جديرون بالاحترام: ضد هيكل في إفاداته الأخيرة عن السودان

 


 

 




kha_daf@yahoo.com

السودان عبارة عن (جغرافيا فقط).هكذا لخلص الأستاذ محمد حسنين هيكل السودان في إفاداته التي قدمها لقناة سي بي سي المصرية الأسبوع الماضي في حوار شامل تحت عنوان (مصر أين؟ ومصر الي أين) في خواتيم العام 2013. وهي عبارة تكشف في معناها الخفي أنالسودان ليس شعبا أو أمة أو دولة. ولم أجد وصفا يليق بهذا الحكم سوي أنه يمثل إستعلاء فارغ وجهل مسف لعلامة بارزة في تاريخ الصحافة العربية. وقد طوف هيكل كعادته في مثل هذه اللقاءات علي تطورات الوضع الإقليمي والداخلي، متحدثا عن النظام العربي الإقليمي وأشار الي أن مصر فقدت قوتها الناعمة المتمثلة في الثقافة والفن التي تكونت عبر حقب متطاولة، وقال إن عام 2014 سيكون حاسما لمستقبل مصر الذي يعتمد إستقراره علي التحالفات الإقليمية، وأنتقد رئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوغان وقال رغم أهمية تركيا إلا أن أردوغان تسيطر علي ذهنه الأساطير لأنه فقد مصر بسهولة وأبدي حماسا للعلاقات مع إيران، كما أنتقد سياسة قطر في المنطقة مؤكدا أن الغني لا يصنع قوة. وأنا أشاهد هذه الحلقة تذكرت النقد الهادر الذيواجهه الدكتور سيار الجمل عندما نشر كتابه (في تفكيك هيكل) الذي هاجم فيه منهجية محمد حسنين هيكل وعده متطفلا علي التاريخ السياسي وقال: هو مجرد صحفي وليس مؤرخا سياسيا مؤكدا أنه  لن يقبل به طالبا في الفصل لأنه لا يملك المؤهلات العلمية الكافية لأداء هذا الدور الذي يدعيه لنفسه.
ظلت علاقة هيكل بالسودان تعاني من ذات الحساسيات التاريخية مع الشقيقة مصر، وهي ما عرف عند النقاد بأزمة الهيكلين. وهو الدكتور أحمد حسنين هيكل الذي كتب (عشرة أيام في السودان) وهي مشاهداته لدي افتتاح خزان سنار عام 1925. وعدت النخبة السودانية كتابه تشويها وإساءة للسودان عندما عاب طعام أهله ووصف بعض نسائه في المزارع والأرياف بما لا يليق. مما حدي بالبعض أن يرد عليه كتابة ، ومن ثم ألف المؤرخ محمد عبدالرحيم كتابه (دفع الإفتراء) ردا عليه.أما الأزمة الثانية فهي مقال محمد حسنين هيكل عام 1964 (ثم ماذا بعد في السودان) الذي أنكر فيه أن تكون أكتوبر ثورة حقيقية.فهاجمه جيل أكتوبر. وسير طلاب المعهد الفني في اليوم التالي مظاهرة صاخبة هاجمت السفارة المصرية. وجاءت حادثة احتكاكه مع الرئيس الأسبق جعفر نميري في الطائرة والتي يقول الرواة أنه لكمه في وجهه حتي تدخل الرئيس السادات قائلا (ده أيه ده يا جعفر).
وظل هيكل يتحاشي زيارة السودان رغم تطوافه الذي لا ينقطع علي العواصم العربية والإقليمية. وعندما إلتقت به مجموعة من المعارضة السودانية بقيادة المرحوم د. عمر نورالدائم في التسعينيات بترتيب من الصحفي الراحل يوسف الشريف وصفوه بأنه ( مثل شجر الدليب ترمي بظلها بعيد عن أهل البيت) مما يعني أنه يتحاشي الدخول في معمعان السياسة السودانية خوفا من إستثارة الحساسيات التاريخية.
