حرب من هذه؟ وما هي أهدافها؟ (1)
الباقر العفيف
10 September, 2023
10 September, 2023
مدير مركز الخاتم عدلان للاستنارة والتنمية البشرية د. الباقر العفيف
(١)
خراب سوبا
تدخل الحرب المدمرة شهرها الخامس، وقد أحالت سماء الخرطوم ومدن دارفور وكردفان إلى سحب من دخان وأرضها إلى ركام من حطام، وأهلها بين قتيل وجريح، وشريد ورهين. أما مشهد الخرطوم الآن فيُذكرنا بماضيها البعيد مما استقر في الذاكرة الجمعية لشعب السودان عن خراب سوبا، في العام ١٥٠٤، الذي اقترفته جحافل البدو من “عربان” العبدلاب “ورعاة” الفونج. فسوبا الأمس هي خرطوم اليوم من حيث المكان والجغرافيا. وها هي جحافل الجنجويد قد وطئت “خيلهم” أرض الخرطوم، فأفرغتها من جل سكانها في أول سابقة في تاريخ السودان الحديث، بعد أن أعملت فيهم آلة الدمار، فقتلت أو حبست رجالها، واستحيت واستذلت نساءها وأطفالها. وكما قال علي بن أبي طالب، “ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذُلُّوا”. فليهنأ الكيزان، “عجوبة” هذا الزمان، بآخر ثمرة من ثمرات مشروعهم المتوحش. ذلك المشروع الدخيل الغريب المستورد الذي يمثل أخبث بذرة تبذر في أرض السودان على الإطلاق والذي اتخذ منحى مدمرا منذ أن ظهر زعيمهم حسن الترابي في المسرح السياسي السوداني قبيل أكتوبر ١٩٦٤.
فمنذ ظهوره في ذلك الزمان المشؤوم لم يذق شعب السودان طعم العافية. إذ بدأ الترابي يمارس في الساحة السياسية السودانية ما كان يمارسه الملاكم محمد علي كلاي في حلبات الملاكمة، يرقص كالفراشة ويلسع كالنحلة. دخل الى المسرح السياسي، بلا أخلاق، وبضمير مَيِّتِ تماما، أدواته الالتواء والديماغوجية والكذب وبث الكراهية على مستوى الخطاب، والتآمر والابتزاز السياسي والديني، واثارة الفتن وإدخال العنف اللفظي والجسدي في العمل السياسي على مستوى الممارسة.
إن سجل الترابي في إلحاق الأذى بالشعب السوداني لسجل حافل وطويل.. سجل دامٍ، مليء بالجرائم والمخازي والتآمر. فالترابي يقدم لنا نموذجا فريدا لمبلغ الضرر الذي يمكن أن يلحقه فرد واحد شرير بشعب كامل طيب وكريم، مستغلا نقاط ضعفه، وعاطفته الدينية، وفقره وحرمانه، وانتشار الجهل والأمية وسط أفراده، وهشاشة هويته، وضعف أسس دولته، وجهل وجبن الكثير من متعلميه، وقابليتهم للإفساد، وانهزامهم أمام الابتزاز الديني والإرهاب الفكري.
أسس الترابي مشروعه على أعمدة الكذب والتضليل والفساد والإفساد، وأقام عليه أناسَا يشبهونه، ميتي الضمير، عديمي الأخلاق، لا إنسانيين، كذبة مضللين وفاسدين. فاجتذب إليه مجموعات كبيرة من المغامرين والانتهازيين والمرضى النفسانيين الذين يسعون للثراء الحرام، والتحكم على الرقاب، وإساءة استخدام السلطة، والعيش فوق القانون.
وقد أتقن تلاميذه أحابيله وبذوه فيها على طريقة رواية ستيفن كنج “” Apt Pupil، والتي يمكن أن تترجم ل “التلميذ النجيب” أو “التلميذ المناسب ذو القابلية للتعلم”. فالشخصية الرئيسية في الرواية هو الصبي تِود بودن Todd Bowden الذي بذَّ معلمه النازي العجوز آرثر دنكر Arthur Denker بعد أن علمه أحابيل النازية في ارتكاب الجرائم، وضمنها الابتزاز والقتل، وكيف يجد في قتل البشر إثارة ومتعة لا يجدها حتى في الجنس. فأصبح المعلم من ضحايا تلميذه، حيث طَبَّق تود تلك الأحابيل على معلمه وأولها ابتزازه بكشف هويته النازية إن لم يعلمه كل ما عنده من مهارات في الجريمة. وقد تحول التلميذ إلى سفاح و”كتَّال كُتَلَة” serial killer ينافس معلمه في القتل ويجد فيه متعة لا تعادلها متعة. وقد أودت هذه العلاقة بين التلميذ ومعلمه إلى موت المعلم منتحرا، عندما أدرك أن تلميذه سيسلمه للسلطات.
وبنفس القدر فقد غدر تلاميذ الترابي بمعلمهم الذي علمهم السحر، وأبعدوه وسجنوه وشنعوا به حتى مات في النهاية “ممغَوسَا”. هكذا ذهب الترابي ضحية العصابة التي كونها والتي ألحقت بالشعب السوداني أبلغ الأذى من نقص في الأنفس والثمرات وضياع أحلام أجيال من السودانيين ببناء دولة ناجحة، مزدهرة عادلة وديمقراطية. ذهب الترابي إلى ربه وفق سنن الحياة التي لا تتبدل، وظني أنه الآن يلقى جزاء ما اقترفت يداه، ولكنه ترك وراءه هذا التنظيم الإرهابي كأكبر “سيئاته الجارية” يديره الآلاف من الكيزان المجرمين الذين أمَاِّتوا ضمائرهم، وأراحوها من الوخز، وأصبحوا مثل الروبوتات التي لا تحس ولا تشعر. وعلى سبيل إنعاش الذاكرة سأذكر فيما يلي بعض المحطات الكبرى في مسيرة الترابي الظلامية وتنظيمه الإرهابي قبل الولوج إلى الحرب المدمرة التي أشعلوها في الخامس عشرة من أبريل هذا العام. هذه المحطات تؤكد معادلة منطقية مفادها أن هذه المسيرة الدامية لابد أن تنتهي إلى ما انتهت إليه من دمار شامل للبلاد.
مخازي الترابي
• فأول مخازي تنظيمه الكبرى هي طعن النظام الديمقراطي طعنة نجلاء في سرته، وذلك بمؤامرته لحل الحزب الشيوعي وطرد نوابه المنتخبين من البرلمان في العام ١٩٦٥. فقد أشعل “فتنة كبرى” مستغلا فيها حادثة الإساءة للسيدة عائشة رضي الله عنها بواسطة طالب يافع، محملا المسؤولية للحزب الشيوعي ومثيرا للغوغاء ضده، ومنظرا لإلغاء مادة الحقوق الأساسية من الدستور، وممارسا الابتزاز الديني الذي استسلم له كبار سياسي ذلك الزمان. وأعقب هذا الخزي بإشعاله فتنة أخرى عام ١٩٦٨دشنوا بها العنف الطلابي بالجامعات مستغلين نشاطا إبداعيا بمسرح الجامعة قدمت فيه رقصة العجكو في أواخر عام ١٩٦٨ التي اعتبروها خروجا عن الإسلام.
