حكايات من تراث قبيلة العبدلاب .. جمعها البرت بن .. ترجمة: د. مبارك مجذوب الشريف

جمعها البرت بن (A.E.D. Penn)

مقدمة المترجم:
نُشر هذا المقال في مجلة السودان في رسائل ومدونات، الجزء الاول من المجلد 17، الصادر عام 1934م، الصفحات 59-82.
المؤلف : A.E.D. Penn البرت اريك دنستون بن (1903-1988م)، وهو إداري بريطاني عمل في الخدمة السياسية للسودان (الإدارة البريطانية)، وبدأ حياته العملية في السودان في عام 1926م في وظيفة مساعد مأمور النهود وابو زبد، بمديرية كردفان، ثم عمل في الوظيفة نفسها في كل من الخرطوم بحري، وفي مركزي سنار وشمال الفونج بمديرية النيل الازرق، ثم اصبح مأموراً في يرول بالمديرية الاستوائية، وشغل الوظيفة نفسها في بارا، ثم وادي حلفا بالمديرية الشمالية، وتقاعد عام 1951. وهي سن التقاعد الاجبارية المفروضة على الموظفين البريطانيين عند بلوغهم سن الثامنة والاربعين. وقد كتب العديد من المقالات عن السودان في دوريات مختلفة.
راوي الحكايات: الارباب عبد الله الحسن ود شاور توفى عام 1958م
حكايات من تراث قبيلة العبدلاب:
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله على نعمائه، والصلاة والسلام على افضل انبيائه، وعلى أله وصحبه، ومن سار على هديه.
فقد طلب مني بعض الأفاضل ممن لهم اهتمام بتاريخ البيوت السودانية العريقة؛ كتابة تاريخ مختصر لأسلاف قبيلتنا العبدلاب، وترددت في المضي قدماً في هذا الشأن نسبة للفقدان التام للسجلات المكتوبة، والتي اختفت في اول بدايات المهدية، ولكن لوجود العديد من القصص المختلفة والتي يجرى تداولها باعتبارها من تراث القبيلة، رأيت انه من الممكن الوصول للهدف المنشود.
هذه القصص وعلى الرغم مما لحق بها من تشويه الا انها تحتوي على الكثير من الحقائق، وقد قص على والدي أيضاً الكثير من القصص، وهو المرحوم الارباب الحسن بن شاور ابن عجيب ابن اونسة بن الشيخ شمام بن الشيخ عجيب الثالث، وقد توفي والدي في عام 1334 هجرية "1916م"، عن تسعين عاماً. وقد كان ضليعاً بصورة مميزة في التراث القبلي، وبسبب هذا العلم ذاع صيته، إضافة لشغله منصباً في الحكومة المصرية (الحكم التركي المصري)، وكان صديقاً مقرباً للعالم الشيخ ابراهيم عبد الدافع، مفتى السودان حينها.
قمت بالرجوع الى كبار السن من العبدلاب وآخرين من أهل الدراية والمعرفة، وتمكنت نتيجة لهذا البحث والتنقيب من تجميع قائمة بشيوخ قبيلة العبدلاب حسب الترتيب الزمني، ومعها المآثر العظيمة لكل واحد منهم، والتي آمل الا تكون بعيدة عن الحقائق.
وكان لزاماً على ان اذكر في قصصي بعض ملوك سنار ولقبهم هو "مك"؛ خدمة للحقيقة والعلم لأن تاريخ العبدلاب والفونج تربطه صلات وثيقة.
والتمس العذر منكم فيما يتعلق باي نقص او قصور فيما سأقدمه لكم، ونسبة لعدم معرفة الآباء والأجداد بالقواعد الدقيقة للنحو العربي؛ فسأنقل حكاياتهم كما سُمعت منهم (حسب لغتهم الدارجة)، واسأل الله تعالى في علياء سمائه؛ ان يبارك عملي هذا وأن ييسر لنا سبل الرشاد.

التسلسل الزمني لملوك العبدلاب.
اول ملوك العبدلاب ممن نعرف القليل عنه هو الشيخ عبد الله جماع بن محمد الباقر، وسمي جماع لأنه جمع تحت حكمه قبائل عربية مختلفة، وكان من نسل عريق يحظى بالاحترام وسليل زعماء من عشيرته لهم الرئاسة، وشجاعاً ومقتدراً للغاية بحيث تمكن من جمع شمل القبائل وانقذهم من طغيان ملوك العنج.
اقسم العرب له يمين الولاء بعد ان اخضع عشائرهم الواحدة تلو الاخرى، لكنه وجد أن من الملائم القيام بعمل معاهدة تحالف مع عمارة دنقس، ملك بلاد الفونج، والذي كان في الجبال جهة والول، وقد اتفق الطرفان على يقوم ملك الفونج بتجهيز المؤون وحشد الجند، وان يزحف هو وجيش حليفه العربي عبد الله جماع على ملك العنج.
وقد تمكن من هزيمته في عدة معارك، يطول وصفها، واخترق بلاد العنج شمالاً حتى سوبا، وقد تمكنوا من اخضاعها وقتل ملك العنج، لكن كبير عساكر العنج حسب الله تمكن من الهرب الى قري مع فلول جيشه، وكانت قري محاطة بجدار عظيم، وعلى هذا الجدار قام ببناء ابراج دفاع قوية، لا تزال آثارها باقية لليوم، فقام عبد الله جماع بمطاردته وحاصر المدينة حصاراً تاماً وأضُطر حسب الله في النهاية للاستسلام.
وبعد هذه الانتصارات خضع له كل السودان عدا بعض المناطق بجوار البحر الاحمر، وحتى هذه وبعد وفاته؛ استولى عليها ابنه الشيخ عجيب، وكان واحد من ثمار فتوحاته غنيمة كبيرة هي التاج المرصع بالجواهر لملك العنج؛ وعقد مشهور من اللؤلؤ والياقوت، وقد اصبحت إرثاً تاريخياً لملوك العبدلاب يتوارثونها خلفاً عن سلف، حتى تم تسليمها الى احمد باشا ابو ودان، أول نائب للحاكم الاجنبي في السودان؛ وكان بصحبة هذا التاج الآت موسيقية، هي مزمار من البوص ومزمار القربة وطبل القبيلة (الدنقر).
