حرب السودان والموقف العربي

 


 

 

ناصر السيد النور
فيما ما زالت الحرب في السودان مستمرة وهي تكمل عامها الأول ـ التي حولت البلاد بالنتيجة المنطقية لبداياتها العبثية، إلى دمار ماحق طال الإنسان والمكان ـ تزداد بعداً عن أي أفق للحل يضع نهاية لتمدداتها العسكرية على نطاق جغرافي واسع، بينما تقترب من الوصول إلى الكارثة الإنسانية الشاملة، من مجاعة وأمراض تفتك بملايين المواطنين ضحايا الحرب. وقد منعت المساعدات الإنسانية، المعلقة ضمن مناورات الحرب، من الدخول إلى مناطق سيطرة الدعم السريع في دارفور، كما صرح مؤخراً وزير الخارجية السوداني علي الصادق، وبهذا تكون الأزمة قد تحولت من حرب إلى مجاعة، إلى حصار، ثم كارثة إنسانية تهدد حياة سكان مناطق بعينها على أسس النزاع الجهوية.
واللافت أن الزيارات التي قام بها كل من الفريق البرهان إلى ليبيا ومصر مؤخراً، وقبلهما الجزائر، وما أعقبها من زيارة قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) لليبيا، تكون الأزمة السودانية قد واصلت بحثها بالعودة إلى المسار العربي، في الجوار العربي الذي غاب طويلاً عن مشهد الصراع السوداني، بعد أن تعقدت السبل نحو المبادرات الإقليمية في الوجهة الافريقية للسودان. وكانت المحاولات الرسمية السعودية الأمريكية، أولى المبادرات من طرف عربي للوساطة في الشأن السوداني.
فمنذ اندلاع الحرب في الخامس عشر من أبريل الماضي لم يلاحظ أي أثرٍ للجهود في حل الأزمة لإحدى أعضاء جامعة الدول العربية، إلا بالقدر الذي يرد في بياناتها من سيل الإدانات والدعوة إلى ضبط النفس، وغيرها مما تحفل به مقررات وبيانات الجامعة العربية. فقد أصدرت قرارها رقم 8913 الذي دعت فيه إلى الوقف الفوري للأعمال القتالية كافة، دون قيد أو شرط، وتعزيز الالتزام بالهدنة، سعياً نحو عدم تفاقم الأوضاع الإنسانية والمعيشية للشعب السوداني، والحفاظ على مكتسباته وسلامة الدولة السودانية ومؤسساتها ومنشآتها، إلا أنها لم تكن أكثر من عبارات غير ملزمة. هذه الحرب في أحد وجوهها مثلت حرباً بالوكالة، كما يرى المراقبون، فالاتهامات طالت الإمارات العربية، وأشارت إلى دورها في الوقوف وراء قوات الدعم السريع، كما جاء في تقارير صحافية وقبلها تصريحات قادة الجيش السوداني، ما صعّد حدة التوتر على المستوى الدبلوماسي بين البلدين، وقد نفت دولة الإمارات في بيان خارجيتها قيامها بتسليح أي طرف، ولا يخفى على المراقب الدور الخارجي في تأجيج الصراع القائم بين أطراف إقليمية عدة، كشأن كل الحروب الداخلية، وهو صراع تكاد تخفي أجندته أكثر مما تفصح به مبررات الحرب نفسها. فالسودان بسبب موقعه الهامشي ووزنه في المحيط العربي، طالما كانت أزماته الكثيرة محل جدل حول مدى فاعلية استجابة السياسات العربية بين دعم مفتوح، أو موقف متردد، ما يجعل أزماته غير مدرجة في جداول سياسات الدول العربية ومنظماتها الإقليمية. ومن تأثيرات الأزمة، توجه السودان نحو إيران بعد قطيعة دامت لسنوات، في توقيت يشهد الإقليم فيه تجاذبات حادة، على مستوى الأنظمة والقضايا الملتهبة في المنطقة، وما أثاره هذا التقارب من قلق وتكهنات قابلة لأكثر من تفسير جيوسياسي وعسكري على البحر الأحمر، وما تسعى إليه إيران من إقامة قواعد لها على البحر الأحمر، وغيرها من مهددات تشهدها المنطقة، ويأتي الاقتراب من إيران في ظل تشابكات الصراع الدائر، الذي سيتأثر بشكل سالب مما تشكله هذه التحالفات المتناقضة وسياق السياسات العربية في المنطقة. فالتخوف الذي تبديه دول النظام العربي من دور بارز للإسلاميين أنصار النظام السابق، من جماعات الإسلام السياسي، وتحكّمه بإدارة المعركة، يجعل الموقف الحالي للحكومة السودانية التي يمثلها الجيش، بشرعية الحرب، التي يخوضها ضد الدعم السريع، تخضع لتفسيرات عدة، بين عودة للسلطة وتمكين مجدد للإسلاميين، في استعادة دورهم في السلطة بعد ثورات الربيع العربي المجهضة في كل من مصر وتونس وليبيا.