• وفي ذات العام ضلع تنظيمه، مع المؤسسات الفقهية الرسمية، وبعض القيادات الطائفية، في مؤامرة إصدار حكم بردة الأستاذ محمود محمد طه عن الإسلام. أعقبوها في ذات العام بابتزاز الحزبين الكبيرين والدفع بهما لتمرير مشروع الدستور الإسلامي المزيف. وهذه الفتن تمثل في جملتها أسباب انقلاب مايو ١٩٦٩ الذي نفذه تحالف يساري بين القوميين العرب والشيوعيين.
• بعدها لعب تنظيم الترابي دورا كبيرا في تحريض الإمام الهادي زعيم الأنصار على إشعال فتنة الجزيرة أبا في مارس ١٩٧٠، بحجة الجهاد ضد الشيوعية، وقد انتهت تلك الفتنة بمقتل الإمام الهادي ومجموعة من أنصاره، بالإضافة لمقتل بعض قادة التنظيم الإرهابي.
• كذلك ضلع التنظيم في إشعال فتنة أخرى تمثلت في حركة الثاني من يوليو ١٩٧٦، تحت مظلة الجبهة الوطنية، حيث قادوا غزوا عسكريا فاشلا للبلاد بقيادة العميد محمد نور سعد، كانوا هم ضباطه في حين جاءت غالبية الجنود من طائفة الأنصار. وقد أدَّت تلك “الغزوة” لمقتل عدد من قياداتهم في دار الهاتف بالإضافة لمقتلة الأنصار في ود نوباوي.
• أما بعد أن تحالفوا مع نظام مايو، في إطار ما سُمِّيً المصالحة الوطنية، فسرعان ما بدأوا في اختراق الجيش ببناء تنظيمهم داخله، وأيضا عن طريق انتداب ضباطه للمعهد الأفريقي الإسلامي ليحصلوا على دبلوم الدراسات الفقهية، وبناء قاعدتهم الاقتصادية عن طريق بنك فيصل الإسلامي. وظهرت بصماتهم السياسية عام ١٩٨٢، في نقض النظام لاتفاقية أديس أببا مع حركة الأنيانيا الموقعة عام ١٩٧٢، وإصدار قوانين سبتمبر ١٩٨٣ السادية، والتي أسموها زورا وبهتانا “بالقوانين الإسلامية”، مما صب زيت الدين على حرب الجنوب السياسية لتصبح حربا دينية منذ ذلك الوقت.
• أما بعد سقوط مايو في أبريل ١٩٨٥، فقد ظل تنظيم الترابي داعيا للحرب ومناهضا للسلام تحت شعار “دعم الجيش”، ومسيرا القوافل لجبهات القتال بغرض تملق العساكر، وابتزاز القوى السياسية الأخرى. وقد توَّّج إنجازاته بالاستيلاء على السلطة في العام ١٩٨٩، وتحويل أركان الدولة، من جيش وأمن، وبوليس، وخدمة مدنية، ونظم تعليمية لأجهزة تابعة للتنظيم. ولم يكتف بذلك، بل أنشأ أجهزة موازية للجيش والأمن والبوليس تتمثل في قوات الدفاع الشعبي، والأمن الشعبي والشرطة الشعبية. وكأن كل هذه الأجهزة المدججة بالسلاح ليست كافية لقمع الشعب فأنشأوا مليشيات الجنجويد سيئة السمعة، والتي أطلقوا عليها أولا اسم “حرس الحدود” ومؤخرا أسموها “قوات الدعم السريع”.
• أقامت هذه الأجهزة امبراطوريات اقتصادية ضخمة وصارت بؤرا للفساد والإفساد، وعدم المحاسبية حتى وُصِف نظامهم بنظام اللصوصية Kleptocracy بواسطة المؤسسات المالية الدولية. أما الشعب فقد وصفهم “بالحرامية”، وصاغ ذلك الوصف في شعار الثورة البليغ “سلمية، سلمية، ضد الحرامية”.
• عمقوا حرب الجنوب وعقدوها وأضافوا إليها البعد الديني الجهادي، وتوسعوا فيها غربا وشرقا فشملت جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور وارتكبوا فيها جرائم وفظائع يندى لها الجبين، حتى أوصلتهم لمحكمة الجنايات الدولية. وفي نهاية الأمر وبعد خراب سوبا فصلوا جنوب البلاد دون أن يسألهم أحد عن جدوى الحرب والدمار. وبدل أن يندموا على ضياع الجنوب احتفلوا به وقالوا “بلاء وانجلى”.
وبعد ثلاثين عاما من الظلم والنهب والمجازر والقمع والفتن والمفاسد استطاع الشعب السوداني أن يتوج نضالاته التي بدأت منذ انقلابهم في العام ١٩٨٩، بثورة ديسمبر ٢٠١٨ التي استطاعت الإطاحة براس النظام لكن ظل التنظيم الأخطبوطي ممسكا بمفاصل الدولة. فصار الشعب الأعزل في جانب الثورة والتغيير في حين أجهزة الدولة والأجهزة الموازية، بالذات تلك الحاملة للسلاح، في جانب التآمر على الثورة ومحاولة إجهاضها.
وفي سبيل كسر ظهر الثورة ارتكب الكيزان أكبر مجزرة في تاريخ البلاد في عهود السلم ضد شباب عزٍّل صائمين يستعدون لاستقبال العيد. كان هدف الكيزان هو كسر صمود الشعب عن طريق الصدمة الشديدة المفاجئة، shock and awe ولكن نهض الشعب من رماد المحرقة بعد شهر واحد فقط في واحدة من أكبر المظاهرات التي شهدتها البلاد عبر تاريخها مما أجبرهم على التراجع التكتيكي
استخدم الكيزان سيطرتهم على الدولة في تعطيل الانتقال وعرقلته بشتى السبل والحيل، بما فيها إغلاق الميناء، واعتصام الموز، ولكن أفشل الشعب خططهم جميعها. فما كان منهم إلا أن انقلبوا على الحكومة الانتقالية في ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١.