عندما طالعت افادات وزير خارجيتنا مولانا علي كرتي مؤخرا في حوار صحفي بشان تسليم مصر ذخيرة فاسدة اي (فشنك) للسودان في صفقة مشتركة تذكرت موقف الكوميديان عادل امام في مسرحية (الواد سيد الشغال) عندما اراد الدخول علي زوجته ولم يكن يدرك انه كان محللا فقط لسيدته التي يعمل معها حتي يتزوجها مجددا طليقها الثري .ولما رفضت أن يمسها قال لها (أنت عايزة صحابي يقول علي فشنك). ولما افتي المأذون بعدم صحة طلاقه منها حتي يدخل بها قال (الله أكبر).
والأمر لدي النخبة السياسية في السودان لم يكن مجرد ذخيرة (فشنك)بل مسيرة تاريخ وسلوك مستقر ونظرة  مستعلية،وصورة مبتسرة للشخصية السودانية في الذهن الشعبي والسينما المصرية التي تختزلها  في شخصية (عبده البواب).هذه الأشياء الصغيرة تتطور لتصبح موقفا صلبا، لذا ظلت صورة مصر في الذهن الشعبي السوداني أقرب الي شخصية (منسي) ذي الأصول المصرية في عمل الطيب صالح الإبداعي الذي كان يري الدنيا عبارة عن ضحكة كبيرة ممتدة وغش متواصل (ان الحياة نكتة كبيرة وضحكة متصلة وفهلوة لا تنقطع وضرب من شغل الحلبسة). وقد هلل السودانيون عندما قدم الممثل يحي الفخراني مسلسله الشهير (الخواجة عبدالقادر) وظنوا أن هذا العمل هو البداية لتغيير الصورة النمطية للإنسان السوداني الذي أبرزه المسلسل بأنه من أهل التصوف والعرفان والحقيقة.
إن إفادات الأستاذ هيكل الإعلامية عن السودان في نهايات عام 2013 لا تخرج عن سياق آراءه التاريخية عن السودان التي ظل يرددها منذ مطلع الخمسينات. وهي تعبر بصدق عن أزمة الذهن السياسي المصري عن السودان وهي أن (الملك فاروق هو ملك مصر السودان) وأن السودان يستمد أهميته فقط من أنه حديقة خلفية للنفوذ المصري، وظل السودان في هامش الهم الإستراتيجي المصري إلا عند الضرورات القصوي التي تهدد الأمن القومي المصري. وقد كشف هيكل عن نظرته تلك في مراسلاته السرية المحظورة الي الرئيس الأسبق (حسني مبارك) والتي نشرها بعد ذلك في كتابه (زمن حسني مبارك) بعد ثورة 25 يناير.
يقول هيكل.. "وعلى سبيل المثال أخيرًا، فإن مصر عقدت مع السودان اتفاق تكامل - لم أكن متحمسًا له، وإن لم أكن بالتأكيد ضده - لكن كل شيء لابد أن يجيء بمعيار، خصوصًا أن تلك لم تكن المرة الأولي أو الثانية أو الثالثة التي توقع مصر فيها مثل هذا الإتفاق مع السودان. وظني أن التكامل - إذا أريد له أن ينجح - يحتاج إلى ما لا يملكه الطرفان الآن من الموارد والحقائق ! وفي بداية الأمور ونهاياتها، فإن الإلتفات للسودان - مع فائق أهميته - ليس بديلاً عن دور مصر العربي - وبالغ خطورته. وقد أكون مخطئًا - يا سيادة الرئيس - فيما رأيت ولاحظت، لكني أصدر فيما أقول عن نظرية للأمن القومي المصري، أؤمن بها".
