حدوتة من دفتر “الإفتراق”
د. أحمد عبدالله
29 August, 2023
29 August, 2023
وإلى اللحظة مايزال دوى وقعقعة معاول الدمار وسفك الدماء يتسيد المشهد الوطنى بلا ادنى ملامح مضيئة عند آخر النفق! ومن خلفهم بالطبع نقيع من يرون فى إستمرارية هذا الهلاك شيئا مما فى صدورهم ! ورغم أنه يصح إطلاق كلمة "حرب" على الصراع الداير والمتواصل حاليا من واقع إستدعاء التعريف الموجز للكلمة بأنها قتال مسلح بين فئيتين كل منها ضد الأخرى، إلا ان أى قرآءة فاحصة للوضع الماثل قد تنتج مفهوم جد مختلف لهذا الذى يدور أمام أعيننا الآن !! ويتضح ذلك فى نذرات وتساؤلات فى كبسولة موجزة فى ثنايا المقال!
ونبدأ بما هو معلوم من أن لابد للحرب - أى حرب - أن تخلف أضرارا قبل أن تضع أوزارها؛ تلتقى كل الحروب فى ذلك نوعيا وتتفاوت نسبيا فى الكم. ولعل جحيم المحرقة الماثلة أمام ناظرينا قد تعدى بلوغه فى هذا الصدد إلى ماوراء الحلقوم!
ومن السهل قياس حجم الدمار الناتج من هذه الحرب تحديدا بالنظر لحال المواطنين العاديين الذين شردت بهم وطأة القتال وضياع الحد الأدنى لما يعنيه الوجود الإنسانى، كل فى رحلة البحث عن أجواء أكثر صحة وسلامة تتهيأ فيها مراجعة ذهنية شاملة، وهو مانسميه ب "الإفتراق"؛ ونعنى به الهجر غصبا عن تراب الوطن - ولو إلى حين ! والمقال ينقل صورة شخصية لهذا القطع الإضطرارى الجائر بين المواطن ووطنه ودياره مشفوعا بما فى هذه الحرب من مواصفات تكبل البلاد وأهليها بما فوق الطاقة من خراب غير موجود أصلا فى سجلات كل ماسبق من حروب على مدى التأريخ البشرى!
أول ما يجعل مافى هذه الحرب بالذات من خراب إستثنائي هو السؤال عن طبيعة مكونات الفرقتين المتقاتلتين، وهل يضم كل منها مجموعة متجانسة وذات قيادة موحدة، ويتبع عما إذا كان هناك أغراض ذات أجندة واضحة لإشعال هذه الحرب أصلا ؟! ومن المفارقات فى هذا الصدد أن وتيرة العراك تزداد شراسة مع مرور الوقت بينما يزداد أغراض الحرب غموضا على غموض ويمتلئ الفراغ بإدعآءت إنتصارات مزعومة، مع حفظ الحقوق بمضاهاة مفردة 'إنتصار' برديفتها "رجالة" مع سعة فى المجال للتكبير!!
ويضاف لما فى هذى الحرب من همجية ولؤم هو تؤأمتها - وبالتراضى - مع قائمة متكاملة من أقذر الجرائم التى تحط بنهج وخصوصية وممتلكات وأعراض وإنسانية الإنسان، وبشكل لم يعرف مطلقا فيما سبق من حروب على ظهر الأرض منذ بدء الخليقة وإلى اليوم!
إضافة لذلك أن وجهة سهام المعركة قد تعدت الطرفين لتأخذ بخناق الحياة نفسها وتغتال كل مقوماتها ومعانيها جملة، من ناحية، وتنطلق ذات السهام إلى صدور مواطنين أبرياء مغلوب على أمرهم - لايهم مايكون من أمرهم بلغة الرصاص ؟! وخطوة أخرى أبعد وهى ماتحمله أهزوجة الحرب من طمس لهوية الوطن!
ومن هذا الركام برزت الفكرة الشخصية بإتجاه المخارجة القسرية، ليس هربا من موت - غدرا أو قدرا - مع مراعاة الفاصل بين حتمية الموت وبين صناعته، إنما للحاجة لتقليب أمور الذات والوطن بما يعين لإجتياز هذا الإمتحان القهرى المحمول فوق أسنة الرماح وترميم ماتخرب غض النظر عن حقيقة السير بخطى الهجر نحو المجهول زمانا ومكانا مضافا إليها ثقل حمولة "الإفتراق"!