كان من نتائج الانتصار (على ملك العنج) ان قسمت البلاد بين العبدلاب وملوك الفونج، واصبح من نصيب عمارة دنقس المنطقة الواقعة بين النيلين الازرق والابيض، ومن ثم نقل عاصمته من جبال الفونج التي تقع جنوباً الى سنار. بينما اصبح بقية السودان في يد عبد الله جماع، وانشأ عاصمته في قري.
وعاش هذان الملكان في ظل الفة ممتدة بينهما الى ان ماتا، وحكم عبد الله جماع لمدة ستين سنة وتوفي في نهاية القرن العاشر الهجري، رحمه الله، وكان لديه ابناء كثر اشهرهم عجيب مؤسس سلالة عجيب، ومحمد ديومة جد الديوماب، وادريس الأنقر جد الانقرياب، ومحمد ولقبه بادركوجا، جد البادركوجاب، ومحمد سبه جد السباباب.
حكم الشيخ عجيب في منطقته ومنح لقب مانجلك، ثم قام بتوسيع منطقة نفوذه، وجمع بين مآثر العرف وفضائل الرجل الصالح، متبعاً اوامر الله ونواهيه سائراً على تهج نبيه، صلى الله عليه وسلم.
وكان عادلاً ومتسامحاً في حكمه، ويضع طمأنينة الرعية في أوائل همه، فخصص جولات تفقد مستمرة للرعايا في مناطق نفوذه، وكان يقوم حيثما كان ذلك ضرورياً بإزالة ما تسلل الى عقائد المسلمين من بدع.
وفي خلال فترة حكمه شب نزاع بينه وبين المك عبد القادر مك الفونج، حول بعض المحدثات في الممارسات الدينية، وتمكن الشيخ عجيب في الحرب التي نشبت عقب ذلك من طرد الفونج حتى من بلادهم ومن حول الحدود الحبشية. وبعد هذه الانتصارات قام ببناء عدة مساجد، ومن ضمنها مسجد في مكان يسمى احمر موقي قرب الروصيرص، وآخر في فداسي قرب الحدود الحبشية، والثالث بناه عند قبائل الكوما والاعمام، وهي مقاطعة حبشية مسلمة، ولاتزال آثار هذه المساجد باقية الى اليوم.
وقام بترسيم حدوده مع الحبشة عند جبل قورة وحجر ابو قد، بينما رسم حدود مملكته الغربية مع الفور في منطقة فوجا أو كاب بلول في ديار الحمر، وبلغت حدوده في الشمال منطقة اسوان،
عاد بعد ذلك الى عاصمته في قري حيث بث الامن والطمأنينة في البلاد ونظم الإدارة، وقام بتعيين اربعين قاضياً لإرساء قواعد العدل، وكانت سمعتهم طيبة نتيجة لأحكامهم التي لا تعرف التحيز. ومن ضمن هؤلاء الشيوخ: الشيخ المشهور عبد الله العركي، والذي اقام في ابو حراز وما حولها، والشيخ دشين في اربجي، والشيخ بقدوش في دار الجموعية، والشيخ عبد الرحمن بن الشيخ النويري، والشيخ محمد القناوي في بربر وما حولها، والشيخ على ود عشيب.
قام كذلك بتعيين عدد من الشيوخ والمكوك ومنحهم سلطات الحل والعقد على عشائرهم، وجرياً على العادة المتبعة في مثل هذه الحالات، فقد منح كل واحد منهم علامة السلطة وهي الطاقية ام قرينات، على ان يقوم هؤلاء الشيوخ بسداد ضريبة العشر، اي عشر المحاصيل وتوريد عدد محدد من الخيول والرقيق بصورة سنوية.
ومن نتائج حماسه للعلم ان الحكماء والعملاء المتضلعين في العلوم الدينية انحدروا اليه من جميع الجهات، بحيث انتشر العلم في عهده واصبح القرآن يتلى في ارجاء البلاد. وكانت عطاياه لرجال الدين كثيرة واهمها كانت ما يقطعه لهم من أراضٍ لا تزال ملكيتها باقية إلى الآن في يد ذريتهم.
اصبح هذا الملك بعد مدة من الزمن ثرياً وقوياً حتى ان الروايات قالت ان قري كان يحرسها كل يوم فرسان بلغ عددهم اثنا عشر الفا، يمتطون صهوات جياد لها اللون نفسه، أياً كان اللون في ذلك اليوم، كستنائي او اشهب او اسود.
وفي أحد الايام علم ان زعيم عرب الصبحة، وكانوا لا يخضعون له، قد تعدوا حدود الشرع الاسلامي، من حيث قيامهم بقتل الناس، وجباية الاموال منهم دون وجود عقوبة شرعية تبيح ذلك، والسماح بطلاق المرأة وتزويجها في اليوم نفسه لرجل آخر.
ولما كان الشيخ يحارب دائماً من اجل شأن الدين واعلاء كلمة الله، فقد حشد جيشاً جراراً قاده بنفسه لمحاربة شيخ الصبحة، ولما اقترب من العدو؛ ذهب وحده متنكراً في زي رجل مسكين جاء طالباً من الشيخ أن يأويه، وهدفه التحقق بنفسه من صحة ما تناهى الى مسامعه من اقوال، ولما تأكد من ذلك عاد سراً لجيشه، ثم ارسل خطاباً لشيخ الصبحة يخبره ان الرجل المسكين الذي كان في ضيافته هو الشيخ عجيب نفسه، وانه إن اراد الخضوع له والكف عن التعدي على حدود الشرع فانه سيقره شيخاً على قبيلته، وإلا فإنها الحرب.
عندما استلم شيخ الصبحة هذا الخطاب غضب غضباً شديداً وبدأ في حشد جيشه، ونشب العراك بين الفريقين، كان القتال ضارياً من الجانبين، ولا يتوقف إلا عندما يفصل الظلام بينهما، واستمرت الحرب لمدة عشرين يوماً، وفي اليوم الحادي والعشرين قُتل زعيم الصبحة وانهزم جيشه، وطاردتهم خيالة الشيخ عبد الله جماع دون هوادة فانقسم المنهزمون الى قسمين، قسم فر الى كورسكو، والثاني الى مصوع.
