جدال القنوات الفضائية “المُعَسَّر” أم حوار الآلية الثلاثية “المُسَهَّل” .. لتحاشي الانزلاق من شفير الهاوية؟

 


 

 

بروفيسور/ مكي مدني الشبلي
المدير التنفيذي - مركز مأمون بحيري

تشهد القنوات الفضائية كل ليلة جدلاً عقيماً بين ممثلي قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي والميثاق الوطني). وظل هذا الجدال يدور في حلقة مفرغة يفاقم خواءها صحفيو تلك القنوات الفضائية بأسئلة تحريضية تزيد الجدال عقماً. ويتواصل هذا المشهد الشائن للاحتباس السياسي في السودان بشكل يومي على القنوات الفضائية لأكثر من عام بين فصيلي قوى الحرية والتغيير. ويتواصل هذا السجال الأجوف دون انقطاع أمام كاميرات القنوات الفضائية في حين يتسبب الفصيلان في إحباط كافة الجهود الوطنية والدولية الهادفة لاستبدال هذا الجدال "المُعَسَّر" بواسطة صحفيي القنوات الفضائية بالحوار "المُسَهَّل" بواسطة الآلية الثلاثية ونظرائها الوطنيين بمساندة المجتمع الدولي والإقليمي.
وحتى يستأنف السودان السير قدماً بعد طول كساح فإن فرقاء قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي والميثاق الوطني) مطالبون بالعزوف عن هذا الشجار المشحون باستعراض مركزية الذات والانخراط المباشر خلف كاميرات القنوات الفضائية في الحوار "المُسَهَّل" دولياً ووطنياً. ويتطلب هذا السلوك إحجام فرقاء الحرية والتغيير عن تبادل اتهامات التخوين والإقصاء، فكلاهما قد ثبت دوره بالتناوب في الفشل الكبير في تحقيق أهداف ثورة ديسمبر المجيدة رغم انقضاء أكثر من ثلاثة أعوام على انتصارها الميمون.
وحتى تتحقق الأهداف المنشودة من الحوار الواجب، ينبغي لكافة المتسببين في هذا الواقع السياسي المأزوم تعظيم المصلحة الوطنية العليا وكبح جماح المصلحة الفئوية السفلى ليتسنى تحقيق السلام المستدام والتحول المدني الديمقراطي المنشود. ويستدعي ذلك من كافة مسوغي الاحتباس الراهن التفاعل المسؤول مع جملة من التحديات الماثلة بما تتطلبه من حس وطني ونضج سياسي يجنب السودان الانزلاق من شفير الهاوية.

تحديات تفادي انزلاق السودان من شفير الهاوية:
تسير الأوضاع في السودان نحو تصاعد الأزمة السياسية لتبلغ مرحلة كسر العظم بين الفرقاء المدنيين والعسكريين. ومما يزيد من تبعات تصاعد الأزمة لجوء عدد من الفرقاء للاستقطاب القبلي لتحقيق مكاسب سياسية زائلة. وقد أفرز هذا السلوك صداماً قبلياً دامياً في الأجزاء الغربية والشرقية والجنوبية من السودان، ويهدد بانتشار الإحتراب في كافة أنحاء البلاد. وتفادياً لهذه المآلات الخطيرة يواجه جميع الفرقاء تحدي البناء على القواسم المشتركة التي ساهمت في نجاح ثورة ديسمبر المجيدة والتعامل بمسؤولية وحكمة للسيطرة على الوضع الأمني المتأزم. ويأتي على أهم مسببات النجاح في تفادي الانزلاق من شفير الهاوية تقديم الدعم للمؤسسة العسكرية للقيام بدورها في فرض هيبة الدولة وتحقيق الأمن والسلام بدلاً عن الحملة غير المسؤولة عليها في هذا الظرف العصيب من بعض السياسيين.

