جنوب السودان… هناك حاجة ماسة إلى تغيير العُملة ولكن

 


 

 

لن تستطيع أى دولة تحقيق النمو والإستقرار الإقتصادى إذا لم تتوفر على نظام نقدى يوفر السيولة اللأزمة للإقتصاد ويراقب ويتحكم كل المؤشرات التى تعكس الأداء الإقتصادى .
أجاز مجلس الوزراء فى جلسته قبل عام وما ينيف بضرورة تغيير العملة الوطنية الجنيه وهى خطوة جديرة بالإهتمام ، فى ظل الأوضاع الإقتصادية المزرية التى تعيشها البلاد ولكن هناك متطلبات لابد من أخذها بعين الإعتبار من قبل الحكومة ، وتتبادر إلى الأذهان تساؤلات عدة بشأن الدوافع والأسباب التى تجبر الحكومات على تغيير عُملتها المحلية وهنالك دول غيرت أشكال العُملة الوطنية والآثار الإقتصادية التى ترتبت على ذلك ، وتلك الأسباب هو تزوير العملة بشكل مكثف ورواج سوق غسيل الأموال إلى جانب إنفلات معدلات التضخم بشكل تصبح قيمة العملة لا وزن لها أمام العملات الأجنبية الأخرى ، وكذلك إرتفاع معدلات تهريب أموال الدولة إلى الخارج وخاصة فى حالة الحروب أو إفلاس الدولة وعدم قدرتها على سداد إلتزاماتها .
هناك إيجابيات وسلبيات لقرار تغيير شكل العملة المحلية ومدى قدرة الدولة على إدارة سياساتها النقدية، وتتمثل أبرز إيجابيات تغيير شكل العملة فى جذب مدخرات إلى القطاع المصرفى للدولة ، بينما تتمثل أبرز سلبيات ذلك فى تكلفة إصدار العملة الجديدة وزيادة الطلب على العملات الأجنبية نتيجة إتجاه غالبية المواطنين لتحويل مدخراتهم لتلافى الضوابط التى تضعها الحكومات على عمليات السحب الكاش بعد إيداع مدخراتهم فى البنوك ، ما يؤدى إلى إرتفاع سعر صرف العملات المحلية أمام العملات الأجنبية لزيادة الطلب عليها .
وخلال السنوات الخمس الأخيرة إضطرت عدة دول إلى تغيير شكل عملتها المحلية على الرغم من الدوافع والأسباب التى إختلفت من دولة إلى أخرى ، ومن أبرز هذه الدول الهند ، فنزويلا ، تركيا ، الأرجنتين ، البرازيل ، أستراليا ، تركمانستان ، إنجلترا ، السعودية والمغرب .
وهناك أربع تجارب للدول التى غيرت شكل عُملتها منها تجربتين على الأقل لم تلقِ بآثار سلبية على الإقتصاد المحلى ، أو شكل عبئاً على المواطنين فى تغيير العملة القديمة كما فى تركيا والسعودية وتجربتين ترتب عليهما إحتجاجات شعبية واسعة وآثار سلبية كبيرة على المواطنين كما فى الهند وفنزويلا .
الهند:
مرت الهند بتجربة مريرة بعد قرار السُلطات الهندية فى شهر نوفمبر عام ٢٠١٦م بإلغاء التعامل بعملات من الفئات الكبيرة والتى تمثل أكثر من ٨٠٪ من العملة المتداولة فى الهند ، وحض رئيس الوزراء الهندى ناريندرا مودى الشعب الهندى على المساعدة فى القضاء على الفساد والتهرب الضريبى وتنظيف البلاد من الأموال السوداء وتحمل الآثار المترتبة على قرار تغيير العملة .
ومع تصاعد الغضب الشعبى من طول الإنتظار فى طوابير تغيير العملة أمام البنوك وماكينات صرف النقود ومطالبات شعبية وسياسية بإلغاء القرار ، منحت السلطات المواطنين فرصة شهراً لإستبدال العملات القديمة التى بحوزتهم أو إيداعها فى حسابات مصرفية ، وأدى القرار لتعثر الملايين من الشعب الهندى لعدم قدرتهم على سحب أموال لتغطية نفقاتهم اليومية وشراء متطلباتهم الأساسية من الغذاء ودفع نفقات المواصلات ، خاصة فى ظل وجود إعتماد كبير على التعاملات النقدية وزاد من المعانأة إعلان وزير المالية تأخر ضخ الفئات النقدية الجديدة فى ماكينات صرف النقود بسبب مُشكلات تقنية .
كما إشتكى العديد من المواطنين البسطاء الذين لا يمتلكون حسابات مصرفية ويحتفظون بالأموال فى منازلهم من ضياع جميع مدخراتهم وتراجع قيمتها .

