حتمًا نعود: قصة قصيرة من وحي الحرب العبثية
عبدالله محمد أحمد بلال
9 April, 2024
9 April, 2024
Abdallasai@yahoo.com
عبدالله محمد أحمد بلال
أيا كبدًا طارت صدوعًا نوافذًا
ويا حسرةً ماذا تغلغل في القلب
———————————-
اليوم الخميس، والخميس يوم جميل، يحبه الموظفون والعمال والطلاب والعرسان وستات البيوت ورغم أن(كمال) يحب هذا اليوم كثيرًا لا سيما بعد ان تزوج (بحليمة)، إلا أن شيئًا لا يعرف كنهه، ظل يوغوشه ويضغط على صدره منذ الصباح الباكر.
دخل عليه الساعي، في مكتبه ووضع فنجان القهوة وهو يقول:
- مرحبًا أستاذ كمال، المدير قال عايزك في مكتبه فنهض كمال قبل أن يرتشف من فنجانه، وتوجه صوب المكتب ، وبعد أن القى عليه السلام قال :
- - سيادتك طلبتني؟
أشار المدير الى الكرسي القابع أمام مكتبه قائلا:
- تفضل اجلس..لم يرتح كمال لنظرات المدير ولهجته، وكان يدرك تمامًا أنه لا يمتلك من المؤهلات ما يجعله مديرًا عليه، الا أن انضباطه وعشقه لعمله، حتما عليه احترام المنصب،وكان في قرارة نفسه، يعرف أنه أمام ديك منفوش،وقط منتفخ، وبهلوان ينمق الكلام، وثعبان أملس الجلد، ينفث السم الزعاف.
جلس كمال بهيبةٍ، بينما دسَّ المدير أنظاره في كومة الأوراق التي على مكتبه،، إستل منها ورقةً ، ودون أن ينظر لكمال، قال وهو يتلمظ شفتيه:
- الخير فيما إختاره الله، وأنت يا أخ كمال رجل وطني، وتؤمن بالقدر! ثم رفع عينيه ليرى مدى تأثير كلماته، ثم واصل:
- لقد استلمت اليوم رسالة من الإدارة العليا، مفادها احالتك للتقاعد للمصلحة العامة! وقبل أن يسمع ردة فعله أضاف:
- أنت رجل كفء، وقطعًا ستجد وظيفة أحسن في مكان أحسن! كان كمال هادئًا، رفع رأسه بكبرياء يحدج في عيني المدير وقال:
- مصلحة البلد أم مصلحة الحكومة؟ ثم نهض بهدوء، ليلملم أشياءه الخاصة من درج مكتبه. ويودع زملاءه، فمنهم من حزن فعلًا، ومنهم من واساه، وفي دواخلهم تعتمل أفراح التشفي!
وجمت أشجار النيم، وصمتت زقزقة العصافير، وتدنت الشمس، وفرضت سيطرتها على الوجوه السمراء، فنزت وجوههم أمطارًا من عرق مالح، وكمال في الحافلة لا تمنعه الحرارة من التفكير في مصير ابنته الأثيرة "أمل" ، وزوجته الحبيبة "حليمة"، ومصاريف البيت.. وفكر في ابنه "محمد" الذي هاجر الى السعودية، ومساحات الأمل في أن تستمر الحياة.
عند الباب استقبلته " حليمة"، تفوح منها عطور الخميس، وحليمة خبيرة في عطور الخُمرة والمحلبية والصندلية والشاف والطلح وفلور دامور والصاروخ والدلكة، كانت بضة فتية، ممتلئة طويلة العنق ، بادرته من فورها:
- سجمي يا كمال مالك في شنو إن شاء الله خير؟ فرد عليها دون أن ينظر اليها
- أحالوني للتقاعد للمصلحة العامة!