ويجدر التذكير أن دوائر اللؤم فى جينات هذه الحرب قد توسعت للأخذ بخناق حتى من أجبرتهم للمغادرة عن وطن رضعوا من خيراته قبل زفهم للبحث عن أمان داخل أو خارج أسوار الوطن ! من نتاج ذلك أن الرحلة التى كانت تتم بحساب الساعات فى الظروف العادية - داخل أو خا ج أسوار الوطن - قد تمددت وإستطالت لتقاس بحساب الشهور، مشحونة بالترقب لركوب الصعب مع كل مايلزم من إجرآءت ومماطلات مضافا إليها المزيد مما لا يلزم فى التعامل مع من يحمل بطاقة 'طريد' وليس صاحب حق !
وأخيرا وأخيرا جدا، وبعد كل مافى الرحلة من عذابات وإستطالة أمدها ردحا من الزمان، إنتهى بنا المطاف عند سواحل امريكا الشرقية على أبواب مدينة سالسبرى (ميرى لاند)، فى ضيافة الإبن د. محمد؛ وللمناسبة محمد من الأسماء النشطة فى عالم السياسة وصلاح الأمة، وهو مجرب فى هذا ، فقد قدم عمليا - فى وقت سابق - انموذجا مبهرا صدح بجدواه عديد من المدائن وبخاصة الأرياف السودانية فى مجال إصلاح والتعامل الأمثل مع البيئة فى شتى مشاربها؛ إلا أنه قد إستعصى إستيعاب مثل هذه البشريات والحلول التنموية والبئيية على سدنة النظام الحاكم آنذاك لتنال نصيبها شأن كل المنارات والمشاريع المنتجة التى كانت سائدة ثم بادت بين أيديهم، وتلك قصة أخرى' !!
هذا، وبذات المقدار تستضيفنا من كاليفورنيا) أسرة د. إسلام كامل( النجم التشكيلى المعروف، وهو بلسان الوثائق الثبوتية زوج إبنتى 'الوحيدة' على خلاف حيثيات واقع الحال التى تقول أنه واحد من أبنائى 'الأبرار'.
وللمقارنة بين الولايتين (ميرى لاند وكاليفورنيا) فإن اول إشارة تلوح لنا هى المهلة (بفتح الميم والهاء) الأمريكية؛ لأنو مكانيا المسافة بين الولايتين - لو تصدق - ست ساعات طيران بالتمام والكمال! وزمانيا ميرى لاند تعمل بتوقيت الساحل الشرقى المتقدم بثلاث ساعات عن كاليفورنيا بحسب موقع الأخيرة ضمن ساعة الأطلنطى!
أما إذا أضفنا للمقارنة شخصية الوافد القادم من أجواء أشباح الموت والدمار، نلحظ ان أفضل تصوير لحال مايدور فى مخيلته كلمات قليلة مقتطفة مما شدى به العطبراوى لمبارك حسن خليفة فى رائعته الخالدة) لن أحيد (وسياط سفاح تسوق خطاهم وهم يغمغمون"!هذا مع ثقل الشوق للتنفس من تراب تركه وراء ظهره بمافيه من عشق متبادل )بالإتجاهين (الوطن والذات، وبصورة تضاهى تلك التى رسمتها فدوى طوقان فى مناجاتها للمواطن المعطون شوقا بالوطن الأم فى قصيدتها) لن أبكى(؛ 'وليس مصادفة ان يستفتح العنوان فى كلتا القصيدتين بكلمة "لن" للدلالة على صلابة وديمومة الموقف من التشبث بأهداب الوطن'؛ ونلتقط شذرات من القصيدة بدون ترتيب:"على أبواب يافا ياأحبائى، وفى فوضى حطام الدور بين الردم والشوك، وقفت وقلت للعينين قفا نبك، على أطلال من رحلوا وفاتوها، تنادى من بناها الدار، تنعى من بناها الدار، ما فعلت بك الأيام يادار؟ أين القاطنون هنا؟ وهل جآءتك بعد النأى أخبار؟ هنا كانوا، هنا حلموا، هنا رسموا مشاريع الغد الآتى، فأين الحلم؟ وأين الآتى؟ وأين همو؟ وأين همو؟"!
ويلاحظ أيضا أن ذاك الهيام والعشق يجرى فى القصيدتين بالتبادل بين طرفى المعادلة: الوطن والمواطن بمزيج يشقى به كلاهما! هذا المواطن المسكون بحب الجذور، والذى ترك ورآءه وطن كامل الدسم تروم حوله أشباح الظلم والظلام والظلمات والخواء الفكرى والأخلاقى جنبا إلى جنب مع كل مايخطر على البال من إغتيال - غير مسبوق فى سجل الإنسانية - للمكرمة التى إسمها "الأخلاق وآدمية الإنسان"! ويزداد المشهد إيلاما وإرتباكا بمايراه فى تجواله فى المدائن الآمنة من إمتلاء رئة الشارع وترنمها وإحتفائها بإيقاعات كل ماهو حى وحيوى وحياتى ! ودمتم ودامت بلادنا سالمينفى ظلال الأمن والنماء.
