قد يعجب القارئ الكريم لو استبان له أنه لا توجد دراسة فنية متكاملة عن مشروع بسد النهضة الإثيوبي، والمتوفر هو فقط مجرد تقارير استهلالية رُوِّجَ لها على أساس أنها دراسات من قبل "بعض الجهات" كلها تشير إلى ضرورة إعداد دراسة مستفيضة، تقي دول حوض النيل شرور مثل هذه الفيضانات، التي عمِدت أمريكا مؤخراً إلى تفكيكها تفادياً للمخاطر ودرأً للكوارث؛ خاصةً وأن كل شركات التأمين أو معظمها بات يتفادى الدخول في مثل هذه الصفقات الغالية ذات العواقب الوخيمة. ومن استدلوا بآراء سامح أرمنيوس المهندس المصري، ينسون أنّ رأيه كان مقيداً؛ إذ ظل يرافع عن مصلحة بلاده بقوله: "من المستحيل أن يؤثر سد النهضة على حصة مصر من مياه النيل." إذن هو معنيٌ بحماية بلاده، ومن أشهروا القول على إطلاقه، يفتقرون إلى الأمانة العلمية، ويتحملون تبعات هذا التزوير والتجيير لإرادة الآخرين، سيما المتضررين.
لم أجد شخصاً واحداً مؤهلاً من السودانيين (أو غيرهم)؛ ينافح عن حق الإثيوبيين في بناء "سد الدمار الشامل" كما يسميه السيد/ إبراهيم يوسف الخنّاقي (عضو حركة تحرير بني شنقول والشخص الأبرز في الدفاع عن حقوق أهله)، غير الإنقاذيين الذين لبثوا ردحاً من الزمن يبثون خطاب الكراهية تجاه مصر، بسبب موقفها من الإسلاميين. اللجنة الفنية التي تم تعينها في عهد البشير، والتي ظلت تعمل بموجهاته، والدكتور/قانوني سلمان محمد سلمان، سوداني الأصل والمنشأ، والذي اطلعت على مقالاته، فوجدت جُلها ينطلِقُ من انحياز تام، وموقف مسبق لا يخضع لأقيسة المنطق، ولا يقبل الأدلة؛ فهو كثيراً ما يدل على رجاحة قوله بعبارات من مثل: "وقد اتفق معظم خبراء المياه" وقد يضخم من هالة هؤلاء الخبراء بإضافة مناصبهم الأممية، دون أن يفصح عن التفاصيل العلمية والمنطقية لهذه الفئة. علماً أنّ الحجة تتخذ قيمتها من ذاتها وليس من إنتسابها لصاحبها؛ فإن هي رجحت كان خيراً وإن هي فسدت كانت في إخفاقها مرداً على متقلدها. وإذا ما ذهب القانوني الضليع ومستشار إثيوبيا في مفوضات نهر النيل، د. سلمان محمد سلمان، لتفنيد أراء الآخرين المختصين في الهندسة والجيولوجيا، قد لا يجد أكثر من وصف حججهم الراجحة، بأنها مجرد "كلام سياسي". علماً بأن القانونيين سُمُّوا قانونيين لأنهم يقننون آراء السياسيين. حتماً، هم لا يعتمدون على التعاون بين الدول المشاطئة أو غيرها على حسن النية.