كانت حليمة حصيفة، ذات مواقف مشهودة فقالت تواسيه:
- الحمد لله، بركة الجات منهم ، احنا والحمد لله ما ناقصنا شيء ، ومحمد في السعودية، وأمل قربت تخلص دراستها ، والأمور ستتدبر ؛ ما عليك ما تشيل هم ، وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم ، والخير فيما اختاره الله، ما تشيل هم وهيا اخلع ملابسك فقد أعددت لك غداءً شهيا نزلت كلمات حليمة بردًا على صدر كمال، وبعد ان اغتسل وأدى صلاته، أحس براحة كبيرة، فاتجه صوب صالة الطعام وهو يطرقع بمسبحته، وجاءت ابنته أمل بمرحها المعهود وقبلته سائلةً:
؟ فرد عليها: - بابا زوغت من الشغل ولا شنو؟ مالك جاي بدري
- القصة طويلة يا (أمولي) ماما حتكيهالك .. وبخفة دخلت الى المطبخ، وشاغلت أمها، ثم ذهبت الى غرفتها وبعد أن خلعت مريولها، جاءت تشارك والديها الطعام، وهي تملأ الجو مرحًا بقفشاتها وحكاويها اللطيفة ..
مرت الأيام رتيبة، وكمال يخرج يوميًا، يراجع النقابة، ومكاتب المحامين،مقررًا أن لا يستسلم لهذا الفصل التعسفي المجحف . وذات مساء سمع طرقًا على الباب، وحين فتح الباب وجد رجلًا جسيمًا متجهمًا بادره سائلًا:
- انت كمال عبد الغني
- أهلا تفضل
عايزنك في مشوار قصير ومهم! وفي هذه الأثناء تقدمت عربة مسرعة من عند ناصية البيت، ترجل منها فتية مسلحون، قال أحدهم بلهجة قاطعة:
- مشوار بسيط لمكاتب الأمن ونرجعك . وأحاطوا به وأدخلوه العربة عنوة واتجهوا صوب المجهول.
كانت جارة صديقة لحليمة قد شهدت ما دار، فجاءت لحليمة وروت لها ما شاهدت، ومنذ تلك اللحظة بدأت مشاوير الهم والغم، وسؤال القريب والبعيد، عن الأرض التي انشقت وبلعته، أيامها كانت سمعة بيوت الأشباح تلوكها الألسن، وتزكم الأنوف، وا لحكومة تصم آذانها، وتعمل في الناس تنكيلاً وتقتيلاً نلتحكم بالحديد والنار.. وحفيت حليمة وابنتها أمل وهما تطرقان السبل والأبواب بحثًا عن كمالهما.
اختفت لحظات الفرح ، وغابت روائح الدلكة والخمرة والصندلية والمهلبية، وخيم الحزن في جنبات البيت! . ومحمد الابن في السعودية ، جافاه النوم، وطفق يستقطع من لقمته الريال تلو الريال، ليكفي أمه وأخته شر السؤال. ويستجدي كفيله، أن يمنحه إجازةً، ليطمئن على أبيه وأمه وشقيقته ،والكفيل شيخ حكيم وقور، يخشى الله ، يرده قائلاً :
- يا بني ، أنا لا مانع عندي أن تسافر لوطنك، ولكني قد خبرت الحياة أكثر منك، وأعرف أن السلطة المطلقة، مفسدة مطلقة، سأعطيك من المال ما تحتاج، ولكني أخشى أن تذهب ولا تعود! يحاول أن يثنيه عن السفر للخرطوم، ويحذره من بطش الحكومات، فلا يقتنع ويسافر ويعود لكفيله بخفي حنين وتمر الأيام والشهور ، ويظهر كمال بعدها شبحًا، مقهورًا، لا يقوى على السير، ولا النوم، يعاني من أمراض الدنيا. وحليمة وأمل لا تنفكان ترعيانه، إلا أنه تسرب منهما قهرًا، تاركا أرملةً ويتيمين .. والحزن كالنار، يبدأ كبيرًا وينزوي في الظلمات رويدًا رويدا..
