حركة التجديد في الأدب والفن الفترة 1900- 1956م

 


 

 

 

منذ بداية القرن العشرين وبعد الاحتلال البريطاني للسودان حدثت تحولات اقتصادية بقيام سكك حديد السودان و خزان سنار ومشروع الجزيرة وبقية المشاريع الزراعية في النيلين الأبيض والأزرق ومشاريع القاش وطوكر والشمالية وجبال النوبا ، وقيام ميناء بورتسودان ، وقيام كلية غردون وبقية المدارس الحكومية والأهلية والبعثات التبشيرية. 

كان من الطبيعي أن يلازم التطور الاقتصادي الذي حدث تطور اجتماعي وثقافي وأدبي وفني وفكري وسياسي ، أدي انتشار التعليم الحديث إلى تطور واضح في حياة الناس الفكرية والثقافية والاجتماعية وقيام وعى جديد ، فكل تحول في قوى وعلاقات الإنتاج ( البنية التحتية للمجتمع ) يلازمه تحول في الوعي الاجتماعي ، وتظهر بنية فوقية جديدة تعبر عن هذا التحول ، ولكن هذه العملية معقدة ولاتتم بصورة آلية ، ولا يجوز التبسيط فيها ، فالوعى الاجتماعي الجديد الناتج من الوجود الاجتماعي الجديد يؤدى بدوره إلى التأثير في هذا الوجود نفسه ويعمل على تحويله وتغييره . وقد تستمر بنية فوقية قديمة تعبر عن علاقات قبلية وإقطاعية سابقة ، رغم زوال أساسها المادي والاقتصادي ، وقد تظهر بنية فوقية جديدة تعبر عن واقع جديد في شكله الجنيني داخل التشكيلة الاجتماعية المعينة وتتصارع أو تتعايش مع البنية الفوقية السائدة في هذه التشكيلة حتى تصبح هي السائدة .
فالتحولات الاقتصادية والسياسية التي تمت أدت إلى تفكك المجتمع القبلي ، وقامت المدن والأسواق وظهرت تنظيمات سياسية واجتماعية أرقى من رابطة القبيلة والطريقة الصوفية ، وبدأت الأشكال الجنينية للطبقات تظهر : الطبقة العاملة ، المزارعون على أساس الزراعة الحديثة ، التجار ، الرأسمالية المنتجة في الصناعة والزراعة . وحدثت خلخلة في البنية القبلية القديمة ، وازدادت موجة الهجرة من الأرياف إلى المدن ، كما ظهرت الصحافة والتنظيمات السياسية والنقابية : الاتحاد السوداني واللواء الأبيض ومؤتمر الخريجين والأحزاب السياسية والتنظيمات النقابية بعد الحرب العالمية الثانية والجمعيات الأدبية والفنية والأندية الرياضية وأندية الخريجين والعمال .
وكان لهذه التطورات أثر علي تطور الحركة الأدبية والفنية والتي عبرت عن هذه التحولات في اشكالها المختلفة، ونتيجة لذلك قامت حركة التجديد في الأدب والفن ( الشعر ، النثر ، الموسيقى ، الأغنية ،القصة وأسلوب الكتابة الصحفية. الخ ) وكان من رواد النهضة في هذا المجال على سبيل المثال :
_ حمزة الملك طمبل الذي حمل لواء تجديد الشعر بقوله (( لا يحتاج السودانيون لأكثر من عكس واقعهم وظروفهم وبيئتهم ، دون تقليد أعمي )) ولخص ذلك بعبارته (( يا أدباء السودان اصدقوا وكفى )) ( حمزة الملك طمبل : ديوان الطبيعة ، 1972 ، ص 86 ) .
_ من رواد التجديد أيضا عرفات محمد عبد الله الذي كانت له نظرة متقدمة وعميقة لمسألة التجديد في الأدب والفن .
