة في السودان. نصحت مواطنيها إما بمغادرة البلد أو تجنب السفر اليه. الخرطوم، بدلا من تأكيد سلامة الأوضاع واستتباب الأمن، علقت على التحذير ببيان هزيلْ من وزارة الخارجية يتحفظ على البيان الأمريكي. ربما أمريكا أدرى بشعاب السودان من اهله.
لا يهم. ما يهم أن التحذير الأمريكي يناقض تطمينات وزير الخارجية بومبيو في محادثته الهاتفية مع رئيس وزراء الفترة الانتقالية عن قرب موعد رفع السودان من قائمة الإرهاب. ويناقض تفاؤل مساعد وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الأفريقية تيبور ناجي الذي أكد أن واشنطن تنوي إقامة احتفال كبير عندما يتم رفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب. ويناقض دعوة الكونغرس الأمريكي إدارة ترامب للإسراع بتعيين سفير أمريكي في الخرطوم بدلا عن القائم بالأعمال الحالي. ويناقض توجهات صحيفة (وول ستريت جورنال) المرموقة التي ناشدت إدارة ترامب في افتتاحية هذا الأسبوع، الاستعجال بإزالة دمغة الإرهاب عن السودان لقفل الطريق أمام الصين التي يتمدد نفوذها في القارة الافريقية.
ويناقض بشدة بيان وزارة الخزانة الأمريكية هذا الأسبوع عن فتح الطريق للأمريكيين للاستثمار في السودان، وأن بالإمكان ادخال الأرصدة عبر المصارف الأمريكية. وبحسب وكالة (بلومبيرج) المالية، الاستثمارات من كبريات الشركات الأمريكية أمثال (مايكروسوفت)، دخلت مسبقا السودان.
إذنْ دمغة الإرهاب ما زالت معلقة قي رقاب السودانيين.
الخارجية الأمريكية تحذر من الاقتراب من السودان.
والخزانة الأمريكية تحث مواطنيها على الاستثمار في السودان عبر القنوات المصرفية الرسمية!!
فماذا يحدث وسط هذه البشريات والتحذيرات في الخرطوم؟