تمر السنوات، وأمل تلتهم الكتب التهامًا، ومحمد من غربته يمد العون لاسرته الصغيرة، والشيخ السعودي الوقورلا يني في مساعدته، وحليمة هجرت زينتها وعطور الحياة، وصارت تفني حياتها لإسعاد فلذتي كبدها، لم يبارحها ألم الفراق، إنما قتلت الجزء الذي يتألم في داخلها . ونجحت أمل والتحقت بالجامعة، والناس في الحضر البوادي يلوكون سيرة الحكومة وصلفها، وبيوت الأشباح التي يقتلون ويعذبون فيها المعارضين . ويستشرى الفساد في طول البلاد وعرضها، ولم يعد سودانهم سودان أمسهم، نما الحسكنيت، وأطلت أشجار الزقوم، وافتقر أناس، وتتطاول آخرون في البنيان ، يسرقون الأرض وما تحتها وما فوقها، وأمل مع زملائها الذين عاصروا الحقبة أيفاعًا، وقرأوا القرآن ، وفلفلوا الأحاديث الشريفة، اكتشفوا زيف ما يقوله المتحكمون ، فخرجوا في مظاهرات سلمية، يطالبون بسقوط النظام، ويقفون بصدورهم العارية، في وجه العصبة المدجدجة بالسلاح، وينتصر الحق.. لكن كتائب الظل وفلول النظام المنتشرة حتى في شقوق الجدران تعمل المكائد لإطفاء نور الحق، ويختلف اللصان، والعيون لا تملأها سوى التراب، وتنازعا على كيكة السلطة، وتدور بينهم الدوائر والحروب، والحرب كارثة تقتل وتدمر الحياة الانسانية والتراث الثقافي والاقتصادي وتعيق التنمية، وتضيع الأرواح وتجلب الأحزان .. وانطلقت اطراف عديدة تكبر وتهلل ، وتشهر السلاح وتقتل النساء والرجال والأطفال، وخلت السجون من قاطنيها، ومنهم السياسي المجرم، واللصوص والقتلة، والجيش يقصف من السماء، ويختلط الحابل بالنابل.. ويعيش الناس في هلع. وحليمة تسعى بين بيوت الجيران والشوارع خائفة، حاسرة الرأس تبحث عن ( أمل) التي لم تعد من جامعتها . ثم افترشت الأرض أمام باب بيتها، تهيل على نفسها التراب وتصيح:
- وينك يا حشاي ، وينك يا بت بطني؟!
ويجتمع الجيران حولها يواسونها وبعد ساعات، تظهر مجموعة من الفتيات يسندن في وسطهن أمل. وتجري حليمة والنساء وسط خليط من الزغاريد والبكاء..وأمل تلهث،تتطاير عيونها ، شفتاها ناشفتان ترجفان، تبلع ريقها ودموعها على خديها لا يجفان، حضنتها أمها بلهفة وهي تصيح
- سجمي الحاصل ليك شنو يا بتي؟ لم تستطع أمل أن ترد، حاولت أن تتحدث ولكن ريقها قد غار في عمق سحيق، وهرب منها الكلام، وظلت تنظر الى أمها وهي ترتعد من أخمص قدميها الى رأسها ، سقتها أمها ماءًا ، ودثرتها وبدأت تنهنها وتطبطب عليها، وأمل كقطة صغيرة مبلولة في زمهرير البرد.. وبعد أن أفاقت حكت لأمها ، كيف أن جماعة من الرجرجة والدهماء والسوقة، بملابسهم القذرة، وروائحهم المنتنة ، وعيونهم الحمراء، يحملون البنادق، قد هجموا على اماكن تجمع الطالبات، وكيف امسكوا بهن وساموهن العذاب، وكيف أنها في معجزة غريبة ارتقت شجرة في فناء الجامعة ، وأخفت نفسها وراء الأغصان! لم يلتفت اليها المسلحون الأقذار فقد انشغلوا بإطفاء نزواتهم اللعينة، والبنات يصرخن من الضرب والإغتصاب، وظلت أمل متشبثة بأغصان الشجر، حتى قضى الأوغاد أوطارهم، وساقوا البنات على عرباتهم قسرًا وهن يولولن ، وكيف انها ظلت على الغصن حتى انجلت الغمة، وترجلت حتى وصلت الحي.