قام الشيخ عجيب بتعيين نابت مؤسس عشيرة النابتاب حاكماً على منطقته بعد اخضاعها وطلب منه ان يحكم بالعدل، وان يتبع تعاليم الشرع الصحيحة، وان يبني المساجد في المنطقة التي تحدها سواكن ومصوع وكروسكو باتجاه البحر الاحمر.
وبعد هذا الاعمال توجه الى مكة للحج كما أمر النبي، ولما وجد ان الطريق شاق؛ آل على نفسه ان يفتح طريقاً للحجاج باعتبار ذلك من اعمال البر، وأن يكون آمنا. وكان الطريق في السابق يمر بالقُصير، ولكن الشيخ عبد الله قرر ان يكون الطريق الى سواكن.
قام الشيخ عبد الله بجمع كميات كبيرة من السمن وأمر بأن تصب على الصخور وأن تشعل النار حولها حتى تتكسر الصخور وبهذا شق طريقه لسواكن. وعند مروره بهذه المدينة قام بعمل بحفير كبير لحفظ مياه الامطار.
عبر البحر الاحمر وكان بصحبته كميات كبيرة من الذهب وادي فريضة الحج، ثم ذهب للمدينة المنورة لزيارة الحبيب المصطفى، عليه الصلاة والسلام، وبعد الفراغ من الحج مكث بمكة فترة طويلة حيث انشأ العديد من الأوقاف والمؤسسات الدينية التي لا تزال باقية الى اليوم.
عند عودته للعاصمة قري، وصل الى علمه ان ملك الفونج اخذ في اعداد جيش عرمرم مكون من عدة قبائل مختلفة بغرض محاربته. فخرج الشيخ فوراً للقتال، والتقى الجيشان قريباً من عاصمة الفونج، حيث نشبت معركة طاحنة استمرت عدة ايام، انهزم فيها جيشه وتراجع الشيخ لدياره طلباً للتعزيزات، لكن ملك الفونج طارده مطاردة لصيقة، فنشبت بينها معركة ثانية في مكان كان يسمى في السابق دبكرة، والآن كركوج على الضفة الشرقية للنيل الازرق قرب الخرطوم. وفي اثناء الاشتباك قُتل الشيخ عبد الله، وتقول الروايات أنه بلغ من العمر عتيا ساعة مقتله، حتى ان جفنيه تدليا على صفحة وجهه فكان يربطهما بعصابة حول جبهته، وقد حكم قرابة خمسين عاماً، وحمل جثمانه الى قري ودفن هناك، وقبره يزار الى هذا الوقت.
واجزم ان عدد الشيوخ والمكوك في هذه الفترة الخاضعين لمملكة العبدلاب؛ والذين يدفعون الضريبة باستثناء الشيوخ المسؤولين عن انشطة معينة؛ كان عددهم سبعة عشر شيخاً، وكان هؤلاء هم شيوخ طاقية رفاعة "الحمدة"، ومكوك كردفان، والجموعية، والسعداب "من الجعليين"، والميرفاب، والشايقية وارقو، وعشر مناطق تابعة للصبحة وتشمل النابتاب والحلنقة والحمران.
بعد وفاة عجيب امتد نفوذ الفونج الى بربر، وانسحبت عائلته مع بقايا جيشه الى دنقلا، وقد خلفه ابنه عثمان والذي اخذ من فوره في تجميع جيش يحارب به الفونج، لكنه توفي قبل اكمال هذا العمل وخلفه الشيخ محمد العقيل، وهو رجل قوي فواصل ما بدأه عثمان.
قبل ان ينشب القتال تدخل الشيخ ادريس ود الارباب وهو من اكثر رجال الدين نفوذاً في السودان، وقام بعقد صلح بين الطرفين، وقد وردت شروط الصلح في دفاتر اسمها (دفاتر الحرس)، وفيها الشروط التالية:
(1) أن تكون لمحمد العقيل كل الديار التي كان يحكمها والده الشيخ عجيب
(2) أن يكون لملك الفونج كل الديار التي تقع ضمن اقليم الجزيرة.
(3) أن تخدم (تدفع الضريبة والعوائد) القبائل العربية الموالية لملك قري لشيخ من بيت الشيخ عجيب.
(4) اذا ارادت عائلة ملك الفونج زراعة الاراضي شرق النيل، فعليها دفع ما يستحق عليها من ضريبة للشيخ المحلي الخاضع لشيخ قري.
(5) عندما يزور احد خلفاء الشيخ عجيب سنار باعتباره ضيفاً فلا نحاس يُضرب غير نحاسه طيلة مدة اقامته بها.
(6) اذا هدد عدو مملكة العبدلاب من الجانب الحبشي، او من جانب مملكة دارفور او من مصر، سيقوم ملك الفونج بمساعدة العبدلاب بالتعزيزات، اما في حالة مواجهة أي عدو مشترك، فسيقوم الطرفان بمساعدة بعضهم البعض، كما كان الامر في السابق باعتباره حلفا حقيقياً بين الدولتين.
وهكذا حُل الخلاف. وعاد الشيخ محمد العقيل الى دياره وحكم رعاياه بالعدل، وسار على نهج والده في احترام علماء الدين.
في ذلك الوقت قام الاحباش بحشد جيش جرار وصل عدده كما قيل الى مائة الف محارب، ونيتهم هي غزو بلاد الشيخ عجيب، عند وصول هذه الاخبار لمسامع الشيخ محمد العقيل اعد لمواجهتهم جيشاً ضخماً مكوناً من قبائل عربية مختلفة تدين بالولاء له وضم هذا الجيش اربعين الف فارس، وقد تقنعوا على وجوههم بزرد الحديد.
ستكون الحكاية لطويلة إن أردنا أن نقص فيها اخبار المعركة الضارية التي دارت على مدى عدة أيام، وقد خرج فيها الشيخ محمد العقيل منتصراً، وانتهت بقتل ملك الحبشة اياسو، وسقوط عدد كبير من الاسرى في يد الشيخ.
مات الشيخ محمد العقيل في قري بعد ان حكم مدة خمسة وعشرين عاماً، وله من الابناء اربعة وثلاثين، قتل عدد منهم في معارك المملكة ضد اعدائها. واشتهر من ابنائه الباقين عبد الله البرنس وعجيب وحماد وشاور.
