جريمة نهب مسلح برئاسة قاضي، في قريتنا “ناوا”

 


 

 

مقدمة :

وقعت هذه الواقعة في ١٩٩٦/١٩٩٧، في وقت لم يكن في إمكان الصحف نشر هذا المقال، ويأتي الحرص على نشره الآن، للتذكير بأهمية  التفريق بين الدولة العسكرية والدولة المدنية، بين الشمولية والديمقراطية، بين الفوضى وسيادة القانون، وبين القضاء المسيس والقضاء المستقل، لذلك مهما حدث من معاناة وتعويق للإنتقال للدولة المدنية الديمقراطية، يجب علينا الصبر وتحمل معاناة الإنتقال.


ثم للتذكير بأن بناء دولة القانون يجب أن يبدأ بإعادة بناء وضمان استقلال أجهزة العدالة، وأن هذا البناء لا بد أن يقوم على أسس ومبادئ قوامها العدل، والعدل يعني أن لا نستعيد المرارات، بأن نستبدل الظلم بالظلم والاستبداد بالاستبداد، وإلا فقد البناء أساسه ومصداقيته وإنهار علينا جميعا، لذلك من حق قاضي " كيلة المجاهد" وأمثاله، أن يستفيدوا من حكم دائرة الطعون الخاصة بقرارات لجنة التفكيك، ومن حقنا أن نذكرهم بأننا لم ننس أفعالهم وسنطالب بمحاسبتهم، لكن بأدوات دولة القانون.


الرحمة والمغفرة لمن توفوا من ضحايا الواقعة والتحية للأحياء، فجميعهم ناضلوا في سبيل ان تشرق شمس دولة القانون التي ننشدها جميعا.


عبد القادر محمد أحمد

المحامي


لقد بات من قبيل المسلم به أن وسيلة أنظمة الحكم العسكرية  لحماية نفسها وتوطيد أركانها، هو سلب الحقوق والحريات وتكبيل سيادة حكم القانون، في المقابل نجد أنظمة الحكم الديمقراطي تحمي نفسها بالمؤسسات الديمقراطية وتقنين وحماية الحقوق والحريات.


ولما كان القضاء هو آلية تطبيق حكم القانون لذلك تلجأ الأنظمة الشمولية للعصف باستقلال القضاء، لهذا لم يكن مستغربا أن يطل علينا فجر الثلاثين من يونيو 1989، فتطول قرارات الصالح العام المفترى عليه، خيرة القضاة سلوكا وأداءً ، وأن وأن يتم اختيار بعض القضاة بناءً على أسس لا علاقة لها بمتطلبات المهنة، ليصبح القضاء في النهاية تابعا ذليلا وخادما مطيعا للسلطة التنفيذية ونزواتها .


على أنه ومهما كان حجم ما يمكن أن يقال في هذا الشأن، فإن التجارب تقول أن قضاتنا  احتفظوا لانفسهم بقدر من الاستقلالية يزودون به عن الحقوق والحريات، وأن كان هذا محصورا في المسائل التي لا تمس الأمن السياسي بمفهومه العسكري الإستبدادي، إلا أن ذلك في ذاته يحقق شيئاً من الأمن والسلام الإجتماعي الذي يحمي الناس من حياة الغاب.


ولهذا رسخ في أذهان الناس وهم محقون، بأن القضاء هو الملاذ والملجأ وخط الدفاع الأخير الذى بإنهياره تنهار كل القيم وتعم الفوضى، لذلك يؤسفني جدا أن اسرد واقعة غريبة حدثت لأهل قريتنا ناوا.


ناوا من قرى محافظة دنقلا بالولاية الشمالية وهي تتبع لمحلية دنقلا العجوز وقوعها على الضفة الشرقية لنهر النيل اعطاها رونقا وجمالا، فضلا عن كثبان الرمال الذهبية وأشجار النخيل الخضراء التي تتخلل المنازل، شأنها شأن كل قرى ومدن الولاية الشمالية تمتاز بالوداعة والأمن، وقد عرف أهلها بالتقوى والطيبة والكرم، وهم بطبيعة تكوينهم النفسي يكرهون الظلم والفساد والمحسوبية، ويمسكون عن تأييد الأنظمة التي تقتات من تلك الخصال السيئة.


لقد كان الشاعر والدبلوماسي الأستاذ سيد أحمد الحردلو بارا بقريته ناوا وأهلها حيث نظم فيها أبياتا من الشعر، أقتطف منها :-

ناوا جمال لا يقال .. ناوا حديقة كرنفال

عمرى يباح للحظة قمرية عند التلال

فى التُنضبات مغلغلا خلف الشياه

بلا كلال

فى ريش دوبيت سبوح فوق كثبان الرمال

قلبى هناك معلق فى نخلة عند الزوال

لما ادور مع السواق قافزا فوق الحبال

ناوا.. شرايينى حقول هواك صفراء الغلال

فى حوض (لَتِّى) كم ركضنا كم عشقنا ذاتَ خال

الله.. كم غمست انفاسى بأنداء الشمال

وغناء مئذنة يشق الصمت يُغرقه ابتهال

ناوا.. بلاد الطيب الأخضر فى باب الشمال

اخبرتِنى امجادَ أرضى كيف أمتشِقُ النضال..


