كأنما لم يستوعب جبريل إبراهيم التاريخ وما يدور على المرح السياسي حاليا إذ يخرج علينا الرجل بين عشية وضحاها محذراً كل من يحاول عزل الإسلاميين. تلك ليست سوى محاولة بائسة من جبريل بحثاً عن زعامة متوهمة تحت مظلة سياسية أوسع. الرجل يسعى لاسترداد جلباب أيديولوجي قديم بزي مقاتلي الغرب الإفريقي. هو جلباب أوسع من ذلك الزي الجهوي الضيق. كما هو " موضة " لم تعد تلائم دور أبطال تراجيديا المرحلة الإنتقالية. تلك المحاولة البائسة ليست محور أزمة جبريل. بل معضلة بؤسه تكمن في عجزه عن فهم المنحنى التاريخي حيث لحق بمقعد في عربة متأخرة من قطار الثورة. هذا العجز يتبدى جليا في عدم إدراك جبريل سيناريوهات حراك ثورة ديسمبر وقسمات قوى المرحلة الإنتقالية. جبريل يحاول عبثاً ركوب ظهر التاريخ من حيث انتهت " غزوة أم درمان "الفاشلة. أفا كانت تلك العملية العسكرية البربرية وهو زعيمها ووريثها تسنهدف نظاماً للبوذيين ؟
*** *** ***
كذلك يكشف جبريل عن جهل فاضح بواقع الإسلاميين حاليا. توهم جبريل أنه ما في وسع أي جهة أو قوة سياسية القدرة على عزل الإسلاميين يعري جهل الرجل بمنطلقات وتوجهات وحصاد الحراك الجماهيري العارم . صحيح تعثرت حركة التقدم على طريق الثورة كما ارتبكت الرؤى في ظل شروخ داخل معسكر الثورة، لكن الإنجاز الأكبر الثابت لذلك الحصاد هو إدانة نظام الإسلاميين المعرّف زورا بالإنقاذ وكنسه. من الجلي للعيان إخفاق جبريل في الإلمام بوضع الإسلاميين أنفسهم. وحدهم الإنتهازيون و"الكمبارس" ممن أمسوا نجوما ومخرجين – على رأي العراب الراحل غشية رحمة الله روحه - يجمعهم البكاء على زمن التكسّب والغنائم الميسّرة من إمتيازات، عربات وذوات أخدان.
*** *** ***
ربما لا يدرك جبريل رغبة شريحة واسعة من المستنيرين وسط الإسلاميين في النأي بأنفسهم عن المعترك السياسي عقب سقوط النظام العشائري الفاشي .ذلك نأي لا ياتي من الزهد المطلق في السلطة إنما عن قناعة بحتمية مراجعة سيرة النظام الفاسد. ثمة نخبة – ليس بينها بالطبع جبريل- تعكف على استخلاص دروس كيفية تحول "المشروع الحضاري" إلى مستنقع يعج بكل الآفات الضارة المهلكة . بل كيف هوى دعاة الرشد والتقوى إلى الدرك الأسفل من الطغيان والظلم والإستبداد. أفيعلم جبريل فقدان الجموع الهادرة ضمن مليونيات الثوار الثقة في إسلاميين يتكلمون عن الطهر وهم منغمسون في شهوات السلطة والثروة والبطن والفرج حد العمى.
*** *** ***
هناك ثلة من إسلاميين أدركوا البون الشاسع بين إنتقال التنظيم من الثورة إلى الدولة وبين ممارسة السلطة باسم التنظيم والثورة في ظل الدولة. فالحركة الإسلامية "الأخوان المسلمون" لم تعبر المخاض السياسي التقليدي المعروف في عديد من أقطار العالم الثالث حيث انتقل التنظيم المناضل من ميادين الكفاح والعمل المسلح إلى أروقة السلطة كما في الجزائر، جنوب أفريقيا ، فيتنام وأثيوبيا المجاورة. ربما لم يلتفت قطاع عريض من الإسلاميين إلى تأثير ذلك في إهدار مشروع تمنوا به إستعادة أنموذج "مجتمع المدينة" لكن إنجرافهم في التطرف حملهم إلى النظر إلى مواطنين شركاء في البلد خوارج فخسروا ثلث الوطن وثلثي الثروة. مفصل الأزمة تجسد في مسارب الردة العميقة عن كل حقول المشروع الحضاري وكل مساربهم أفضت إلى الخسران المبين.
