ثيمة التنميط في الفيلم السوداني “وداعاً جوليا”
د. خالد محمد فرح
1 January, 2024
1 January, 2024
Khaldoon90@hotmail.com
لم يحظ فيلم سينمائي سوداني عبر التاريخ الطويل نسبياً لصناعة السينما بالسودان، والتي تعود بداياتها المبكرة الى خمسينيات القرن الماضي، خصوصا مع أعمال المخرج والمنتج الرائد جاد الله جبارة، بترحيب كبير ولافت للنظر على مستوى العالم ، كمثل الترحيب الذي حظي به فيلم " وداعاً جوليا " للمخرج " محمد كردفاني ". ولعلنا لا نغالي البتة إذا ما قلنا ان خروج هذا الفيلم الروائي السوداني اخيرا، وما ظل يناله من تقريظ النقاد المختصين وجماهير النظارة معا في شتى دول العالم، منذ ان شرع في عرضه في دور العرض في صيف هذا العام، قد شكل في حد ذاته شعلة مضيئة ومتوهجة، في خضم الحنادس والظلمات الكئيبة المتراكمة، التي ظلت ترين على وجه بلادنا وصورتها العامة عن صدق او عن زور منذ عقود. فكان ظهور هذا الفيلم بمثابة ومضة ايجابية مفعمة بالتفاؤل حقاً، والتطلع إلى تحقيق المزيد من الإنجازات الفنية والإبداعية عالية المستوى، التي من شأنها ان تساعد على تحميل تلك الصورة المشوهة عمداً للسودان في الخارج، وأن تسهم في تبويئه المكانه اللائقة به بين الامم الراقية والمتحضرة.
هذا، وبقطع النظر عن السياق السياسي الذي تدور في إطاره احداث هذا الفيلم، إلا وهي أواخر سنوات الفترة الانتقالية التي اعقبت التوقيع في عام ٢٠٠٥م، على اتفاق السلام بين حكومة السودان وحركة التمرد الجنوبية بقيادة العقيد جون قرنق، والتي اختتمت كما هو معروف بتصويت الجنوبيين بأغلبية ساحقة لخيار الانفصال عن السودان، وقيام دولتهم الخاصة بهم في ١١ يوليو ٢٠١١م ، وما شهدته تلك الفترة منذ بدايتها من حدث مزلزل هو مصرع جون قرنق نفسه، في حادث سقوط الطائرة التي كانت تقله من يوغندا إلى جنوب السودان وتحطمها، وبصرف النظر عن القيمة الفنية البحتة لفيلم " وداعاً جوليا "، تلك القيمة التي استطاع ان ينال بموجبها هي فقط في الاساس ، هذا الترحيب والإعجاب، بل عدداً من الجوائز التقديرية الرفيعة ، كما في مهرجان كان ، وربما قريبا ايضا في " الأوسكار " الأمريكية نفسها، فان بوسعنا ان نعتبر هذا الفيلم ايضاً، عملاً وطنياً مخلصاً بلا ضوضاء على طريقته ، يحسب بكل تاكيد لمخرجه وممثليه، استهدف اصلاح الصورة المشوهة قصدا للسودان واهله، عن طريق تسليط الضوء على جوانب حقيقية من شخصية إنسانه الطبيعية غير المتصنعة ، وعلى نحو عفوي غير متكلف، ومن غير تعمُّل من اي نوع سياسي او ايديولوجي او اجتماعي.
ولحسن الحظ ، فلقد وفق جميع الممثلين ايما توفيق في تجسيد الأدوار التي شخصوها في عفوية واقتدار مذهل، فجاءت الصورة الإجمالية التي جسدها الفيلم للشخصية السودانية من حيث هي سواء في الشمال او في الجنوب، صورة شعب ودود ومسالم ومحب للسلام ، ولديه استعداد فطري للتعايش السلمي مع الآخر، في اخاء ومحبة ووئام، مع الاعتداد بالنفس، واباء الضيم، والتمسك بالكرامة في ذات الوقت.
