حريق الخرطوم … ثم ماذا بعد؟

 


 

 

لم يقدر أذكى ضاربي الرمل على التنبؤ بما سوف يحل على الأمة السودانية صبيحة يوم الخامس عشر من أبريل، لقد عاش سكان هذه العاصمة الإفريقية الوادعة عشرات السنين تحت نغم كرومة وسرور وعائشة الفلاتية، دون أن يخطر على بال أحد من سكانها أن القيامة سوف تقام في يوم من أيام هذا الشهر الإبريلي، الذي ارتبط اسمه بالذاكرة الشعبية للمواطن السوداني في الثورتين والانتفاضتين الابريليتين الشهيرتين، لقد زمجر الرصاص في فجر هذا اليوم الحزين دونما سابق إنذار، بل سبق هذا اليوم حمولات هائلة من المشاعر السودانية المفعمة بالأمل والتفاؤل، كعادة هذه الشخصية المجبولة على حب الحياة، لكنها تصاريف الأقدار التي لا يعدو فيها الأشخاص عن كونهم مجرد (كومبارس)، يلعبون فيه دور المؤدي والممثل، وما اندلاع حرب نيسان إلّا واحدة من تجليات تراكم الأزمة الوطنية السودانية التي أعيت من أراد أن يداويها طيلة الستين عاماً الماضية، ففاض تسونامي الغضب المكبوت في نفوس من اكتووا بقهر الإدارة المركزية، عندما ابتدرت هذه النرجسية المركزية العدوان الغادر، فجاءت مدلهمات الخطوب عبر السيول الجارفة للذين انتظروا هذه اللحظة التاريخية سنينا عددا، فكانت الضربات القاضية لصلف وجبروت المؤسسة المحتكرة للقرارين السياسي والسيادي.
دائماً ما يحضرني مقطع أهزوجة (قف وانتصب ودافع عن حقك) للثائر النبيل بوب مارلي، حينما ألقي بالنظر إلى حال المقهورين في أطراف البلاد البعيدة، الذين إذا جاؤوا لحضن وطنهم المركزي، فكشر هذا الحضن المركزي الزائف عن نابه، واستمرأ ممارسة القهر الاجتماعي والاقتصادي والسياسي على من يحملون نفس حقائب الهوية الوطنية الجامعة والجائعة، ما نشاهده اليوم من معارك شرسة يخوضها الأشاوس الشرسون، لها معنىً واحداً هو غضبة الحليم، فليحذر النائمون على المضاجع والمخادع المعسولة والناعمة من مغبة التماهي مع الصوت الأحادي الذي بدأ يزأر هذه الأيام الصاحيات بين دجى هذه الليالي الحالكات، فالوطن ليس حكراً على فئة واحدة، ولن يكون أهزوجة تعزف إيقاع الربابة وتهمل وقع أرجل الهائمين عشقاً بإيقاع المردوم، لقد ولى عهد الإملاء والاستتباع، وحضر عصر قيام صاحب الحاجة إلى حاجته، وذهب زمان الطغيان الديني والجهوي إلى غير رجعة، وامتلك ناصية القرار من كان لا يُلقى له بالاً، بل ويُقذف جسداً ميتاً على قارعة الطريق، بلا رحمة وبلا مبالاة، وما هي إلّا أيام قلائل حتى يتم الإعلان عن اطلاق سراح الوطن الخالي من الموتورين والمتربصين، فلقد ترهل جسد وطننا العزيز من طعنات بنيه الذين يحسبون أنفسهم أنهم يحسنون صنعاً.
حريق الخرطوم ليس بأعز من حريق الجنينة وبورتسودان والدمازين وحلفا ونمولي، فلقد علمنا في الذكر أن الأرض يرثها الصالحون لا الطالحون، ولو كان هنالك ثمة صلاح لمن أشعل نار الفتنة في صبيحة منتصف نيسان، لما أهدر الوقت والجهد لثلاثة عقود في ضرب إسفين الحرب بين بني الوطن الواحد، في دارفور والشرق والشمال والجنوب، إنّها سويعات النصر الذي لابد وأن ينحاز لها السواد الأعظم من المظلومين، لا التراخي مع أمنيات القلائل الذين سولت لهم أنفسهم التماهي مع خيالات المدرسة القديمة، التي أسست بنيانها على جرف هار، فانهار عند مطلع شمس ظهيرة منتصف الشهر الرابع، فتدحرجت الرؤوس التي أرعبت المواطن المسكين وهددته بالويل والثبور وكبائر الأمور، وساومته بالمآلات المظلمة للدهور، فكان يوم شاهد ومشهود، قتل فيه الجنود المجندون لحماية درع الجهة والمجموعة العرقية التي لم ترعى لله إلّاً ولا ذمة، فأحالت الوطن إلى ضيعة يديرها العنصري المغرور بمزاج نرجسي ضارب في الصفاقة وقلة الأدب وانعدام الحياء عندما قال:(أن هذه الغرباوية واجب عليها الفخر ثم الاعتزاز لو أن أحداً من رهطه وطأها كرهاً)، إنّها غريزة إدمان السلطة والثروة، وإنه أفيون التعفن على كرسي الإدارة زماناً طويلاً، والذي لا محالة مولّد لشريحة مجتمعية لن تعيش إلّا على الجلوس على جماجم الآخرين.
لكن هيهات، لقد طوى الزمان كل هذه الملفات القذرة بفضل صبية آمنوا بقضيتهم، فزادهم المهندس الأعظم ثباتاً على المبدأ وإمساكاً بمقبض البندقية، فجاءت النتيجة كما نراها اليوم، زوال مدهش لإمبراطورية أنس وخزلان مبكر للدويلة الداعشية الإفريقية المشابهة لبوكو حرام، التي أراد أن يؤسس لها محمد الجزولي، وإنّه لكرم الإله على شعوب البلاد السودانية التي أراد لها أن تخرج من دنس النظام المجرم الفاسد والقاتل، كخروج الشعرة من العجين، وهكذا تكون نهايات الجبروت والطغيان، وبمثل هذه الخواتيم المأساوية التي راح ضحيتها عدد غفير من الباعة الجائلين وطالبي رزق اليوم، بين قذائف مدفعية البرهان وصواريخ طيرانه الأجير، يكون النصر الأخير.

إسماعيل عبدالله
7 يونيو 2023

ismeel1@hotmail.com

 

آراء