خليفة الشيخ محمد كان ابنه عبد الله البرنس، وكان رجلاً صالحاً وذو نظرة ثاقبة، وعادلاً، وازدهرت بلاد عجيب في عهده؛ وبوركت ايامه بوفرة المحاصيل وكثرة المواشي، ولأن نبله ونقاء سريرته لا حدود لها فقد لازمه الخير، حتى قيل بأن أيامه كانت العصر الذهبي، حين يرعي الذئب مع الغنم. وكان الرجل يسافر من بربر الى سنار ومعه الكثير من المال ثم يعود سالماً معافى الى بلاده، وبعد مدة حكم استمرت سبعة عشر عامً تميزت بالهدوء؛ مات ودفن مع ابائه.
خلفه في الحكم هجو بن عثمان، وقد سار على نهجه، حاكماً عادلاً، ومحباً لرجال الدين مانحاً لهم العطايا والاراضي. وحكم مدة خمس سنوات وخلفه الشيخ عجيب الثاني بن عريبي وحكم مدة ست سنوات، وسار سيرة سلفه ابن عمه، وخلفه اخوه مسمار وحكم مدة خمس سنوات، وخُلع نتيجة لسوء سيرته وتعديه على رعاياه، وجرى اختيار الشيخ على بن عثمان، وكان متزناً وحكم مدة سبع سنوات، وخلفه الشيخ حمد السميح بن عثمان، وكان سيء السيرة وغاشماً، وقد دخل معه ابن عمه عجيب بن الشيخ عقيل في خصومة بسبب طغيانه وتجبره على الناس، وبعد فترة حكم استمرت عشر سنوات جرى خلعه، وخرج الى دارفور حيث لا تزال ذريته هناك.
جاء بعد الشيخ حمد السميح الشيخ عجيب الثالث بن محمد العقيل والذي اختير ليكون شيخاً في عمر ناضج وقد بلغ خمسة وستين عاماً، وعلى الفور اصطدم بخصومة من ابناء عمه العطا مناع، والتي تطورت لقتال، غير أنه واجه هذا النزاع بالدبلوماسية الماهرة. وقام ببناء داره وأحاطها بأسوار عالية من جميع جوانبها وابقي بداخلها جميع ابنائه في عزلة مبعداً لهم عن انظار الناس الى ان بلغوا سن الرشد.
في احد الايام أمر بضرب النحاس، وجيء الى مكان العرض العسكري بكل شخص يسمح عمره بحمل السلاح، وجلس الشيخ على كرسي ملكه وطلب حضور اولاده امام افراد القبيلة، فحضروا وقد امتطوا صهوات جيادهم كتفاً بكتف، وزينت الجياد بالسيور واللجم المزخرفة، وتقنعت وجوه أبنائه بزرد الحديد، وسيوفهم تلمع في ايديهم، فادخل هذا رعباً عظيماً في قلوب ابناء عمومته. ومن ذلك اليوم خضع الجميع لإرادته.
ساعده هؤلاء الابناء وعددهم سبعة عشر ابناً في تثبيت دعائم حكمه، ثم شتت شمل ابناء عمومته ولم يعد يخشى عداوتهم بعد ذلك. فورث بالكامل مملكة الشيخ عجيب المانجلك، وجاء بعده سلسلة من الخلفاء بلا انقطاع الى ان جاء الغزو التركي المصري للسودان في عام 1236 هـ.
أخذ التركمان وشهرتهم "الغز" خلال فترة هيمنتهم على مصر ينظرون بجدية لفكرة غزو السودان، فحشد الشيخ عجيب جيشاً كبيراً وقام بإرساله للحدود المصرية بقيادة ابنه حماد والملقب "بضلف العجل".
ادرك حماد عند وصوله لتلك المنطقة وبصورة فورية ان من الصعب على جيشه المضي قدماً في المهمة التي جاء من اجلها، لان التركمان كانوا مسلحين بأسلحة نارية، بينما سلاح رجاله كان الاسلحة البيضاء الرمح والسيف، فجمع شيوخ القبائل للتشاور؛ وبعد نقاش مطول توصلوا الى ضرورة أن تتقدمهم المواشي من البقر والجمال اثناء زحفهم للقاء العدو لتكون بمثابة درع.
نجحت هذه الخطة وتمكن العرب من الاقتراب اللصيق بأعدائهم وقاموا باجتياحهم في نزال المواجهة المباشرة وجهاً لوجه، وقد قتل قائد التركمان وجزء كبير من جيشه في ميدان القتال بينما هرب البقية الى بلادهم.
أدى هذا الانتصار المؤزر لظهور السلطان سليم الاول في سواكن، وعندما سماع الشيخ عجيب ود محمد بهذه الاخبار تخوف من حدوث غزو آخر لبلاده، يتذرع بحجة ان أهل هذه البلاد من ملة الكفر، فارسل رسالة الى السلطان العثماني يخبره فيها بأنهم مسلمون ومؤمنون بشهادة لا إله إلا الله وان محمد رسول الله، ونقيم الصلاة ونؤتي الزكاة ونحكم بالعدل حسب الشرع الاسلامي، وننحدر من بيت الشرف الذي ارسى قواعد الشرع في البلاد، وعمرنا المساجد، وقد حاربنا والي مصر لأنه اعتدى على ارضنا، وندعو مولانا السلطان إلى ان ينظر في هذه الامور بنفسه.
ولما تحقق السلطان من ذلك غادر سواكن، ثم تواصلت المراسلات طويلاً بين الطرفين، وقد فُقدت هذه المراسلات في تاريخ متأخر مع تاج العبدلاب. ولم تتأثر فترة ما تبقى من حكم الشيخ عجيب الثالث باي حروب ولم يحدث أي تهديد للبلاد، الى ان جاء غزو محمد على باشا في عام 1236 هـ، وبعد ان حكم لمدة 25 عاماً توفي ودفن بجوار جده الشيخ عجيب الكبير.
خلف الشيخ عجيب ابنه الشيخ بادي، وقد سار سيرته، وكان من اغنى الحكام وخلت البلاد من المحن والنزاعات خلال فترة حكمة التي امتدت اربع سنوات.