هنا وضع هيكل كفتين لموازين الأمن القومي المصري، إما الإلتفات الي البعد العربي، ودور مصر الإقليمي أي الإهتمام بقضية فلسطين والصراع التاريخي مع إسرائيل ، أو التركيز علي البوابة الجنوبية وهي السودان.ولا يخفي هيكل ترجيحه لكفة التوجه نحو الشمال الشرقي أي الإهتمام بقضية الصراع العربي الإسرائيلي، وعدم الإهتمام بالسودان، لأنه لا تتوفر الحقائق والموارد الضرورية لتلك العلاقة. وينبع إيمان هيكل بإستراتيجية التوجه شرقا، وجعل الصراع العربي الإسرائيلي هو مركز إستراتيجية الأمن القومي المصري، - ينبع من- البحث عن دور قيادي وطليعي لمصر في المنطقة العربية.أما البوابة الجنوبية، أي السودان فهو لا يعطي مصر دورا رياديا في المنطقة العربية هذا فضلا عن أن السودان لا يشكل أي خطورة علي الأطلاق علي مرتكزات الأمن القومي المصري .لكن في المقابل لا تحتمل مصر وجود نظام معاد لها في الخرطوم أو مستقل عن نفوذها السياسي الذي أكتسبته بالتأثير المباشر، ووجود نخبة سياسية موالية، وعبر صيرورة التراكم التاريخي.وأتذكر في هذا السياق الحوار الذي تم مع وزير الخارجية الأسبق د. مصطفي عثمان وكوندليزا رايس مساعدة وزير الخارجية للشئون الأفريقية في عهد كلنتون ومستشارة الأمن القومي للرئيس أوباما الآن. قالت كوندليزا رايس للدكتور مصطفي إسماعيل: ارتكبت حكومة الإنقاذ كل الأخطاء ولكنها اصابت في شئ واحد وهو إستقلال السودان من النفوذ المصري.
قال هيكل في مقابلته مع قناة سي بي سي المصرية الأسبوع الماضي إن السودان هو عبارة عن وضع جغرافي فقط. مما يعني أنه لم يرتق الي مصاف الدولة أو الأمة. وتعني العبارة كما سنوضحها في سياقها التاريخي أن السودان عبارة عن كتل قبلية وجهوية صماء لا تجمع بينها هوية وطنية جامعة أو شعور قومي صادق أو روح سودانية خالصة.وهو يعني بهذه العبارة أن الإنتماء في السودان للقبيلة وليس للوطن.وتنم هذه الإفادة عن ذهنية إستعلائية لا تدرك الإبعاد التاريخية والحضارية للسودان في المنطقة. وهو ذات ما عبر عنه هيكل في كتابه الشهير (خريف الغضب) عندما عير السادات بسواد بشرته وأصله السوداني وقال إن السادات كان يعاني من عقدة لونه ودمائه السودانية. وقال هيكل في خريف الغضب إن أم السادات (ست البرين) كانت أبنة رجل يدعي خير الله تم استرقاقه وبيعه في دلتا النيل وقد ورث السادات من أمه ست البرين تقاطيع الزنجية وورث مع هذه التقاطيع مشاعر غاصت في أعماقه بعيدا. وقال إن السادات ظل يعاني من عقدة اللون حتي مماته.وهيكل بالرأي السابق عن أن السودان حالة جغرافية فقط يؤكد أنه لم يزل واقفا في محطة 1953 التاريخية عند زيارته للسودان.لأنه وصف السودان للرئيس عبدالناصر بعد زيارته للخرطوم آنذاك قائلا: إن السودان هو مجموعة قبائل متفرقة قد تجمع بينها تحالفات ظرفية وعابرة ولكنها سرعان ما تذوب وتتلاشي وهذه القبائل لا تجمع بينهما هوية وطنية جامعة أو دولة حديثة. وقال هيكل في حديثه للقناة المصرية أنه أدرك منذ ذلك التاريخ أن الجنوب سينفصل من السودان. وذهب أبعد من ذلك وقال السودان الراهن ليس دولة متماسكة بل هو أربع سودانات في الشمال والجنوب والشرق والغرب. وأبدي هيكل في سياق تحليله النظري للراهن المصري إهتماما بدولة جنوب السودان وقال يمكن لمصر أن تستفيد من الإمكانات الزراعية الهائلة في جنوب السودان والموارد المائية والطبيعية. وضرب صفحا عن ذكر أي تعاون استراتيجي أو إقتصادي بين السودان ومصر وهو رغم الوضع الراهن المضطرب إلا أنه من ناحية إستراتيجية لا يوجد بدليل للبلدين سوي التعاون المشترك في جميع المجالات. وهيكل في سياق هذا التحليل يجعل من دولة جنوب السودان بديلا للعلاقات التاريخية للسودان في سياق التعاون الإقتصادي وسد الفجوة الغذائية التي ستواجه مصر خلال العقود القليلة القادمة لضيق المساحات الزراعية وزيادة الكتلة السكانية.