فنزويلا :
كانت فنزويلا من أغنى دول أمريكا اللاتينية حتى نهاية السبعينيات من القرن الماضى وكانت أكثر الدول سعادة إلى أن وصل بها الحال إلى تجاوز مُعضلات التضخم 400% ، وإضطرت السلطات إلى طبع العملة دون رصيد إقتصادى وخسر البوليفار الفنزويلى ما يتجاوز 60% من قيمته فى شهر واحد فقط ، وذلك خلال نوفمبر عام ٢٠١٧م مقابل الدولار الأمريكى بالسوق السوداء وسجل سعر الدولار الواحد نحو 4000 بوليفار .
وأصبحت المؤسسات الحكومية فى فنزويلا التى تمتلك أكبر إحتياطى من النفط فى العالم ، تعمل يومين فقط فى الإسبوع ، فى محاولة من الحكومة لخفض فاتورة إستهلاك الكهرباء والمياه ويرافق ذلك نقص كبير فى الدواء والسلع الغذائية وغيرها من الضروريات ، مما جعل هذا البلد يعانى أكثر من زيادة معدل الجريمة بسبب الضغوط التى يتعرض لها الشعب الفنزويلى وفقاً لتقارير دولية وعالمية . يذكر أن قوة الإقتصاد الفنزويلى قبل إنهياره والتى إستندت عليها الرئيس السابق هوجو شافيز طيلة فترة حكمه كانت عبر النفط حيث إعتمدت إعتماداً كلياً على البترول كمصدر وحيد لإقتصادها وناتجها الإجمالى ، كما أن سياسة تشافيز فى التأميم والمصادرة دفعت المستثمرين للهروب برؤوس أموالهم الضخمة إلى الخارج ما أدى إلى إنهيار القطاع الخاص قرر الرئيس الفنزويلى نيكولاس مادورو فى ديسمبر عام ٢٠١٦م إلغاء العملة من فئة ١٠٠ بوليفار وقامت الحكومة الفنزويلية بطرح أوراق نقدية بقيمة ٥٠٠ و٥٠٠٠ بوليفار ، وتبعتها طباعة فئات من ١٠٠٠و ٢٠٠٠و ١٠٠٠٠و ٢٠٠٠٠ بوليفار لتدخل فى الدورة النقدية خلال النصف الأول من العام ٢٠١٧م .
تركيا:
وفى تركيا بعد أن بلغ سعر صرف الليرة التركية عام ٢٠٠٥م نحو مليون و ٥١٤ ألف ليرة للدولار قامت الحكومة التركية فى تجربة إقتصادية ناجحة بإستبدال العملة القديمة وسحبها من التداول عام ٢٠٠٥م ، حيث طرحت بدلاً منها العملات الجديدة الغالية من الأصفار منحت المواطنين فترة ١٠ سنوات لإستبدال عملاتهم القديمة بالعملة الجديدة وذلك من مقر البنك المركزى وفروع بنك "زراعت " الحكومى ، وفى يناير عام ٢٠٠٩م طرحت الحكومة التركية ورقة بفئة ٢٠٠ ليرة بعد أن كانت ١٠٠ ليرة هى أكبر ورقة مالية متداولة ، تم تغيير شكل العملة وزيادة تأمينها وصعوبة تزويرها حيث تم وضع ١٠ علامات على العملات الورقية بدءاً من الليرة الواحدة إلى المائتى ليرة .
وكانت تكلفة حملة الترويج لإستخدام العملة الجديدة بلغت ١٤'١ مليار يورو فى حين تكلفة تغيير الليرة الجديدة بالليرة السابقة يتراوح ما بين ١١ إلى ١٢ ليرة لكل ورقة بنكنوت .
وفى أبريل عام ٢٠١٦م أعلن البنك المركزى التركى عن إنتهاء فترة تبديل العملة التركية القديمة ذات الأصفار الستة مع نهاية العام ٢٠١٦م ، وحذرت إدارة البنك المواطنين بالإسراع فى عملية تبديل العملة القديمة الموجودة بحوزتهم بالعملة الجديدة الخالية من الأصفار .
ورسمياً فقدت العملة القديمة صلاحيتها منذ تاريخ يناير ٢٠١٦م حيث لم يعد بإمكان المواطنين الأتراك منذ ذلك التاريخ تغيير العملات الموجودة فى حوزتهم .
وبعد محاولة الإنقلاب فى ١٥ يوليو عام ٢٠١٦م أصدرت سلطة النقد نسخاً معدنية جديدة من عملة الليرة التركية تحمل صوراً ورموزاً جديدة تكريماً للقتلى والجرحى الذين سقطوا فى أثناء محاولة الإنقلاب الفاشلة التى قادها عدد من ضباط الجيش ضد الرئيس رجب طيب أوردغان.