ففي أول عدد لمجلة الفجر الصادر بتاريخ 6/ 6 / 1934 كتب عرفات الافتتاحية بعنوان “ قل هذا سبيلي “ وضح فيها أهداف المجلة ، ورد فيها على بعض الأفكار والتهم التي وجهت للمجلة وهى أنها باسم التجديد تريد أن تطمر القديم من الأدب العربي بخيره وشره يقول: “ ليس معنى التجديد الهدم ولا التدمير وان الآداب والفنون لا تستطيع مطلقا أن تهمل القديم أو تتناساه وان التراث العربي الفني الخصيب سيجد من عنايتنا ورعايتنا وبرنا افضل ما تصل إليه طاقاتنا كما أننا نود أن نؤكد لهم إن الآداب الأجنبية لا مندوحة عن قراءتها ودرسها “.
ويواصل ويقول: “ علينا معالجة مشاكلنا الخاصة قبل أن نتصدق على الأغنياء بأكاسر الذرة وبطونهم ملآى بشهي الطعام والشراب “.
_ وفى ميدان تجديد الأدب والنقد والفن لابد أن نذكر محمد احمد المحجوب ، عبد الله عشري الصديق ، ومحمد عشري الصديق ، الأمين على مدني ، التيجاني يوسف بشير ، معاوية محمد نور ، ويوسف مصطفى التنى ......الخ .
وفى عدد الفجر الصادر بتاريخ أغسطس سنة 1935 نجد مقالا بعنوان “ بين الادبين “ ليوسف مصطفى التنى يرد فيه على مقالة سابقة لمحمد حمزة عبد القادر بعنوان : “ الأدب المصري والسوداني وخطأ الفصل بينهما “، يوضح المقال النقاط التالية :
• إننا ندعو إلى قراءة كل ما تيسر قراءته من نتاج الفكر البشرى دون قيد من جنس أو وطن أو دين “الجانب السلبي من الثقافة “ ، ولكننا نقول إن الجانب الإيجابي أي نتاجنا الأدبي يجب أن يكون عليه طابعنا الخاص وشخصيتنا القومية .
• إننا نريد أدباءنا أن يقرأوا أدب مصر وغير مصر حينما يقرأون ، ولكن يجب أن يكونوا سودانيين عندما ينتجون وليس في جعل أدبنا أدبا سودانيا ما يمنعه من أن يكون عربيا إلا إذا أنكرت على السودانيين عربيتهم ، بل أريد أن اذهب حدا ابعد ، فاذكرك بان ليس هناك ما يمنع الأدب القومي من أن يكون أدبا عالميا متى توفر عنصر” الإنسانية “ اللازم .وخذ من قصص الروس ومسرحيات شكسبير وأخيرا من كتاب الأيام لطه حسين أدلة مقنعة لمن ألقى السمع وهو شهيد.
هذا مثال لرفض النقل الأعمى لتجارب وآداب الآخرين والإسهام في الآداب العالمية من خلال محليتنا، وهذا المنحى في التجديد كان له أثر كبير في إنتاج أدب وشعر سوداني عبر عن واقع السودان ارتقي الي العالمية من خلال المحلية مثل روايات الطيب صالح، كما ساعد هذا المنهج في قيام أغنية سودانية عبرت عن الواقع والبيئة السودانية والتي تطورت من الحقيبة الي الأغنية السودانية الحديثة.
كما تطورت كتابة القصة التي عكست الهموم والآمال والأحلام والطموحات للفئات الاجتماعية الجديدة الناشئة مع التطورات الاقتصادية ، فدارت القصص حول الحب والزواج والأحوال المالية والأسعار والمغامرات ومحاربة العادات الضارة ( د. عبد المجيد عابدين : ص 333 _345 ، د. مختار عجوبة: القصة الحديثة في السودان )
يتناول عرفات محمد عبد الله قصص الحب بصورة ناقدة وواقعية ويقول : “ إن بلادنا ليس فيها من حوادث ما يتخذ موضوعا لقصة قوية لان الاختلاط بين الجنسين غير ميسور “.
يقول أيضا : " إن مجتمعنا السوداني أقل ازدحاما بالعاشقين والمعشوقات ، وذلك لطبيعة بلادنا وعادات أهلنا الموروثة وتقاليد ديننا ، وإذا أخذنا فقط الاتصال فلاسبيل إلي هذا الحب إلا إذا كان حبا صوريا كاذبا لاقوة فيه “
( د.عبد المجيد عابدين : تاريخ الثقافة العربية في السودان ، ص 336 ).
_ وتطور المسرح والمسرحية السودانية منذ عام 1904 من مسرح مدرسي إلى مسرح للمجتمع ، وظهرت مسرحيات في مجلة الفجر مثل زواج المصلحة ومسرحية تاجوج ( نفسه :346 ).