زخات الرصاص، واجتياح البيوت، والحمم التي ترميها الطائرات، والجثث الملقاة في الطرقات الطرقات ،وأفواه الكلاب الضالة المخضبة بدماء البشر، والروائح العطنة، وازيز طائرات الجيش وتاتشرات الجنجويد جعلت الناس في هول كأهوال القيامة
قامت حليمة تلملم ما خف من متاع وما وفرت من مال ، تبحث عن مهرب. وأخذت ابنتها وهي ترتعد، ومع ثلة أخرى من الأهل والجيران سلموا أنفسهم لمهرب محترف، حشرهم جميعًا في صندوق سيارته (البك اب) ، وأحاطهم بحبال حتى لا يسقطوا في الطريق، وبدأت رحلة العذاب للهروب من أهوال الحرب. وبعد ثلاثة أيام دخلوا مصر المؤمنة، استقبلتهم أنوارها، وشوارعها المكتظة، وأكوام من الفواكه والخضر واللحوم والأسماك والوجوه الضاحكة.
استأجرت حليمة شقة في حي فيصل وسط مجموعة من السودانيين، وبدأت من فورها تأخذ أمل للأطباء النفسيين، وتطوف بالحسين والسيدة زينب والسيدة عائشة والسيدة نفيسة وكافة ضرائح الأولياء، لتخرج ابنتها من الصدمات النفسية الفظيعة التي تعرضت لها.. وجاء محمد من السعودية؛ ولم يبارح أمل وظلا يمضيان الليل يتناجيان عن البلد الذي يتسرب منهم .. وبدأ محمد يبث فيها من جديد روح الثورة والمقاومة ، وانخرطا في أعمال تثقيفية ودعوية لوقف الحرب والعودة وهما يضحكان ويرددان معا وغدًا نعود حتما نعود، حتمًا نعود.
للغابة الغناء، للكوخ الموشح بالورود
عبدالله محمد أحمد بلال
أيا كبدًا طارت صدوعًا نوافذًا
ويا حسرةً ماذا تغلغل في القلب
———————————-
اليوم الخميس، والخميس يوم جميل، يحبه الموظفون والعمال والطلاب والعرسان وستات البيوت ورغم أن(كمال) يحب هذا اليوم كثيرًا لا سيما بعد ان تزوج (بحليمة)، إلا أن شيئًا لا يعرف كنهه، ظل يوغوشه ويضغط على صدره منذ الصباح الباكر.
دخل عليه الساعي، في مكتبه ووضع فنجان القهوة وهو يقول:
- مرحبًا أستاذ كمال، المدير قال عايزك في مكتبه فنهض كمال قبل أن يرتشف من فنجانه، وتوجه صوب المكتب ، وبعد أن القى عليه السلام قال :
- - سيادتك طلبتني؟
أشار المدير الى الكرسي القابع أمام مكتبه قائلا:
- تفضل اجلس..لم يرتح كمال لنظرات المدير ولهجته، وكان يدرك تمامًا أنه لا يمتلك من المؤهلات ما يجعله مديرًا عليه، الا أن انضباطه وعشقه لعمله، حتما عليه احترام المنصب،وكان في قرارة نفسه، يعرف أنه أمام ديك منفوش،وقط منتفخ، وبهلوان ينمق الكلام، وثعبان أملس الجلد، ينفث السم الزعاف.