مع تحيات أحمد عبدالله
ونبدأ بما هو معلوم من أن لابد للحرب - أى حرب - أن تخلف أضرارا قبل أن تضع أوزارها؛ تلتقى كل الحروب فى ذلك نوعيا وتتفاوت نسبيا فى الكم. ولعل جحيم المحرقة الماثلة أمام ناظرينا قد تعدى بلوغه فى هذا الصدد إلى ماوراء الحلقوم!
ومن السهل قياس حجم الدمار الناتج من هذه الحرب تحديدا بالنظر لحال المواطنين العاديين الذين شردت بهم وطأة القتال وضياع الحد الأدنى لما يعنيه الوجود الإنسانى، كل فى رحلة البحث عن أجواء أكثر صحة وسلامة تتهيأ فيها مراجعة ذهنية شاملة، وهو مانسميه ب "الإفتراق"؛ ونعنى به الهجر غصبا عن تراب الوطن - ولو إلى حين ! والمقال ينقل صورة شخصية لهذا القطع الإضطرارى الجائر بين المواطن ووطنه ودياره مشفوعا بما فى هذه الحرب من مواصفات تكبل البلاد وأهليها بما فوق الطاقة من خراب غير موجود أصلا فى سجلات كل ماسبق من حروب على مدى التأريخ البشرى!
أول ما يجعل مافى هذه الحرب بالذات من خراب إستثنائي هو السؤال عن طبيعة مكونات الفرقتين المتقاتلتين، وهل يضم كل منها مجموعة متجانسة وذات قيادة موحدة، ويتبع عما إذا كان هناك أغراض ذات أجندة واضحة لإشعال هذه الحرب أصلا ؟! ومن المفارقات فى هذا الصدد أن وتيرة العراك تزداد شراسة مع مرور الوقت بينما يزداد أغراض الحرب غموضا على غموض ويمتلئ الفراغ بإدعآءت إنتصارات مزعومة، مع حفظ الحقوق بمضاهاة مفردة 'إنتصار' برديفتها "رجالة" مع سعة فى المجال للتكبير!!
ويضاف لما فى هذى الحرب من همجية ولؤم هو تؤأمتها - وبالتراضى - مع قائمة متكاملة من أقذر الجرائم التى تحط بنهج وخصوصية وممتلكات وأعراض وإنسانية الإنسان، وبشكل لم يعرف مطلقا فيما سبق من حروب على ظهر الأرض منذ بدء الخليقة وإلى اليوم!
إضافة لذلك أن وجهة سهام المعركة قد تعدت الطرفين لتأخذ بخناق الحياة نفسها وتغتال كل مقوماتها ومعانيها جملة، من ناحية، وتنطلق ذات السهام إلى صدور مواطنين أبرياء مغلوب على أمرهم - لايهم مايكون من أمرهم بلغة الرصاص ؟! وخطوة أخرى أبعد وهى ماتحمله أهزوجة الحرب من طمس لهوية الوطن!
ومن هذا الركام برزت الفكرة الشخصية بإتجاه المخارجة القسرية، ليس هربا من موت - غدرا أو قدرا - مع مراعاة الفاصل بين حتمية الموت وبين صناعته، إنما للحاجة لتقليب أمور الذات والوطن بما يعين لإجتياز هذا الإمتحان القهرى المحمول فوق أسنة الرماح وترميم ماتخرب غض النظر عن حقيقة السير بخطى الهجر نحو المجهول زمانا ومكانا مضافا إليها ثقل حمولة "الإفتراق"!
ويجدر التذكير أن دوائر اللؤم فى جينات هذه الحرب قد توسعت للأخذ بخناق حتى من أجبرتهم للمغادرة عن وطن رضعوا من خيراته قبل زفهم للبحث عن أمان داخل أو خارج أسوار الوطن ! من نتاج ذلك أن الرحلة التى كانت تتم بحساب الساعات فى الظروف العادية - داخل أو خا ج أسوار الوطن - قد تمددت وإستطالت لتقاس بحساب الشهور، مشحونة بالترقب لركوب الصعب مع كل مايلزم من إجرآءت ومماطلات مضافا إليها المزيد مما لا يلزم فى التعامل مع من يحمل بطاقة 'طريد' وليس صاحب حق !
