حسَن عابدين: رَحيْلُ طليعيٍّ على طريقَتِهِ: في ذِكْرَى الرّحيْل

 


 

 

(1)
ترَى لِمَه أرادتْ ليَ الأقدار الغلّابة أن أطالع رواية "الطلـيعــي الأســــــود"
Vanguard 1952 The Black :E.Attiyya للبناني إدوارد عطية والتي ترجمها البروفسور النابه بدر الدين الهاشمي، فلا أبلغ فصلهاالأخير، إلا ويبلغني نبأ رحيل صديقي الكبير حسن عابدين . . ؟
كنتُ أعرف أنّ للرّاحل قصّة مع تلك الرواية التي كاد أن ينساها أهل السودان، وهي بكامل فصولها عنهم وعن أحوالهمفي سنوات ما قبل استقلال البلاد . أعرف عن الرّاحل العزيز، أنه مهموم بالتاريخ الأجتماعي ، لأنّ علم التاريخ الذي تخصّص فيه، لا يقف على الوثائق والمستندات الرسمية وحدها ، بل هو العلم الذي يمشي بين الناس، وبهم وعنهم وإليهم. مؤلف الراحل د.عابدين قبل الأخير : "سودانيون وانجليز"، كان تمريناً مشوّقاً في هذا الاتجاه.

(2)
تعود علاقتي بالدكتور عابدين ومعرفتي به ، إلى أيامي طالباً في كلية الاقتصاد وهو يحاضر في شعبة التاريخ بكلية الآداب في جامعة الخرطوم، بعد عودته من بعثته للدكتوراة في الولايات المتحدة الأمريكية. التقينا في العاصمة السعودية الرياض، على أيامي قنصلا في سفارتنا هناك، ودكتور حسن محاضراً في جامعة الملك سعود . ثم جمعتنا وزارة الخارجية ، حين جاءها سفيراً بالتعيين السياسي عام 1990م. توثقت علاقتي به وبأسرته، بعد أن عملتُ سفيرا ثانٍ نائباً له، وهو سفيرٌ للسّودان في المملكة المتحدة من عام 2000م وحتى 2006م. .
تقاسمتُ مع الرّاحل حسن عابدين اهتماماتٍ فكرية شتى، اقتراباً وابتعاداً، وإنْ تباينتْ رؤانا حول بعض تلك الاهتمامات ، لكنها لم تلامس حدودَ الاختلاف المفضي إلى تباعد أو خصام . كان مشاركاً هو في تدشين بعض مؤلفاتي، كما شاركتُ أنا في تدشين بعض انتاجه الفكري. .

(3)
في خلال مبادلاتنا ومفاكراتنا الأدبية تلك ، فاتحني مرّة عن فشله في الحصول على رواية "الطليعي الأسـود" (لندن، 1952) ، لمؤلفها اللبناني "الكولونيالي" القديم إدوارد عطية. يوافقني الرّاحل حسن عابدين في النظر الموضوعي إلى تجربة اللبناني إدوارد عطية، إلى أبعد من وظيفته في قسم العلاقات العامة، التابعة لإدارة المخابرات البريطانية في السودان . كان إدوارد عطية قريباً من السكرتير الإداري نائب الحاكم العام في السودان : "دوغلاس نيوبولد"، وأيضاً كان هوَ ذلك المُخلص لرئيسهِ المباشر في قـلـم المخابرات المستر "بــنـي". الكولونيالي "دوغلاس نيوبولد" هو مؤسّس الإذاعة السودانية عام 1940م، وله كذلك يدٌ طولى في تأسيس كلية الخرطوم الجامعـية ، التي كبرتْ بعد رحيله ببضعة سنوات، فشمخت جامعة كاملة المعالم . كانت مكتبته الشخصية هي اللبنة الأولى لإنشاء مكتبة جامعة الخرطوم، التي احتلت ذلك المبنى الكولونيالي الذي صار رمزاً لتلك الجامعة ، وظهر رسمه في كثير من تصميمات عملة السودان الورقية بعد ذلك. .
وبرغم ما حكتْ رواية "الطليعي الأسود"، التي ألفها عطية، عن ملامسةٍ تمّت بين المُستعمِر (بكسر الميم) والمُستعمَر(بفتح الميم) ، فإنّ صدورها في عام 1952م باللغة الإنجليزية ، لم يُحدث صدىً يقارب ذلك الذي لقيته أعمال روائية في الأدب العربي، صدرتْ لاحقاً ، مثل رواية يحيَ حقي "قنديل أم هاشم"(1968م)، أو رواية سهيل إدريس "الحي اللاتيني" (1954م). ولقد نجد في الأدب الأفريقي من يتناول ظاهرة "الكولونيالية" في القارة الأفريقية، مثل النيجيري "شـينوا أشـيبي" في روايته "تداعي الأشياء"،
C,ACHEBE : THINGS FALL APART ، وهي أيضا صدرت في زمان بعد رواية إدوارد عطية تلك، كما أن كاتبها عطية - وإن كان لبنانيا عربيا - فد كتب روايته "الطليعي الأسود" باللغة الإنجليزية، مما يتعذّر معه اعتمادها جزءاً من موروثات الأدب الروائي العربي.

