حزب أساتذة الجامعات

 


 

د. حسن بشير
24 December, 2011

 



فكرة عظيمة، ما دامت نقابة المنشأة بشكلها الراهن لا تستطع التصدي لحل مشكلة أساتذة الجامعات فلا بأس من اختصار الطريق وتكوين حزب سياسي ينهض للمطالبة بتحسين وضعهم المعيشي (ومره واحده)، تحسين البيئة الجامعية. جاءت الفكرة من احد طلاب الدراسات العليا (بهاء الدين)، الذين قمت بتدريسهم في برنامج ماجستير الدراسات المصرفية وهو يعمل بواحد من البنوك السودانية ألكبري. في معرض تناولنا للتشكيل الوزاري الجديد تسأل بهاء عن سبب غياب الأساتذة، غير الحركيين ( من (الاستوزار)، وكان من الواضح أن السياسة (أو التسييس) هو السبب وقد أشرت إليه، لدعم وجهة نظري بدخول اثنين من الذين يمتون لي بصلة القرابة في التشكيل الوزاري، كوزراء دولة، وهم من المنتمين للأحزاب المتوالية (او المؤتلفة) مع المؤتمر الوطني (رغم أن القرابة، بيننا ليست من الدرجة الأولي التي تمكن من الاستفادة منها بشكل شخصي). هنا اقترح بهاء بأن (أشوف لي حتة أتلم فيها) ثم استطرد قائلا لماذا لا تكونون حزبا من أساتذة الجامعات.
بالفعل مثل هذا الحزب مهم في ظل تحقيق مكاسب العمل وامتيازاته عبر الانتماء للأحزاب الحاكمة أو التي من (المؤمل) أن تدخل في إي تشكيل حكومي مرتقب، أو عبر حمل السلاح. بما أن الغالبية العظمي من أساتذة الجامعات الحقيقيين لا يستطيعون أن يبرعوا في الانتماء السياسي والعمل الحركي المباشر وبالرغم من أن غالبيتهم المطلقة غير مؤهلة لحمل السلاح،فان تحقيق مطالبهم لا يمكن أن يتم إلا عبر تكوين حزب (سياسي) من نوع خاص. خصوصية الحزب المقترح في أن أهدافه والغرض من تكوينه هو تحقيق المطالب المشروعة عبر جماعة ضغط مؤثرة. لكن وبما أن تكوين مثل هذا الحزب يتعارض مع قانون الأحزاب فيجب الالتفاف علي القانون بشكل ما، الأمر الذي يوجب إعمال التفكير والبحث في آلية مناسبة لتكوين هذا الحزب الفريد في نوعه.
حال الأساتذة مكشوف فهم من الفئات المستضعفة في المجتمع لدرجة أن الواحد فيهم (يختشي) علي بلده وجامعته من الإفصاح عن مرتبه الهزيل ، الذي يماثل بالفعل عائدات (الشحاتين). العديد من الطلاب المحظوظين الذين يجدون فرص عمل محترمة بالدولة (مؤسسات او شركات) أو بالقطاع الخاص يحصلون علي مرتبات أعلي بكثير من أساتذتهم. بالرغم من جلسوهم في مكاتب مؤسسة أحسن تأسيس وتمتعهم بالحوافز والعربات الفارهة ، فان أولئك الخريجين (الموظفين) الذين تحصلوا علي فرص عمل يخرجون بعد انتهاء ساعات الدوام الأصلي، بينما يعمل الأستاذ إلي وقت متأخر وفي عدد من الجامعات والكليات بحثا عن لقمة العيش. فوق ذلك فان الموظفين المعادلين بالجامعات يتلقون امتيازات أعلي بكثير من الأساتذة (بدون حسد وإنما هو وصف للواقع)، تتم ترقيتهم الي درجة الأستاذ بدون بحث علمي أو مشقة تدريس أو تصحيح أو إشراف علي الرسائل العلمية، التي يقضي الأستاذ عاما كاملا في الإشراف لينال إلف جنيه، أو يقوم بقراءة آلاف الصفحات ويتكبد عناء كتابة