تلك اذن هي أول ضربة يوجّهها هذا الفيلم برسالته العامة لتنميط الغربيين للسودان والسودانيين عموما ، ونعني به ذلك التوصيف التعميمي المغرض الذي كان يقول عمداً بوجود شماليين عرب مسلمين، يضطهدون الجنوبيين الأفارقة المسيحيين والارواحيين الخ الخ ، ويظلمونهم، وينتهكون حقوقهم، ويجبرونهم على اعتناق دينهم بالقوة هكذا على الإطلاق . ولقد راينا في الواقع، من ضمن مشاهد هذا الفيلم، مشهدا لمواطنين جنوبيين مسيحيين قبل الانفصال، وهم يؤدون صلواتهم داخل احدى الكنائس بالخرطوم في امان تام واطمئنان.
وفي ذات السياق نود ان نستعرض من خلال هذا المقال، بعض المواقف والتصرفات التي تنم صور من التنميط بصفة عامة. فعلى سبيل المثال، راينا كيف ان أكرم ذلك الشاب الشمالي المسلم ، زوج منى الذي قتل الجنوبي زوج جوليا لظنه خطأ انه كان بصدد الاعتداء على زوجته، لانه كان يتعقبها مسرعا وراءها بدراجة نارية، في خضم موجة من الهياج والفوضى العارمة التي اجتاحت الخرطوم عقب مصرع جون قرنق، والتي وقع ضحية لها الكثيرون من الأبرياء حقاً من الشماليين والجنوبيين على حد سواء، رأيناه كيف كان يلاطف دانيال ابن جوليا الصغير، ويلعب معه الكرة في باحة منزله بصورة عفوية وودودة. وراينا كيف ان ذلك الطفل الجنوبي، الذي أجاد تشخيص دوره بصورة مذهلة ، ولد صغير السن، ولكنه ماهر للغاية في فن التمثيل، مما ينبئ له بمستقبل باهر في هذا المجال ، رأيناه كيف كان ينادي أكرم عمه ومنى خالته بصورة عفوية جدا ، تنم عن الود المتبادل وعن حميمية العلاقة. وحتى قيام منى بوضع علامات مميزة بطلاء الأظافر على الأواني التي خصصتها لتقديم الطعام والشراب بجوليا وابنها، فيها في الحقيقة شي من المبالغة ، اقتضاها العمل الفني فقط، لمجرد تاكيد الفكرة ، ولم يكن عملا معبرا عن حقيقة الممارسات العادية في التعايش الطبيعي بين السودانيين بمختلف خلفياتهم.
والى جانب تلك التنميطات الكبرى كما نؤثر أن نصفها، احتوى الفيلم كذلك على اشارات اخرى لبضع تنميطات على مستويات ادنى، منها على سبيل المثال: سؤال منى لجوليا عما إذا كانوا كجنوبيين، يستمعون لأغنيات سيد خليفة وغيره من المطربين الشماليين، وعما إذا كن كنساء جنوبيات يعرفن عادة تبخير الاجساد بالاعواد العطرية " الدخان " الخ. ولم ينس المخرج تجاوبا مع ذلك، ان يبرز لنا مشهداً رائعا للمثلة ايمان يوسف " منى "وهو مطربة في الاساس ، وهي تؤدي من داخل باحة لاحدى الكنائس بالخرطوم أغنية " جاري وانا جارو " للمطرب سيد خليفة، والكورال يردد خلفها في نشوة وطرب.
وحتى رقيب الشرطة، ذلك الشخص الفاسد والمرتشي، لمجرد انه علم ان منى قد قدمت لقسم الشرطة من وراء ظهر زوجها ، لكي تحصل على مضبوطات تساعدها على التعرف على هوية الجنوبي القتيل زوج جوليا، حتى تستطيع الوصول إلى اسرته من اجل مساعدتها، في مسعى منها لتخفيف وطأة إحساسها الثقيل بمسؤوليتها عما حدث لذلك الرجل وأسرته، فقد نمّط ذلك العسكري الوقح ، شخصية تلك السيدة المحترمة منى في عقله المريض، وحاول ان ينتهك خصوصيتها ويخدش حياءها ، عندما ادخل راسه أكثر من اللازم داخل سيارتها، لكي يستنشق عطر " دخانها " الذي انما تدخنته لزوجها فقط ، كما تقضي الثقافة السودانية بذلك. وقد اعتقد ذلك العسكري البائس، ان تلك السيدة المتحررة مظهراً ، التي تقود سيارة، وتدخل أقسام الشرطة، وتتحدث مع العساكر ، وترشوهم حتى تتحصل على بعض المعلومات الخ ، لا بد ان تكون " مطلوقة " وسهلة المنال. ولكنها انتهرته وذكرته بأن زوجها بوسعه ان يقتله جزاء فعلته، ولا بد ان ذلك الشرطي قد وعى الدرس تماما، لعلمه اي نوع من الرجال يكون زوجها.