الانقلاب الخاسر
عاد هذا الانقلاب عليهم بالوبال. فأول تداعياته هي انفلاق وحدة القوى الحاملة للسلاح. لقد استخدم الكيزان القوة الضاربة للدعم السريع ككرباج لإخضاع الشعب، وأداة للقيام بكل الأعمال القذرة من قتل واغتصاب ونهب. طلب المخلوع من حميدتي أن يقتل له ثلث الشعب وفق فتوى اللص المجرم عبد الحي يوسف، ولكن حميدتي أبى و”حرن” واستعصم بدارفور بعيدا عن يد السلطة. فقل ذلك لأسباب تخصه، لا ندريها على وجه التحديد، ولكن من المؤكد أنه رأى بأم عينيه أن طريق الخوض في الدماء هذا قد انتهي برئيسه ليصبح متهما أمام محكمة الجنايات الدولية، وأحاله من رئيس دولة مفترض أن يحظى بالاحترام الذي يتمتع به رصفاؤه من رؤساء الدول الأخرى، إلى رجل منبوذ طريد مطلوب للعدالة الدولية. وهو حتما رأى رئيسه هذا، الملقب زورا وبهتانا ب “أسد أفريقيا”، على حقيقته العارية، مجرد هر، يهرب من الدول التي يزورها، مثل نيجيريا وجنوب أفريقيا، بالباب الخلفي unceremoniously وهو يدس ذيله بين رجليه، ليتفادى مذكرة التوقيف القضائية في كلا البلدين.
وبعد أن قرر الكيزان، من خلال اللجنة الأمنية، الإطاحة بالبشير وابن عوف، وتعيين البرهان، انضم حميدتي لأخيه في رضاعة الدم الدارفوري، ومضى معه شوطا طويلا في التآمر على الثورة، وتعويق عمل الحكومة الانتقالية، والخوض في دماء الثوار حتى انقلاب ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١.
ظن الكيزان أنهم يستغفلون حميدتي ويخترقونه، ويستغلونه، فقد كانوا يستخدمونه مثل الفَرْشَة عند عتبة الباب doormat، يقشون عليها أحذيتهم، قبل الدخول إلى الدار. فمن المعروف عنهم قيادة بعض قواته، أو استخدام زيها ليرتكبوا بها جرائمهم القذرة، مثل اقتحام البيوت إبان الثورة، وجلد الناس في الطرقات، وتوقيف الشباب وإذلالهم وحلاقة شعر رؤوسهم. واستخدموه كذلك في الهجومات المتكررة على ساحة الاعتصام ومقتلة الثامن من رمضان ٢٠١٩، ومجزرة اعتصام القيادة العامة التي ينسبها الرأي العام له بالرغم عن أن الكيزان هم الذين ارتكبوها. فالبداهة تقول إن إلقاء الجثث في النيل، بعد ربطها بكتل خرسانية، في محاولة لإخفاء معالم الجريمة، ليست مما يعرف من ممارسات الجنجويد. فهؤلاء يقتلون ويحرقون ويمضون إلى حال سبيلهم. أما الكيزان فيستخدمون أساليب المافيا والجريمة المنظمة في محاولة محو آثارهم بعد كل جريمة. كذلك يستخدم الكيزان الحيل الإعلامية لخداع الشعوب وتضليلها، مثل إطلاقهم الفيديوهات التي تظهر الجنجويد في ميدان الاعتصام، وهم يدوسون بأحذيتهم على رؤوس الثوار، بينما الجثث متناثرة في الميدان، فاعتبرهم الجمهور المسؤولين عن القتل بالرغم عن أنهم كانوا مسلحين بالعصي.
المهم سار معهم حميدتي كل الشوط في الكيد للشعب والثورة والثوار، ولكن لم ذلك مجانا. بل كان يتحصل على ثمن تعاونه معهم في التمدد في بناء قواته، وتنويع تسليحها، وتوسيع امبراطوريته المالية والتحلل من قيودهم القانونية. وكان هدفه هو أن يحقق استقلاله عنهم ويصبح صنوا لهم، وقادرا على أن يقول لا، بعد أن كان مجبرا على تبعيتهم. وبطبيعة الحال هو يدرك حقيقة كون انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر ٢٠٢١، إنما هو انقلاب الفلول والكيزان، ولاح له في الأفق الخطر الذي يتهدده منهم، حال تمكنهم من الدولة مجددا. فبلا شك سيتخلصون منه بأساليبهم المعروفة. لذلك حرن حرنته الثانية، بعد أن وجد مخرجا في الاتفاق الإطاري، فتمسك به في حين تراجع عنه البرهان مدفوعا بالكيزان.
وحش فرانكشتاين وخروجه عن السيطرة
وهكذا يعيد التاريخ وحش فرانكشتاين الذي خرج عن سيطرة صانعه وصار يطارده يريد قتله. رأي الكيزان أن المليشيا التي بنوها لقمع الشعب قد خرجت عن سيطرتهم، وأصبحت لا تأتمر بأوامرهم، وتحولت بذلك إلى عائق كبير أمام خططهم لهزيمة الثورة والعودة للحكم مجددا، فقرروا إزاحتها من طريقهم فورا. أراد فرانكشتاين الكوز أن يحطِّم وحشه الذي صنعه بيديه وأن يعيد الجني الذي أطلقه من سجنه إلى جرته من جديد، ولكنهم “نسوا الله” فأنساهم قوله “ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين”. أراد الله أن يذيقهم من ذات الكأس التي سقوا منها الشعب، وهكذا ساقهم لإشعال الحرب بطريقتهم الهوجاء التي لا تتحسب للنتائج دون تخطيط عسكري فني، ودون علم قادة الجيش، ودون استعداد، فأوقعوا كبار القادة في الأسر بسهولة ويسر ودون أن تطلق قوات الدعم السريع طلقة واحدة تجاههم. ومنذ اليوم الأول للحرب استلمت هذه القوات العاصمة المثلثة وحاصرت الجيش في القيادة العامة، واستباحت العاصمة بعد أن تبخرت الشرطة في الهواء وانهارت الدولة والقانون. لقد عجز الجيش وأبو طيرة والشرطة عن حماية المدنيين وتركوهم نهبا لقوات حميدتي ومليشيات الجنجويد المتحالفة معها تستبيح أرواحهم، وأعراضهم، وبيوتهم، ومدخراتهم، وممتلكاتهم الأخرى. ليس هذا وحسب، بل شاركت مليشياتهم ومنظوماتهم الأمنية الأخرى، بعد أن لبست زي الدعم السريع، وظلت ترتكب نفس جرائم النهب والسلب والاغتصاب لتنسبها للدعم السريع كسلاح في الحرب الإعلامية والنفسية وتعبئة الشعب ضده. هذه الجهات هي الأمن الشعبي والطلابي والاستخبارات العسكرية وقوات هيئة العمليات، ومعتادي الإجرام الذين أطلقتهم السلطات من السجون كغطاء لإطلاق سراح الفلول. وكل هذه الأجهزة التي تمتلك زي الدعم السريع بالإضافة لقوات الدعم السريع (ست الاسم) ظلت ترتكب الجرائم ضد المدنيين العزل من سكان العاصمة الذين وجدوا أنفسهم في مصيدة هذه الحرب الكيزانية اللعينة.
