حالة الماركسية والتعليم والثقافة في الفترة: “1900 – 1956م”

 


 

 


كانت نشأة الحركة السودانية للتحرر الوطني " حستو" في السودان امتدادا لتطور الفكر السوداني والحركة الوطنية الحديثة التي بدأت بتكوين أندية الخريجين والعمال والصحافة الوطنية وتنظيمات "الاتحاد السوداني" و "اللواء الأبيض" وثورة 1924م ، وتطور الحركة الوطنية بعد هزيمة الثورة بقيام الجمعيات الثقافية والاصلاحية والأدبية والمسرحية والرياضية والفنية وظهور مجلتي "النهضة السودانية " و"الفجر" وقيام مؤتمر الخريجين ونهوض الحركة الوطنية بعد الحرب العالمية الثانية وهزيمة الفاشية والنازية واتساع نفوذ المعسكر الاشتراكي ونهوض حركات التحرر الوطني المطالبة بحق تقرير المصير والاستقلال ومنها السودان.
في هذا الجو ظهرت الماركسية التي تم ربطها بخصائص السودان ، عندما ظهرت الماركسية كانت حالة التعليم والثقافة تتسم بالآتي:
*حداثة وضيق نطاق التعليم المدني في السودان في بداية القرن العشرين. كلية غردون التي تم إنشاؤها لم تكن مدرسة ثانوية بالمعنى المفهوم ولا جامعة ، كما أنها لم تكن مدرسة عليا أيضا ، بل كانت كلية هدفها الأساسي تخريج الكتبة وصغار المحاسبين والفنيين والمهندسين ومدرسي الابتدائيات .. الخ . ولم يكن هدف الإنجليز من التعليم تثقيفيا أو تمليك الخريجين أدوات منهجية لمواصلة المعرفة والبحث بعد التخرج ، بل كان هدفهم تخريج أدوات عمل حية لتسيير جهاز الدولة الاستعماري .
يصف الأديب معاوية محمد نور مناهج كلية غردون بالآتي :ً كانت مناهج التدريس في كلية غردون غريبة فليس هناك مجال للعلوم الطبيعية أو التاريخ الحديث والآداب ، وإنما معظمه تمرين على الآلة الكاتبة أو على شئون الهندسة العملية والمحاسبة .. ً ( معاوية نور : آراء وخواطر ، ص 34 ) .
التعليم نفسه كما ذكرنا كان ضئيلا ، وكان محدودا بأهداف الإنجليز ، مثلا نسبة التعليم كانت 2,5 % في عام 1937 ، 4 % في عام 1942 بين السودانيين ( عبد المجيد عابدين : تاريخ الثقافة العربية في السودان ، مطبعة مصر 1953 ، ص 82 ) . ولا نحتاج لجهد كبير لاستنتاج أن مثل هذا النوع من التعليم ( في الكيف والكم ) يتولد منه غياب الرؤية الفلسفية وانعدام المنهج العلمي لدي الكتاب والمثقفين والسياسيين في تلك الفترة ، ومع بداية انتشار التعليم المدني الحديث ، حتى أن شاعرا مثل التيجاني يوسف بشير كان يشير إلى غياب القيادة الفكرية وسط جيل وكتاب الثلاثينيات ( راجع مقال القيادة الفكرية في الأعمال الكاملة للتيجاني يوسف بشير ، السفر الأول ، تحقيق محمد عبد الحي ) .
• لكن مع ذلك نلمس بعض اجتهادات من الجيل الأول من الخريجين الذي كسر سياج وحصار كلية غردون ونهل من الثقافة العربية الإسلامية ( عن طريق المؤلفات التي كانت تصل من مصر ، ومن الثقافة الغربية ، فنجد ومضات من الثقافة والفكر في الكتابات ظهرت في مجلة النهضة السودانية ومجلة الفجر اللتين كانت تصدران في الثلاثينيات ، فظهرت فيها أبحاث عن نظرية التطور ، والتعريف بالفكر الاشتراكي ، والدعوة لنهضة وتعليم المرأة ، وخلق فن وأدب وغناء ومسرح وموسيقي سودانية أصيلة بدلا من التقليد الأعمى ، كما ظهرت الدعوة لتكوين مدرسة تاريخية سودانية ( كتابات محمد عبد الرحيم ومكي شبيكة ) ، كما ظهرت الدعوات لتطوير التعليم وتحسين مضمونه والتوسع في التعليم العالي .