(4)
من الصّدف المحضة، أنْ حفظتُ في مكتبتي الشخصيّة، نسخة مصوّرة لرواية "الطليعي الأسود"، وافاني بها صديقي الناقد البحّاثة دكتور أحمد الصادق برير، نائب المدير السابق في معهد "سـيلتي لتعليم الانجليزية" بالخرطوم، والقابع في بريّـة إحدى الجامعات السعودية ، التي حجبته عنّا زمانا تطاول سنين عددا.
كان للرّاحل حسن عابدين رؤية حول الجذور الفكرية لرواية الطيب صالح: "موسم الهجرة إلى الشمال". وإنْ كان لا يعدّ نفسه ناقداً، لكنه لم يكن على قناعة بالذي راجَ كون عبقري الرواية العربية الطيب صالح، قد نظر في"النوفيللا"- الرواية القصيرة: "في قلب الظلام" لـ"جوزيف كونراد" ، والتي تدور أحداثها بين لندن والكونغو ، لما فيها من ملامسة لظاهرة الكولونيالية. كانت تلك الظاهرة من هواجس الطيب صالح الأشدّ حينَ رسم شخصية مصطفى سعيد في روايته تلك، كمصادم قوي الشكيمة في منازلة المُستعمِر(بكسر الميم) في عقر أرضه، ثمّ انكفائه إلى جذوره لائذاً ببيئته الريفية في السودان، مولياً ظهره لكلّ تاريخ تلك المصادمة التي غدرتْ به في لندن .

(5)
فاتحني صديقي الكبير الرّاحل حسن عابدين بعد أنْ اطلع على النسخة شبه المعطوبة لرواية عطية تلك، والتي وافيته بها من مكتبتي، فكتب لي تعليقاً في أول صفحة من نسختي من تلك الرواية : أنها رواية بديعة وجديرة بأن تترجم إلى العربية . تداولنا معاً حول شكوكٍ طافت بذهنه، إنْ كان الطيّب صالح قد نظر في رواية عطية : "الطليعي الأسود" ، فهيَ قد صدرتْ في عام 1952م، في ذات الأيام التي حلّ فيها الطيب موظفاً في هيئة الإذاعة البريطانية. لم نقطع- لا أنا ولا هو - إن كان الأمر كذلك. أمّا عن ترجمة رواية "الطليعي الأسود"، فقد ذكّرته أنّي أتذكر إطلاعي على بعض فصولها مترجمة إلى العربية بقلم الأديب الصحفي الأستاذ السر حسن فضل، منشورة في إحدى الصحف السودانية اليومية، قبل سنوات بعيدة. لم أقطع إني رأيتها كتاباً مترجما. أشار إليّ الراحل حسن عابدين، أن أحث صديقي البروف بدر الدين الهاشمي ليعمل على ترجمتها.