إذن هذه الحرب هي حرب الكيزان قولا واحدا. والحمد لله أننا لا نحتاج لشواهد لإثبات ذلك، فقد وفروا علينا الكثير من عبء الإثبات وشهدوا على أنفسهم.. شهدت عليهم ألسنتهم في جميع الإفطارات الرمضانية التي تداعوا إليها مهددين الشعب بأن الاتفاق الإطاري لن يمر إلا على أجسادهم، وبأن قوات الدعم السريع لابد من أن تدمج فورا في جيشهم لضمان استمرارها تحت أمرتهم، وإلا فسوف يفعلون ذلك بالقوة، بالإضافة لاعترافات الرجل السطحي أنس عمر، والداعشي محمد الجزولي بعد أن وقعا في الأسر. وشهدت عليهم أيديهم وسباباتهم المرفوعة بالسَباب أمام بعثة اليونتامس، وتهديداتهم المتكررة لفولكر بالقتل. وشهدت عليهم أرجلهم الزاحفة منذ الزحف الأخضر، وحتى خروج قياداتهم للعلن وهم يعبئون عضويتهم لحربهم الصفرية، ومشاركة كتيبة البراء بن مالك، وغيرها من تنظيماتهم الجهادية. وشهد عليهم نعيهم المتكرر لقتلاهم. فهذه الحرب حربهم. وهي بالنسبة لهم حرب وجود لابد من أن يخرجوا منها منتصرين حتى ولو أدى ذلك “لحريق السودان” كله كما صرح الكوز الحاقد الفريق فتح الرحمن محي الدين الذي يطيب له أن يُسَمَّي نفسه خبيرا استراتيجيا.
هدف الحرب
أما هدف هذه الحرب فهو القضاء على ثورة ديسمبر قضاء مبرما، وإزالة أي أثر لها، ومحوها من الذاكرة. تماما مثلما قضوا على الحياة في “المدينة الفاضلة” التي أقامها الشباب في ميدان الاعتصام، حيث قتلوا شبابها، واغتصبوا كنداكاتها، وأحرقوا خيمها، وأزالوا جدارياتها، وتركوها هباء منثورا، تذروه الرياح، فلكأنها لم تكن تفيض بالحياة وتنبجس في يوم ما. كانت مجزرة القيادة النموذج المصغر لمحرقة الوطن الماثلة.. نفس (الزولين) الذين ارتكبا تلكم الجريمة متحالفين، يرتكبان الآن هذه الجريمة كخصمين متحاربين. فالشعب السوداني الآن هو عظمة النزاع التي يتحاربون عليها. كل الفرق بينهما هو أن أحدهما يبشرنا بمدنية تناقضها أفعالهم على الأرض، والآخر ينذرنا الموت والهلاك بأقواله وأفعاله. أحدهما تقوده مصالحه المادية، وحماية وتوسيع إمبراطوريته المالية الضخمة، وكذلك هواجسه النفسية التي تريد الإفلات من العقاب عن طريق البقاء في السلطة. والآخر تقوده نفس المصالح والمخاوف بالإضافة لأيديولوجية دوغمائية صماء تنطوي على قدر من الشر والحقد على هذا الشعب الذي أسقطهم، كفيل، ليس فقط بتمزيق السودان، الذي أنجزوه بالفعل، بل من حريقه كليا وجعله هشيما تذروه الرياح. فالكيزان قوم لا يؤمنون بالأوطان أصلا.. إن الازدراء بالأوطان، واعتبارها أوثان، لهو من أهم الأصول في عقيدتهم. لذلك لا يعتصرهم الألم على هذا الموت، وهذا الدمار وضياع الأعراض والأموال، مثلما يتعصرنا. وهم لا يحسون مثلنا بمشاعر الوطنية، ولا يحبون تراب الوطن مثلما نحبه، فعندهم وطن الأخ المسلم عقيدته، لذلك نجدهم بينما طردوا الاف السودانيين من بلادهم، فتحوها لإخوانهم في العقيدة الذين آتوهم “رجالا وعلى كل ضامر من كل فج عميق”، ففتحوا لهم الفرص، ومنحوهم التسهيلات، وأنشأوا لهم البزنس، ووفروا لهم الوظائف حتى في الأجهزة العسكرية والأمنية.
وخلاصة الأمر أن هذه الحرب حربهم، وهدفها الأساسي هو هزيمة ثورة ديسمبر المجيدة، التي يصفها بعضهم “بالتافهة”، ومحوها من الذاكرة، وجعلها نسيا منسيا، والعودة للسلطة خوضا في الدماء. وهم لن يستطيعوا تحقيق ذلك في حرب خاطفة، أو قصيرة المدى تنتهي باتفاق على طاولة المفاوضات، والعودة للمسار الديمقراطي، ليواجهوا شعارات الثورة من جديد وما تعنيه من ضرورة تفكيك تمكينهم. إنهم يخططون لحرب شاملة وطويلة المدى.. حرب يستخدم فيها خطاب الكراهية، والتناقضات القبلية، والغبائن التاريخية، من عينة أولاد الغرب وأولاد البحر، ويجري فيها التركيز الشديد على جرائم القتل والاغتصابات والنهب والإذلال التي ترتكب بواسطة الجنجويد أو من يتزيَّى بزيهم، حتى يعبئوا الشعب في الشمال والوسط خلفهم، ويجندوا الشباب لمحرقة أخرى طويلة ستصبح حرب الكل ضد الكل.. حرب يُقتَل فيها الناس في الطرقات بناء على الهوية، أو الملامح. حرب يستمر سفك الدماء فيها عقودا، حتى تغرق أمواج الدم ذكرى الثورة، وتمحوا أثارها، وينسى الناس شيئا اسمه التحول الديمقراطي، وتصبح غاية الناس حفظ الحياة ووقف سفك الدماء وحسب. حينها يعتقدون أن كتائبهم مثل البراء بن مالك، وغيرها من المهووسين مثل داعش، وبوكو حرام، وغيرها، ستخرج منتصرة وتفرض نفسها على السودانيين وعلى العالم، تماما مثلما خرجت طالبان منتصرة بعد عشرين عاما من الخوض في الدماء وفرضت نفسها بقوة السلاح على الأمريكان والغرب عموما. هذه هي خطتهم، وهذا هو مثالهم.. فمن لم يدرك هذه المعادلة البسيطة لم يدرك شيئا، ومن لم ير هذه الحقيقة الساطعة لم ير شيئا. وعليه فإن كل من وظف نفسه منظرا لاستمرارية الحرب، أو دعم جيشهم، من خارج صفوفهم، فقد وظف نفسه عند جلاده، ونام مع عدوه، وحفر قبره وقبر الوطن بيديه، و”ملأ الدنيا هتافا بحياتي قاتليه”. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
نقلا عن صحيفة التغيير
(١)
خراب سوبا
تدخل الحرب المدمرة شهرها الخامس، وقد أحالت سماء الخرطوم ومدن دارفور وكردفان إلى سحب من دخان وأرضها إلى ركام من حطام، وأهلها بين قتيل وجريح، وشريد ورهين. أما مشهد الخرطوم الآن فيُذكرنا بماضيها البعيد مما استقر في الذاكرة الجمعية لشعب السودان عن خراب سوبا، في العام ١٥٠٤، الذي اقترفته جحافل البدو من “عربان” العبدلاب “ورعاة” الفونج. فسوبا الأمس هي خرطوم اليوم من حيث المكان والجغرافيا. وها هي جحافل الجنجويد قد وطئت “خيلهم” أرض الخرطوم، فأفرغتها من جل سكانها في أول سابقة في تاريخ السودان الحديث، بعد أن أعملت فيهم آلة الدمار، فقتلت أو حبست رجالها، واستحيت واستذلت نساءها وأطفالها. وكما قال علي بن أبي طالب، “ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذُلُّوا”. فليهنأ الكيزان، “عجوبة” هذا الزمان، بآخر ثمرة من ثمرات مشروعهم المتوحش. ذلك المشروع الدخيل الغريب المستورد الذي يمثل أخبث بذرة تبذر في أرض السودان على الإطلاق والذي اتخذ منحى مدمرا منذ أن ظهر زعيمهم حسن الترابي في المسرح السياسي السوداني قبيل أكتوبر ١٩٦٤.