تقرير يوضح تحكيمه لرسالة دكتوراه لينال مئتي جنيه تنقص أو تزيد قليلا. المفارقة هي أن العبء الإداري (فقط) لواحد من الموظفين يفوق مرتب الأستاذ بأكثر من ألف جنيه في الشهر (مليون جنيه بالسعر الحقيقي للعملة السودانية). يضاف لذلك ربط الأعباء الإدارية الأكاديمية في بعض الجامعات بمبلغ محترم من المال يجعل طالب الأمس،الذي يتولي منصبا إداريا ما، يتحصل علي مرتب أعلي من أستاذه الذي يعمل معه بنفس القسم من الذين لا يتحملون  الأعباء الإدارية. جعل ذلك المناصب الإدارية الأكاديمية موضوعا للصراع والحملات الانتخابية المصحوبة بوعود التوظيف في منصب ما داخل الجامعة او الكلية.
الامتيازات الإدارية لا تتوقف عند الحدود التي ذكرنا وإنما تصل إلي تمليك السيارات وتذاكر السفر وغيرها من امتيازات. مصيبة أخري أصابت الجامعات وضربت في صميم البحث العلمي، فإضافة للتكالب علي ألأعباء الإدارية المربحة (وسك) المحاضرات والمراقبات وغيرها من مصادر الدخل، فهناك مفارقات الترقيات العلمية بالجامعات السودانية التي لا يتم فيها توحيد معايير الترقي الي الدرجات العلمية،كما توجد عينات من الترقيات عبر التمرير أو الاستثناء. هناك مفارقة اكبر تكمن في شروط الترقي بين الجامعات الحكومية في العاصمة والجامعات في الولايات، آذ أن شروط ترقي بعض الأساتذة إلي درجة أستاذ في كثير من الجامعات الولائية، تساوي أو تقل في بعض الأحيان عن ما يتوفر لأستاذ مساعد في الجامعات الحكومية الكبري في الخرطوم مثل جامعة الخرطوم، النيلين والسودان، مع الفارق بين هذه الجامعات نفسها وفي داخلها أيضا من حالات التمييز التي تشوب شروط الترقي.
نخلص من كل ما ذكرنا إلي أن مهمة الحزب المقترح لن تكون سهلة فيما يتعلق بالبنية التحتية للبحث العلمي،  تهيئة البيئة الجامعية، تحسين شروط الخدمة وإصلاح هيكل الأجور وسن المعاش والمرتبات التقاعدية للأساتذة، إضافة لتوحيد اللوائح ومعايير التقويم الأكاديمي.
كيف لبلد أن ينمو ويتقدم في ظل المعاناة التي يلاقيها أساتذة جامعاته، بشكل يدمر قدرتهم علي البحث العلمي؟ ويقتل فيهم روح المبادرة والإبداع؟ حوافز العمل وعدم التمييز لأسباب لا علاقة لها بالمهنة هي التي تدفع السودانيين في مهن معينة للإبداع والانجاز عندما يعملون بالخارج ويحظون بتساوي الفرص مع زملاء المهنة. ان التميز وحصر الامتيازات في أصحاب الولاء والمقربين يمتهن كرامة الكثيرين من أساتذة الجامعات. صحيح أن الجامعات نفسها أصبحت كما يقال في التعبير الشعبي (خشم بيوت)، إذ أن هناك فئة جديدة من الأساتذة جاءت إلي الجامعات لأغراض بعيدة عن مقتضيات المهنة الحقيقية، الأمر الذي يضعهم خارج الانتماء الحقيقي إليها، ألا أنه، وفي نفس الوقت هناك الكثير من الأساتذة الحقيقيين الذين يعملون من اجل العلم والوطن ومنهم كمية لا يستهان بها من الشباب. وهذا هو المطمئن في الموضوع. مثل هؤلاء لن يتركوا مشقة البحث العلمي والعمل من اجل تطوير المهنة، رغم المعاناة والإهمال الذي يجدونه يوميا،ويقتطعون من قوت عائلاتهم لطباعة مؤلفاتهم . بهذه المرتبات المخجلة والمعاشات المضحكة لن يمضي السودان بعيدا في ما يسمي (البحث من اجل التنمية).