(6)
ثم كان أن غادر لزيارة كريمته وأسرتها المقيمة في الولايات المتحدة في "كولورادو" بالولايات المتحدة، وتلك عادته كلّ عام من أعوام تقاعده المُريح. في إحدى زياراته لـ"كولورادو"، حدثني من هناك ، أنه عثر على نسـخة أصلية عبر "أمازون دوت كوم"، هي الأولى والأخيرة عندهم . حينَ فاتح بدرالدين إن كان سيعمل على انجاز ترجمة تلك |الرواية "البديعة"، سـرّه أن وجد الهاشمي أشـدَّ حماساً لانجازها، فدفع إليه في محل اقامته في سلطنة عمان بتلك النسخة الأصلية.
لم ينقطع دكتور عابدين عن زيارته السنوية لـ"كولورادو"، ليبعد عن أجواء الإرتباك السياسي الذي تعيشه البلاد، وثورة ديسمبر تتعثر خطاها وتضطرب أحوالها بين مُكونيهَا المدني والعسكري، ولا يكاد يرسى سفينُها على شاطيءٍ مريح. فاجأني بروفسور الهاشمي بصدور ترجمته المتقنة لرواية "الطليعي الأسود" عن "دار نشر المصوّرات" الخرطومية، في طبعة أنيقة تقع في نحو 480 صفحة من القطع المتوسط ، وذلك بعد أن عمل على ترجمتها من تلك النسخة التي وافاه بها الرّاحل حسن عابدين. إنّي أقول إنها ترجمة متقنة، لأنكَ من يطالع فصولها لما خالجه شـكٌّ أنّ كاتبها لا بدّ روائيٌّ عربيٌّ فصيحُ كتبها بلغته العربية الناصعة، لكن الهاشمي هو الذي ترجم. .

(7)
إبّان تلكم الأيام، أنجز دكتور عابدين كتاباً مميّزاً وفريداً في موضوعه، يعالج جوانب من العلاقات الإنسانية بين السودانيين والإنجليز ، أو لأكون دقيقاً : العلاقات الإنسانية بين المستعمِر والمستعمَر. أثار الكتاب جدلاً واسعاً لشبهة مقاصد الكتاب، إن كانت فيه تبرئة للمستعمر من مظلمة ظاهرة الاستعمار. حمل كتاب دكتور عابدين شيئاً من تأثره بما ورد في رواية إدوارد عطية : "الطليعي الأسود" . رؤية د. عابدين - وقد توافِق رؤية الكثير من أصحاب النظر الموضوعي - أنْ ليس كلّ التجربة الكولونيالية قد حملتْ شروراً وآثاما. ذلك مبحث أفاض فيه مفكرون آخرون كبار، مثل إدوارد الآخر: "إدوارد سـعيد"، وكتبوا عن ظاهرة الاستشراق وأدب ما قبل وبعد "الكولونيالية". .