وفي المقابل، نشاهد في الفيلم رجلا شمالياً وهو يحاول التحرش بجوليا عندما كان يجلس إلى جوارها في احدى مركبات النقل العام " الحافلات "، فتنتفض جوليا وتبتعد منه، وهي تحدجه بنظرة امتعاض واستنكار حادة، والشاهد من وراء تلك اللقطة هو بالطبع، ان ذلك الرجل الشمالي، قد نمّط شخصية تلك الفتاة الجنوبية وسلوكها بصورة آلية مسبقاً، معتبراً قبولها بما كان ينوي فعله معها ، من قبيل الأمر المفروغ منه والمسلم به في تقديره الخاطىء بكل تأكيد.
ولا ننسى ايضاً ان اصرار اكرم على منع زوجته منى من مواصلة حرفة الغناء، يجئ هو الاخر ايضاً، انطلاقاً من تصور تنميطي ظل سائداً داخل المجتمع السوداني، مؤداه ان احتراف الغناء عموماً، ليس من عمل النساء المحترمات، وسليلات الاسر الكريمة والجديرة بالتقدير الخ.
ومهما يكن من امر في الختام، فان فيلم " وداعاً جوليا " ، سوف يبقى لسنوات طويلة في تقديرنا، علامة بارزة في مسيرة فن السينما في السودان ، كما ان من شأنه ان شاء الله تعالى، ان يحفز المزيد من الفنانين السودانيين في القطاع السينمائي، من منتجين ومخرجين وممثلين وكاتبي سيناريو وهم كثيرون والحمد لله، ومن بينهم العديدين من الموهوبين حقا، إلى ارتياد هذا المجال الذي ظل مهملاً زماناً في السودان، وبذلك نكون موعودين بنهضة سينمائية حقيقية نفخر بها بين العالمين، باذنه تعالى.
لم يحظ فيلم سينمائي سوداني عبر التاريخ الطويل نسبياً لصناعة السينما بالسودان، والتي تعود بداياتها المبكرة الى خمسينيات القرن الماضي، خصوصا مع أعمال المخرج والمنتج الرائد جاد الله جبارة، بترحيب كبير ولافت للنظر على مستوى العالم ، كمثل الترحيب الذي حظي به فيلم " وداعاً جوليا " للمخرج " محمد كردفاني ". ولعلنا لا نغالي البتة إذا ما قلنا ان خروج هذا الفيلم الروائي السوداني اخيرا، وما ظل يناله من تقريظ النقاد المختصين وجماهير النظارة معا في شتى دول العالم، منذ ان شرع في عرضه في دور العرض في صيف هذا العام، قد شكل في حد ذاته شعلة مضيئة ومتوهجة، في خضم الحنادس والظلمات الكئيبة المتراكمة، التي ظلت ترين على وجه بلادنا وصورتها العامة عن صدق او عن زور منذ عقود. فكان ظهور هذا الفيلم بمثابة ومضة ايجابية مفعمة بالتفاؤل حقاً، والتطلع إلى تحقيق المزيد من الإنجازات الفنية والإبداعية عالية المستوى، التي من شأنها ان تساعد على تحميل تلك الصورة المشوهة عمداً للسودان في الخارج، وأن تسهم في تبويئه المكانه اللائقة به بين الامم الراقية والمتحضرة.