وأخيرا وأخيرا جدا، وبعد كل مافى الرحلة من عذابات وإستطالة أمدها ردحا من الزمان، إنتهى بنا المطاف عند سواحل امريكا الشرقية على أبواب مدينة سالسبرى (ميرى لاند)، فى ضيافة الإبن د. محمد؛ وللمناسبة محمد من الأسماء النشطة فى عالم السياسة وصلاح الأمة، وهو مجرب فى هذا ، فقد قدم عمليا - فى وقت سابق - انموذجا مبهرا صدح بجدواه عديد من المدائن وبخاصة الأرياف السودانية فى مجال إصلاح والتعامل الأمثل مع البيئة فى شتى مشاربها؛ إلا أنه قد إستعصى إستيعاب مثل هذه البشريات والحلول التنموية والبئيية على سدنة النظام الحاكم آنذاك لتنال نصيبها شأن كل المنارات والمشاريع المنتجة التى كانت سائدة ثم بادت بين أيديهم، وتلك قصة أخرى' !!
هذا، وبذات المقدار تستضيفنا من كاليفورنيا) أسرة د. إسلام كامل( النجم التشكيلى المعروف، وهو بلسان الوثائق الثبوتية زوج إبنتى 'الوحيدة' على خلاف حيثيات واقع الحال التى تقول أنه واحد من أبنائى 'الأبرار'.
وللمقارنة بين الولايتين (ميرى لاند وكاليفورنيا) فإن اول إشارة تلوح لنا هى المهلة (بفتح الميم والهاء) الأمريكية؛ لأنو مكانيا المسافة بين الولايتين - لو تصدق - ست ساعات طيران بالتمام والكمال! وزمانيا ميرى لاند تعمل بتوقيت الساحل الشرقى المتقدم بثلاث ساعات عن كاليفورنيا بحسب موقع الأخيرة ضمن ساعة الأطلنطى!
أما إذا أضفنا للمقارنة شخصية الوافد القادم من أجواء أشباح الموت والدمار، نلحظ ان أفضل تصوير لحال مايدور فى مخيلته كلمات قليلة مقتطفة مما شدى به العطبراوى لمبارك حسن خليفة فى رائعته الخالدة) لن أحيد (وسياط سفاح تسوق خطاهم وهم يغمغمون"!هذا مع ثقل الشوق للتنفس من تراب تركه وراء ظهره بمافيه من عشق متبادل )بالإتجاهين (الوطن والذات، وبصورة تضاهى تلك التى رسمتها فدوى طوقان فى مناجاتها للمواطن المعطون شوقا بالوطن الأم فى قصيدتها) لن أبكى(؛ 'وليس مصادفة ان يستفتح العنوان فى كلتا القصيدتين بكلمة "لن" للدلالة على صلابة وديمومة الموقف من التشبث بأهداب الوطن'؛ ونلتقط شذرات من القصيدة بدون ترتيب:"على أبواب يافا ياأحبائى، وفى فوضى حطام الدور بين الردم والشوك، وقفت وقلت للعينين قفا نبك، على أطلال من رحلوا وفاتوها، تنادى من بناها الدار، تنعى من بناها الدار، ما فعلت بك الأيام يادار؟ أين القاطنون هنا؟ وهل جآءتك بعد النأى أخبار؟ هنا كانوا، هنا حلموا، هنا رسموا مشاريع الغد الآتى، فأين الحلم؟ وأين الآتى؟ وأين همو؟ وأين همو؟"!
ويلاحظ أيضا أن ذاك الهيام والعشق يجرى فى القصيدتين بالتبادل بين طرفى المعادلة: الوطن والمواطن بمزيج يشقى به كلاهما! هذا المواطن المسكون بحب الجذور، والذى ترك ورآءه وطن كامل الدسم تروم حوله أشباح الظلم والظلام والظلمات والخواء الفكرى والأخلاقى جنبا إلى جنب مع كل مايخطر على البال من إغتيال - غير مسبوق فى سجل الإنسانية - للمكرمة التى إسمها "الأخلاق وآدمية الإنسان"! ويزداد المشهد إيلاما وإرتباكا بمايراه فى تجواله فى المدائن الآمنة من إمتلاء رئة الشارع وترنمها وإحتفائها بإيقاعات كل ماهو حى وحيوى وحياتى ! ودمتم ودامت بلادنا سالمينفى ظلال الأمن والنماء.
مع تحيات أحمد عبدالله