(8)
حين شرعتُ في تصفّح فصولِ رواية "الطليعي الأسوّد"، أفرحني صديقي الهاشمي لإشارته في مفتتح صفحاتها إلى الفضل الذي جاءه من د.حسن عابدين بإهدائه نسخة الرواية إليه، وحثه له على ترجمتها. ذلك من وفاء أعرفه عند الهاشمي. كنتُ أعرف عنه كذلك حرصه دائماً ليوصي شـقيقته الدكتورة نازك الهاشمي، لتسلمني نسخاً من كلّ إصدارةٍ تخرج لهُ عن "دار المصوّرات". تسلمتُ بالفعل نسختي من نازك، ثمَّ ترقبتُ عودة عابدين من "كولورادو" لأطلعه على المفاجأة الجميلة التي تنتظره في الخرطوم .
ولأنهُ عوّدني أن يسارع في الاتصال بي حين يؤوب من الولايات المتحة، لم يخالجني شكٌّ أنّهُ لم يصل الخرطوم بعد. التهمتُ فصول رواية "الطليعي الأسود" خلال أيـام. كــان د.عابدين وقتها قد وصل الخرطوم وعلمت أن نسخته قد وصلته من الهاشمي من تلك الرواية التي حازت على إعجابنا ، نحن ثلاثتنا. غير أنه بدا على موعد حزين مع الجائحة التي حاصرته ولزم المستشفى ، ولم نكن نعلم . سعيتُ حثيثاً أتقصّى عن حقيقة الخبر، ولم أظفر بشيء. ومن يعرفون عميق صلاتي بدكتورحسن لاحقوني بالسؤال عنه ، وأنا عاجز وهاتفه لا يستجيب، ولم أكن أعلم بداية، أنه قد عاد إلى الخرطوم. صديقنا المشترك العزيز حسن تاج السر يهاتفني مستفسراً من لندن. السفير الوزير ابراهيم طه أيوب يستفسر عبر "واتسابه" من روما . السّر سيدأحمد يهاتفني كذلك من كندا. ذلك كله إشفاقٌ أثار مخاوفي . بعد محاولات عديدة، أجابني ابنه الطبيب أيمـن، وأكد لي إصابة الدكتور بالجائحة، تحاصره في صراعٍ غير متكافيء، وهو يدلف إلى سنته الأولى من عقده التاسع ، إذ هو من مويد عام 1939م. قال لي أيمـن بصراحة الأطباء المعهودة، أن حالة والده الصحية غير مطمئنة. زادت مخاوفي بعد حديث أيمـن . من قلقي هاتفت صديقنا المشترك والذي بينه ودكتور عابدين مودة عميقة. قال لي البروف على شمّو، أنه قد حدثه قبل يوم ، وبدت حالته إلى تحسّـن، وإنْ لاحظ وهناً في صوته.

(9)
بعد دقائق من مكالمتي مع البروف، وقبل أن تخف هواجسي بعد مكالمتي مع البروف شمّو وجدتُ خبر رّحيل د.حسـن عابديـن قد انتشر في مواقع "الواتساب"، وعبارات التعازي تتواتر من "قروب" إلى آخر. بعد مضي ساعات على رحيله، عُدتُ لأصدقائه ومعارفه أعزّي، إذ لم أجد طريقاً لأعزّي أسرته في ظروف الحظر المفروض. هاتفتُ البروف علي شـمّو، فكاد من حزنه أن لا يصدق النبأ ، مؤكداً لي ثانية أنه قد تحدث معه البارحة. غير مرافقي الدكتور عابدين زوجه وإبنه- فيما هو يصارع العلّة الغادرة - كان البروف شـمّو هو آخر من تحدّث معه ، من بين أصدقائه.

(10)
في الثلاثين من ديسمبر2020م ، رَحلَ من تخصّص في علم التاريخ، لكنه لم يكتفِ بتدريسه، بل آثر أن يتجوّل بشخصهِ ومواقفه في أزمنة التاريخ وأمكنته . لقد أهدى إدوارد عطية روايته التي ملكتْ لبَّ د.حسن إلى الطليعيين جميعاً، لكأنّهُ ألمحَ إلى المبادرين الشجعان، الذين لا يبالون بمن يرضى أو من يسخط . الرّاحل حسن عابدين واحد منهم . آخر أمره عبر إلى الشاطيء الآخر . . إلى من استرد وديعته ، سبحانه وتعالى . له الرحمة والمغفرة، وصبّر الله السيدة الجليلة مناهل أبو كشوة، أرملة الراحل العزيز وبنيها المكلومين، وأصدقاءه العديدين . .

* أعيد في ذكرى رحيله نشر مقالي الذي نشرته بعد يوم من رحيله ..
الخرطوم – 30 ديسمبر 2021م

jamalim@yahoo.com
///////////////////////

 

آراء