هذا، وبقطع النظر عن السياق السياسي الذي تدور في إطاره احداث هذا الفيلم، إلا وهي أواخر سنوات الفترة الانتقالية التي اعقبت التوقيع في عام ٢٠٠٥م، على اتفاق السلام بين حكومة السودان وحركة التمرد الجنوبية بقيادة العقيد جون قرنق، والتي اختتمت كما هو معروف بتصويت الجنوبيين بأغلبية ساحقة لخيار الانفصال عن السودان، وقيام دولتهم الخاصة بهم في ١١ يوليو ٢٠١١م ، وما شهدته تلك الفترة منذ بدايتها من حدث مزلزل هو مصرع جون قرنق نفسه، في حادث سقوط الطائرة التي كانت تقله من يوغندا إلى جنوب السودان وتحطمها، وبصرف النظر عن القيمة الفنية البحتة لفيلم " وداعاً جوليا "، تلك القيمة التي استطاع ان ينال بموجبها هي فقط في الاساس ، هذا الترحيب والإعجاب، بل عدداً من الجوائز التقديرية الرفيعة ، كما في مهرجان كان ، وربما قريبا ايضا في " الأوسكار " الأمريكية نفسها، فان بوسعنا ان نعتبر هذا الفيلم ايضاً، عملاً وطنياً مخلصاً بلا ضوضاء على طريقته ، يحسب بكل تاكيد لمخرجه وممثليه، استهدف اصلاح الصورة المشوهة قصدا للسودان واهله، عن طريق تسليط الضوء على جوانب حقيقية من شخصية إنسانه الطبيعية غير المتصنعة ، وعلى نحو عفوي غير متكلف، ومن غير تعمُّل من اي نوع سياسي او ايديولوجي او اجتماعي.
ولحسن الحظ ، فلقد وفق جميع الممثلين ايما توفيق في تجسيد الأدوار التي شخصوها في عفوية واقتدار مذهل، فجاءت الصورة الإجمالية التي جسدها الفيلم للشخصية السودانية من حيث هي سواء في الشمال او في الجنوب، صورة شعب ودود ومسالم ومحب للسلام ، ولديه استعداد فطري للتعايش السلمي مع الآخر، في اخاء ومحبة ووئام، مع الاعتداد بالنفس، واباء الضيم، والتمسك بالكرامة في ذات الوقت.
تلك اذن هي أول ضربة يوجّهها هذا الفيلم برسالته العامة لتنميط الغربيين للسودان والسودانيين عموما ، ونعني به ذلك التوصيف التعميمي المغرض الذي كان يقول عمداً بوجود شماليين عرب مسلمين، يضطهدون الجنوبيين الأفارقة المسيحيين والارواحيين الخ الخ ، ويظلمونهم، وينتهكون حقوقهم، ويجبرونهم على اعتناق دينهم بالقوة هكذا على الإطلاق . ولقد راينا في الواقع، من ضمن مشاهد هذا الفيلم، مشهدا لمواطنين جنوبيين مسيحيين قبل الانفصال، وهم يؤدون صلواتهم داخل احدى الكنائس بالخرطوم في امان تام واطمئنان.
وفي ذات السياق نود ان نستعرض من خلال هذا المقال، بعض المواقف والتصرفات التي تنم صور من التنميط بصفة عامة. فعلى سبيل المثال، راينا كيف ان أكرم ذلك الشاب الشمالي المسلم ، زوج منى الذي قتل الجنوبي زوج جوليا لظنه خطأ انه كان بصدد الاعتداء على زوجته، لانه كان يتعقبها مسرعا وراءها بدراجة نارية، في خضم موجة من الهياج والفوضى العارمة التي اجتاحت الخرطوم عقب مصرع جون قرنق، والتي وقع ضحية لها الكثيرون من الأبرياء حقاً من الشماليين والجنوبيين على حد سواء، رأيناه كيف كان يلاطف دانيال ابن جوليا الصغير، ويلعب معه الكرة في باحة منزله بصورة عفوية وودودة. وراينا كيف ان ذلك الطفل الجنوبي، الذي أجاد تشخيص دوره بصورة مذهلة ، ولد صغير السن، ولكنه ماهر للغاية في فن التمثيل، مما ينبئ له بمستقبل باهر في هذا المجال ، رأيناه كيف كان ينادي أكرم عمه ومنى خالته بصورة عفوية جدا ، تنم عن الود المتبادل وعن حميمية العلاقة. وحتى قيام منى بوضع علامات مميزة بطلاء الأظافر على الأواني التي خصصتها لتقديم الطعام والشراب بجوليا وابنها، فيها في الحقيقة شي من المبالغة ، اقتضاها العمل الفني فقط، لمجرد تاكيد الفكرة ، ولم يكن عملا معبرا عن حقيقة الممارسات العادية في التعايش الطبيعي بين السودانيين بمختلف خلفياتهم.
