حسب طلب نائب قائد الجيش.. التنازلات الممكنة وغير الممكنة للعسكر!!

 


 

 

أكد نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة "الفريق" حميدتي مؤخرا، "التزام المكون العسكري بالانسحاب من العمل السياسي، وضرورة تكوين حكومة مدنية بالكامل، داعياً جميع الأطراف إلى تقديم تنازلات وطنية من أجل الحفاظ على أمن واستقرار البلاد."
ومما لا شك فيه، أنّ ما يطلبه جنرالات العسكر من تنازلات، ما هي إلاّ طلب فدية، مقابل قرصنة سياسية سمجة، مكنتهم من الاستيلاء على السلطة! ورغم أنه ذكر "تنازلات وطنية" فإن السياق يعتبر جواب لماهية الطلب، و"الجواب يكفيك عنوانه"، ناهيك عن أنّ الصراع على السلطة، معروف أركانه وميادين معاركه والأسلحة المستخدمة فيه.
وبما أنّ هذا الإفصاح، جاء ضمن التأكيد المغلّظ بإلتزام القوات المسلّحة الانسحاب من مسرح العمل السياسي، أي أنهم قدّموا ما يليهم من تنازلات، فإنّ هذا يعني ضمنياً، أنّ الكرة في ملعب المكون المدني.
هذا الكلام من حيث هو، لا بأس به، لكن المشكلة أنّ جعبة العسكر ملآى بالجرائم، ومترعة بالتجاوزات، في الحق العام والخاص، ولا يمتلك أحد صلاحية تقديم تنازلات عن تلك الجرائم، وكأن لسان حال نائب قائد الجيش، يقول: أعفونا، نسلمكم الحكم!
إن كان الاستيلاء على السلطة في 25 اكتوبر كان ناعما، وأنّ العسكر أطلقوا فقط أعيرة نارية في الهواء، فهرب المدنيين، تاركين لهم السلطة "سدّاح مدّاح"، أو أنّ الدودو نزل من السماء الأحمر، وفضّ اعتصام القيادة العامة، كان بالإمكان مساندة طرح نائب قائد الجيش، والتبشير به، ووصف هذا الطلب بالعقلانية، لكن من الواضح أن "الفريق" حميدتي خانته الملابسات.
وبما أن الذين قتلوا شباب الثورة فيما بعد انقلاب 25 اكتوبر هي على الأرجح الأجهزة الأمنية، فأنّ المقصود بالتنازلات من نائب قائد الجيش، لا يعدو أن يكون نسيان جريمة فض الاعتصام، إذ أنّ قواته هي المتهمة الكبرى في تلك الجريمة الفاجعة، أمّا الذين قتلوا الشباب في الشوارع "فليشيلوا شيلتهم"، حسب لسان حاله!
نائب قائد الجيش يدرك جيدا، أنّ الدبابات لن تبقيهم على سدة الحكم إلى الأبد، ومن الأرحم لهم، أن يتم التغيير بأيدهم، لا بيدِ عمر، وأنّ موقفهم لا يحتمل أن تترك التنازلات لذوق الثوار أو"حنيّة" الكيانات السياسية. وإن كان المقصود التنازل عن عجز الشعار المرفوع من لجان المقاومة ".. والجنجويد تنحل" فإن هذا الأمر يمكن النظر فيه، وإرجائه مؤقتا، إلى البرلمان المنتخب، ضمن بند إعادة هيكلة القوات المسلحة.
في تقديرنا كل ما يمكن تقديمه كتنازل للعسكر، هو ترك أمر المحاسبة والنظر في أعادة هيكلة القوات المسلحة إلى البرلمان المنتخب، على أن ينحصر مهام الحكومة المرتقبة في تهيئة البلاد لإجراء انتخابات حرة ونزيهة، تقودها شخصيات قومية، مع مراعاة التوازن الأقاليمي والمهني.