خلف الشيخ بادي ابنه دياب ابو نايب، وكان جباراً، ومارس جبروته على الناس وبوجه خاص على ابناء عمومته، فخافه العبدلاب وهجروا قري وتفرقوا في جهات عديدة، ولم يبقى الا قلة من اعمامه ومنهم عبد الله وشمام ابناء عجيب الثالث، وقد آثروا البقاء لحماية دار عجيب المانجلك، وكان الشيخ دياب ابو نايب ثرياً للغاية بحيث جعل أوتاد الدواب من الفضة والرسن من الحرير الخالص، وبعد ان حكم مدة تسع سنوات مات وهو في طواف على مناطق مملكته في الجهات الشرقية؛ قرب التل والمناع ودفن في المناع.
خلف ابو نايب عمه الشيخ عبد الله الثالث، وفي خلال فترة حكمه التي استمرت ثمان سنوات اخذ بمشورة اخيه شمام وقرر نقل عاصمة ملكه من قرى الى الحلفاية، وكان رجلاً تقياً وعادلاً مع رعيته، بالإضافة لشجاعته وحزمه، وتحت حكمه الراشد ارتاحت النفوس وقد قارنوا ذلك مع الاضطهاد والقمع الذي عانوه تحت حكم الشيخ دياب ومدحوه بشعر ومن ذلك:
جيد ولوك يا اللي عسكرك طماع
يا أسد الملمة القماع
نعم انك من تركة صقور جماع
وعاد العبدلاب الذين اختاروا المنفى بإرادتهم الى حلفاية الملوك وعمروها، وقصدها العلماء من مناطق قصية فأصبحت منارة للعلم ومن كبريات مدن السودان، واتخذها التجار من جميع الجهات مركزاً لهم، لأن شهرة الشيخ عبد الله في الحكم الرشيد والعدل ذاعت في خارج البلاد، وتبادل البضائع الثمينة كان يجري فيها بأمان تام، مع كرمه وبصفة خاصة مع رجال الدين ومنحه الاراضي والمال لهم لمساعدتهم في اعمال الخير.
وتخبرنا قصة ابن ملك بربر عن مدى نفوذ الشيخ عبد الله، إذ كان لملك بربر ابن متعجرف ومتسلط ويهين الناس في الاسواق ولا يحترم أي شخص، وعندما سمع الشيخ عبد الله بهذه القصص التي يتداولها الناس عن هذا الولد؛ ارسل جاسوسين على جملين، للتحقق بنفسهما وبسرية تامة من صدق ما ينسب لهذا الولد، فان كان الأمر كما يقال فقد فوضهما بقطع رأسه واحضاره له.
ثبت للجاسوسين ان كل ما قيل عنه كان صحيحاً فقاما بقطع رأس الأمير، ولكن بدلاً من يسارعا بالعودة فوراً فقد انتظرا ليريا ماذا سيفعل ملك بربر، وفور وصول الخبر للملك اعطى تعليماته بعدم التعرض للرسولين، وجاء اليهما وسألهما عن الاسباب التي دعتهما لقتل ولده، فاخبراه انهما موفدان من قبل الشيخ عبد الله وانهما قاما فقط بتنفيذ تعليماته، فقال الملك: "ما على إلا السمع والطاعة، أنا من قتلت ولدي".
ورواية اخرى تدل على مدى ترسخ الشعور بالسلام والامن في ذلك الوقت، وهي عن عرب الصبحة فقد خسر هؤلاء الكثير من قطعانهم نتيجة لهجمات قامت بها ذئاب صحراوية، وفي خضم حيرتهم قالوا: من المؤكد أن ود عجيب قد مات وإلى الآن لم يتم اختيار خليفة له، وإلا فإن الذئاب لن تكون لها فرصة لمثل هذا الهجوم، وقاموا بتحديد اليوم، فوجدوا ان ظنهم كان صحيحاً.
التقاليد التي تؤدى بموجبها مراسم التحية لأبناء عجيب باعتبارهم وجوه القبيلة لا تزال قائمة الى اليوم، وفيها يقوم الرجال بلف ثيابهم حول خصورهم قبل الدخول، واثناء دخولهم يذكر كل شخص اسمه بالقول أنا فلان بن فلان. ويقوم الشيخ بترديد الاسم، فيؤكد الشخص اسمه بالقول (مانجل)، ثم يقوم بتقبيل يد الشيخ، وكلمة مانجل تفسر بانها اختصار لجملة "ما نجل إلا إياك". ثم يجلسون على الأرض بتواضع. أما رجال الدين والعلماء فإنهم يدخلون مباشرة وقد بسطوا ايديهم وهم يرددون الادعية، قبل أن يأخذوا مقاعدهم بجواره.
وعندما يطوف الشيخ عبد الله على البلاد، فان اهل البلد يعطلون اعمالهم ويستقبلونه بكل مظاهر البهجة والفرح. وكان من عادته ان يذهب في جولات متنكراً مستطلعاً احوال رعيته في مختلف الشؤون، وعند قيامهم بالإجابة على اسئلته فانهم يقولون وبعفوية: منذ ان استلم الشيخ عبد الله دفة الحكم فإننا ننعم بالأمن والطمأنينة.
في يوم من الايام التقي الشيخ على مسافة من المدينة براعي اغنام، فقال له: لماذا تمشى وحيداً وانت بعيداً عن المدينة ؟ فقال الراعي: انا لست وحيداً معي الله والشيخ عبد الله، فرد الشيخ: نعم الله مع كل عباده، ولكن من أين لعبد الله أن يساعدك وهو في الحلفاية؟ فقال الراعي: اسكت يا هذا، لأن هبة الريح ستنقل هذا الكلام لمسامع الشيخ عبد الله.
في تلك اللحظة طرقت مسامع راعي الغنم اصوات مرافقي الشيخ عبد الله، وادرك الراعي انه امام الشيخ نفسه، وقبل ان يغادر الشيخ المكان القى الراعي بنفسه امامه وقال: "سيدي؛ هذه الاغنام التي تراها ومعها اغنام أخي عددها اثنان وثمانون رأسا وجدناها دون صاحب، واحتفظنا بها كوديعة في حرز أمين فاحكم في الموضوع".