والى جانب تلك التنميطات الكبرى كما نؤثر أن نصفها، احتوى الفيلم كذلك على اشارات اخرى لبضع تنميطات على مستويات ادنى، منها على سبيل المثال: سؤال منى لجوليا عما إذا كانوا كجنوبيين، يستمعون لأغنيات سيد خليفة وغيره من المطربين الشماليين، وعما إذا كن كنساء جنوبيات يعرفن عادة تبخير الاجساد بالاعواد العطرية " الدخان " الخ. ولم ينس المخرج تجاوبا مع ذلك، ان يبرز لنا مشهداً رائعا للمثلة ايمان يوسف " منى "وهو مطربة في الاساس ، وهي تؤدي من داخل باحة لاحدى الكنائس بالخرطوم أغنية " جاري وانا جارو " للمطرب سيد خليفة، والكورال يردد خلفها في نشوة وطرب.
وحتى رقيب الشرطة، ذلك الشخص الفاسد والمرتشي، لمجرد انه علم ان منى قد قدمت لقسم الشرطة من وراء ظهر زوجها ، لكي تحصل على مضبوطات تساعدها على التعرف على هوية الجنوبي القتيل زوج جوليا، حتى تستطيع الوصول إلى اسرته من اجل مساعدتها، في مسعى منها لتخفيف وطأة إحساسها الثقيل بمسؤوليتها عما حدث لذلك الرجل وأسرته، فقد نمّط ذلك العسكري الوقح ، شخصية تلك السيدة المحترمة منى في عقله المريض، وحاول ان ينتهك خصوصيتها ويخدش حياءها ، عندما ادخل راسه أكثر من اللازم داخل سيارتها، لكي يستنشق عطر " دخانها " الذي انما تدخنته لزوجها فقط ، كما تقضي الثقافة السودانية بذلك. وقد اعتقد ذلك العسكري البائس، ان تلك السيدة المتحررة مظهراً ، التي تقود سيارة، وتدخل أقسام الشرطة، وتتحدث مع العساكر ، وترشوهم حتى تتحصل على بعض المعلومات الخ ، لا بد ان تكون " مطلوقة " وسهلة المنال. ولكنها انتهرته وذكرته بأن زوجها بوسعه ان يقتله جزاء فعلته، ولا بد ان ذلك الشرطي قد وعى الدرس تماما، لعلمه اي نوع من الرجال يكون زوجها.
وفي المقابل، نشاهد في الفيلم رجلا شمالياً وهو يحاول التحرش بجوليا عندما كان يجلس إلى جوارها في احدى مركبات النقل العام " الحافلات "، فتنتفض جوليا وتبتعد منه، وهي تحدجه بنظرة امتعاض واستنكار حادة، والشاهد من وراء تلك اللقطة هو بالطبع، ان ذلك الرجل الشمالي، قد نمّط شخصية تلك الفتاة الجنوبية وسلوكها بصورة آلية مسبقاً، معتبراً قبولها بما كان ينوي فعله معها ، من قبيل الأمر المفروغ منه والمسلم به في تقديره الخاطىء بكل تأكيد.
ولا ننسى ايضاً ان اصرار اكرم على منع زوجته منى من مواصلة حرفة الغناء، يجئ هو الاخر ايضاً، انطلاقاً من تصور تنميطي ظل سائداً داخل المجتمع السوداني، مؤداه ان احتراف الغناء عموماً، ليس من عمل النساء المحترمات، وسليلات الاسر الكريمة والجديرة بالتقدير الخ.
ومهما يكن من امر في الختام، فان فيلم " وداعاً جوليا " ، سوف يبقى لسنوات طويلة في تقديرنا، علامة بارزة في مسيرة فن السينما في السودان ، كما ان من شأنه ان شاء الله تعالى، ان يحفز المزيد من الفنانين السودانيين في القطاع السينمائي، من منتجين ومخرجين وممثلين وكاتبي سيناريو وهم كثيرون والحمد لله، ومن بينهم العديدين من الموهوبين حقا، إلى ارتياد هذا المجال الذي ظل مهملاً زماناً في السودان، وبذلك نكون موعودين بنهضة سينمائية حقيقية نفخر بها بين العالمين، باذنه تعالى.