في هذا المناخ سيتسرب الأساتذة إلي الخارج كلما وجدوا فرصة لذلك والملاحظ أن معظم ال 600 أستاذ الذين ذهبوا للعمل في الخارج خلال العامين او الثلاث الأخيرة قد قبلوا العمل بشروط ادني مما كان يتحصل عليه الأستاذ الجامعي السوداني في الماضي القريب، كما ان الكثير منهم يعمل في ظروف هي اقرب الي التدريس في المدارس منه الي العمل الجامعي،مع تقلص البحث العلمي لديهم الي درجة تقارب الصفر، لكن بالرغم من ذلك فضلوا الخروج لكسب المال لتحسين وضعهم المعيشي وللراحة البدنية والنفسية من معاناة السودان. ألا يستحق كل ذلك التفكير في تكوين حزب سياسي خاص بالأساتذة ليكون سابقة لظهور أحزاب فئوية تشبه الجمعيات التعاونية وجمعيات وروابط المهنيين؟. هذا البلاء واحدا من أثار غياب العمل النقابي المهني بأصوله المعروفة، المهنية والقانونية التي تحفظ الحقوق وتعلي راية الواجبات.
إذا كان مثل هذا (الحزب النكتة) لا يشكل بديلا منطقيا، فيجب البحث عن بدائل، تداركا للانهيار التام في التعليم العالي والبحث العلمي بشكل خاص. لا أتفق مع الرأي القائل بان عدد الأساتذة المهاجرين غير مؤثر، إذ من المعروف أن الفاقد في الأساتذة يتم تعويضه بآخرين اقل تأهيلا وخبرة. بالفعل هناك عدد من الزاحفين نحو المهنة لا حبا فيها ولكن طمعا منهم في الالتحاق بمن سبقهم إلي المهاجر، أو تحقيق (عمل إضافي ) ومن هؤلاء الزاحفين من لديهم قدرات في غاية التواضع، ولكن بحظوظ التوصيات والمحاباة يمكن أن يجدوا طرقا إلي الدخول لبعض الجامعات، حتى ألكبري منها داخل العاصمة، وبهذا الشكل لن يتوقف الأمر فقط علي (أحزاب الأساتذة)، وإنما سيصل إلي حد البازار (أو مولد) كما يقال بالدارجة السودانية.
يحدث كل ذلك والجامعات السودانية تسجل غيابا تاما في قوائم التميز علي المستوي الإقليمي والدولي، حتى التي تظهر منها في سجلات التصنيف المختلفة، تسجل مراكز متواضعة تشابه تصنيف منتخبنا القومي لكرة القدم. هذا شيء طبيعي في غياب التوظيف الرشيد للموارد، اذ كلا المتغيران متشابهان من جهة ارتباطهما بالتنمية البشرية والاستثمار في الإنسان. كيف لبلد أن يتقدم خطوة واحدة إلي الإمام بدون توظيف موارد معتبرة، ليس فقط في التعليم، الذي يعتبر مسألة حياة او موت لكل امة، بل أيضا في البحث العلمي الذي أصبح كالماء والهواء لأي تنمية كانت وضمان نمو مستدام يسير بالبلاد نحو النهوض من دوامة التخلف والجهل. لا يمكن لأي حديث عن الجامعات والبحث العلمي إلا أن يكون عبثا في ظل الوضع الراهن للبلاد الذي تأتي فيه تلك الاهتمامات في ادني سلم أولويات التمويل الحكومي، ونظرة عابرة للموازنات العامة لعدد من السنين، غير السنة الاستثنائية المأزومة القادمة تكفي للحكم علي هذا القول خطأ أم صواب.
hassan bashier [drhassan851@hotmail.com]
/////////////

 

آراء