جيوبوليتيكيا الشرق الأوسط
بسم الله الرحمن الرحيم
تتسارع القوات العراقية نحو قلب الموصل، يقدمها ويبراها الدعم الجوي والأرضي الأمريكي والغربي والخليجي الحليف المتضرر من التغول الإيراني والأطماع الإخوانجية، ومرفودا بقوات البشمرقة الكردية الجسورة وغير الهيابة. وحسب تصريح أحد القادة العسكريين الأمريكان صباح اليوم فإن التقدم نحو "الرقة" في سوريا قد بدأ بالفعل، وسوف يتم فوراً قطع الطريق علي الدواعش الهاربين من العراق صوب عاصمتهم الأخرى بالمنطقة – الرقة - المنزوية بالشمال الشرقي للشام، قرب الحدود السورية. وبينما أخذت كل المؤشرات تنبئ بقرب هزيمة داعش، انبجست ظاهرة تدعو للحيرة والربكة: فلقد توغل الجيش التركي داخل الحدود الشمالية الغربية للعراق باتجاه الموصل، ليس مساهمة إيجابية في الحملة العراقية/الدولية التى أخذت بخناق الكيان الداعشي، إنما استهدافاً للمقاتلين الأكراد، الفصيل المحوري الحاسم فى حملة استعادة الموصل. إنه رقص خارج الحلبة، كثور في مستودع للخزف، وتدخل في غير زمانه ومكانه، وإرباك للمعادلة التى أخذت تتشكل على أرض الواقع، وهو في ظني محاولة ثعلبية خسيسة لتقديم الدعم للدواعش بصورة غير مباشرة.
فلماذا تفعل تركيا ذلك؟
لا يحتاج المرء لفهامة سحرية ليدرك أن حزب رجب طيب أردوغان ونظامه جزء من المنظومة الإخوانية العالمية التى لم يبق لها فى الشرق الأوسط أي وجود فعال إلا فى تركيا نفسها والسودان وإيران، بالإضافة للفلول العصاباتية الحاملة للسلاح - داعش والقاعدة فى سوريا والعراق وليبيا وسيناء والصحراء الكبري وأدغال غرب إفريقيا والصومال وأفغانستان. هذه هي الجهات الوحيدة التى استشاطت غضباً جراء محاولة الإنقلاب العسكري التركي، والتي طربت وما زالت تهلل لدحر الإنقلابيين وزجهم في السجون بالآلاف والتأهب لجز رؤوسهم مثلما حدث لقوم أحمد سوكارنو بإندونيسيا فى الستينات. وآخر مظاهر التماهي مع الموقف الأردوغاني الفظ تجاه معارضيه المتهمين زوراً بالضلوع فى الإنقلاب هو ما حدث فى السودان البارحة، فقد أعلنت الحكومة إغلاق جميع المدارس التركية التى أنشأتها منظمة فتح الله غولن فى السودان وطرد المسؤؤولين عنها من البلاد، وتلك هي مساهمة النظام السوداني في حماية الأمن القومي التركي، فيما قال الدكتور غندور وزير الخارجية السوداني البارحة فى المؤتمر الصحفي الذي عقده فى أنقرا مع نظيره التركي، والذى أعلن فيه تحديداً: (إن أمن تركيا يشكل أحد الخطوط الحمراء للسودان.)
لقد كانت محاولة الإنقلاب العسكري الفاشلة قبل أربعة شهور فرصة لأردوغان وحزبه للتخلص من كل العلمانيين ليس فقط فى الجيش، إنما في القضاء بشكل خاص وفي كل مناحي الدولة بشكل عام، ووسيلة جديدة للتمكين هبطت علي حزب العدالة من السماء، أم لعلها مؤامرة من أصلها شبيهة بما كانت السي آي إي تفعل للتخلص من قوي اليسار: فى السودان فى يوليو 1971 وفي شيلي بعد ذلك بعام علي سبيل المثال. ومن الواضح كذلك أن الأردوغانيين طهروا بلادهم من المعارضين انتقاماً لما حدث للإخوان المسلمين في مصر على يد السيسي وثورة 30 يونيو 2013. وكما ينشط النظام السوداني في ملاحقة معارضيه المدنيين والحاملين للسلاح، فإن النظام الإخوانجي التركي يطارد المدنيين في انقرا واسطنبول وغيرها، كما يتحرش بالأكراد أينما ثقفهم، ليس لأنهم حركة إنفصالية، إنما لأنهم عرفوا منذ عشرات السنين بكونهم علمانيين ومحبين للديمقراطية وحقوق الإنسان، وبكونهم جزء من القوى التقدمية والعلمانية التركية والعراقية.