فمنذ ظهوره في ذلك الزمان المشؤوم لم يذق شعب السودان طعم العافية. إذ بدأ الترابي يمارس في الساحة السياسية السودانية ما كان يمارسه الملاكم محمد علي كلاي في حلبات الملاكمة، يرقص كالفراشة ويلسع كالنحلة. دخل الى المسرح السياسي، بلا أخلاق، وبضمير مَيِّتِ تماما، أدواته الالتواء والديماغوجية والكذب وبث الكراهية على مستوى الخطاب، والتآمر والابتزاز السياسي والديني، واثارة الفتن وإدخال العنف اللفظي والجسدي في العمل السياسي على مستوى الممارسة.
إن سجل الترابي في إلحاق الأذى بالشعب السوداني لسجل حافل وطويل.. سجل دامٍ، مليء بالجرائم والمخازي والتآمر. فالترابي يقدم لنا نموذجا فريدا لمبلغ الضرر الذي يمكن أن يلحقه فرد واحد شرير بشعب كامل طيب وكريم، مستغلا نقاط ضعفه، وعاطفته الدينية، وفقره وحرمانه، وانتشار الجهل والأمية وسط أفراده، وهشاشة هويته، وضعف أسس دولته، وجهل وجبن الكثير من متعلميه، وقابليتهم للإفساد، وانهزامهم أمام الابتزاز الديني والإرهاب الفكري.
أسس الترابي مشروعه على أعمدة الكذب والتضليل والفساد والإفساد، وأقام عليه أناسَا يشبهونه، ميتي الضمير، عديمي الأخلاق، لا إنسانيين، كذبة مضللين وفاسدين. فاجتذب إليه مجموعات كبيرة من المغامرين والانتهازيين والمرضى النفسانيين الذين يسعون للثراء الحرام، والتحكم على الرقاب، وإساءة استخدام السلطة، والعيش فوق القانون.
وقد أتقن تلاميذه أحابيله وبذوه فيها على طريقة رواية ستيفن كنج “” Apt Pupil، والتي يمكن أن تترجم ل “التلميذ النجيب” أو “التلميذ المناسب ذو القابلية للتعلم”. فالشخصية الرئيسية في الرواية هو الصبي تِود بودن Todd Bowden الذي بذَّ معلمه النازي العجوز آرثر دنكر Arthur Denker بعد أن علمه أحابيل النازية في ارتكاب الجرائم، وضمنها الابتزاز والقتل، وكيف يجد في قتل البشر إثارة ومتعة لا يجدها حتى في الجنس. فأصبح المعلم من ضحايا تلميذه، حيث طَبَّق تود تلك الأحابيل على معلمه وأولها ابتزازه بكشف هويته النازية إن لم يعلمه كل ما عنده من مهارات في الجريمة. وقد تحول التلميذ إلى سفاح و”كتَّال كُتَلَة” serial killer ينافس معلمه في القتل ويجد فيه متعة لا تعادلها متعة. وقد أودت هذه العلاقة بين التلميذ ومعلمه إلى موت المعلم منتحرا، عندما أدرك أن تلميذه سيسلمه للسلطات.
وبنفس القدر فقد غدر تلاميذ الترابي بمعلمهم الذي علمهم السحر، وأبعدوه وسجنوه وشنعوا به حتى مات في النهاية “ممغَوسَا”. هكذا ذهب الترابي ضحية العصابة التي كونها والتي ألحقت بالشعب السوداني أبلغ الأذى من نقص في الأنفس والثمرات وضياع أحلام أجيال من السودانيين ببناء دولة ناجحة، مزدهرة عادلة وديمقراطية. ذهب الترابي إلى ربه وفق سنن الحياة التي لا تتبدل، وظني أنه الآن يلقى جزاء ما اقترفت يداه، ولكنه ترك وراءه هذا التنظيم الإرهابي كأكبر “سيئاته الجارية” يديره الآلاف من الكيزان المجرمين الذين أمَاِّتوا ضمائرهم، وأراحوها من الوخز، وأصبحوا مثل الروبوتات التي لا تحس ولا تشعر. وعلى سبيل إنعاش الذاكرة سأذكر فيما يلي بعض المحطات الكبرى في مسيرة الترابي الظلامية وتنظيمه الإرهابي قبل الولوج إلى الحرب المدمرة التي أشعلوها في الخامس عشرة من أبريل هذا العام. هذه المحطات تؤكد معادلة منطقية مفادها أن هذه المسيرة الدامية لابد أن تنتهي إلى ما انتهت إليه من دمار شامل للبلاد.
مخازي الترابي
• فأول مخازي تنظيمه الكبرى هي طعن النظام الديمقراطي طعنة نجلاء في سرته، وذلك بمؤامرته لحل الحزب الشيوعي وطرد نوابه المنتخبين من البرلمان في العام ١٩٦٥. فقد أشعل “فتنة كبرى” مستغلا فيها حادثة الإساءة للسيدة عائشة رضي الله عنها بواسطة طالب يافع، محملا المسؤولية للحزب الشيوعي ومثيرا للغوغاء ضده، ومنظرا لإلغاء مادة الحقوق الأساسية من الدستور، وممارسا الابتزاز الديني الذي استسلم له كبار سياسي ذلك الزمان. وأعقب هذا الخزي بإشعاله فتنة أخرى عام ١٩٦٨دشنوا بها العنف الطلابي بالجامعات مستغلين نشاطا إبداعيا بمسرح الجامعة قدمت فيه رقصة العجكو في أواخر عام ١٩٦٨ التي اعتبروها خروجا عن الإسلام.