كما ظهرت الدعوة لبناء مسرح وطني وقيام فرق للمحترفين وتشجيع التأليف المسرحي ، والدعوة للمسرح لكيما يواكب النهضة الثقافية الجديدة .
-وفي ميدان الأغنية السودانية لابد أن نشير إلى ثورة التجديد فيها والتي قام بها إبراهيم العبادي ، وصالح عبد السيد ( أبو صلاح ) ، وخليل فرح ، ومحمد بشير عتيق ، عبد الرحمن الريح وسيد عبد العزيز. الخ.
كان خليل فرح رائدا في هذا المضمار ، كتب الهادي العمرابي عن حالة الشعر الغنائي قبل ظهور الخليل يقول : ً “وإنني آسف جدا اذا أقول تمخضت العقول فولدت كلاما ركيكا سخيفا ومبتذلا ، ولكنه رغم ركاكته وسخفه وابتذاله فقد وجد طريقه إلى العقول فاستعبدها وإلى الرؤوس فسكنها " (علي ألمك : ديوان الخليل ص 13 ) .
يكتب إسماعيل العتباني ويقول : ( ولكن شد ما ينقبض له القلب هو أن الغناء عندنا خال من العنصر الإنساني السامي ، عنصر الوطنية والإيمان بالحق والذود عنه لذلك نجد نفوس الجماعة في بياننا خالية من جذوة المثل العليا في بحور المادة وكل ما يصيب شهواتنا وبطونها من متاع ، وجاء خليل فرح ومن معه وجاهدوا لمحو ذلك الإسفاف وتلك الركاكة وذلك الضعف ، وفي الفترة التي قضاها الخليل في مصر أدرك أهمية تطوير الأغنية السودانية استنادا إلي العلم ، والتقي هناك بموسيقي ضرير هو محمود صبحي ودرس علي يديه شيئا من علوم الموسيقي ( على المك : المرجع السابق ، ص 12 ) ، وكان خليل فرح بحق مجددا في الغناء والموسيقي السودانية.
( للمزيد من التفاصيل راجع : جمعة جابر : في الموسيقي السودانية ، وراجع أيضا : عبد الوهاب ( أبو رامه ) الأغاني ، الجزء الأول . )
ظهرت أيضا الأفكار الجديدة لتطوير الأغنية والموسيقي السودانية مثل: الدعوة إلي الاستماع إلي النقد البناء وعدم الضيق بالنقد ، وضرورة الاعتماد علي العلم في الموسيقي والغناء ( مذكرات خضر حمد ) .
نشير هنا إلي أن بعض رواد التحديث والتجديد في الشعر الغنائي كانوا أنفسهم من القوى الحديثة مثل : محمد بشير عتيق ( خريج مدرسة الصناعية بعطبره ) وخليل فرح ( خريج كلية غردون ، قسم الهندسة ) وأصحاب الحرف والمهن من الطبقات الشعبية مثل : عبد الرحمن الريح وصالح عبد السيد “ أبو صلاح” وإبراهيم العبادي وحميدة ابوعشر.الخ ، وتطور هذا الاتجاه حتي تطورت الأغنية السودانية علي يد الرواد مثل : أحمد المصطفي وإبراهيم عوض وعثمان حسين ووردي وعبد الحميد يوسف. الخ.
في ميدان الفن ظهرت الأفكار التي تدعو إلي إنتاج ثقافي يتكيّف بالوسط الطبيعي والشخصية القومية والتي تتري وعظمة الفنان بمقدار تجاوب نتاجه مع وسطه الطبيعي ونزعات شعبه نحو المستقبل ، وكذلك الأفكار التي تدعو إلي دراسة الفن الإفريقي وتحسينه لتخرج منه فنا محترما قريبا جدا إلي مزاجنا وعليه طابعنا بدلا من التقليد الأعمى لفنون الغرب مثل: نزعة المستقبلية ( Futurism ) والتكعيبة ( Cubism ) وتقليد موسيقي الرومبا الغربية التي أصلها إفريقي ( الفجر العدد ، 19 ، أول مايو 1935 ).
تلك هي البذور التي غرسها جيل الحركة الوطنية التي أسهمت في تجديد وتطوير حركة الأدب والفن والموسيقي والمسرح والشعر حتي أخذت شكلها الحالي بتنوعه وثرائه.

alsirbabo@yahoo.co.uk

 

آراء