بيد أن الصورة الكلية ليست فى صالح النظام التركي وحلفائه الإخوانجية: فما أن يتم كسر شوكة الدواعش فى العراق وسوريا، والحوثيين في اليمن، حتي يمكن التعامل بصورة أكثر وضوحاً وحسماً مع جيش بشار الأسد وحلفائه الإيرانيين والروس. وفي هذه الثناء، وبعد شهرين بالتمام والكمال، سوف تجلس هيلاري كلنتون علي كرسي الرئاسة بالبيت الأبيض وبذلك يتبخر الأمل الذى عقدته بعض الجهات على دونالد ترامب، ذلك الكاوبوي الرجعي الساذج الداعي للتعاون مع روسيا ونظام الأسد (اللذين يري فيهما عدواً أكثر فتكاً بداعش). ومن المرجح أن تبدأ هيلاري ولايتها بالضغط السياسي والعسكري الحازم علي روسيا حتى تكف عن التدخل فى الحرب الأهلية السورية، وبذلك ينكشف ظهر بشار وحلفائه الإيرانيين فى بلاد الشام. ومن ناحية أخري، ستستمر الإدارة الأمريكية فى سياستها الرامية للضغط على النظام السوداني لاستصحاب المعارضة المدنية والمسلحة في حواره المزعوم، وذلك يعني فيما يعني قبول أجندة تلك القوى الداعية لتفكيك النظام وترسيخ حقوق الإنسان وإدارة البلاد بحكومة إنتقالية بديلة لنظام الإخوان الحالي. ولن يفيد هذا النظام التملق الذى يمارسه تجاه حلفاء الولايات المتحدة بالمنطقة، ولا مفر من قلب ظهر المجن لتنظيم الإخوان المسلمين العالمي بطريقة واضحة وشفافة، لا بالتلبيس والتدليس والتمثيل والكذب الصراح.
أما النظام المصري، فهو كالمثلي يوم القيامة الذى لا يطيب له المقام في الجنة ولا في النار؛ فلقد تسنم الجيش السلطة في مصر استجابة لدعوة الشعب المصري الإجماعية إبان ثورته علي حكومة الإخوان المسلمين فى 30 يونيو 2013، وكان من المفترض أن يضع يده في يد القوى العلمانية المناهضة لفكر الإخوان المسلمين داخل مصر وبالمناطق المجاورة وفق مفهوم إستراتيجي مستمد من مقاصد تلك الثورة الشعبية. ولكنه، وعلى الرغم من البداية الصحيحة بالتحالف مع السعودية والإمارات باعتبارهما أكثر الملدوغين من تنظيم الإخوان المسلمين، إلا أن المسألة انحصرت فى المطالبات الملحة بالدعم المادي (حيث قال السيسي عن هذين الحليفين الإستراتيجيين فى أول أيامه: "دول عندهم فلوس زي الرز")؛ ولم تتطابق الرؤية المصرية معهما في التصدي للبؤر التآمرية الملتهبة بالمنطقة، إذ تقاعس الجيش المصري عن تقديم أي مساهمة فى المجهود الحربي الذي يبذله الحليفان المذكوران ضد الطغمة الإنقلابية الحوثية المدعومة بالنظام الإيراني. وفيما يختص بالمشهد السوري فقد وقف السيسي موقفاً لا يختلف كثيراً عن سلفه العياط، أي خلط الأوراق والتمويه والتردد وعدم الشفافية؛ فبينما مد العياط يده لإيران واستنهض جسور التعاون معها علي الرغم من أنها الداعم الأساس لنظام الأسد الإرهابي الباطش، نجد حكومة السيسي قد تقاربت مع روسيا مؤخراً فى مجلس الأمن حول المسألة السورية، ضاربة عرض الحائط بالحلفاء الأكثر أهمية؛ وروسيا تعني سوريا وإيران، أليس كذلك؟.