حسب روايته السابقة والتي سردها في حلقات برنامجه التوثيقي (مع هيكل) بقناة الجزيرة سابقا فقد إلتقي هيكل في زيارته للسودان في عام 1953 بالسيدين عبدالرحمن المهدي وعلي الميرغني. ورفض الميرغني أن يحدثه في السياسة وطفق يحدثه عن ممالك النحل والنمل والطيور حتي أدرك الرسالة وأنهي المقابلة دون أن يظفر بإجابة علي تساؤلاته وقال له تحدث في السياسة مع الخلفاء. وعلي عكس ذلك الموقف تحدث السيد عبدالرحمن المهدي مع هيكل وقال ردا علي سؤاله عن تفضيل حزب الأمة للإستقلال قال المهدي: نحن نتحدث مع الإنجليز لأنهم مثل السائس الذي يقود عربة الكاريته التي يجرها حصان. فالسائس هم الأنجليز وهو الذي يقود العربة ويوجهها حيثما يريد. أما الحصان الذي يجر العربة فهم المصريون والحصان يأتمر بأمر السائس ولا يخالفه في أمر لذا فإن السيد عبدالرحمن المهدي يتحدث مع الإنجليز عن أمر إستقلال السودان وليس مع المصريين. وقال هيكل معلقا علي حديث السيد عبدالرحمن المهدي أنه حديث ينطوي علي حكمة وبعد سياسي واقعي.

ظل الأستاذ هيكل يفاجئ النخبة السودانية في كل مرة  يطل فيها عبر النشر والإعلام بالتعليق علي حوادث تاريخية تعارض تماما ما وقر في وجدان ومعرفة وإدراك الشعب السوداني. ومثالا لذلك كتب هيكل عن رئيس وزراء السودان الأسبق محمد أحمد المحجوب علي هامش كتابه (بين الصحافة والسياسة) بأنه توسط لدي عبدالناصر لإطلاق سراح العقاد. وعرفه في هامش الكتاب بأنه رئيس وزراء السودان الأسبق وأتهمه بأنه زير نساء، رغم صداقته العريقة معه.وتلك التهمة أبعد ما تكون عن المحجوب الذي عرف بالثقافة والعفة والفصاحة البيان.وقد نفي لي الأستاذ الراحل  أحمد سليمان المحامي هذه التهمة المقيتة من قبل هيكل، وكما هو معروف كان أحمد سليمان صديقا مقربا من المحجوب، مؤكدا أن المحجوب كان مشهورا بالعفة والكرم أضافة الي صفات النجابة و القيادة، والفصاحة والبيان، كما هو معلوم.و أورد هيكل ذلك التعريف المنقوص عن المحجوب علي هامش كتابه للتحقير بالقيادات السياسية السودانية خاصة ذات النزعة الإستقلالية والأنفة والكرامة الوطنية.
قال الأستاذ هيكل في ذات السياق: إن الرئيس نميري بعد مؤتمر القمة العربية في الرباط في ديسمبر 1969 أعرب عن قلقه من الإهتمام بالثورة الليبية أكثر من السودانية.وقد إلتمس نميري من عبدالناصر زيارة السودان حابسا غيرته من زيارة ناصر الي بنغازي أولا، رغم سبق ثورة مايو في السودان علي ثورة الفاتح في ليبيا..وقد أشار هيكل الي هذه النقطة مجددا عندما نقل وقائع الأجتماع الأول بين جمال عبدالناصر والقيادة السوفيتية في زيارته الأولي لموسكو، حيث أبدي الروس إهتماما بثورة الفاتح لموارد البترول بينما لم يكترثوا للتغيير الذي حدث في السودان رغم أنه كان محسوبا عليهم في بادئ الأمر.