*******
بدلا من التفاؤل وتوضيب البيت بتحويل السلطة الانتقالية الى سلطة مدنية مَعْتَرفْ بها، وهو مطلب الكونغرس الأمريكي الذي يملك سلطة البت في قرار (لائحة الإرهاب)، بدلا من الضغط على عسكر الفترة الانتقالية، لإعادة 650 شركة حكومية مسروقة الى وزارة المالية، يشكل رجوعها حجر الزاوية في رفع دمغة الإرهاب، بدلا من الضغط، فضَّلَ حمدوك حسب أولوياته المقلوبة الخانعة للعسكر ارتكاب خطيئتين: خطيئة صغرى يمكن تصحيحها وخطيئة كبرى لا تُغْتَفَرْ.
الخطيئة الصغرى المثيرة للريبة قرارات اقتصادية لحكومة حمدوك تتضمن رفع قيمة الدولار الجمركي من 55 الى 120 جنيه سوداني، مواصلة رفع الدعم واستكمال تحرير سعر صرف الجنيه السوداني على مدى العامين المقبلين. هذه خطوات تآمرية لا يمكن تفسيرها بظروف الكورونا وتدني الإيرادات الحكومية التي صاحبت القرارات. هذه سياسات شروع في التجويع والإفقار والقتل العمد لملايين السودانيين جراءَ تضاعفات الأسعارْ ومعدلات التضخم وغلاء الأسعار المهول المتوقع.
أما الخطيئة الكبرى التي لا تُغْتَفرْ فخطيئة تمردْ وتنمرْ حمدوك على من أوصلوه بدمائهم وأرواحهم وتضحياتهم لكرسي الرئاسة.
وثمة رابطْ وثيقْ بين الخطيئتين.
تجاهل حمدوك مواكب جرد الحساب وتصحيح المسار التي وقفت أمام مجلس الوزراء لتسأل عما حدث للقصاص والعدالة الناجزة. مواكب تتقدمها أمهات الشهداء وآباؤهم. تريد أن تفهم ممن ظنوه حليفا مؤتمنا على ثورتهم، سر ديمومة واستفحال الغلاء الفاحش، مصير الشركات المسروقة، سر التردد المهين في استكمال تحقيق فض الاعتصام وسر الإصرار على تمكين (الكيزان) من جديد بوتائر متسارعة.
رفض حمدوك الخروج لاستقبال المليونية بدعوى المشغولية. وهو الجالس بلا أعباء على رأس حكومة تسير بنزوات العسكر. تجاهل مواكب تريد أن تجردْ حسابَ عامٍ تصرمْ في انتظار (العبور الحمدوكي) السراب.
حمدوك رئيس وزراء تشريفي من الصنف الذي لا يستحي. وربما جيء به لأنه لا يستحي. إن كان يستحي لقدم استقالته مع الوزارة التي أقالها. قديما قيلْ: إنْ لم تستحِ فافعل ما شئتْ، غير أن الكائن الحمدوكي عديم المشيئة، لا يفعل إلا ما يرضي الغرب أولا، الخليج ثانيا، أولياء نعمته من مليارديرات الدولار السودانيين ثالثا وقائد قوات الدعم السريع رابعا وشرذمة من المنتفعين والمتحلقين بأبواب السلاطين من نكرات (المزرعة) خامسا. بهذا التسلسل ووفق هذا الترتيب الشاذ المعيب. لا وقت لديه للثورة ولا للثوار. لذا ليس غريبا ألا يقف الأمر عند تجاهل مواكب جرد الحساب. سلّطْ حمدوك العسكر على مليونية جرد الحساب فأصاب الرصاص الحي والمطاطي والغاز المسيل للدموع من أصاب. وسقطت بذلك الأقنعة وانكشف الزيف والخداع.

******

استبانت جموع (شكرا حمدوك) و(القومة للسودان)، ألا صلة لهذا الكائن الاعتباطي بالسودان ولا بثورة السودان. يفقه بالكاد في الاقتصاد، وإلا لما أقدم على سياسات (إن غلبك سدها وسّع قدها). حمدوك دمية اختارها صلاح قوش والملياردير محمد ابراهيم في جلسة أنس سرية في أديس أبابا لتنفيذ الأجندة الموضوعة مسبقا. وكلها مطروحة الآن في الساحة. من الفصل السادس (منشار تقسيم السودان الوشيك)، مرورا برفع الدولار الجمركي وانتهاءً برفع الدعم وتحرير سعر الصرف. والإجراءات الاقتصادية المذكورة هي تحديدا سياسات (توسيع القدْ) التي ستؤدي لتسرب ثروات السودان الكامنة الطائلة لأيدي الرأسمالية الغربية والخليجية. لا يهم غلاء الأسعار وضيق معايش أهل السودان. المهم إيصال الدولار مستويات الـ 200 الى 400 جنيه لجذب رأس المال الأجنبي الذي سيتدفق لشراء الأصول السودانية النادرة بـ (تراب القروش). حتى أموال الكيزان المسروقة والمجنبة خارج السودان ستعود بواجهات جديدة لتخمش في الأوكازيون المرتقب.
ذلك حجم الخراب الذي بدأه البدوي ويصعّده حمدوك حاليا خدمةً لولاءاته المتشعبة المناقضة لثورة ديسمبر وأهدافها.

