جاع الناس وشبعت الكلاب

 


 

 

عبدالله محمد أحمد بلال

انهمرت زخات الرصاص من كل اتجاهات الدنيا، وأزت الطائرات تدك المباني، والخلق، والأنعام، وعفاريت الجن.. وهاج الناس وماجوا كأنما يتخبطهم الشيطان، اصطكت أسنانهم خوفًا، وتخابطت سيقانهم، تحركها شهوة الحياة، أسرعوا يلملمون ما خف من أغراضهم، للهروب من الجحيم المستعر
لحظتها كان (مصعب) يقلب الأمور على وجوهها، لم يكن له في هذه الدنيا سوى هذا البيت المتواضع، الذي يأويه وأسرته، وقد غادرت بقية عائلته شرقًا وغربًا وشمالاً تلتمس الحياة، وهو لا يملك من المال، ما يسمح له بالعيش خارج موطنه بكرامة، فهداه تفكيره أن يشد الرحال لجنوب السودان، الجزء الحبيب من كيانه، الذي أضاعه الحكام المتهورون قصيروا النظر!
بدأ يحزم متاعه، تساعده زوجته التاية، وبناته الثلاث، أما طفله الوحيد (ياسر) أيقونة الأسرة، ومركز اهتمامها، فقد سار يتفقد كلبته الأثيرة (بوبو)..
وجدها مختبئة خلف جدار المزيرة، تهوهو وتنبح نباحًا أشبه بصراخات الثكالى، تبحلق هنا وهناك، وينتفض جسمها هلعًا ورعبا، وهي تكر كريرًا، وتبحلق بعينين مرعوبتين يسارًا ويمينًا، وياسر يحاول أن يهديء من روعها فتتكور أمامه، يطبطب عليها، ويمسح ظهرها، فتهز ذيلها استئناساً؛ وأهل البيت، بعد أن فرغوا من لهاثهم المحموم، تفقدوا ابنهم الصغير، ولم يجدوا له أثرا فطفقوا ينادون
- يا ياسر .. ياسييير ، فينتبه للأصوات ويرد بصوت منخفض
- آي أنا يا هون ده ..فيعنفه أبوه عنفًا ممزوجًا بلين ابوه-
- يا (يسوري) إحنا في شنو وانت في شنو يا ولدي ؟؟ أرحكاكا بسرعة. فركض يلبي النداءات، وبينما هو في وسط حوش الدار، جاءت رصاصة طائشة، مزقت احشاءه، فصرخ وهوى على الأرض، مضرجًا بالدماء..
هرع أهل البيت يستجلون ما حدث، وطفقوا يصرخون ويولولون من بشاعة المشهد، أما (التاية) فقد انهارت..جلست على الأرض، تهيل التراب على رأسها وهي تموج يمينًا ويسارًا ! دون أن تنبث ببنت شفه، تقطعت حبائل صوتها، وغارت دموعها في سرداب عميق، وظلت عيناها تبحلقان في اللاشيء .. على إثر الصرخات، أسرعت الأعداد القليلة من النساء اللاتي حرمهن العوز، من ترك بيوتهن، الى بيت (مصعب) ولمّا رأوا (ياسرًا) مضرجًا في دمائه، علت أصواتهم تبكي، أما رجالهم فقد ألجمتهم الدهشة، وغرز الألم أنيابه في صدورهم . وانبرى أحدهم من وسط الوجوم يقول
- يا إخوانا الموت حق، وإكرام الميت دفنه ، حنقعد نتفرج كده؟ فرد عليه آخر
- المقابر لم تعد آمنة، والطريق إليها محفوف بالمخاطر وقد نتعرض كلنا للهلاك، فتقدم الجمع رجل كهل على سيمائه وقار وقال بصوت رزين
يا جماعة الخير: وحدوا الله واعلموا أن كل نفس ذائقة الموت، ولا دائم إلا الله، وإنا لله وإنا اليه راجعون، وحبيبنا ياسر طفل بريء وهو طير من طيور الجنة بإذن الله . يا قوم لقد أخذ الله وديعته، ولكل أجل كتاب، جعله الله شفيعًا لوالديه؛
