جيش الحكم الثنائي المغتصب.!!

 


 

 

من غرائب السودان وعجائبه أن مؤسسة الجيش هي الأسبق وجوداً من الدولة بثلاثين عاماً، 1925-1955، ومن هنالك جاء الجنين الشائه للدولة، ولأن الجيش هو نتاج الحكم الثنائي الإنجليزي – المصري، كان لابد وأن تكون أولى أولوياته حماية مصالح ملكة بريطانيا العظمى والملك فاروق (ملك مصر ام الدنيا والسودان)، ولما لم نسمع أو نقرأ عن تعديل قانون الجيش المؤسس أجنبياً عبر برلمانات الحكومات الديمقراطية الثلاث التي تلت (الاستقلال)، يظل منهج الجيش (قوة دفاع السودان) هو القتال تحت التاجين البريطاني والمصري، والدليل على ذلك المشاركة الفاعلة لكتائب الجيش السوداني في الحروب التي شنتها مصر على إسرائيل، وخوض كتائب الجيش من أبناء النوبة للمعارك الضارية في صف المستعمر البريطاني بليبيا، من أجل محو الوجود الإيطالي وكبح جماح النفوذ الفرنسي، تلك الكتيبة التي بفضلها منح السودان استقلالاً صورياً بعد ثلاثة عقود من تأسيس الجيش، بعدها ظلت المؤسسة تعمل على قدم وساق لوأد الأجنة الناشئة للحكومات المدنية خدمةّ لأجندة المؤسسين، والناظر لمنهج التدريب العسكري للجيش سواء كان الخاص بالجنود المستجدين أو الضبّاط المستوعبين بالكلية الحربية، يلحظ تدريبات تعديل السلوك المستهدف به المجند في خمسة وأربعين يوماً، المدة التي يطلق عليها المعلمون اسم (العسكرة) – الانتقال من المدنية إلى العسكرية، ومن أهم ركائز هذه المدرسة الإذلال والحط من قيمة الانسان وازدراءه، ليتحول إلى روبوت يطيع أوامر من هو أعلى رتبة، فالقهر يصنع المقهور، والمقهور بالضرورة أن يمارس كل ما من شأنه شفاء غله ممن أوجد فيه هذه الحالة الشعورية المؤلمة، لذلك رأينا المشاهد البشعة للجنود وضباطهم وهم يغتصبون النساء والفتيات بالجنوب وجبال النوبة ودارفور – قرية تابت وحي (رجال ما في).
أهلنا الذين خدموا كجنود بازنقر تحت قيادة ضباط الكلية الحربية – مصنع (المغتصبين) بكسر الصاد أو فتحها، حكوا لنا عن الفظائع التي كانوا هم أنفسهم جزء منها، لقد استباحوا جنوب السودان أرضاً وشعباً، منذ العهد الأول للحرب (تمرد توريت 1955)، حتى العهد الظلامي الأخير، وما يجري الآن من حرب بين الجيش وقوات الدعم السريع بمثابة سداد للدين القديم، الذي استدانته القوات المسلحة من شرف وكرامة سكان الجنوب وجبال النوبة ودارفور، وهذا يتطابق مع الكارما، بأن الطير الذي يأكل النمل سيأكله النمل بعد أن يموت، أو كما تدين تدان، فحينما كانت وكالات الأنباء العالمية تتحدث عن تجاوزات الحرب في دارفور من جميع الأطراف، كان الحكّام في الخرطوم يقللون من شأن تلك الجرائم، متجاهلين دورة التاريخ وتربص دوائر الكون، بكل بن أنثى وان طالت سلامته يمشي بقدمين على سطح البسيطة، بأن يتجرع ذات السم ومن نفس الكأس، ليُحمل بعد ذلك على الآلة الحدباء، فما توعّد به الجنرالان توفيق أبو كدوك وحسن بشير نصر من مسح لجنوب السودان بشراً وشجراً، عاد وبالاً على شمال السودان الكبير الذي كان يغط في نوم عميق، إبان متحركات كتائب صيف العبور والفتح المبين والمغيرات صبحا، المبيدة للشعب الجنوبي الجميل، فالاغتصاب كان وما يزال يمثل سلوكاً غير مستهجناً من جنود وضباط الجيش، بل كانت الدولة المتوارثة من المستعمر تمجد المرتكبين لهذه الجريمة غير الأخلاقية بحق المكونّات الجنوبية والغربية، فاغتصاب الغربية والجنوبية في العقل الجمعي لجنرالات جيش الحكم الثنائي، لا يعتبر جريمة من الأساس، طالما أن الضحايا يختلفون عرقياً عن الجناة، لذلك لم يتورع الدكتاتور حينما قال بأن المغتصبة من هذه المكونات الجهوية والاجتماعية يجب أن يكسو وجهها الفخار، أن حظيت بوطء جندي من جنوده، ومحصلة كل هذا الفساد العظيم هو طوفان منتصف أبريل قبل عام وأشهر.
لقد قتل المئات من ضباط الكلية الحربية وتم أسر آلاف الجنود وضباط الصف في هذه الحرب، وسقطت الحاميات والمقرات العسكرية تحت قبضة قوات الدعم السريع، واستسلمت أهم الفرق العسكرية، وسقط صنم الجيش الذي ما فتئ يقتل ويغتصب شعبه منذ أن أسسه المستعمران البريطاني والمصري، وبدأت ملامح تكوين الجيش الوطني تلوح في الأفق المكدس بدخان متفجرات الطيران العميل، وقد نعى الناعي أسطورة الترسانة العسكرية القديمة الخادمة والراعية لمصالح جارة السوء الخديوية، باستلام كتائب الإرهاب الإقليمي والدولي لقيادة معارك الجيش الخاسر أمام جحافل الأشاوس، لقد انهار الجيش الليبي بعد أن دخل الإرهابيون ليبيا، فنتج عن ذلك جيشاً وطنياً غير كتائب القذافي، خاض حرب استرداد الدولة المختطفة من قبل المتطرفين، فأينما حل الإرهابيون حلت الفوضى وشاع الدمار واشتعلت النيران، ومن محاسن الصدف أن الذين وضعوا بذرة فناء جيش الحكم الثنائي هم المتطرفون، حينما انقلبوا على الشرعية قبل ثلاثة عقود ونصف العقد، لقد فعلوها بأيديهم فارتدت عليهم سهامهم، وهم الآن يحصدون ما زرعوا، ويعيبون زمان تأسيس منظومة قوات الدعم السريع والعيب في زمانهم، الذي تمكنوا فيه سلطوياً ثم أجهزوا على جيش الخديوية المصرية، عندما رفدوه بمليشيات الدفاع الشعبي وكتائبهم الإرهابية، وهكذا حدثت نظرية الانهيار الداخلي، فالحضارات تزدهر ثم تحتضر بأسباب داخلية، فيا سودانيين اقرأوا الفاتحة على روح جيش الحكم الثنائي، واشرعوا في تأسيس جيشكم الوطني المؤتمر بأمركم لا بأصبع الملك فاروق.

إسماعيل عبدالله
ismeel1@hotmail.com

 

آراء