وعندما دخل الفكر الماركسي السودان كانت القاعدة المنهجية والنظرية وسط المتعلمين السودانيين هشة ، ولم تكن هناك تيارات فكرية مناوئة ، ذات أساس فلسفي ونظري صلد ، حتى من باب تيارات الليبرالية والأفكار الديمقراطية والتنويرية – كما حدث في مصر مثلا ( كتابات سلامة موسى ، قاسم أمين ، العقاد ومدرسته الإنجليزية في البحث وطه حسين ومدرسته الفرنسية .. الخ ) .
إضافة لهشاشة المتعلمين السودانيين في تلك الفترة المنهجية ، نجد أن الطبقات مثل :البورجوازية وشبه الإقطاع كانت من الضعف والهشاشة على المستوى الاقتصادي والفكري ، بحيث انهما لم يفرزا مفكرين يعبرون بوضوح عن مصالحهما ومطامحهما .
وفي هذا الجو دخل الفكر الماركسي السودان وتصدي لقضايا بعضها كان سابقا حتى لظهور الماركسية نفسها في المجتمعات الرأسمالية مثل : حقوق المرأة ، وبناء التنظيم النقابي .. الخ ، حتى أصبحت الشيوعية في السودان مرادفة لأفكار التحرر والتقدم العام التي أنجزتها الطبقات البورجوازية في المجتمعات الرأسمالية مثل : خروج المرأة للعمل ، حقوق الإنسان ، الديمقراطية الليبرالية ، سيادة حكم القانون ، العلمانية وفصل الدين عن الدولة .. الخ .
ومعلوم أن الفكر الماركسي عندما تبلور على يد ماركس وانجلز ، استند إلى المنجزات الإيجابية لأفكار التنوير إلى أنتجها مفكرو البورجوازية في بداية ظهور المجتمع البورجوازي وانهيار الإقطاعية والعشائرية في أوربا مثل: تحرير المرأة ، أفكار الاشتراكيين الخياليين ، منجزات أدم سميث وريكاردو وغيرهما في الاقتصاد السياسي ، مناهج الفلسفة العقلانية كما تبلورت عند الفلاسفة: ديكارت ولوك وهيوم، ومنجزات هيغل وفورباخ .. الخ . أي أن الماركسية في نقدها للمجتمع البورجوازي استندت إلى منجزاته الإيجابية ، التي على أساسها يتم التجاوز والتطوير مثل :
*استكمال الديمقراطية الليبرالية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
*المساواة التامة في الحقوق بين المرأة والرجل .
*المساواة التامة بين القوميات والديمقراطية كشرط لازدهارها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي .
*تطور الفرد الحر هو الشرط لتطور الجموع الحر .
*التناقض بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج في المجتمع الرأسمالي يتم تجاوزه بعلاقات إنتاج اشتراكية تفتح الطريق أمام تطور القوى المنتجة وتطور العلم والتكنولوجيا والمعرفة .
إذن يمكن القول أن دخول الشيوعية السودان لعب دورا مزدوجا :
*نشر الفكر التقدمي بالمعني العام والذي تصدت له الطبقات البورجوازية في بلدان الغرب الرأسمالي .
* الدعوة للاشتراكية فوق أرض يتم فيها إنجاز مهام الثورة الوطنية الديمقراطية .
هكذا نجد صورة الحالة الفكرية والمنهجية وسط المتعلمين والمثقفين السودانيين عندما دخلت الماركسية السودان وبالتالي أدى ذلك إلى أن يتحمل الشيوعيون السودانيون أعباء التنوير والدعوة للاشتراكية من فوق أرض يتم فيها التحول الديمقراطي كشرط لإنجاز مهام الثورة الوطنية الديمقراطية، فضلا عن أن الماركسية لا تتطور ويقوي عودها بدون الصراع الفكري ووجود تيارات فكرية مناوئة صلدة في البلد المعين ، وهذا ما كان غائبا في السودان.

alsirbabo@yahoo.co.uk

 

آراء