حفريات لغوية – استخدام “قَعدَ” فعلا مساعِدا وأصله في اللغة … بقلم: عبد المنعم عجب الفيّا

 


 

 




في المقالة السابقة تحدثنا عن استعمال "قام" فعلا مساعدا لتوكيد الفعل وتصوير حركته في كل من لغة الكلام ولغة الكتابة. وفي هذه المقالة  نتحدث عن استعمال "قعد" فعلا مساعدا لوصف الحال وصيرورة الفعل المُخبر عنه.
المعنى الحرفي والمباشر والحقيقي للقعود هو الجلوس. يقول لسان العرب:" القعود نقيض القيام. قعد يقعد قعودا وقعدة، أي جلس". غير أن للقعود معاني مجازية منها البقاء والمكوث والاقامة والانتظار والصيرورة. نقول في كلامنا: أنت قاعد ولا ماشي معانا؟" – لا أنا قاعد. أي باق هنا أم ذاهب معنا". ونقول: هسع قاعد وين؟ - قاعد مع ناس عمي في بيتم". أي مقيم معهم ببيتهم.
وقد وردت هذه المعاني المجازية في القرآن الكريم. قال تعالى :"قَالُواْ يَامُوسَىَ إِنّا لَنْ نّدْخُلَهَآ أَبَداً مّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبّكَ فَقَاتِلآ إِنّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ". المائدة، الآية 24. قوله: إنا هاهنا قاعدون – أي باقون ماكثون مقيمون.
وقال تعالى: "وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ " التوبة، الآية 90 - وقعد الذين كذبوا، أي تخلفوا عن المجيء وبقوا بدريارهم ولم يخرجوا للجهاد.
ومنها قوله تعالى:"الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا ۗ قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ".– آل عمران الآية 168. وقعدوا، أي لم يخرجوا للقتال بل ظلوا باقين في بيوتهم.
وكذلك قوله تعالى:" لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ۚ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً ۚ وَكُلَّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا".– النساء، الآية 95. القاعدون في قوله: لا يستوي القاعدون، وفضل الله المجاهدين على القاعدين، يقصد به المتخلفين عن القتال الذين ظلوا باقين في ديارهم.   
غير أنه بخلاف المعنى الحقيقي والمجازي للقعود هنالك وظيفة اسلوبية أخرى للفعل ""قعد واسم الفاعل منه "قاعد" كنا قد لمسناها عرضا في المقالة السابقة. وهذه الوظيفة الأسلوبية هي استعمالنا قعد فعلا مساعدا لوصف الحال وللدلالة على صيرورته. مثال ذلك قولنا في اللهجة السودانية: "قعد يبكي" و"قعد يضحك" و"قعد يشتم". أي صار أو ظل يبكي، وصار يضحك، وصار أو بدأ يشتم. وهذا التوظيف الأسلوبي له أصل في اللغة العربية ولغة القرآن.
يقول ابن منظور في معجم لسان العرب:" الفراء: العرب تقول قَعَدَ فلان يَشْتُمُني بمعنى طَفِقَ وجَعَل؛ وحكى ابن الأَعرابي: حَدَّدَ شَفْرَتَه حتى قَعدتْ كأَنها حَربَةٌ، أَي صارت. وقال: ثَوْبَكَ لا تَقْعُدُ تَطِيرُ به الريحُ أَي لا تَصِيرُ الريحُ طائرةً به. وقال: قَعَدَ لا يَسْأْلُه أَحَدٌ حاجةً إِلا قضاها .. هو كقولك: قام لا يُسأَلُ حاجَةً إِلا قضاها".- انتهى.
نلاحظ أن قول الفراء: العرب تقول قَعَدَ فلان يَشْتُمُني بمعنى طَفِقَ وجَعَل؛ يطابق قول حسان بن ثابت الذي أوردناه في المقالة السابقة:
علاما قامَ يَشْتُمُني لَئِيمٌ *  كخِنْزِيرٍ تَمَرَّغَ في رَمادِ
هنا جرى استخدام قام وقعد، لاداء ذات الوظيفة الاسلوبية. ونحن كذلك نقول في كلامنا: "قام يشتم" و"قعد يشتم".
إذن استعمالنا قعد، بمعنى صار في الدلالة على الحال والشروع في الفعل، أصل أثيل في العربية الأم. وقد أخذ المعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية بالقاهرة، بهذا الاستعمال حيث يقول: "وقعد يفعل كذا: طفق يفعله".
وقد وجدتُ أن القرآن الكريم قد استعمل "قعد" فعلا مساعدا لتصوير الحال والمآل والصيرورة، على النحو الذي نستعمله في كلامنا. وذلك في قوله تعالى:" لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا". الاسراء- 22 يقول الزمخشري في الكشاف في تفسير الآية: "فتقعد" من قولهم شحذ الشفرة حتى قعدت كأنها حربة، بمعنى صارت، يعني: فتصير جامعا على نفسك الذم".