• وفي ذات العام ضلع تنظيمه، مع المؤسسات الفقهية الرسمية، وبعض القيادات الطائفية، في مؤامرة إصدار حكم بردة الأستاذ محمود محمد طه عن الإسلام. أعقبوها في ذات العام بابتزاز الحزبين الكبيرين والدفع بهما لتمرير مشروع الدستور الإسلامي المزيف. وهذه الفتن تمثل في جملتها أسباب انقلاب مايو ١٩٦٩ الذي نفذه تحالف يساري بين القوميين العرب والشيوعيين.
• بعدها لعب تنظيم الترابي دورا كبيرا في تحريض الإمام الهادي زعيم الأنصار على إشعال فتنة الجزيرة أبا في مارس ١٩٧٠، بحجة الجهاد ضد الشيوعية، وقد انتهت تلك الفتنة بمقتل الإمام الهادي ومجموعة من أنصاره، بالإضافة لمقتل بعض قادة التنظيم الإرهابي.
• كذلك ضلع التنظيم في إشعال فتنة أخرى تمثلت في حركة الثاني من يوليو ١٩٧٦، تحت مظلة الجبهة الوطنية، حيث قادوا غزوا عسكريا فاشلا للبلاد بقيادة العميد محمد نور سعد، كانوا هم ضباطه في حين جاءت غالبية الجنود من طائفة الأنصار. وقد أدَّت تلك “الغزوة” لمقتل عدد من قياداتهم في دار الهاتف بالإضافة لمقتلة الأنصار في ود نوباوي.
• أما بعد أن تحالفوا مع نظام مايو، في إطار ما سُمِّيً المصالحة الوطنية، فسرعان ما بدأوا في اختراق الجيش ببناء تنظيمهم داخله، وأيضا عن طريق انتداب ضباطه للمعهد الأفريقي الإسلامي ليحصلوا على دبلوم الدراسات الفقهية، وبناء قاعدتهم الاقتصادية عن طريق بنك فيصل الإسلامي. وظهرت بصماتهم السياسية عام ١٩٨٢، في نقض النظام لاتفاقية أديس أببا مع حركة الأنيانيا الموقعة عام ١٩٧٢، وإصدار قوانين سبتمبر ١٩٨٣ السادية، والتي أسموها زورا وبهتانا “بالقوانين الإسلامية”، مما صب زيت الدين على حرب الجنوب السياسية لتصبح حربا دينية منذ ذلك الوقت.
• أما بعد سقوط مايو في أبريل ١٩٨٥، فقد ظل تنظيم الترابي داعيا للحرب ومناهضا للسلام تحت شعار “دعم الجيش”، ومسيرا القوافل لجبهات القتال بغرض تملق العساكر، وابتزاز القوى السياسية الأخرى. وقد توَّّج إنجازاته بالاستيلاء على السلطة في العام ١٩٨٩، وتحويل أركان الدولة، من جيش وأمن، وبوليس، وخدمة مدنية، ونظم تعليمية لأجهزة تابعة للتنظيم. ولم يكتف بذلك، بل أنشأ أجهزة موازية للجيش والأمن والبوليس تتمثل في قوات الدفاع الشعبي، والأمن الشعبي والشرطة الشعبية. وكأن كل هذه الأجهزة المدججة بالسلاح ليست كافية لقمع الشعب فأنشأوا مليشيات الجنجويد سيئة السمعة، والتي أطلقوا عليها أولا اسم “حرس الحدود” ومؤخرا أسموها “قوات الدعم السريع”.
• أقامت هذه الأجهزة امبراطوريات اقتصادية ضخمة وصارت بؤرا للفساد والإفساد، وعدم المحاسبية حتى وُصِف نظامهم بنظام اللصوصية Kleptocracy بواسطة المؤسسات المالية الدولية. أما الشعب فقد وصفهم “بالحرامية”، وصاغ ذلك الوصف في شعار الثورة البليغ “سلمية، سلمية، ضد الحرامية”.
• عمقوا حرب الجنوب وعقدوها وأضافوا إليها البعد الديني الجهادي، وتوسعوا فيها غربا وشرقا فشملت جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور وارتكبوا فيها جرائم وفظائع يندى لها الجبين، حتى أوصلتهم لمحكمة الجنايات الدولية. وفي نهاية الأمر وبعد خراب سوبا فصلوا جنوب البلاد دون أن يسألهم أحد عن جدوى الحرب والدمار. وبدل أن يندموا على ضياع الجنوب احتفلوا به وقالوا “بلاء وانجلى”.
وبعد ثلاثين عاما من الظلم والنهب والمجازر والقمع والفتن والمفاسد استطاع الشعب السوداني أن يتوج نضالاته التي بدأت منذ انقلابهم في العام ١٩٨٩، بثورة ديسمبر ٢٠١٨ التي استطاعت الإطاحة براس النظام لكن ظل التنظيم الأخطبوطي ممسكا بمفاصل الدولة. فصار الشعب الأعزل في جانب الثورة والتغيير في حين أجهزة الدولة والأجهزة الموازية، بالذات تلك الحاملة للسلاح، في جانب التآمر على الثورة ومحاولة إجهاضها.
وفي سبيل كسر ظهر الثورة ارتكب الكيزان أكبر مجزرة في تاريخ البلاد في عهود السلم ضد شباب عزٍّل صائمين يستعدون لاستقبال العيد. كان هدف الكيزان هو كسر صمود الشعب عن طريق الصدمة الشديدة المفاجئة، shock and awe ولكن نهض الشعب من رماد المحرقة بعد شهر واحد فقط في واحدة من أكبر المظاهرات التي شهدتها البلاد عبر تاريخها مما أجبرهم على التراجع التكتيكي
استخدم الكيزان سيطرتهم على الدولة في تعطيل الانتقال وعرقلته بشتى السبل والحيل، بما فيها إغلاق الميناء، واعتصام الموز، ولكن أفشل الشعب خططهم جميعها. فما كان منهم إلا أن انقلبوا على الحكومة الانتقالية في ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١.