*****

انتهي عهد التهريف والزيف والحديث غير المجدي عن قوى الحرية والتغيير كحاضنة سياسية. لا علاقة لقوى الحرية والتغيير الفاسدة بحمدوك الأكثر فسادا. ولاء هذا الكائن الاعتباطي أولا تجاه المؤسسات الدولية والصناديق المالية الغربية. هي حاضنته السياسية الحقيقية والأمم المتحدة موئله، وربما مستقرّه إذا استكمل تنفيذ (الأجندة) في السودان.
ولاؤه الثاني نحو مليارات الخليج المتدفقة من ابوظبي والسعودية بعطاياها (السرية السخية). ولاؤه الثالث نحو أولي نعمته من مليارديرات الدولار السودانيين (مو إبراهيم، حجار، اسامة داؤود، وجدي ميرغني، آل البرير وآل النفيدي). هؤلاء أتوا به لإنجازْ مهمةْ (إزالة البشير فقط لا غير)، وضمنوا له مقابل ذلك المستقبل الآمنْ.
ولاؤه الرابع ولاء رهبة وخوف. ولاء زنقةْ اضطرارية لعسكر الانتقالية. ولاءْ خانعْ لسيطرة حميدتي. وهذا مكمنْ الداءْ وأسْ الشقاءْ. بل هو السبب المباشر في ارتفاع الدولار، ضنك المعايش وأكل أموال أهل السودان بالباطل، رغم تدثره بأباطيل المصاحف المكتوبة بخط اليد.
ولاؤه الخامس لشلة المزرعة من أصحاب الأنس والسمر، وعلى رأسها (الخل الوفي) الشيخ خضر الذي تزدان صحائفه كل يوم بمسؤولية مباشرة في (التطفيش). أولها البدوي وآخرها وزير الطاقة المستقيل.

*****

ما الذي سيترتب على سياسات توسيع القد الحمدوكية؟
المؤسسات المالية الغربية صاحبة الولاء الأول سوف لن تكتفي بالدولار الجمركي. ستطلب الكوتة الشاملة رفع الدعم وتحرير سعر الصرف. لا يهمها غول الأسعار ولا معدلات التضخم المهولة التي ستنجم. ففي أدبيات البنك الدولي وصندوق النقد خفضْ العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية هدف استراتيجي، يحقق استقرار سعر الصرف في مستويات حقيقية فعلية ويشجع تدفق الاستثمارات الدولية. لذلك بدأ (خبيرهم) المنتدب رفع الدولار الجمركي كخطوة أولى تعقبها أخريات، شاءت عناصر الحرية والتغيير الراجفة أم أبتْ.
وما ينطبق على المؤسسات الدولية ينطبق على مليارات الخليج التي استولت مسبقا على الكثيرْ الزهيدْ في السودان. وما زالت تأمل في امتلاك ميناء بورتسودان، وتأجيج صراعات المحاور في ليبيا واليمن لشراء الأرواح وسفك الدم السوداني (الرخيص).
حتى شرذمة اللصوص التي تضم شركة الجنيد، كيزان شركة شيكان، كيزان بنك فيصل الإسلامي، بنك امدرمان الوطني (احدى شركات الجيش المسروقة)، الى آخر قائمة اللصوصية الطويلة، حتى هؤلاء جمعوا مليار دولار من مال أهل السودان المسروق لتأمين استيراد السلع الاستراتيجية. وسيجنون المليارات كلما شهق الدولار للأعالي مقابل جنيه السودان الهابط.

*****

إذن موظف الأمم المتحدة السابق ذو القدرات المتواضعة كشف أخيرا، متأخرا جدا، عن وجهه الحقيقي. والمتضرر الأوحد هم أصحاب (سلمية.. سلمية.. ضد الحرامية). عشرات ملايين الغلابى المهمشين من أُسرْ الشهداء، الكنداكات والثوار الشباب المكتوين بجحيم الأسعار ووحشية التجار يدفعون الثمن. ولا خيار أمام ملايين المعدمين ممن قادوا مواكب جرد الحساب لتصحيح المسار سوى استئصال هذا النبت الشيطاني الذي غذته أباطيل (شكرا حمدوك) و(القومة للسودان).
آن الأوان لإرجاع هذا المخاتل المخادع اللزج وبضاعته المزيفة للمصنِّعينْ بإمضاء (سلمية.. سلمية.. ضد الحرامية).

 

abujaybain@gmail.com

 

مالك جعفر*
صحافي اقتصادي سابق في (الشرق الأوسط) اللندنية

 

آراء