وكذلك في قوله:"وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا". الاسراء - 29 . يقول الزمخشري:"فتقعد ملوما" فتصير ملوما عند الله".
ومن ذلك جاء قولنا مثلا: "قعد متمحن" أي صار متمحنا. وجاء أيضا استعمالنا اسم الفاعل "قاعد" لوصف الحال وللدلالة على صيرورة الفعل ساعة حدوثه. مثل قولنا: قاعد تسوي شنو؟ وترانا قاعدين زي دا" وقولنا: "أنا قاعد أكل" أو " فلان قاعد يتكلم في التلفون". والمعنى حالة كوني أكل. وحالة كونه يتحدث في التلفون.
هذا، وبخلاف اللهجة السودانية، لم أقف - في حدود اطلاعي- في اللهجات العربية المعاصرة الأخرى على استعمال قام وقعد افعالا مساعدة للدلالة على الشروع في الفعل وصيرورته. ولكنا نجد أن أهل الشام( سوريا ولبنان وفلسطين والأردن) يستعملون في مقابل ذلك لفظ "عمّ" وأهل مصر يستعملون اللفظ "عمَّال". ففي الشام يقولون:"عم بأكل" أي أنني أكل الآن أو حالة كوني أكل. و"عم تسمعنى؟" أي هل تسمعني الآن. فهي تماثل قولنا: قاعد تسمعنى؟ وفي اللهجة المصرية يقولون:عمَّال بنده عليك". وتماثل في كلامنا: قاعد أناديك. أو "أنادي فيك". كما سبق البيان.
ومن ذلك يتبين أن اللهجات العربية السودانية ورثت عن اللغة الأم خصائص لغوية وأسلوبية وتركيبة لا جود لما يماثلها في اللهجات العربية الأخري. وهذا التميّز ينبغي أن يكون مدعاة لنا للتمسك بخصائص لهجتنا عوضا عن تقليد الآخر العربي. لان هذا التميز دليل على أصالتنا الضاربة في أعماق التاريخ والثقافات الانسانية القديمة وهو وحده الذي يكسبنا احترام الآخر. أما التقليد فلا  يُرسِّخ  في نظر الآخر سوي تبعيتنا.
حاشية:
ورد في المقال السابق قولنا:"وداير في اللسان السوداني، هي مقلوب أريد العربية- انظر باب القلب والإبدال". ولكن كنا قد ذكرنا في مقالنا: (حفريات لغوية - في قلب الحروف وأصله في اللغة) المنشور بسودانايل بتاريخ 12/11/2011 ما يلي:
"ومن أشهر صور القلب في كلامنا والذي لا نكاد نجد له نظيرا في اللهجات العربية الأخرى كلمة دار يدور فهو "داير" ودرت، فهي قد بدات لنا كأنها مقلوب أراد، يريد. وكنا قد توصلنا إلى ذلك قبل ان نقف عليه عند أستاذنا عون الشريف قاسم الذي يرى ان "دار" السودانية مقلوب "راد" . ولكنا بالنظر في معاجم لسان العرب والصحاح والقاموس المحيط، ظهر لنا احتمال آخر وهو ان تكون "داير" أصيلة بلا قلب، من دار يدور. يقول ابن منظور في معجمه:" وأداره عن الأمر وعليه، وداوره: لاوصه. ويقال: أدرت فلانا على الامر إذا حاولت إلزامه إياه، وأدرته عن الأمر إذا طلبت منه تركه، ومنه قوله:
يديرونني عن سالم وأُديرهم * وجلدة بين العين والأنف سالم
وفي حديث الاسراء: قال له موسى، عليه السلام: لقد داورت بني اسرائيل على أدنى من هذا فضعفوا. هو فاعلتُ من دار بالشيء يدور به إذا  طاف حوله". – انتهى.  قلت: والذي يطوف ويدور حول الشيء علِق به، مريده، فهو داير أو دائر أي راغب فيه. ومنه – على الأرجح - فيما نرى، جاء قولهم في كلامنا "داير" اي راغب  في الشيء."



مصادر:
1-    المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي، دار الحديث، القاهرة، 1987
2-    الكشّاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، الجزء الثاني، لأبي قاسم محمود بن عمر الزمخشري، دار احياء التراث العربي، بيروت، 2001
3-    تفسير القرآن العظيم، أبي الفداء الحافظ بن كثير، دار الفكر، بيروت، 2002
4-    معجم لسان العرب، ابن منظور، دار احياء التراث العربي، بيروت ، الطبعة الثالثة.
5-    المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية بالقاهرة.

abdou alfaya [abdfaya@yahoo.com]

 

آراء