قام الشيخ بتهدئة الرجل وقال له بما انك حافظت على وديعة الله بكل أمانة فسأتركها في حفظك، ورفض الشيخ أن يأخذ منها شيئاً ولو على سبيل الضيافة لمرافقيه.
في هذه اللحظة تذمر احد مرافقيه وردد ان الشيخ جشع فقد اخذ كل الشياه لنفسه، فاستدعاه الشيخ واعترف بزلة لسانه، ولكن الشيخ كان حليماً جداً فعفي عن الرجل، ناصحاً له بان يرجو المغفرة من الله وليس من احد غيره.
في اثناء فترة حكمه زحف سلطان الفور الى كردفان بجيش جرار بغرض الاستيلاء على تلك البلاد، وبمجرد سماعه للأخبار جمع الشيخ عبد الله قواته وقادهم بنفسه الى كردفان، وسار معه اخيه شمام وابن اخيه محمد العقيل شمام، وترك وراءه ابنه مسمار في الحلفاية.
ما ان وصل حدود كردفان حتى نشب القتال بين قواته وبين الفور، وكانت نتيجة المعركة النصر له واضطر سلطان الفور للتراجع، عند تراجع جيش الفور امر سلطان الفور قبائل العرب الخاضعين له في تلك النواحي بردم الآبار؛ ومضايقة عدوه بالصراخ وصيحات الحرب ولكن دون الاشتباك في قتال معهم، وكانوا كلما هاجمهم الشيخ عبد الله امعنوا في الانسحاب، وكلما عاد لمطاردة ملك الفور مرة بعد مرة؛ يجد ان العرب الموالون للفور ما انفكوا يحومون حول اجنحة جيشه، واستمر الحال على هذا المنوال عدة أيام، وهم محاطون بقبائل معادية وقد انقطعت وسائل امدادهم بالماء والطعام. واخيراً نشبت معركة ضارية قتل فيها الشيخ عبد الله، فاستلم اخيه شمام القيادة وانسحب الى بئر يسمى شمقتا "سانيات كرو" .
عاود سلطان الفور الهجوم بعد عدة أيام فقتل شمام في المعركة، وآلت القيادة لأبنه محمد العقيل، لكنه ومعظم جيشه قتلوا في محاولتهم للخروج من كردفان.
عم حزن عميق الحلفاية عندما وصلتها هذه الاخبار، وتم اختيار الشيخ مسمار في مكان والده، وفي غمرة حزنه الشديد على مقتل والده وعمه وابن عمه قرر لحظتها حشد جيش ضخم لاستعادة السيطرة على كردفان من الفور.
تدخل مك الفونج والذي وصلته اخبار هذا القتال في الامر، فقد كان الفونج والعبدلاب في ذلك الوقت حلفاء، وتخوف من أن الشيخ مسمار كان حديث السن؛ وعمره وقتها خمسة وعشرين عاماً، ويفتقر للخبرة الكافية في شؤون هذا النوع من العمليات العسكرية؛ فتم الاتفاق بين الحليفين بان يتولى محمد ابو لكيلك وهو احد قواد الفونج قيادة القوات المشتركة. فقاد محمد الجيش الى كردفان وتمكن من هزيمة الفور واجبرهم على الانسحاب الى ديارهم، وبقى ابو لكيلك هناك قائداً للقوات. وحكم مسمار مدة خمس سنوات في الحلفاية ثم مات والتحق بآبائه.
جرى اختيار ابن عمه الشيخ ناصر ود شمام خليفة له، وحكم بطغيان وتسلط كما فعل من قبله ابن عمه دياب ابو نايب والذي كرهه الناس، وبعد ان حكم ثمان سنوات خُلع ونُفي الى سنار وقضي بقية حياته في ام طلحة حيث مات ودُفن. وخلفه ابن عمه الشيخ عجيب، الأبن الرابع للشيخ عبد الله والملقب بالفيل، وكان عادلاً ومستقيماً، ولا يتعجل في اصدار الاحكام إلا بعد أن يستشير كبار السن من رجال أسرته. وكان عرض صدره ثلاثة اشبار، وهذا هو السبب في تلقيبه بالفيل. ومات خلال جولة تفقدية في ديار عرب الصبحة بعد فترة حكم استمرت عشرون عاماً تميزت بالسلم.
حكم بعده عمر ود الشيخ عبد الله مدة سنتين، الى ان تمكن ابن اخيه الامين ود مسمار من انتزاع السلطة منه، وكان الشيخ الامين رجلاً باسلاً وفارساً شجاعاً ومرعباً لإعدائه في القتال، وشهدت له العديد من القبائل بالشجاعة وله شهرة لا مثيل لها في السودان.
تقول الرواية انه في يوم مولده تنبأ الشيخ خوجلي وقال: "لن يكون في زمانه مثيله"، واوصى جده الشيخ عبد الله بالعناية به، فمنع الشيخ عبد الله أي شخص من الاقتراب منه ليلاً .
قصة حربه مع الهمج وقتله لفرسانهم كانت كالتالي:
كان ابناء محمد ابو لكيلك لا يزالون يعيشون في كردفان، وقد تولى بادي ود رجب زمام الامور بعده، وهو فارسً مشهورً، وكان بادي يطمع في الاستيلاء على عرش مك الفونج فزحف بجيش جرار من كردفان متوجها الى سنار، وبما إن شهرته القتالية كانت ذائعة الصيت فقد كسب المعركة دون قتال، فاخذ ينصب ملوك الفونج ويعزلهم على هواه ودون ان يقف في وجهه أي انسان.
قام رجب بطواف على الجزيرة وهو يأمر وينهى، ثم عبر النيل وقام بقتل شيخ الشكرية في معركة دارت بينهما، في هذه الاثناء كان عدلان ابو جديري؛ وهو احد مكوك سنار؛ يتداول ومستشاريه الآراء حول كيفية هزيمة بادي ود رجب وتدبير وسيلة لقتله. فقر رأيهم على الاستعانة بالشيخ الامين ود مسمار, ارسل المك عدلان رسولاً إليه هو حجازي ابو زيد، من عائلة الشيخ ادريس ود الارباب، وتربطه صلة قربي وثيقة بالعبدلاب.