الانقلاب الخاسر
عاد هذا الانقلاب عليهم بالوبال. فأول تداعياته هي انفلاق وحدة القوى الحاملة للسلاح. لقد استخدم الكيزان القوة الضاربة للدعم السريع ككرباج لإخضاع الشعب، وأداة للقيام بكل الأعمال القذرة من قتل واغتصاب ونهب. طلب المخلوع من حميدتي أن يقتل له ثلث الشعب وفق فتوى اللص المجرم عبد الحي يوسف، ولكن حميدتي أبى و”حرن” واستعصم بدارفور بعيدا عن يد السلطة. فقل ذلك لأسباب تخصه، لا ندريها على وجه التحديد، ولكن من المؤكد أنه رأى بأم عينيه أن طريق الخوض في الدماء هذا قد انتهي برئيسه ليصبح متهما أمام محكمة الجنايات الدولية، وأحاله من رئيس دولة مفترض أن يحظى بالاحترام الذي يتمتع به رصفاؤه من رؤساء الدول الأخرى، إلى رجل منبوذ طريد مطلوب للعدالة الدولية. وهو حتما رأى رئيسه هذا، الملقب زورا وبهتانا ب “أسد أفريقيا”، على حقيقته العارية، مجرد هر، يهرب من الدول التي يزورها، مثل نيجيريا وجنوب أفريقيا، بالباب الخلفي unceremoniously وهو يدس ذيله بين رجليه، ليتفادى مذكرة التوقيف القضائية في كلا البلدين.
وبعد أن قرر الكيزان، من خلال اللجنة الأمنية، الإطاحة بالبشير وابن عوف، وتعيين البرهان، انضم حميدتي لأخيه في رضاعة الدم الدارفوري، ومضى معه شوطا طويلا في التآمر على الثورة، وتعويق عمل الحكومة الانتقالية، والخوض في دماء الثوار حتى انقلاب ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١.
ظن الكيزان أنهم يستغفلون حميدتي ويخترقونه، ويستغلونه، فقد كانوا يستخدمونه مثل الفَرْشَة عند عتبة الباب doormat، يقشون عليها أحذيتهم، قبل الدخول إلى الدار. فمن المعروف عنهم قيادة بعض قواته، أو استخدام زيها ليرتكبوا بها جرائمهم القذرة، مثل اقتحام البيوت إبان الثورة، وجلد الناس في الطرقات، وتوقيف الشباب وإذلالهم وحلاقة شعر رؤوسهم. واستخدموه كذلك في الهجومات المتكررة على ساحة الاعتصام ومقتلة الثامن من رمضان ٢٠١٩، ومجزرة اعتصام القيادة العامة التي ينسبها الرأي العام له بالرغم عن أن الكيزان هم الذين ارتكبوها. فالبداهة تقول إن إلقاء الجثث في النيل، بعد ربطها بكتل خرسانية، في محاولة لإخفاء معالم الجريمة، ليست مما يعرف من ممارسات الجنجويد. فهؤلاء يقتلون ويحرقون ويمضون إلى حال سبيلهم. أما الكيزان فيستخدمون أساليب المافيا والجريمة المنظمة في محاولة محو آثارهم بعد كل جريمة. كذلك يستخدم الكيزان الحيل الإعلامية لخداع الشعوب وتضليلها، مثل إطلاقهم الفيديوهات التي تظهر الجنجويد في ميدان الاعتصام، وهم يدوسون بأحذيتهم على رؤوس الثوار، بينما الجثث متناثرة في الميدان، فاعتبرهم الجمهور المسؤولين عن القتل بالرغم عن أنهم كانوا مسلحين بالعصي.
المهم سار معهم حميدتي كل الشوط في الكيد للشعب والثورة والثوار، ولكن لم ذلك مجانا. بل كان يتحصل على ثمن تعاونه معهم في التمدد في بناء قواته، وتنويع تسليحها، وتوسيع امبراطوريته المالية والتحلل من قيودهم القانونية. وكان هدفه هو أن يحقق استقلاله عنهم ويصبح صنوا لهم، وقادرا على أن يقول لا، بعد أن كان مجبرا على تبعيتهم. وبطبيعة الحال هو يدرك حقيقة كون انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر ٢٠٢١، إنما هو انقلاب الفلول والكيزان، ولاح له في الأفق الخطر الذي يتهدده منهم، حال تمكنهم من الدولة مجددا. فبلا شك سيتخلصون منه بأساليبهم المعروفة. لذلك حرن حرنته الثانية، بعد أن وجد مخرجا في الاتفاق الإطاري، فتمسك به في حين تراجع عنه البرهان مدفوعا بالكيزان.
وحش فرانكشتاين وخروجه عن السيطرة
وهكذا يعيد التاريخ وحش فرانكشتاين الذي خرج عن سيطرة صانعه وصار يطارده يريد قتله. رأي الكيزان أن المليشيا التي بنوها لقمع الشعب قد خرجت عن سيطرتهم، وأصبحت لا تأتمر بأوامرهم، وتحولت بذلك إلى عائق كبير أمام خططهم لهزيمة الثورة والعودة للحكم مجددا، فقرروا إزاحتها من طريقهم فورا. أراد فرانكشتاين الكوز أن يحطِّم وحشه الذي صنعه بيديه وأن يعيد الجني الذي أطلقه من سجنه إلى جرته من جديد، ولكنهم “نسوا الله” فأنساهم قوله “ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين”. أراد الله أن يذيقهم من ذات الكأس التي سقوا منها الشعب، وهكذا ساقهم لإشعال الحرب بطريقتهم الهوجاء التي لا تتحسب للنتائج دون تخطيط عسكري فني، ودون علم قادة الجيش، ودون استعداد، فأوقعوا كبار القادة في الأسر بسهولة ويسر ودون أن تطلق قوات الدعم السريع طلقة واحدة تجاههم. ومنذ اليوم الأول للحرب استلمت هذه القوات العاصمة المثلثة وحاصرت الجيش في القيادة العامة، واستباحت العاصمة بعد أن تبخرت الشرطة في الهواء وانهارت الدولة والقانون. لقد عجز الجيش وأبو طيرة والشرطة عن حماية المدنيين وتركوهم نهبا لقوات حميدتي ومليشيات الجنجويد المتحالفة معها تستبيح أرواحهم، وأعراضهم، وبيوتهم، ومدخراتهم، وممتلكاتهم الأخرى. ليس هذا وحسب، بل شاركت مليشياتهم ومنظوماتهم الأمنية الأخرى، بعد أن لبست زي الدعم السريع، وظلت ترتكب نفس جرائم النهب والسلب والاغتصاب لتنسبها للدعم السريع كسلاح في الحرب الإعلامية والنفسية وتعبئة الشعب ضده. هذه الجهات هي الأمن الشعبي والطلابي والاستخبارات العسكرية وقوات هيئة العمليات، ومعتادي الإجرام الذين أطلقتهم السلطات من السجون كغطاء لإطلاق سراح الفلول. وكل هذه الأجهزة التي تمتلك زي الدعم السريع بالإضافة لقوات الدعم السريع (ست الاسم) ظلت ترتكب الجرائم ضد المدنيين العزل من سكان العاصمة الذين وجدوا أنفسهم في مصيدة هذه الحرب الكيزانية اللعينة.