تحديات تحديد المدة المتبقية من الفترة الانتقالية:
يمثل التوافق على المدى الزمني لما تبقى من الفترة الانتقالية إحدى أهم التحديات التي تواجه الفرقاء. وفي مواجهة هذا التحدي الكبير ينبغي إدراك أن الفترة الانتقالية ليست مدة يحددها السياسيون، ولا فزّاعة يشهرها العسكريون. بل هي متطلب زمني يفرضه انجاز مهام اقتصادية واجتماعية بعينها تحقق الانتقال التدريجي والمتسلسل من اقتصاد النزاع إلى اقتصاد السلام توطئة للانتقال إلى اقتصاد التنمية المستدامة. وذلك فضلاً عن الإيفاء بما يستدعيه كل ذلك من إصلاح أجهزة الدولة للتحضير المتكامل للعملية الانتخابية. وتشير الدلائل المشهودة إلى الفشل الصريح في إنجاز مهام الانتقال من اقتصاد النزاع إلى اقتصاد السلام برغم انقضاء أكثر من ثلاث سنوات منذ سقوط النظام السابق. ونظراً لخطل وخطورة إجراء الانتخابات للتحول الديمقراطي قبل انجاز مهام الفترة الانتقالية ينبغي التوافق على المدى الزمني للفترة الانتقالية بحيث تكفي لإنجاز المهام المنوطة بها، وليس بالقفز للانتخابات كحل للاحتباس السياسي الراهن. وهنا تبرز الضرورة لتغليب الاعتبارات الفنية الواقعية على الاعتبارات السياسية والعسكرية المجازية في تحديد سنوات الفترة الانتقالية المتبقية. وبخلاف ذلك سيعيق الواقع السياسي المتوتر خلال هذه الفترة كفاءة انجاز المهام الاقتصادية الضرورية لتحقيق السلام والانتعاش الاقتصادي، وبالتالي يؤثر سلباً على إجراء الانتخابات وتنفيذ مهام مرحلة الحكم الديمقراطي.

تحديات المرجعية الدستورية للسلطة المدنية:
خضعت الوثيقة الدستورية لنقد تجسد في دعوة لجان المقاومة وقوى الحرية والتغيير لإعداد إعلان دستوري مستحدث يحكم مسار ما تبقى من الفترة الانتقالية بدلاً عن تلك الوثيقة. وعلى الرغم من وجاهة تلك التحفظات، إلا أنها تركزت في الفصول المتعلقة بالشراكة المدنية العسكرية التي تجاوزها الوضع الراهن، وعدم التزام المدنيين والعسكريين بمرجعيتها. بيد أن الطعن في الوثيقة الدستورية لم ينصب على فصولها الأساسية المتعلقة بالأحكام العامة وأجهزة واختصاصات الحكم الانتقالي السيادية والتنفيذية والتشريعية والقضائية، والسلام الشامل، والحقوق، والحريات، والعدالة. وعليه فإن الدعوة لإلغاء مجمل الوثيقة الدستورية تفرز تحدياً كبيراً يواجه التوافق على الإعلان الدستوري الجديد في ظل الاستعصاء الحاد بين المكونات المدنية التي شاركت في ثورة ديسمبر المجيدة. وعليه هناك حاجة لتفادي تكرار المخاض العسير الذي عانت منه البلاد خلال أكثر من أربعة أشهر لإعداد وإجازة الوثيقة الدستورية عام 2019، فضلاً عن مشقة تعديلها عام 2020. وتفادياً لضياع المزيد من الوقت تبرز الضرورة للإبقاء على الفصول غير الخلافية في الوثيقة الدستورية على أن يتم تعديلها بما يستجيب للتحفظات الدستورية التي طرحتها لجان المقاومة وقوى الحرية والتغيير. ويشمل ذلك إدخال فقرات تنص صراحة على فض الشراكة بين المدنيين والعسكريين، وتوسيع نطاق المشاركة في إعداد المرجعية الدستورية باصطحاب مرئيات الحركات غير الموقعة على اتفاقية سلام جوبا.

تحديات تواجه العسكريين:
يواجه العسكريون تحدي استكمال الاختراق الذي انطوى عليه بيان الفريق البرهان في 4 يوليو 2022 بإزالة توجس الكثيرين من استمرار السطوة العسكرية عن طريق المهام الموكلة للمجلس الأعلى للقوات المسلحة. وذلك بالتأكيد على عدم تغول هذا المجلس المقترح على المؤسسات المدنية السيادية والتنفيذية والتشريعية. كما يتطلب الموقف التعهد بشغل كافة مناصب المجلس الأعلى بأفراد أكفاء من القوات المسلحة من غير الذين تقلدوا مناصب دستورية خلال الفترة المنقضية من الفترة الانتقالية. كما على قيادة الجيش التعاون في تحقيق ملكية الشركات العسكرية والأمنية لوزارة المالية والتخطيط الاقتصادي، وتقديم المتورطين في قتل وجرح الثوار للعدالة. وتشمل التحديات التي تواجه العسكريين قبل انطلاق الحوار "المُسَهَّل" استكمال تهيئة بيئته بوقف العنف ضد الثوار، وإطلاق سراح جميع المعتقلين، والشروع مباشرة في إعادة هيكلة القوات المسلحة.