إستجابة لطلب الرئيس الأسبق نميري، زار عبدالناصر الخرطوم في رأس السنة الفاصلة بين سنوات القلق والغليان 1969-1970.وفي الخرطوم ذهب الي منزل الرئيس نميري وتعرف علي أسرته، كما خاطب عددا من الحشود الجماهيرية، وأستغل نميري تلك الزيارة ليعلن قرارات التأميم المشهورة. في الخرطوم أنبثقت التوجهات الإستراتيجية الجديدة لعبدالناصر في الصراع العربي الإسرائيلي، حيث قال عبد الناصر لهيكل أنه بعد أن أتضحت المواقف العربية في قمة الرباط، وحدوث ثورة السودان وليبيا، لا بد من نقل الصراع من الإطار المحلي الي النطاق الأقليمي والدولي. ولابد من تأثير الصراع العربي الإسرائيلي علي موازين الحرب الباردة بين القطبين، وفي ذلك الوقت قرر عبدالناصر زيارة موسكو لرفع وتيرة الصراع الي المستوي الدولي ليكون جزءا من أجندة الحرب الباردة. يقول هيكل "كان الناس يحتفلون برأس السنة في الخرطوم، وأنا أتمشي علي شاطئ النيل، متجها نحو حدائق المقرن حيث يلتقي النيلان الأبيض والأزرق،وكنت مهموما أفكر فيما قاله لي عبدالناصر من ضرورة رفع الصراع الي المستوي الدولي". وكانت السنة التي شهد ميلادها هيكل بالخرطوم حبلي بالجديد والمثير في خارطة الصراع العربي الإسرائيلي وإعادة تشكيل الخارطة العربية.
وزعم هيكل لنفسه دورا تاريخيا لمنع ضرب الجزيرة أبا بسلاح الطيران المصري.وحسب روايته:إتصل الرئيس الراحل نميري بالرئيس عبدالناصر في مطلع عام 1970 شاكيا من إزدياد المعارضة المسلحة للثورة من قبل الأنصار بالجزيرة أبا،وعدها منفذا لعودة الرجعية مما يستدعي التعامل معها بحسم. وطلب نميري الإستعانة بسلاح الجو المصري.وعرض هيكل نص المحادثة التي جرت بين نميري وعبدالناصر حسب رصد هيئة الإرشاد المصرية، حيث وصف هيكل المحادثة بالوضوح التام..وسرعان ما أحال عبدالناصر الطلب السوداني الي الفريق فوزي وزير الحربية طالبا إعداد العدة والتجهيزات ، للقضاء علي الأنصار في الجزيرة أبا..وتم تحديد أسراب الطائرات التي كانت تضم الأنتنوف ، وقادة السرب منهم العميد مصطفي أمين، والعميد محمد حسني مبارك رئيس الجمهورية المصرية لاحقا. وكان أن تم نشر فرق إستطلاع سياسية وعسكرية في المنطقة لتوجيه وتصويب الضربات.
وقال هيكل عندما أطلعني جمال عبدالناصر علي خطة ضرب الجزيرة أبا بواسطة سلاح الطيران المصري ، طرحت له رأيا مغايرا، مشيرا الي أنه لا يجوز أن يتدخل سلاح الجو المصري لإراقة دماء الشعب السوداني مهما تكن الخلافات السياسية. وأن تدخل مصر العسكري في معركة الخلاف السياسي مع الأنصار سيسمم مستقبل العلاقات بين البلدين الي الأبد،كما أشار حسب زعمه الي أهمية منطقة حوض النيل، وضرورة الإبتعاد عن أي تدخلات عسكرية للحفاظ علي حقوق مصر التاريخية في مياه النيل. وأقترح بديلا للضربة العسكرية حل المشكلة سياسيا. وقال هيكل عارضا وثيقة أخري بخط عبدالناصر موجهة للفريق فوزي وزير الحربية، إن رأي هيكل يبدو معقولا لأنه لا توجد أهمية سياسية للجزيرة أبا، بل يجب الإهتمام بالخرطوم فقط.