السعودية:
فى ديسمبر عام ٢٠١٦م أعلنت مؤسسة النقد العربى السعودى " ساما" طرح للأصدار السادس من العملة منذ تأسيس المملكة العربية السعودية الثانية بقيادة عبد العزيز السعود عام ١٩٣٢م ، وشملت العملة الورقية والمعدنية للتداول والمرسوم عليها صورة العاهل السعودى الحالى الملك سلمان بن عبدالعزيز .
وقال محافظ "ساما" أحمد الخليفى أنه سيتم تداول الإصدار الجديد جنباً إلى جنب مع العملة المتداولة حالياً ، ولتلبية إحتياجات السوق من النقد فسوف تستمر المؤسسة فى طرح ما لديها من مخزون من الإصدار الخامس للعملة ، وبررت مؤسسة النقد إصدار العملة المعدنية لفئة الريال الواحد بتأكيدها أنه مع إرتفاع كمية فئة الريال الواحد الورقى فى التداول الذى أصبح يشكل نصف عدد الأوراق النقدية المتداولة ، وزادت التحديات التى واجهت المتعاملين بالنقد بما فى ذلك المؤسسة والبنوك والمحال التجارية ما فاقم صعوبة عد وفرز الكميات الضخمة منها .
وأضافت مؤسسة النقد "وعليه فقد تقرر أن يحل الريال المعدنى تدريجياً محل الريال الورقى إذ أن سك وتداول الريال المعدنى له العديد من الآثار الإيجابية على الإقتصاد السعودى ، فالعمر الإفتراضى للعملة المعدنية يقدر بما بين ٢٠ إلى ٢٥ سنة مقارنة بالعمر الإفتراضى للعملة الورقية الذى يقدر ما بين ١٢ و١٨ شهراً حسب ظروف تداولها ، وقالت المؤسسة " أظهرت الدراسات أن إضافة فئة جديدة إلى فئات العملة المعدنية ستؤدى إلى تقليل عدد القطع المعدنية التى يحملها الشخص وتساعد على إيجاد نوع من التوازن بين العملتين المعدنية والورقية ، خاصة ما دون فئة ( الخمسة ريالات الورقية ) ، وهى الممارسة المعتادة فى العديد من الدول وبناء عليه تقرر إصدار فئة نقدية معدنية جديدة للتداول قيمتها)

مما يتضح أعلاها فقد أسهبنا فى الشرح وبصورة وافية فيما يتعلق بتغيير العملة إلى جانب الإشارة إلى الدول التى غيرت عملتها وجاءت نتائجها أما سلبية أو إيجابية لذلك لابد للحكومة من أخذ تلك المعطيات التى أشرنا إليها بعين الإعتبار لأهميتها القصوى فى هذا الظرف الدقيق الذى يمر بها إقتصاد جنوب السودان ، وفى إعتقادى لربما فعلت حكومة الوحدة الوطنية الإنتقالية ذلك لتعود الأموال المخزنة فى المنازل من قبل المواطنين والمسؤولين على السواء إلى المصارف ، لتعود للإقتصاد عافيتها ولو بقليل لأنها ستدخل فى الدورة النقدية ، فعملية تغيير العملة ستكون مكلفة جداً بالنظر للإرصاهات والمعطيات المذكورة سلفاً على سبيل المثال تبديل الأموال من العملة القديمة إلى العملة الجديدة ، التى ستحدد السلطات المالية والنقدية الفترة ربما قد يستغرق شهر شهران على الأرجح وهذه المدة هى المدة الكافية لعدم حدوث تزوير فى العملة الجديدة ، وأما إذا زادت المدة ستكون هناك إشكالية وستزيد من خطورة ذلك بإعتبار أن الشبكة الإجرامية التى تديرها عصابات على تعاون لصيق ببعض قادة الأجهزة الأمنية ومسؤولين كبار فى وزارة المالية والبنك المركزى ، فتلك الشبكة ستعمل على إفشال عملية تغيير العملة بسلاسة وتحاول بكل جهدً لعدم تحقيق الأمر ، وثالث الاثافى هو صعوبة تحقيق الأمر فى ظل موانع بشرية وطبيعية فالبنسبة للعوامل البشرية فقطاع الطرق سيتسببون فى عدم إتمام العملية فالأوراق النقدية الجديدة التى ستنقل إلى الولايات بغية إبدالها بالعملة القديمة عبر السيارات ستتعرض للنهب من قبل قطاع الطرق كما سبق وأشرت ، وأما فيما يتعلق بالموانع الطبيعية فهطول الأمطار بغزارة فى البلاد على طول العام تجعل من عملية تغيير العملة مشروع بعيد المنال حيث وعورة الطرق وبالتالى عدم وصول النقود إلى وجهتها المحددة فى معيادها ، أما إذا حاولت الحكومة نقل النقود عبر الطائرات فذلك ستكون عملية مكلفة ومرهقة جداً لتكاليفها الباهظة .

josephgabriel067@gmail.com

 

 

آراء