جلس كمال بهيبةٍ، بينما دسَّ المدير أنظاره في كومة الأوراق التي على مكتبه،، إستل منها ورقةً ، ودون أن ينظر لكمال، قال وهو يتلمظ شفتيه:
- الخير فيما إختاره الله، وأنت يا أخ كمال رجل وطني، وتؤمن بالقدر! ثم رفع عينيه ليرى مدى تأثير كلماته، ثم واصل:
- لقد استلمت اليوم رسالة من الإدارة العليا، مفادها احالتك للتقاعد للمصلحة العامة! وقبل أن يسمع ردة فعله أضاف:
- أنت رجل كفء، وقطعًا ستجد وظيفة أحسن في مكان أحسن! كان كمال هادئًا، رفع رأسه بكبرياء يحدج في عيني المدير وقال:
- مصلحة البلد أم مصلحة الحكومة؟ ثم نهض بهدوء، ليلملم أشياءه الخاصة من درج مكتبه. ويودع زملاءه، فمنهم من حزن فعلًا، ومنهم من واساه، وفي دواخلهم تعتمل أفراح التشفي!
وجمت أشجار النيم، وصمتت زقزقة العصافير، وتدنت الشمس، وفرضت سيطرتها على الوجوه السمراء، فنزت وجوههم أمطارًا من عرق مالح، وكمال في الحافلة لا تمنعه الحرارة من التفكير في مصير ابنته الأثيرة "أمل" ، وزوجته الحبيبة "حليمة"، ومصاريف البيت.. وفكر في ابنه "محمد" الذي هاجر الى السعودية، ومساحات الأمل في أن تستمر الحياة.
عند الباب استقبلته " حليمة"، تفوح منها عطور الخميس، وحليمة خبيرة في عطور الخُمرة والمحلبية والصندلية والشاف والطلح وفلور دامور والصاروخ والدلكة، كانت بضة فتية، ممتلئة طويلة العنق ، بادرته من فورها:
- سجمي يا كمال مالك في شنو إن شاء الله خير؟ فرد عليها دون أن ينظر اليها
- أحالوني للتقاعد للمصلحة العامة!
كانت حليمة حصيفة، ذات مواقف مشهودة فقالت تواسيه:
- الحمد لله، بركة الجات منهم ، احنا والحمد لله ما ناقصنا شيء ، ومحمد في السعودية، وأمل قربت تخلص دراستها ، والأمور ستتدبر ؛ ما عليك ما تشيل هم ، وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم ، والخير فيما اختاره الله، ما تشيل هم وهيا اخلع ملابسك فقد أعددت لك غداءً شهيا نزلت كلمات حليمة بردًا على صدر كمال، وبعد ان اغتسل وأدى صلاته، أحس براحة كبيرة، فاتجه صوب صالة الطعام وهو يطرقع بمسبحته، وجاءت ابنته أمل بمرحها المعهود وقبلته سائلةً:
؟ فرد عليها: - بابا زوغت من الشغل ولا شنو؟ مالك جاي بدري
- القصة طويلة يا (أمولي) ماما حتكيهالك .. وبخفة دخلت الى المطبخ، وشاغلت أمها، ثم ذهبت الى غرفتها وبعد أن خلعت مريولها، جاءت تشارك والديها الطعام، وهي تملأ الجو مرحًا بقفشاتها وحكاويها اللطيفة ..
مرت الأيام رتيبة، وكمال يخرج يوميًا، يراجع النقابة، ومكاتب المحامين،مقررًا أن لا يستسلم لهذا الفصل التعسفي المجحف . وذات مساء سمع طرقًا على الباب، وحين فتح الباب وجد رجلًا جسيمًا متجهمًا بادره سائلًا:
- انت كمال عبد الغني
- أهلا تفضل
عايزنك في مشوار قصير ومهم! وفي هذه الأثناء تقدمت عربة مسرعة من عند ناصية البيت، ترجل منها فتية مسلحون، قال أحدهم بلهجة قاطعة:
- مشوار بسيط لمكاتب الأمن ونرجعك . وأحاطوا به وأدخلوه العربة عنوة واتجهوا صوب المجهول.