أي يمكننا التدخل إذا تم تهديد الخرطوم وليس التدخل لقمع تمرد في منطقة نائية بالسودان. وطلب عبدالناصر من الفريق فوزي إبلاغ أنور السادات بوقف الضربة الجوية للجزيرة أبا قبل سويعات من بدء العملية..وهنا يقرظ هيكل من القدرة القيادية للرئيس الراحل جمال عبدالناصر، حيث يري أن عبدالناصر قد أستمع لصوت التاريخ أيا كان مصدره، وأستجاب لرأي هيكل لوقف ضرب الجزيرة أبا، وهذه خصلة نادرة في القادة ومتخذي القرار، في أن يستجيبوا للنصح والمراجعة، بل وأن يحنث بوعد بذله للرئيس نميري بالإمداد العسكري.وبالتالي ينسب هيكل لنفسه فضل إنسحاب الجيش المصري عن ضرب الجزيرة أبا،مدعما ذلك بالوثائق والمخطوطات..ولكن رغم هذه الرواية إلا أن هناك شبه أجماع وسط السودانيين أن سلاح الجو المصري تدخل بالفعل في قصف الجزيرة أبا بقيادة الرئيس الأسبق حسني مبارك، رغم أن هيكل يزعم أن قصف الجزيرة تم بمدافع الهاون ، وربما بعض طائرات سلاح الجو السوداني، ولكنه ينفي نفيا قاطعا تدخل الجيش المصري في هذه الحادثة. ونتيجة لموقف عبدالناصر غضب الرئيس نميري وقرر إقتحام الجزيرة أبا بالجيش السوداني..
ويفاجئ هيكل في برنامجه (مع هيكل) مرة أخري الجمهور السوداني زاعما أن الإمام الهادي مات مسموما بفاكهة قدمت له في كسلا في طريقه للهرب واللجوء نحو أثيوبيا..ويؤكد ذلك بتحديد نوع الفاكهة (مانجو).. وقال إن هذا النوع الغامض من الإغتيالات مشهور في أفريقيا، بدليل أنه لم يتم التوصل الي القاتل الحقيقي حتي اليوم..في المقابل تكشف ملابسات التاريخ المثبتة، والتحقيقات التي أجريت فيما بعد أن الإمام الهادي أغتاله أحد أفراد البوليس في الحدود المشتركة مع أثيوبيا. وأستعرض هيكل ضمن وثائقه خطاب بعثه الرئيس نميري الي عبدالناصر في 8 أبريل 1970، إبتدأ الخطاب بالصيغة التالية (أيها الأخ الرئيس جمال)..وقال هيكل أنه أدرك علي الفور أن محرر الخطاب شيوعيا لأن صيغة النداء التي تبدأ (بأيها) من متلازمات الخطاب العقائدي لدي الشيوعيين. وحمل الخطاب الذي أرسله نميري الي عبدالناصر ربطا أيدلوجيا بين التطورات السياسية في الداخل، وبين ما يحدث علي الساحتين الإقليمية والدولية، حيث أشار الي أن الإستعمار ظل يكثف مؤامراته منذ يونيو 1967، ولكن إنفجار الثورتين مايو وسبتمبر في السودان وليبيا خلقتا روافدا جديدة للثورة العربية الإشتراكية..وهنا قال هيكل: إن خطاب نميري أدرك مسار التاريخ.
في إفادته الجديدة لقناة سي بي سي المصرية الأسبوع الماضي ردد هيكل ذات قناعته السابقة والتي كونها في العام 1953 عقب قيام الثورة المصرية عن أن السودان هو عبارة عن جغرافيا وتحالفات قبلية مما يعني أنه ليس دولة أو شعبا أو أمة لها هوية وطنية جامعة. وهو وصف يتعارض مع حقائق التاريخ وراهن السياسة وواقع المجتمع السوداني وجذوره الحضارية وطبعه المدني.بل هو سيد شعوب العالم. وكما قال الراحل صلاح أحمد أبراهيم نحن جديرون بالإحترام.