ومن التنازلات التي يمكن أن تكون محل أخذ ورد مؤقتا، مصير الشركات التي أسستها القوات المسلحة من حر مال الشعب، أو استولت عليها بقوة عين، ووضع اليد بمباركة نظام الإنقاذ المباد، سيما وأنّ فترة الحكومة المرتقبة، تكون مرّكزة، ولا ينبغي لها أن تتطول، وأن تنفيذ هذا الأمر، يحتاج طول نفس، على أن ترفع وزارة المالية يدها عن وزارة الدفاع، ونفقات القوات المسلحة، إلى أن تسلم الأخيرة كافة شركاتها للخزانة العامة.
وما لا يجب التنازل عنها خلال الفترة الانتقالية الثانية، أيلولة وزارة الداخلية، بما فيها جهاز الأمن والمخابرات الوطني للحكومة المدنية فوراً، وتحريرها من قضبة العسكر، وأن تكون تحت إمرة رئيس الوزراء مباشرة، وكذلك التمثيل السيادي خارجياً، يجب أن يمنع جنرالات العسكر منعا باتاً من تمثيل البلاد في أية فعالية سياسية أو أمنية دولياً، وألا يحق لهم إبرام أية اتفاقيات مع أية جهة خارجية.
المعضلة الحقيقية الماثلة الآن، يبدو للمتابع للشأن السياسي السوداني، أنها تتمثل في الكيان أو الجهة الاعتبارية التي تأنس في نفسها الأهلية، وتجد في نفسها الثقة، أنها تستطيع التفاوض مع العسكر نيابة عن الشعب السوداني، في ظل الرفض المنظم للتفاوض مع العسكر من قبل لجان المقاومة، ولا نظن أن هذه المعضلة، ستُحل قريبا.
اتفاق جوبا يجب أن يُلغى مهما كلف الثمن، للتأكيد على عدم الخضوع للابتزاز الثوري المسلّح، ولأنه سمم المكونات الاجتماعية والسياسية شرقاً وغربا، وحتى في المركز، وإقرار ضمني في أبهى تجلياتها وهو تكريس لمعنى الانتهازية السياسية، وتقنين لمفهوم "السلام" مقابل السلطة. اتفاق جوبا عبارة عن سُم زعاف بالنسبة التحول المدني الديمقراطي، والإبقاء عليه كما هو لاستشراف أية مرحلة جديدة، ضمن أي اتفاق دستوري جديد، يعنى "كأنك يا أبو زيد ما غزيت"، وبعد مضي سنتين على توقعه، ليس هنالك من يتمسك به سوى الموقعين عليه، من العسكر والحركات المسلحة.
لا شك لدينا أنّ ضرر الإبقاء على اتفاق جوبا للسلام كما هو، أكبر من التبعات المحتملة من إلقائه، وإعادة التفاوض من أطرافه، تحت عين الشعب، وفوق "التربيزة" وليس تحتها.
ومما لا يجب التنازل عنه، منع عودة حزب المؤتمر الوطني للمشهد السياسي، والسماح له بخوض الانتخابات المقبلة، وبما أنّ الحكومة المرتقبة، لا ينبغي لها أن تكون حكومة محاصاصات، فلا معنى، ولا قيمة، للجدل الدائر بشأن قبول أو رفض الأحزاب التي كانت مشاركة للمؤتمر الوطني قبل سقوط نظام الإنقاذ، من لدن حزب المؤتمر الشعبي وحزب الاتحادي الأصل.
في تقديرنا، يجب التركيز على ما يضمن إجراء انتخابات شاملة، حرة ونزيهة، بالتركيز على ضرورة، إزالة تمكين النظام البائد من مفاصل الدولة، سيما الجهاز القضائي، والنيابة العامة، وجهاز الشرطة، وضمان عدم تأثير السلاح والمال "الفاسد" على نزاهة وحرية الاقتراع.
يجب البدء في تأسيس للدولة المدنية، على قاعدة صلبة، بخطوات مدروسة، ومتأنية، بقدر من الحصافة السياسية، وتجنب التهور والاندفاع الطائش، وتوهم إمكانية كسب المعركة في جولة واحدة.
ebraheemsu@gmail.com

 

آراء