نلاحظ أنَّ دكتور سلمان كثيراً ما يلجأ لتدعيم حجته بالإشاره إلي كبريات الجامعات، وما يذكره من حجج "راجحات"، سرعان ما تنقلب حجة عليه و دليلاً على رجحان رأي خصمه. وهذا دوماً حال من يخوض في غير مجاله، ويتدخل في غير ما يعنيه. الأمثلة كثيرة لكنني أخص بالذكر، أولاً ، قوله (أن السد سيحد من أثر الفيضانات)، علماً بأنَّ فيضان النيل الأزرق هو فيضان نهري عادي، إذا ما قورن بنهر القاش الذي يسمّى نهراً جارفاً، نسبةً لاندفاعه بمعدلات عالية، قد تفوق سبعين كيلومتراً كما بيّن دكتور محمد عبدالحميد (راجع اللقاء الذي لقاء أجرته مع حضرته الأستاذة نجاة الحاج لصالح جريدة أخبار اليوم 24 مارس 2020م). ثانياً، من الحجج التي يقدمها دكتور سلمان، هو يعتبر أن الطمى الذي يحتجزه السد مزية على اعتبار أن الإطماء يضعف إمكانية التوربينات لإنتاج الكهرباء، فيما هي بلية تفقد التربة خصوبتها وتسهم في تعرية الجزر والسواحل. ثانياً، من الحجج التي يقدمها دكتور سلمان، أنَّه يعتبر احتجاز السد للطمي مزية، فيما هي بلية تفقد التربة خصوبتها. ثالثاً، من جملة الحجج التي سعى لدعم حجة مُخدميه بها أورد القانوني الضليع ومستشار إثيوبيا في مفوضات نهر النيل، د. سلمان محمد سلمان "أن انحسار فيضان النيل الأزرق يقلل من الدمار الذي قد يسببه اندفاعه" علماً بأن هذه (الخسائر) التي يسببها – والتي شملت في السابق انهيار بعض البيوت التي يبنيها أهلها مخالفين نصيحة المهندسين – لا تقارن بالمنفعة التي يجنيها فقراء المزارعين في الشمالية من زراعة الجزر وزراعة الجروفز انظر إلى براعة دكتور سلمان عندما طفق يفتي في مجاله القانوني، إذ كان يومئذٍ من ضمن المدافعين عن قانون 2005، الذي تم بموجبه إلغاء قانون مشروع الجزيرة لعام .1984 تتضمن القواعد الأساسية لقانون 2005 الأتي: إتاحة حرية اختيار المحاصيل الزراعية، خيار تمليك الأراضي الزراعية، إعطاء المزارع الحق في التصرف في الأراضي الزراعية، إنشاء روابط مستخدمي المياه، وتقليص دور مجلس الإدارة. بعد هذا؛ لك أن تتصور أيها القارئ الكريم ما أحدثه هذا القانون من تدمير لمشروع الجزيرة، شمل الاتي: إعطاء حرية زراعة المحاصيل، أدى الي توفر عدد محدد من المنتجات الزراعية لم تجد التسويق الكافي، إلغاء وإعفاء الخفراء والمفتشيين الزراعيين أدى الي تدهور عام في مشروع الجزيرة، تقليص مهام إدارة مشروع الجزيرة، أدى إلي فقدان عدد كبير من أصول المشروع الجزيرة.
هكذا تصرفات في أي بلدٍ غير هذا البلد السايب، يمكن أن ترقي إلى جريمة الخيانة العظمى، لكنّا بعد لم نصل إلى البلية الكبري، والتي تتمثل في تقلد البعض لمنطق رأسمالي في بعض الأحايين، ولجؤهم إلى منطق اشتراكي في أحايين أخرى. وما ذلك إلا بسبب الانفصام الفكري والانشطار المفاهيمي الذي يحدثه غالباً التفكير المصلحي والأفق الذاتي الذي يجعل شخصاً يعمل مع جهة ويفتي لخصمها!
إن الصراع الدائر الآن في المنطقة لا يمكن تجنبه إلّا بطرح رؤية استراتيجية جامعة تعزز وتدعم المشاريع الوطنية لشعوب المنطقة كافة. لذلك يرى التقرير بأنَّ اولى خطوات جمع الشمل هو الالتزام بالهدف الاستراتيجي الأعلى المتمثل في عدم اتباع نهج التجزئة، بل الشروع في التخطيط جِدياًّ كي تشكل جميع المشاريع المائية في حوض النيل جزءاً من خطة أو منظومة متكاملة. تحتاج دول حوض النيل لفتح حوار سياسيٍ متزن، ليس فقط حول الجوانب الشكلية أو الاعتبارات البيروقراطية، إنَّما أيضا حول المضامين والأهداف. لا يمكن ترتيب سُلم الأوليات الاستراتيجية، إذ أن أغلب الشروط أو جلها غير مستوفاة، وما هو متوفر منها لا يخضع لمعايير مهنية وعلمية دقيقة؛ ألامر الذي من شأنه أن يحدث فوضى إدارية عارمة وتنفيذية صاخبة نتيجة لغياب الأقيسة التي تسهل على التنفيذيين مراجعة تقارير الأداء كي ما يكونوا على استعداد على تدارك أي شروخ قد ترصد في دورة تصميم وتنفيذ السياسات أو تعمل جاهدة على مراجعة الأهداف غير الواقعية. سيما الوقوف على تفاصيل الخطة التنفيذية التي تكشف عن تفاصيل المسار التشغيلي.