وتدخل إسرائيل أيضاً محور الصراع من أكثر من باب فكل من الطرفين طرق بابها منذ أن التقى الفريق البرهان برئيس الكيان في يوغندا في 2021 بصورة علنية لم يسبقه إليها سياسي أو مسؤول سوداني في تاريخ السودان الحديث. وما سربته التقارير عن زيارات سرية وعلنية بين الجانبين والسماح للطيران الإسرائيلي بالمرور بالأجواء السودانية، أسوة بدول المنطقة العربية. ويبدو أن إسرائيل أصبحت البوابة التي ينفذ عبرها نحو الغرب، وضمانة حصانة ضد محاكمات دولية لجرائم حرب مرتكبة، ودعم مرتقب من دول المنطقة المطبعة مع الكيان الصهيوني، كما لو أن إسرائيل أصبحت الحكومة السرية التي تحكم العالم، كما يشاع في الأسطورة الرائجة. وبالعودة إلى زيارة الدولتين مصر وليبيا في سياق دوريهما المفترض في حل الأزمة السودانية، فإن الأولى التي زارها الفريق البرهان دعوة، أم استدعاء من قيادتها كان دورها الأكبر منذ تفجر صراع الحرب الأهلية في فتح حدودها أمام موجات الفارين وما شكله من ضغط، وهي التي تعاني من أوضاع اقتصادية صعبة. ولكن على الصعيد السياسي بدا ملحوظاً وقوفها إلى جانب الجيش، وفقا لتقديرات استراتيجيتها الجيوسياسية ببعدها التاريخي في علاقتها مع السودان على بوابتها الجنوبية، وما يعنيه انهيار السودان من مهددات على أمنها القومي على طول خط النيل، والتحديات التي فرضتها السياسات المائية لدول حوض النيل. وبينما تلمح الدوائر المقربة من السلطة المصرية بدفع الطرفين، خاصة طرف البرهان (الجيش) نحو قبول التفاوض، بعد خسارة الجيش، وخشيتها من عودة الإسلاميين الذين يقفون خلف الجيش، وفي عودتهم بما تراه مصر عودة لكابوس الإخوان المسلمين. ولا تزال جهود الدولة المصرية متأرجحة، على الرغم من عقدها لاجتماع قمة على مستوى رؤساء دول الجوار السوداني في يوليو الماضي، الذي خرج بخطة العمل التنفيذية التي وردت في بيانها دون إحراز تقدم في ملف المشكل السوداني، إلا بالقدر الذي أفصحت عنه عبارات البيان. أما ليبيا بلد الجوار الثاني، والأقل أثرا قياساً بالدور المصري كبلد تمزقه الصراعات منذ ما يزيد على عقد من الزمان، تسيطر عليه حكومتان تدعم إحداهما قوات حفتر، كما يشارك قوات الدعم السريع عبر الحدود المفتوحة تنفيذا لأجندة إقليمية كما تشير التقارير. وقد صرحت حكومة طرابلس (الدبيبة) بحل المشكلة السودانية، دون أن تفصل الطرق التي ستنتهجها في ذلك، ولكن تبقى ليبيا بحدودها المفتوحة مع السودان ووجود جماعات مقاتلة من الحركات المسلحة، أحد أضلع الصراع، ولكن من المستبعد أن يكون لها دور حاسم في حل الصراع إن لم يكن في تأجيجه فليس في إنهائه.
والموقف العربي الراهن بما يمر به من منعطف حرج إزاء عجزه أمام الكثير من التحديات، وما يحدث في غزة لا يتوقع أن يحدث تحركاً إيجابيا في الأزمة السودانية، التي باتت حرباً منسية، كما يتردد في الإعلام العالمي. ولأن البلدان العربية لا تملك الإرادة أو القوة الكافية لتدخل بشكل يمكن أن يؤدي إلى حل الصراع، فإنها تعول على ما تراه الدول الكبرى والمؤسسات الدولية من حلول وخطط، فإما أن تلزم الطرفين بقبول المقررات الأممية، أو تبقى رهينة حساباتها وأجندتها السياسية الحذرة. فإذا كانت المبادرات العربية قد تعددت منابرها من وساطة غير مباشرة بين الطرفين في جدة، إلى المحادثات السرية في المنامة بالبحرين وغيرها من لقاءات، إلا أنها لم تبد أو تعمل على حل الأزمة السودانية، بما تقتضيه ضرورات الأمن القومي العربي.
كاتب سوداني
نشر بصحيفة_ القدس العربي اللندنية# عدد اليوم 09مارس 2024م

nassyid@gmail.com

 

آراء