ولقد انفتح النظام المصري الجديد على النظام الإخواني الحاكم في السودان دون أي اكتراث لما يفعله الأخير بالقوى الديمقراطية المعارضة بمدن الشمال، وبالجهات الحاملة للسلاح بكافة أطراف البلاد، بدارفور وجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق، وما يقوم به من إيواء أريحي واحتضان مبالغ فيه لشراذم الإخوان المسلمين الفارين من مصر، وعقد معه الاتفاقية تلو الإتفاقية بتكالب ونهم لا يعرف الحدود، وكلها فى نظر الشعب السوداني مجرد حبر على ورق، وعما قريب سيتم تمزيقها كأنها لم تكن.
وهكذا، فلقد دب الشك فى صدور المتعاطفين مع النظام المصري إزاء موقفه من الإخوان المسلمين: هل هو موقف جاد ومبني على رؤية إستراتيجية وفكرية محددة، أم هو عملية أمنية هادفة بنهاية التحليل فقط إلى الفتك بالخصوم وتكريس السلطة في يد الجيش وقائده الذى قفز لدست الحكم فى أول يوليو 2013. ؟ وإذا انحصر الأمر فى الملاحقة الأمنية والبطش العشوائي بالإخوان المسلمين المندسين فى الحواري المصرية، فإن ذلك قد يؤدي إلي نتائج عكسية، وقد يتعاطف الجمهور مجدداً مع أولئك الإخوان ويعتبرهم أبطالاً كما حدث في أيام حسني مبارك والسادات وناصر، وبذلك يتمكن الإخوان من استقطاب المزيد من الشباب المؤدلج، خاصة فى ظروف الجهل وعدم الوعي السياسي الذى يتمتع به مصريو الأجيال الحديثة، ومن أسباب ذلك الجهل الإعلام المصري الذي يشغل نفسه بكل شيء إلا القضايا الأساسية مثل تفنيد فكر وممارسة الإخوان المسلمين، وترسيخ المعاني السامية للحرية والديمقراطية من خلال السماح بالتعبير الحر ورفع الكوابح والسنسرة، وقيام النقابات والإتحادات عبر كل القطاعات، وتنشيط وإطلاق حركة المجتمع المدني من عقالها.
وعموماً، ومهما تعثر النظام الحاكم في مصر، ومهما عاني من الاختناقات الإقتصادية التى يساهم في تعميقها الإخوان المسلمون، ومهما عاني من التشويش وعدم وضوح الرؤيا فى مجال السياسات الخارجية، خاصة تجاه الجار الجنب – السودان – فإن العودة لما قبل 30 يونيو من الإستحالة بمكان، وليس هناك أوبة لحكم الإخوان المسلمين في المحروسة على الإطلاق، ( وهنا تتحقق نظرية نهاية التاريخ لهنتنجتون)، خاصة وأن التكلس والألزهايمر الفكري والسياسي قد حل بهذا التنظيم على مستوى الشرق الأوسط برمته، وأنصع نموذج لذلك الإفلاس هو النظام السوداني الذى أورد بلاده موارد التهلكة خلال سبع وعشرين سنة من الإنفراد بالحكم والتخبط والتجريب العشوائي وتعلم الحلاقة على رؤوس الأيتام، مما نجم عنه انفصال ثلث الوطن والاقتراب من فصل ثلث آخر ممثل في دارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق.