تحديات تواجه قوى الحرية والتغيير:
يمثل التحدي الأبرز أمام القيادة التاريخية السياسية والنقابية لثورة ديسمبر المجيدة (قوى الحرية والتغيير وتجمع المهنيين) كيفية الخروج من مأزق القيادة بالانقياد. ويتطلب ذلك استعادة دورهما المشهود في قيادة الشارع طيلة فترة النضال الشاق لإسقاط النظام السابق. ويستدعي ذلك التحلي بالحنكة والحصافة السياسية لاسترجاع ممارسة القيادة دون انقياد لتحقيق أكبر قدر من أهداف الثورة بتدرج وتسلسل وبأقل قدر من الخسائر للوطن والمواطن. وعلى قيادة قوى الحرية والتغيير إدراك أن التمادي في المواقف المتأرجحة تجاه حوار الآلية الثلاثية سيقودهم للتصادم مع المجتمع الدولي والإقليمي الذي يصنف السياسيين الرافضين للحوار بالمهددين للسلم القومي والإقليمي والدولي. وأسوة بمطالبة العسكريين بشغل المجلس الأعلى للقوات المسلحة من غير الأعضاء الحاليين في مجلس السيادة، ينبغي للسياسيين النأي عن شغل أي مناصب تنفيذية أو تشريعية خلال ما تبقى من الفترة الانتقالية بتخصيص تلك المناصب للكفاءات الوطنية المستقلة.

تحديات تواجه لجان المقاومة:
أما لجان المقاومة فيواجهها تحدٍ كبيرٍ يتمثل في ضرورة الخروج من مأزق التنظيم الأفقي القاعدي واستبداله بتنظيم هرمي يمكِّنها من التحول الواجب لكيان سياسي قادر على المشاركة الفاعلة في قيادة السودان للتحول المدني الديمقراطي. ويتطلب ذلك انخراط لجان المقاومة مباشرة في دورات مكثفة لبناء القدرات بحيث لا تؤثر على استقلاليتها، وتعزز وعيها السياسي والتنظيمي ليكمِّل مهاراتها المشهودة في المقاومة الميدانية الفاعلة. وتبرز أهمية هذا التحول التنظيمي للجان المقاومة في الصعوبات الكبيرة التي واجهتها بسبب التنظيم القاعدي في تنفيذ ورفع الاعتصامات الأربعة خلال عطلة عيد الأضحى المبارك، التي كان من أبرز مسبباتها غياب التنظيم الهرمي الذي ينطوي على توحيد جهة اتخاذ القرارات وتنفيذها. وهناك ضرورة لتستوعب لجان المقاومة أن استمرار إخفاقها في إشهار مقدراتها السياسية يخصم جوهرياً من المكاسب التي حققتها على المستوى الميداني، ويضع على المحك الدعم المستحق الذي حققته محلياً وإقليمياً ودولياً.

تحديات تواجه أطراف العملية السلمية:
يواجه قيادات أطراف العملية السلمية تحدياً كبيراً يتمثل في ضرورة النأي عن المشاحنة حول مناصب السلطة المركزية بالعودة للقواعد المهمشة في مناطق الصراع والتعاطي الميداني مع مشاكل ما بعد الصراع التي لم تنل ما تستحقه من اهتمام من قيادات الحركات المسلحة منذ التوقيع على اتفاقية جوبا لسلام السودان في أكتوبر 2020. ويعني ذلك بالضرورة إخلاء المناصب المخصصة لأطراف العملية السلمية لكفاءات وطنية مستقلة تختارها تلك الأطراف. كما يطلب من هذه القيادات التعاون مع الأطراف المدنية والعسكرية لإدماج الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة عبد العزيز الحلو، وحركة جيش تحرير السودان بقيادة عبد الواحد نور في العملية السلمية. وهناك ضرورة أيضاً لإبراز مرونة لتعديل اتفاقية جوبا بما يستجيب لمطالب بقية الولايات السودانية، خاصة الشرقية والشمالية.

تحديات تواجه الكفاءات الوطنية المستقلة:
تواجه الكفاءات الوطنية المستقلة تحدياً كبيراً يتمثل في لزوم الخروج من مأزق المشاركة بالمشاهدة والانخراط في قيادة ما تبقى من الفترة الانتقالية بتكريس التجرد والنزاهة المهنية والمعارف العصرية لتحقيق السلام المستدام والانتعاش الاقتصادي توطئة للانتقال الديمقراطي المنشود. وتمثل المساهمة في حث الشباب لتبني السلوكيات والقيم الإيجابية نحو العمل بروح الفريق لضمان للوصول إلى الإنتاجية المهنية التي تساعد على تحقيق أهداف الانتقال والخروج عن السلوكيات السلبية الفاسدة الموروثة من النظام السابق.