كانت جارة صديقة لحليمة قد شهدت ما دار، فجاءت لحليمة وروت لها ما شاهدت، ومنذ تلك اللحظة بدأت مشاوير الهم والغم، وسؤال القريب والبعيد، عن الأرض التي انشقت وبلعته، أيامها كانت سمعة بيوت الأشباح تلوكها الألسن، وتزكم الأنوف، وا لحكومة تصم آذانها، وتعمل في الناس تنكيلاً وتقتيلاً نلتحكم بالحديد والنار.. وحفيت حليمة وابنتها أمل وهما تطرقان السبل والأبواب بحثًا عن كمالهما.
اختفت لحظات الفرح ، وغابت روائح الدلكة والخمرة والصندلية والمهلبية، وخيم الحزن في جنبات البيت! . ومحمد الابن في السعودية ، جافاه النوم، وطفق يستقطع من لقمته الريال تلو الريال، ليكفي أمه وأخته شر السؤال. ويستجدي كفيله، أن يمنحه إجازةً، ليطمئن على أبيه وأمه وشقيقته ،والكفيل شيخ حكيم وقور، يخشى الله ، يرده قائلاً :
- يا بني ، أنا لا مانع عندي أن تسافر لوطنك، ولكني قد خبرت الحياة أكثر منك، وأعرف أن السلطة المطلقة، مفسدة مطلقة، سأعطيك من المال ما تحتاج، ولكني أخشى أن تذهب ولا تعود! يحاول أن يثنيه عن السفر للخرطوم، ويحذره من بطش الحكومات، فلا يقتنع ويسافر ويعود لكفيله بخفي حنين وتمر الأيام والشهور ، ويظهر كمال بعدها شبحًا، مقهورًا، لا يقوى على السير، ولا النوم، يعاني من أمراض الدنيا. وحليمة وأمل لا تنفكان ترعيانه، إلا أنه تسرب منهما قهرًا، تاركا أرملةً ويتيمين .. والحزن كالنار، يبدأ كبيرًا وينزوي في الظلمات رويدًا رويدا..
تمر السنوات، وأمل تلتهم الكتب التهامًا، ومحمد من غربته يمد العون لاسرته الصغيرة، والشيخ السعودي الوقورلا يني في مساعدته، وحليمة هجرت زينتها وعطور الحياة، وصارت تفني حياتها لإسعاد فلذتي كبدها، لم يبارحها ألم الفراق، إنما قتلت الجزء الذي يتألم في داخلها . ونجحت أمل والتحقت بالجامعة، والناس في الحضر البوادي يلوكون سيرة الحكومة وصلفها، وبيوت الأشباح التي يقتلون ويعذبون فيها المعارضين . ويستشرى الفساد في طول البلاد وعرضها، ولم يعد سودانهم سودان أمسهم، نما الحسكنيت، وأطلت أشجار الزقوم، وافتقر أناس، وتتطاول آخرون في البنيان ، يسرقون الأرض وما تحتها وما فوقها، وأمل مع زملائها الذين عاصروا الحقبة أيفاعًا، وقرأوا القرآن ، وفلفلوا الأحاديث الشريفة، اكتشفوا زيف ما يقوله المتحكمون ، فخرجوا في مظاهرات سلمية، يطالبون بسقوط النظام، ويقفون بصدورهم العارية، في وجه العصبة المدجدجة بالسلاح، وينتصر الحق.. لكن كتائب الظل وفلول النظام المنتشرة حتى في شقوق الجدران تعمل المكائد لإطفاء نور الحق، ويختلف اللصان، والعيون لا تملأها سوى التراب، وتنازعا على كيكة السلطة، وتدور بينهم الدوائر والحروب، والحرب كارثة تقتل وتدمر الحياة الانسانية والتراث الثقافي والاقتصادي وتعيق التنمية، وتضيع الأرواح وتجلب الأحزان .. وانطلقت اطراف عديدة تكبر وتهلل ، وتشهر السلاح وتقتل النساء والرجال والأطفال، وخلت السجون من قاطنيها، ومنهم السياسي المجرم، واللصوص والقتلة، والجيش يقصف من السماء، ويختلط الحابل بالنابل.. ويعيش الناس في هلع. وحليمة تسعى بين بيوت الجيران والشوارع خائفة، حاسرة الرأس تبحث عن ( أمل) التي لم تعد من جامعتها . ثم افترشت الأرض أمام باب بيتها، تهيل على نفسها التراب وتصيح:
- وينك يا حشاي ، وينك يا بت بطني؟!