وبمناسبة الاختناقات الاقتصادية، فلقد جنت على نفسها براغش، وسوف تؤثر المواقف الدبلوماسية المصرية الملتبسة تجاه المشكلة السورية والأزمة اليمنية على تدفق المليارات البترودولارية التى أخذت طريقها صوب نظام السيسي من دول الخليج منذ أول أيامه، كما سوف يفاقم من هذا الإحجام والانسداد ما ظل يشهده سعر النفط من تدن مضطرد منذ بضع سنوات. وقد شهدنا الدول النفطية المعنية وهي تعيد النظر في سياساتها الإقتصادية بهدف كبح جماح الصرف البذخي والإكسسواري، وبغرض ترشيد الاستهلاك بصفة عامة، كما رأينا مؤخراً كيف أقدمت السعودية على خفض الرواتب والبدلات بالنسبة للموظفين الحكوميين، وشهدنا كيف أقدمت معظم دول الخليج علي تخفيض العمالة الوافدة عبر الإحلال والتوطين، ومن خلال التخلص من العديد من المشاريع التى لا تتمتع بأولوية قصوى.
وباختصار، يشهد الشرق الأوسط بصفة عامة هبوطاً إقتصادياً ضاعفت من وتيرته حروب الأوس والخزرج المشتعلة بكافة أركانه، وما خلفته من نقص فى الأنفس والثمرات، ومن عدم استقرار يؤثر علي التجارة والسياحة والاستثمار. (لقد علمت أن سعر القذيفة الواحدة التى تطلقها الطائرات الحربية تساوى مائة ألف دولار). ومن جراء ذلك سوف يتصاعد السعي نحو الحلول السلمية التى تكفي المؤمنين شر القتال، وقد يعني ذلك في نفس الوقت تصعيد تلك الحروب وتكثيفها إلي أقصى حد ممكن بغرض حسمها على جناح السرعة، حتى لا تستفحل (وتبسبس – أسوة بحرب البسوس) وتستمر لسنوات وسنوات مثلما فعلت الحرب الأهلية السورية. وفي سبيل مثل هذا الحسم قد تتبدل التحالفات بعض الشيء بغرض إعطاء الغرب – وتحديداً الولايات المتحدة – مساحة أوفر لغرس أنيابها العسكرية فى المعامع، على الرغم من المخاطر الجيوبوليتيكية التكتونية التى ينذر بها مثل هذا السيناريو.
ومهما يكن من أمر، فإن أسهم الإخوان المسلمين قد طاحت إلى أسفل سافلين، وداعش تلفظ أنفاسها الأخيرة، وسوف تتقهقر الإمبراطورية الشيعية الإيرانية إلى حدودها الأصلية، تاركة وراءها الحلم الفارسي الساساني الذي ظل يدغدغ مخيخها منذ عهد الشاهنشاه، بعد أن يتوارى وينتكس حلفاؤها الإخوان والدواعش والقاعدة. ولقد يستمر العنف الإرهابي المنفلت هنا وهناك، ولكنه سيظل كحية بلا رأس. وإذا أرادت الدول العربية الساعية للسلام والاستقرار أن تتأقلم مع السناريو الجديد المطل على الشرق الأوسط مع بزوغ العام القادم، فعليها أن تنفتح أكثر على حرية التعبير والتنظيم بالنسبة لجماهيرها، بهدف إشراكها فى الأمر، فقد ولي عهد الحكم الوراثي الاحتكاري الأسري الصمدي الصارم، وجاء عصر الشعوب الحرة، وعصر التداول السلمي للسلطة، فى إطار الشفافية والاحتكام لرأي الأغلبية وحرية الصحافة ونزاهة واستقلال القضاء. ومن يحكم بغير ذلك عليه أن يعيد النظر فى أمر نفسه، قبل أن تجبره على ذلك الثورة الجماهيرية الكاسحة المعمرة بالكتل الجائعة من أصحاب العيون مقروحة الأغوار ذابلة البريق، ويا ويل للمستبدين عندما تصحو تلك العيون.
والسلام.
fdil.abbas@gmail.com