*** *** ***
جبريل نفسه أحد شهود العيان على إنتشار سلطان الجبروت المعزز باسلام مخادع يمارس أهله الباطل وينتهون عن الحق . مما يشغل بال المستنيرين الناجين من الهلاك البحث ليس في كيفية وصول أولئك إلى سدة النظام إنما في كيفية تسنمهم عليها الثلاثين الطوال. هو كذلك بين الصفوف الأمامية حيث استشرت ممارسات النهب الممنهج لمؤسسات الدولة والمال العام دون خشية الله واستوطاء الرأي العام. هو في وسط النخبة الحاكمة حينما جرت عمليات تدمير البنى التحتية وربما يطاله السؤال عن كيفية تدمير شبكات النقل الجوي، النهري والبحري. وإزالة مشروع الجزيرة العملاق عن خارطة إقتصاد البلاد .
من الأفضل حتما لجبريل مواصلة إلتزام ذلك الصمت الخؤون وألا يتوغل في دور المنافح عن الحقوق .
*** *** ***
حتى عندما وقعت واقعة" المفاصلة" لم يتقدم جبريل دعاة رأب الصدع كيلا يتم عزل فرقة إسلامية من قبل إسلاميين. بل آثر الرجل حمل السلاح في وجه إخوته الإسلاميين . وقتئذٍ لم تكن غاية جبريل ورهطه عزل الإسلاميين الحاكمين بل أقصاءهم. هنا نحن أمام خيارين؛ إما نصدق محاججة جبريل بالنهوض في وجه نظام إسلامي ظالم مستبد شن حرب الإبادة والتقتيل الوحشي والتجريد القسري والإغتصاب الجماعي في حقوق قبائل من رعاياه. إما ان نقبل إتهامات النظام لجبريل ومن سار معه إلى مسرح الإقتتال بإشعال نار الفتنة القبلية والجهوية. هما خياران ليس بينهما ما يغري جبريل بادعاء الدفاع عمن عزلهم جموع الشعب .على أي الخيارين يمضي جبريل سيحترق لا محالة.
*** *** ***
ضمن محجاجاته البائسة زعم جبريل رفضه عزل الإسلاميين نأيا عن تجربة عزل الشيوعيين إبان الديمقراطية الثانية. تلك فرية مركبة لا تحتمل المقاربة.
فطرد النواب من البرلمان جاء انتهاكا أخرقا للدستور بالإضافة إلى إ حقوق الناخبين وحصانات البرلمانيين المستنيرين الأطهار المنحازين لحقوق الشعب وطموحاته .فوق ذلك فتلك العملية الشوهاء هندسها "إخوان مسلمون" معروفون بالأسماء استدرجوا إلى فخاخها الحزبين الكبيرين التقليديين في سيلق مزايدة فجة مفترى بها عنوانها " الدستور الإسلامي" كلا الحزبين اعتذرا عن ذلك الموقف الخطأ بينما غض الإسلاميون الطرف عن خطيئتهم. الوجهة الأخرى من المقابلة غير المتكافئة تتمثل في إنجاز عزل الإسلاميين من قبل جموع الشعب في ثورة عارمة أصدرت أحكاما نهائية حاسمة في حقوقهم باتهامات دامغة منها ممارسة الإستبداد ، الفساد، هدر دماء الأبرياء ، التشريد، التعذيب وتبديد أرصدة الشعب.
*** *** ***
هكذا تتضح وعورة مسالك جبريل . فهو لا يعلم أو يريد معرفة إنكباب نخبة من الإسلاميين على مراجعة مسلسل ذلك الإنهيار المريع. هؤلاء لن يبرئوا جبريل من الإنغماس في الخطايا والمسؤولية فيما يتصل بالتردي الوطني العام أمو فيما يرتبط بالكارثة الإنسانية الوصمة في دارفور أبناء عشيرة جبريل وجهويته الموقع باسمهم اتفاق جوبا لن يغفروا للإسلاميين أرتال الخطايا والعذابات المثقلة كواهل أجيالهم والمعطلة حركة تقدمهم الإجتماعي والإقتصادي. هؤلاء لا يعنيهم حاليا الإنشغال بمستقبل الإسلاميين بل يركزون على مصيرهم . من حقنا مساءلة جبريل عما لماذا لم يرفع أي من قيادات الحركات المسلحة الدارفورية شعار المطالبة بانفصال الإقليم رغم كثرة شكاياهم من التهميش والتعالي متباين الأشكال؟ لعل في بعض الإجابات ما يردع جبريل عن التوغل في مزاعمه غير الناضجة وطنياً.
aloomar@gmail.com