ويجتمع الجيران حولها يواسونها وبعد ساعات، تظهر مجموعة من الفتيات يسندن في وسطهن أمل. وتجري حليمة والنساء وسط خليط من الزغاريد والبكاء..وأمل تلهث،تتطاير عيونها ، شفتاها ناشفتان ترجفان، تبلع ريقها ودموعها على خديها لا يجفان، حضنتها أمها بلهفة وهي تصيح
- سجمي الحاصل ليك شنو يا بتي؟ لم تستطع أمل أن ترد، حاولت أن تتحدث ولكن ريقها قد غار في عمق سحيق، وهرب منها الكلام، وظلت تنظر الى أمها وهي ترتعد من أخمص قدميها الى رأسها ، سقتها أمها ماءًا ، ودثرتها وبدأت تنهنها وتطبطب عليها، وأمل كقطة صغيرة مبلولة في زمهرير البرد.. وبعد أن أفاقت حكت لأمها ، كيف أن جماعة من الرجرجة والدهماء والسوقة، بملابسهم القذرة، وروائحهم المنتنة ، وعيونهم الحمراء، يحملون البنادق، قد هجموا على اماكن تجمع الطالبات، وكيف امسكوا بهن وساموهن العذاب، وكيف أنها في معجزة غريبة ارتقت شجرة في فناء الجامعة ، وأخفت نفسها وراء الأغصان! لم يلتفت اليها المسلحون الأقذار فقد انشغلوا بإطفاء نزواتهم اللعينة، والبنات يصرخن من الضرب والإغتصاب، وظلت أمل متشبثة بأغصان الشجر، حتى قضى الأوغاد أوطارهم، وساقوا البنات على عرباتهم قسرًا وهن يولولن ، وكيف انها ظلت على الغصن حتى انجلت الغمة، وترجلت حتى وصلت الحي.
زخات الرصاص، واجتياح البيوت، والحمم التي ترميها الطائرات، والجثث الملقاة في الطرقات الطرقات ،وأفواه الكلاب الضالة المخضبة بدماء البشر، والروائح العطنة، وازيز طائرات الجيش وتاتشرات الجنجويد جعلت الناس في هول كأهوال القيامة
قامت حليمة تلملم ما خف من متاع وما وفرت من مال ، تبحث عن مهرب. وأخذت ابنتها وهي ترتعد، ومع ثلة أخرى من الأهل والجيران سلموا أنفسهم لمهرب محترف، حشرهم جميعًا في صندوق سيارته (البك اب) ، وأحاطهم بحبال حتى لا يسقطوا في الطريق، وبدأت رحلة العذاب للهروب من أهوال الحرب. وبعد ثلاثة أيام دخلوا مصر المؤمنة، استقبلتهم أنوارها، وشوارعها المكتظة، وأكوام من الفواكه والخضر واللحوم والأسماك والوجوه الضاحكة.
استأجرت حليمة شقة في حي فيصل وسط مجموعة من السودانيين، وبدأت من فورها تأخذ أمل للأطباء النفسيين، وتطوف بالحسين والسيدة زينب والسيدة عائشة والسيدة نفيسة وكافة ضرائح الأولياء، لتخرج ابنتها من الصدمات النفسية الفظيعة التي تعرضت لها.. وجاء محمد من السعودية؛ ولم يبارح أمل وظلا يمضيان الليل يتناجيان عن البلد الذي يتسرب منهم .. وبدأ محمد يبث فيها من جديد روح الثورة والمقاومة ، وانخرطا في أعمال تثقيفية ودعوية لوقف الحرب والعودة وهما يضحكان ويرددان معا وغدًا نعود حتما نعود، حتمًا نعود.
للغابة الغناء، للكوخ الموشح بالورود