وهذا الذي يجري في البلاد، من عمل شياطين الإنس، وربنا سبحانه وتعالى بيقول :( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحقَّ عليها القول فدمرناها تدميرا) .. نحن لا ناقة لنا في هذه الحرب ولا جمل، إستعينوا بالله ، وادفنوا الشهيد في دار أبيه و( ولا ترموا بأنفسكم للتهلكة)، ونحن إن جلسنا هنا سنلقى نفس المصير، فاحتموا بالمناطق الآمنة، حتى يكتب الله أمرًا كان مفعولا، وتوكلوا على الله فمن يتوكل على الله فهو حسبه.
دفنوا ياسر، و انفض الجمع، البعض يضرب يدًا بيد، والبعض ساهم، تتصارعه أفكار مرهقة.. ومصعب موجوع مكلوم، وقد توقف مخه عن التفكير، وعيناه تسحان دمعًا ساخنًا يحرق الحشا.. اقترب من زوجته، ليخفف عليها من وطأة الفاجعة، وضع رأسه على رأسها ويمناه على كتفها وبكى، يريدها أن تبكي، ليخفف عنها الألم، وهي ساهمة، تحاول أن تقول شيئًا ولا يخرج الكلام، تحجر عيناها، كفصي خرز قديم.. و(مصعب) يتنهنه ويقول لزوجته بصوت متحشرج
- استغفري الله يا التاية، وحدي ربك. والتاية تنظر اليه بعينين جامدتين ولاترد. فانزوى عنها في ركن قصي، يغالب اللوعة والألم، وأحطن بها بعض الجارات وحملنها الى الفرندة، والتاية تحملق فيهن باستغراب ولا تنطق!!
بدأت الناس تهجر الحي، ولم يبق إلا مصعب واسرته، ومجموعات من المارقين، يكسرون البيوت، ويسرقون المتاع ويغتصبون ما تبقى من النساء
لم يشف (مصعب) من آلامه وحسراته، وسهر لأيام جالسًا على قبر ابنه، والكلبة (بوبو) تجلس بجواره باسطة يديها، حزينة، لا تنبح وقد امتنعت عن الأكل .. وفي ليلةٍ ليلاء سمع (مصعب) صراخ فتاة، وطلقات نيران، فقرر أن يترك الحي والمدينة، ويزحف الى جنوب السودان، عانى ما عانى لإقناع زوجته وزوجته لا تتكلم ، تهز رأسها يمينًا ويسارًا وعيناها شاخصتان على قبر صغيرها ..ولما إشتد القصف، وتهاوت البيوت بمدافع السوخوي، ورشاشات الكلاشينكوف والآربجي، ساقوا التاية عنوة، توجهوا نحو المجهول
جلست (بوبو) حزينة وحيدة، أنهكها الجوع، فهزلت وفقدت رونقها، وشكلها الجميل، ويومًا سمعت أصوات كلاب، فخرجت وانضمت اليهم، وبحكم الجوع ، استساغت اللحم البشري، الملقى في الطرقات والأزقة ومن يومها، لم تعد، "بوبو" للبيت، حيث وجدت لحمًا بشريًا كثيرًا في أرجاء كثيرة من المدينة، وصاحبت فلولاً من فحول الكلاب، وضلت تملأ بطنها لحمًا طريًا وتشبع غرائزها..
أما (مصعب) فقد وصل مع أسرته إلى مركز إيواء في الجنوب بعد لأي ومشقةٍ، وما زال يعاني من سوء الفرش، وقلة المؤن، وحرارة الجو، ولسعات الناموس، والتاية صامتة تنهشها أسراب البعوض، فأحالت جسمها ثقوبًا سوداء، وأدى عزفها عن المأكل ، رغم قلته، والماء الآسن الذي تشربه على مضض إلى مومياء.
تدارت يومًا خلف شجرةٍ لتتبول فلدغها ثعبان، فصرخت، وكانت آخر صوت لها في الحياة !.

abdallasai@yahoo.com

 

آراء