ومع خطورة المهمة تعهد لهم بانه سيحضر الشيخ الامين معه، وعندما التقيا قال له الشيخ الامين: "لو ان احد غيرك جاء لي بهذا العرض لقتلته فوراً، ولكن لقرابتك معنا سأعفو عنك"، رغم ذلك وافق الشيخ الامين على التشاور مع المك عدلان على كيفية مهاجمة رجب ود بادي.
ارسل الشيخ الامين من فوره وقبل بدء العراك مبلغاً كبيراً من المال للملك طمبل ملك ارقو، لشراء حصان اشتهر بالسرعة والقوة، وعندما علم بادي ود جرب بنواياهم لمحاربته قرر العودة بسرعة لسنار والتقى الجيشان غرب مدينة سنار.
قبل بدء القتال طلب الشيخ بادي ود رجب من أي فارس يأنس في نفسه الكفاءة ان يبرز لقتاله، فلم يتقدم أحد سوى الشيخ الأمين. وتواجه الخصمان وبادر بادي بالضربة الأولى ولكنها طاشت، فقام الامين بتوجيه ضربة قوية بالسيف على رأس بادي، فأخذت الضربة أعلى الرأس ونصف الخوذة، واستقر الجزءان في مكانهما دون ان يسقطا، وهذا من شدة حدة سيفه. ظن الامين ان ضربته قد طاشت؛ ولكن عند استدارته وعودته لمكان المبارزة رأي الدم يتفجر على صفحتي وجه بادي، فوكزه وكزة خفيفة فسقط بادي ميتاً. دبت الفوضى في صفوف جيش الفونج عند رؤيتهم لمقتل قائدهم فتفرقوا تاركين وراءهم اعداد كبيرة من الغنائم والثروة.
في خلال غياب الشيخ الامين توفي عمه الشيخ عجيب، وتولى احد اعمامه الشيخ عمر مقاليد السلطة في مكانه، وبمجرد وصوله للحلفاية قام بخلع الشيخ عمر وتولى مهام السلطة، وقد حكم بالعدل، فأطاعوه كما كانوا يطيعون سلفه الشيخ عبد الله.
أما فيما يتعلق بأبناء محمد ابو لكيلك فبعد مقتل ابن عمهم بادي ود رجب، تم تعيين احد كبارهم بالتوافق بين الشيخ الامين ود مسمار؛ والمك عدلان ابو جديري، وهو رجب الحديلك ود محمد (الهضلل حسب رواية كاتب الشونة).
عاد رجب الحديلك الى كردفان ببقايا جيشه واستقر في منزله القديم، ولكن بمرور الأيام طمع في ملك سنار، واخذ اخوه ابراهيم والذي كان يشغل منصباً عاليا في بلاط مك الفونج في مساعدته لتنفيذ خططه؛ مستخدماً الذهب الذي يأتيه من كردفان في رشوة اعضاء في بيت المك والجنود، فازداد نفوذه في مدينة سنار.
تخوف المك من توسع النفوذ هذا؛ وادرك ان شراً ما سيعقبه، فجمع كبار افراد اسرته ممن يثق في ولائهم له واستشارهم بشأن اولاد محمد ابو لكيلك، فأشاروا بان ما من أحد سيتكفل بوضع حد لطموحاتهم سوى الشيخ الامين ود مسمار، وهو الذي قتل من قبل بادي ود رجب.
ارسل المك عدلان للشيخ الامين ود مسمار؛ وعندما التقيا اطلعه على المؤامرات التي كان ينسجها وزيره ابراهيم واخوه الشيخ رجب الحديلك، استدعى الشيخ الامين من فوره الوزير ابراهيم وقام بسجنه هو والمتآمرين معه؛ ثم قام بقتلهم بعد يومين من ذلك، لكن النعيسان شاعر الوزير تمكن من الهرب الى كردفان، حاملاً معه الى الشيخ رجب اخبار مقتل اخيه الوزير ابراهيم، ونقل الأخبار في شكل مرثية لاستثارة غضب الشيخ رجب:
رجب ود محد يأجرك القيوم
في اخوك البسوق عوق الدريسة اب كوم
اب كرم الهنا والهناك من الكتال مهموم
اليوم الوزير فوقو المرافعة تحوم
رجب ود محمد يأجرك الباقي
في اخوك المثل توب القماش الباهي.
وعندما سمع الشيخ رجب بأخبار مقتل اخيه، غضب غضباً شديداً، وقر عزمه على اعداد جيش يتوجه به إلى سنار، وسار في صحبته الفكي محمود وهو من اهل الصلاح ويأكل الثعابين، فقيل في ذلك: "الحاج محمود بلاع الدبيب"، وعندما عبر النيل الابيض وجد نفسه وجهاً لوجه مع قوات المك عدلان والشيخ الامين في الرميلة، وقد قتل في هذه المعركة كل من الشيخ رجب والفكي محمود، ولكن قبل بدء المعركة كان الشيخ محمود قد ارسل خطاباً للشيخ الامين يرجوه فيه أن ينقل جثمانه ويدفنه في بلده، وبناء على طلبه قام الشيخ الامين بتنفيذ الوصية ونقل الجثمان ودفنه في الكريدة بناحية الدِبَّة (بين محطة الكدرو ومحطة الكباشي).
عقب هذه المعركة هرب ناصر وعدلان ومعهما فلول جيشهما باتجاه الحبشة، وهناك اخذوا يستخرجون الذهب من الجبال وكانوا ناجحين في ذلك. بحيث تمكنوا من افساد ضباط جيش المك، وبعد فترة قصيرة مات المك عدلان، وفي هذا الوقت كانت عساكر الشيخ الامين مشتتة في البلاد؛ وكان هو وابناؤه فقط موجودين في سنار.
أما الشيخ ناصر والذي توسع نفوذه بدرجة كبيرة، فقد كان على دراية بتطورات الموقف، فزحف الى سنار وتوقف في حلة البقرة، وارسل منها انذاراً بالحرب، وكانت عساكر المك ضد الشيخ ناصر في الظاهر، ولكن قلوبهم كانت معه، وفوجئ الشيخ الامين عند وصوله لميدان القتال بان جميع عساكر المك عدلان قد انحازت لجانب العدو، فقام بمهاجمتهم بمساعدة افراد اسرته وجرح جرحاً بليغاً عند اشتداد اوار الحرب، فحمله ابناؤه بعيداً، ولم يأبهوا لتوبيخهم له، وفجأة حمل عليهم فرسان العدو وعندما رأي الشيخ الامين الخيل قال لأبنه حماد: اقلب الخيل، لكن عبد الله وهو احد ابنائه استفزه هذا القول فرد قائلاً: "الخيل تقلب والشكر لحماد". واصبح هذا مثلاً سائراً في كل انحاء السودان.