تحديات تواجه مراكز الفكر والتميُّز الوطنية:
ينطوي التحدي الأبرز أمام مراكز الفكر والتميُّز الوطنية الاضطلاع بدورها كرائد لمكونات المجتمع المدني بإعداد الدراسات والبحوث، والمشاركة في تسهيل الحوار المجتمعي، وتنظيم برامج بناء القدرات لمساعدة السياسيين ولجان المقاومة في تحقيق التكامل الواجب بين المسارات السياسية والميدانية في مواجهة تحديات الانتقال المدني للسلطة. ونظراً لغياب المؤسسة المرجعية في السودان التي يحتكم إليها الجميع عند الأزمات المستعصية يجب على مراكز الفكر والتميُّز الوطنية الاضطلاع بهذا الدور باتخاذ المواقف الحصيفة والرصينة والعزوف عن الانحياز لأي من الأطراف المتنازعة بتأطير الاحتباس السياسي الراهن من خلال ثلاثة مناهج بدلاً من منهجين لمعالجة كيفية تحقيق الانتقال للحكم المدني المكتمل دون إراقة المزيد من الدماء الغالية.

تحديات تواجه اللجنة التسييرية لآلية وحدة قوى الثورة:
تواجه اللجنة التسييرية لآلية وحدة قوى الثورة المستحدثة تحدياً كبيراً يتمثل في كيفية استنباط "آلية لتوحيد قوى الثورة" تشمل لجان المقاومة ذات التنظيم الأفقي القاعدي الذي أصبح معوقاً لدورها حتى على المستوى الميداني، ناهيك عن توحيد المكونات القاعدية لهذه اللجان حول المواقف السياسية الخلافية. كما هناك تحدٍ آخر يتمثل في ضرورة إفصاح هذه اللجنة التسييرية عن مسوغات تكوين مجلس ثوري مترهل من مائة مقعد نصفهم للجان المقاومة، ويشمل كافة أقاليم السودان، والنصف الآخر يوزع بين الأحزاب السياسية والنقابات وحركات التمرد المسلحة وأسر الشهداء. وهل المجلس الثوري المقترح يمثل بديلاً للآلية الثلاثية المدعومة من المجتمع الدولي والإقليمي والمحلي، ومن قوى الحرية والتغيير(المجلس المركزي والميثاق الوطني)؟ وهل انتشار اللجنة التسييرية المكثف على القنوات الفضائية ومنصات التواصل الاجتماعي بتبني نهج ثوري إقصائي يساعد على انطلاق الحوار المدني-المدني؟ وهل لدى اللجنة التسييرية رحابة من الوقت تتنظر خلاله الأزمة السياسية الطاحنة تكوين هذا المجلس الثوري المترهل جغرافياً وسياسياً ونقابياً لينزع فتيل الأزمة القابلة للانفجار؟

تحديات تواجه الآلية الثلاثية:
تواجه الآلية الثلاثية بوصفها ممثلة للمجتمع الدولي والإقليمي تحدياً كبيراً يتمثل في حماية ودعم المسارات السياسية والميدانية الرامية لإنجاز الانتقال المدني الديمقراطي. كما ينبغي للآلية استيعاب ضرورة تحقيق الملكية الوطنية والإنبات المحلي لمجهودات التحول المدني الديمقراطي بإشراك نظراء محليين من مراكز الفكر والتميُّز في تسهيل الحوار بين الفرقاء المدنيين، بحيث تتكامل الجهود الدولية والإقليمية والوطنية لإنهاء الاحتباس السياسي الراهن الذي تسبب فيه انقلاب أكتوبر 2021.

تحديات حجر الجدال العقيم على القنوات الفضائية:
تفادياً لاستمرار الجدال العقيم بين فرقاء الحرية والتغيير على القنوات الفضائية أثناء الحوار "المُسَهَّل" دولياً وإقليمياً ووطنياً ينبغي حصر مهمة تنوير الإعلام المحلي والإقليمي والدولي حول مسارات الحوار على ناطق رسمي يتفق عليه المُسَهِّل الدولي والإقليمي والوطني. ويعني هذا جحر الناطقين الرسميين لقوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي والميثاق الوطني) عن الإدلاء بأية معلومات حول مسارات الحوار أمام كاميرات القنوات الفضائية.

melshibly@hotmail.com

 

آراء