لقد وافقتا (مصر والسودان) في إعلان المبادئ (2015)، على طلب إثيوبيا بزيادة سعة السد، شريطة أن يُسلما نسخة من التصميم وإجراءات السلامة؛ علماً بأن الإثيوبيين شرعوا في بناء السد عام 2011م، وذلك في حد ذاته يعد خرقاً لاتفاقية (1902م)، والتي تشترط التزام الأطراف كافة وعدم بناء سدود على النيل الأزرق وفي ديار بني شنقول خاصة، إلا بعد التشاور مع الأطراف المعنية في هذه الحالة، السودان البلد الذي يمتلك الحق السيادي، غير أن الإدارة المصرية البريطانية (1898م إلى 1956م)، أعطت إثيوبيا بموجب الاتفاق الذي أبرم عام 1902، حق الانتفاع المشاع فقط، فأوْلَتها مهمة إدارة ديار بني شنقول، مقابل تقرير شهري عن أحوال المواطنين السودانيين، يقدم من مدير إقليم بني شنقول إلى مدير مديرية فازوغلي (حالياً النيل الأزرق)، و99 كيلو من الذهب ترسل سنوياً لملكة بريطانيا. لا ننسى أن محمد علي باشا غزا السودان من أجل ذهب بني شنقول وظل يحكمه في الفترة 1821م إلى 1885م، حتى أخرجته المهدية عُنوة وظل السودانيون يحكمون أرضهم ويفرضون سيطرتهم على كافة الأراضي حتي سقوط أخر جندي في أم دبيكرات.
إنَّ الأمر اليوم يتعدى حق الانتفاع إلى تهديد حياة الشعوب، فقد تنقلب وفرة المياه إلي جفاف يحرم السودان من زراعة دورة واحدة، دعك عن دورتيْن، بل قد تنعدم الكهرباء إذا ما قرر الإثيوبيون استخدام السد كسلاح في محاولتهم للاستيلاء على موارد السودان الأخرى، وقد تكون هذه نيتهم، إذا ما نظرنا إلى تصرفاتهم غير المهنية وغير الأخلاقية. لقد رفضت إثيوبيا إيراد أي فقرة في إعلان المبادئ عن التزامها عدم الإضرار بمصالح دول المصب، فيما اخذت مصر تدابير تحوطية وعَنِيت فقط ببند الملء والتشغيل (وقد رفضت إثيوبيا إشراكها حتى في هذا البند، فلم يكن من الرئيس السيسي إلّا أنه استضاف أبي أحمد وألزمه أن يقسم في مؤتمر صحفي، بعدم الإضرار بمصر وأهلها، وطلب منه تكرار ذلك مراراً!)، في حين اكتفى السودان بمجرد تطمينات قلبية وأمنيات شبقية كقولهم "الحبش بِحِبُونا"؛ إنها ذات العقلية الساذجة التي أدارت النخب السياسية بها السودان ردحاً من الزمان.
لقد دعم السودان عبر تاريخه جُل حركات التحرر الوطني من دول الجوار، منطلقاً من عاطفة آنية غير مسترشدٍ باستراتيجية مستقبلية، فلا غرو أن انقلب أصدقاء الأمس إلى أعداء اليوم. لابد من اتخاذ موقفٍ صارمٍ ينشد الإنصاف لشعبي وادي النيل، بالتركيز على هذه النقطة بالذات، فإن الأمر يتعدى حساسية العلاقات السياسية، إلي منظور الصراع بين قوي الحياة وقوي الموت، ومخصوصية الخلل التفاوضي لقيمة الموارد المائية، لا تقف عند سد النهضة، بل تتعداه إلي قضية السيادة الوطنية المُفرَّط فيها منذ أمدٍ بعيد. بمعني أن الموضوع بلغة أهلنا أصبح "ألمي حامي ما لعب قعونج". لماذا ثار الشعب، إن لم يَثُر لتحقيق هذه الغايات والأهداف والمقاصد؟