إذن هذه الحرب هي حرب الكيزان قولا واحدا. والحمد لله أننا لا نحتاج لشواهد لإثبات ذلك، فقد وفروا علينا الكثير من عبء الإثبات وشهدوا على أنفسهم.. شهدت عليهم ألسنتهم في جميع الإفطارات الرمضانية التي تداعوا إليها مهددين الشعب بأن الاتفاق الإطاري لن يمر إلا على أجسادهم، وبأن قوات الدعم السريع لابد من أن تدمج فورا في جيشهم لضمان استمرارها تحت أمرتهم، وإلا فسوف يفعلون ذلك بالقوة، بالإضافة لاعترافات الرجل السطحي أنس عمر، والداعشي محمد الجزولي بعد أن وقعا في الأسر. وشهدت عليهم أيديهم وسباباتهم المرفوعة بالسَباب أمام بعثة اليونتامس، وتهديداتهم المتكررة لفولكر بالقتل. وشهدت عليهم أرجلهم الزاحفة منذ الزحف الأخضر، وحتى خروج قياداتهم للعلن وهم يعبئون عضويتهم لحربهم الصفرية، ومشاركة كتيبة البراء بن مالك، وغيرها من تنظيماتهم الجهادية. وشهد عليهم نعيهم المتكرر لقتلاهم. فهذه الحرب حربهم. وهي بالنسبة لهم حرب وجود لابد من أن يخرجوا منها منتصرين حتى ولو أدى ذلك “لحريق السودان” كله كما صرح الكوز الحاقد الفريق فتح الرحمن محي الدين الذي يطيب له أن يُسَمَّي نفسه خبيرا استراتيجيا.
هدف الحرب
أما هدف هذه الحرب فهو القضاء على ثورة ديسمبر قضاء مبرما، وإزالة أي أثر لها، ومحوها من الذاكرة. تماما مثلما قضوا على الحياة في “المدينة الفاضلة” التي أقامها الشباب في ميدان الاعتصام، حيث قتلوا شبابها، واغتصبوا كنداكاتها، وأحرقوا خيمها، وأزالوا جدارياتها، وتركوها هباء منثورا، تذروه الرياح، فلكأنها لم تكن تفيض بالحياة وتنبجس في يوم ما. كانت مجزرة القيادة النموذج المصغر لمحرقة الوطن الماثلة.. نفس (الزولين) الذين ارتكبا تلكم الجريمة متحالفين، يرتكبان الآن هذه الجريمة كخصمين متحاربين. فالشعب السوداني الآن هو عظمة النزاع التي يتحاربون عليها. كل الفرق بينهما هو أن أحدهما يبشرنا بمدنية تناقضها أفعالهم على الأرض، والآخر ينذرنا الموت والهلاك بأقواله وأفعاله. أحدهما تقوده مصالحه المادية، وحماية وتوسيع إمبراطوريته المالية الضخمة، وكذلك هواجسه النفسية التي تريد الإفلات من العقاب عن طريق البقاء في السلطة. والآخر تقوده نفس المصالح والمخاوف بالإضافة لأيديولوجية دوغمائية صماء تنطوي على قدر من الشر والحقد على هذا الشعب الذي أسقطهم، كفيل، ليس فقط بتمزيق السودان، الذي أنجزوه بالفعل، بل من حريقه كليا وجعله هشيما تذروه الرياح. فالكيزان قوم لا يؤمنون بالأوطان أصلا.. إن الازدراء بالأوطان، واعتبارها أوثان، لهو من أهم الأصول في عقيدتهم. لذلك لا يعتصرهم الألم على هذا الموت، وهذا الدمار وضياع الأعراض والأموال، مثلما يتعصرنا. وهم لا يحسون مثلنا بمشاعر الوطنية، ولا يحبون تراب الوطن مثلما نحبه، فعندهم وطن الأخ المسلم عقيدته، لذلك نجدهم بينما طردوا الاف السودانيين من بلادهم، فتحوها لإخوانهم في العقيدة الذين آتوهم “رجالا وعلى كل ضامر من كل فج عميق”، ففتحوا لهم الفرص، ومنحوهم التسهيلات، وأنشأوا لهم البزنس، ووفروا لهم الوظائف حتى في الأجهزة العسكرية والأمنية.
وخلاصة الأمر أن هذه الحرب حربهم، وهدفها الأساسي هو هزيمة ثورة ديسمبر المجيدة، التي يصفها بعضهم “بالتافهة”، ومحوها من الذاكرة، وجعلها نسيا منسيا، والعودة للسلطة خوضا في الدماء. وهم لن يستطيعوا تحقيق ذلك في حرب خاطفة، أو قصيرة المدى تنتهي باتفاق على طاولة المفاوضات، والعودة للمسار الديمقراطي، ليواجهوا شعارات الثورة من جديد وما تعنيه من ضرورة تفكيك تمكينهم. إنهم يخططون لحرب شاملة وطويلة المدى.. حرب يستخدم فيها خطاب الكراهية، والتناقضات القبلية، والغبائن التاريخية، من عينة أولاد الغرب وأولاد البحر، ويجري فيها التركيز الشديد على جرائم القتل والاغتصابات والنهب والإذلال التي ترتكب بواسطة الجنجويد أو من يتزيَّى بزيهم، حتى يعبئوا الشعب في الشمال والوسط خلفهم، ويجندوا الشباب لمحرقة أخرى طويلة ستصبح حرب الكل ضد الكل.. حرب يُقتَل فيها الناس في الطرقات بناء على الهوية، أو الملامح. حرب يستمر سفك الدماء فيها عقودا، حتى تغرق أمواج الدم ذكرى الثورة، وتمحوا أثارها، وينسى الناس شيئا اسمه التحول الديمقراطي، وتصبح غاية الناس حفظ الحياة ووقف سفك الدماء وحسب. حينها يعتقدون أن كتائبهم مثل البراء بن مالك، وغيرها من المهووسين مثل داعش، وبوكو حرام، وغيرها، ستخرج منتصرة وتفرض نفسها على السودانيين وعلى العالم، تماما مثلما خرجت طالبان منتصرة بعد عشرين عاما من الخوض في الدماء وفرضت نفسها بقوة السلاح على الأمريكان والغرب عموما. هذه هي خطتهم، وهذا هو مثالهم.. فمن لم يدرك هذه المعادلة البسيطة لم يدرك شيئا، ومن لم ير هذه الحقيقة الساطعة لم ير شيئا. وعليه فإن كل من وظف نفسه منظرا لاستمرارية الحرب، أو دعم جيشهم، من خارج صفوفهم، فقد وظف نفسه عند جلاده، ونام مع عدوه، وحفر قبره وقبر الوطن بيديه، و”ملأ الدنيا هتافا بحياتي قاتليه”. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
نقلا عن صحيفة التغيير