نعود لتفاصيل الواقعة الخيالية الحقيقية، فبمجرد انتهاء أهل   المنطقة من حصاد محصول التمر لهذا العام سال لعاب محلية دنقلا العجوز، ولكن كيف السبيل إليه وقد أوفى الناس بالتزاماتهم تجاه الضرائب والزكاة وغيرها، أخيرا تفتق ذهن المحلية فقررت أن يتم جمع جزء من ذلك المحصول باسم (كيلة المجاهد) ، وفي المحكمة المجاورة لمبنى المحلية جلس قاضيها على كرسي القضاء، وقبل أن يبدأ عمله اتته أوامر المحلية بالتحرك، وعلى الفور خلع البدلة وتزيا بزي الدفاع الشعبي، وذهب على رأس مجموعة من بينها ضابط إداري وضابط شرطة يطوفون على القرى التابعة للمحلية يجمعون (كيلة المجاهد).


 لا أدري ما كان من أمر تلك القرى، غير أن الحملة لما وصلت ناوا اصطحبت معها مجموعة من الصبية المضللين كمرشدين، مولانا  يطوف مع الحملة منزلا منزلا وباوامره وتحت إشرافه يتسور  أفراد الحملة المنازل أو يقتحمون أبوابها ويدخلونها عنوة، في حضور أصحابها وفي غيابهم، يأخذون من هذا جوال ومن ذاك جوالين أو اربعة وفق ما يحكم الهوى والمزاج وهم بهتفون كل شئ لله.


المواطن عبد الله شايقي تسوروا منزله في غيابه وأخذوا أربعة جوالات ولما عاد لمنزله ووجد آثار السطو والنهب لم يتمكن من فتح بلاغ ضد الجناة لأن ذلك تم بأمر القاضي وفي حضوره .!


المواطنة زينة فقير إبراهيم اقتحموا منزلها وأخذوا جوال بحاله من مجموعة جوالين تدخرهما لقوت العام، فدافعت بكل شجاعة عن مالها واستردته فلها التحية والتقدير .


المواطن عبد الوارث محمد أحمد ذهبت الحملة برئاسة مولانا لمنزله ودخلوا معه في حوار، ومن الجانب الآخر للمنزل تسور بعض الصبية الحائط واخذوا جوال وغادروا، ولما علم بما حدث لحق بالحملة وبكل شجاعة حاول ممارسة حقه في الدفاع عن ماله، فقبضوا عليه ولم يطلقوا سراحه إلا بعد أن عادوا للمنزل وأخذوا جوالا آخر لأن كل شيئ لله .


المواطنة فاطمة خيري اندهشت واستنكرت دخول منزلها دون استئذان فطلب منها الصبية أن تلوذ بالصمت لان (مولانا القاضي معانا) فما كان منها إلا وأن ردت وبكل شجاعة وأمام المولانا (مولانا شنو البيدخل بيوت الناس بالطريقة دى) .!


المواطن جعفر خضر (ناوا بحري) اتصل بالحملة وقال لهم أن أهل قريته لن يسكتوا على ما يحدث وسيدافعوا عن أنفسهم وأموالهم مهما كان الثمن، فله التحية والتقدير .


وبعد هذا قليل من كثير، وانني حقيقة اجد العذر للمسؤلين بمحلية دنقلا العجوز، فإذا كانت الدولة الام قد تسورت المنازل واخذت الأرواح، والامثلة في ذلك كثيرة، فتسور المنازل بغرض أخذ الأموال يهون، لكن ما بال القاضي المسؤول عن بث الأمن والطمأنينة في الناس والفصل بينهم بالعدل، ما باله يشارك في أفعال يعلم انها إنتهاك صريح للقانون الجنائي ولابسط قواعد الدين والأخلاق.!


ولعله من المفارقات المضحكة المبكية أن الولاية الشمالية طوال تاريخها لم تشهد جريمة سطو منزلي أو نهب مسلح، فإذا بالجريمة تقع ومن الجهات المسؤولة عن حفظ الأمن، وعلى رأسها القاضي المنوط به محاكمة مرتكيبيها.


اعود لمقدمة المقال وأقول اذا كانت مطلوبات الأمن السياسي للأنظمة العسكرية تحتم مصادرة الحقوق والحريات وتكبيل سيادة حكم القانون والعصف باستقلال القضاء، فإن ذلك قد يكون ولكن إلى أمد محدود، لأن القهر والاستبداد، حتما سيدفع الناس لاستنباط الحلول للدفاع عن أنفسهم وأموالهم .

إن تدارك الأمر لن يكون فقط بمحاسبة القاضي أو المسئولين بمحلية دنقلا العجوز، وإنما في إطار حل أشمل يعيد الحريات والحقوق المسلوبة، ويؤمن سيادة  القانون واستقلال القضاء ويعيد كل مؤسسات الحكم الديمقراطي .

عبد القادر محمد أحمد

المحامي


aabdoaadvo2019@gmail.com

 

آراء