نحن جديرون بالإحترام لأن ليس فقط كما قال صلاح أحمد إبراهيم لمجرد الزعم (نحن عرب العرب) مقابل الخطاب العنصري الذي يعيرنا بسواد اللون أو كما قال في قصيدته لعبدالله الصومالي..هل ذقت يوما هوان اللون..هذه الخلاسية هي مصدر عبقرية الشعب السوداني لأنها جمعت أفضل مافي العرب وأنبل ما في الأفارقة.و تكفينا شهادات تاريخية ومعاصرة منها فقط رأي البروفيسور الأمريكي ديفيد بكتولد الذي ظل يؤكد في كل محاضراته  التي ألقاها في مختلف الجامعات الأمريكية أن السودانيين هم أفضل شعوب المنطقة قاطبة دون منازع. وكما قال عالم الآثار الألماني فيلدونغ الذي عمل في السودان ومصر من قبل أن السودانيين أفضل شعوب المنطقة لأنهم يعتزون بكرامتهم ولم يتلوثو بذهنية البقشيش. يقدم السودان سنويا لمصر 6 مليار متر مكعب من حصته حسب إتفاقيات مياه النيل دون من أو أذي ويتعرض للتخوين والهجوم الإعلامي من النخبة المصرية. وكما قال المحجوب في كتابه نحو الغد وهو يقاتل من أجل إستقلالية الأدب السوداني وهويته الوطنية
" أننا لا نرضى بكم بديلا، ولكننا لا نستطيع أن نقول لكم أننا نفضلكم على أنفسنا، فهذا منطق لا يقبله عقل". وتلخص عبارة المحجوب الكاشفة أن النخبة المصرية تريدنا أن نفضلها علي أنفسنا..أن نحترق من أجل أن تحيا هي.
فقد أغرقنا أجمل آثار حضارتنا القديمة وزهراء المدن السودانية حلفا من أجل تشييد السد العالي وكنا نحسب أن ذلك ثمنا طبيعيا لمشروع الوحدة العربية وخصوصية العلاقة مع مصر.ولكن لم يتلق الشعب السوداني سوي الصفعات ولم يلق إلا الفتات ويصعب علي النخبة المصرية أن تعترف أو أن تقول شكرا لهذه التضحية من الشعب السوداني.بل تخلو كل مقررات الجغرافية في المنهج المصري من أي ذكر لهذه المعلومات التي تبرزها بأنها انجاز مصري خالص.شاركت القوات السودانية في حرب الإستنزاف وخاضت حرب أكتوبرمع الجيش المصري وقدم الخبراء السودانيون رحيق خبراتهم البحثية ووثائقهم التاريخية لإنتزاع طابا حتي عادت عبر التحكيم الي حضن السيادة المصرية. وتنازل رئيس الوزراء الأسبق المحجوب الذي يصفه هيكل أنه زير نساء، في عزة وكبرياء أن يأخذ أموالا حسب قرارات القمة العربية في مؤتمر اللاءات الثلاث في الخرطوم 1967 عندما أعتبر المؤتمر أن السودان هو دولة مواجهة ويستحق أن يتلقي نصيبا من الدعم العربي مثل مصر وسوريا.
نحن جديرون بالإحترام لأكثر من ذلك..ولسنا محض جغرافيا فقط كما زعم وأدعي هيكل لأنه يمثل محمولات العقل التاريخي للنخبة السياسية المصرية تجاه السودان، وأزمات الخديوية القديمة. مضي العهد الذي ينتصر فيه طلعت فريد في مبارة تنس ضد حسين الشافعي وتنشر صحيفة الثورة هذا النصر الوهمي في صدر صفحتها الأولي، وتحت أضواء هذا النصر الزائف إضافة لعوامل أخري يقبل في اليوم التالي وساطة الرئيس عبدالناصر بين الوفدين لتحديد تعويضات بناء السد العالي للسودان.
جديرون بالإحترام.. لأن أحفاد بعانخي وتهراقا ومملكة كوش كما ذكرهم الأنجيل ليسوا محض جغرافيا بل هم أحد مراكز الحضارة الإنسانية في التاريخ القديم..وسيكون لهم مكانا يليق بهم تحت الشمس. ولسنا محض جغرافيا لأن منطق الجغرافيا نفسه هو الذي جعل النيل يجري من الجنوب الي الشمال،وكذلك كانت صيرورة الحضارة وعلي ذات الهون تمضي سنة التاريخ.

 

آراء