وهكذا اغتصب الشيخ ناصر مملكة الفونج من ابناء عدلان، ورجع الشيخ الامين الى سنار، وبقي بها لمدة ثلاثة أيام، وسار في طريق عودته لبلاده قبل شروق الشمس ولم يصادف احد في الطريق الى ان وصل الهلالية، وما ان علم المك ناصر انه في الهلالية وليس معه سوى قلة من رفاقه؛ قام برشوة احد عرب الصبحة ليقوم باغتياله، وارسل الشيخ الهمجاوي ايضاً قوة كبيرة لتتعقبه، وكان الشيخ ناصر وقتها في قرية ابو فروع واسند قيادة قواته لابوكر ود وحش، والذي انطلق الى الهلالية ومعه حوالى سبعمائة فارس.
قبل وصولهم، جاء عدد من شيوخ الشكرية للشيخ الامين وعرضوا عليه أن يكونوا تحت قيادته وأن ينقلوه بجمالهم للحلفاية، وحدث أن ابنته رقية كانت تستمع للحوار الدائر بينهم، فقالت هذه الابيات بغرض اثارة نخوته و(البخيتة المذكورة في الابيات هو اسم طبل القبيلة):
إن كان للصعيد بطله
وإن كان الشكاري فازه بابله
أحرق البخيته نقرة سلسله
برد دار عجيب وقف جليجله
وهكذا ثارت حميته واقسم الا يغادر الهلالية الا اذا قام ترابها معه، ولما رأي الشكرية عزمه وتصميمه يئسوا من محاولة اقناعه وتركوه. وصل العدو للقرية واحاط بها لمنع الشيخ من الفرار، لكنه لم يظهر أي انزعاج وبقي بمنزله ومعه نسائه. جاء اليه ابنه حماد وسأله: الا تسمع يا أبي صهيل الخيل في الخارج؟ فضحك وقال: لا يهم، خذ هذه الجارية معك الى النهر وهات لي ماءً لاستحم به، نجح الولد في تضليل من يراقبون المنزل وتمكن من احضار الماء لوالده، والذي استحم وتعطر ثم امتطى صهوة جواده ومعه خمسة عشر ابناً من ابنائه.
كان الرجل الذي استؤجر لقتل الامين بالخارج مستعداً للقتال، وعندما حمل حماد عليه امتطى الرجل صهوة فرسه واخذ يلوح بسيف لامع خلف درعه، لكن حماد انقض عليه كالصاعقة وفصل رأسه عن جسده بضربة واحدة، وعندما التحمت القوتان ارتجل ناصر ود الامين ابياتاً يستثير بها حمية اخوته:
الشطارة القاعدة ديمة..
حارسة من الجد قديمة
حاربوا يا فرسان سليمة..
العزة والرفعة ديمة
بعد المروق العودة حارة..
والخلوق لقتالنا دايرة
نحمل البتجينا حارة..
من عجيب عدلتنا تارة
نركب العديلو شديدنا..
وتبرق السيوف بايدينا
الحديث الشين يكوينا..
والقتال إياه عيدنا
نركب العديلو شددنا..
في مشارع الخوف وردنا
بي سيوف الريف عرضنا..
ما بنفر شن انقرضن.
وهنا ظهرت البسالة، فوجه الشيخ الامين ضربة نافذة لقائدهم بوكر ود وحش شقته نصفين، وجال به فرسه في الميدان وهو في هذا الوضع المخيف، وصمد الشيخ هو وابناؤه بشراسة وهم يواجهون العدو ويدفعونه ويضربونه ضربات بارعة، حتى القى الله الرعب في قلويهم ففروا من ميدان المعركة، وجرت مطاردتهم لضفة النهر، وتقول الرواية انهم من شدة تعجلهم في الهرب اصطادت لجم خيولهم وسيورها اسماك الشلباية والكانكيج من زعانفها، وحملتها للضفة الغربية قرب ابو عشر.
اما باقي جنود القوة المهاجمة فقد هربوا الى ود ابو فروع، وقد تعجب المك ناصر غاية العجب من هزيمتهم، وعندما سأل عن الرجل الذي اوكل اليه مهمة قتل الشيخ الامين وعلم بمقتله حتى قبل بدء المعركة، تساءل محتاراً عما إذا كان حماد صقراً لينقض على الرجل بهذه الطريقة؟.
وهناك قصة اخرى عن هذا القتال تتعلق بابن صغير للشيخ الأمين يدعى بقوي، وكان قد ختن لتوه قبل المعركة بوقت قصير، وقد قُفل في غرفة ومنع من الخروج منها خشية عليه، لكن الصبي اخذ حربة وصعد فوق السطح وقتل احد فرسان العدو، واستولى على حصانه ودخل معمعة القتال مع اخوته، فقالت اخته رقية:
بقوي الصغير يا سرور بالي
خاتاك في الجهل يا كنزنا الغالي
هبرت التروك وعرفت دودالي
أنت أقروب على أسياد الدروع العالي
عاد المك ناصر من فوره الى سنار بغرض التخطيط لمكيدة أخرى يتمكن بها من قتل الشيخ الامين، فهو لا يزال يخشاه باعتباره الرجل الذي قتل اخوته، لكن الشيخ الأمين غادر الهلالية وعاد الى الحلفاية.
ارسل الشيخ الأمين شيوخاً الى جهات عدة لجباية الضرائب، وارسل ابنه عجيب الى دنقلا ومعه خطاب الى ابو سوار ملك الشايقية لمساعدته في مهمة الجباية، وعندما تم جمع الضرائب واوشك عجيب على المغادرة؛ علم ان ابو سوار قد اختلس مبلغاً كبيراً فلم يتردد في اعدامه ومعه عدد من شيوخ الشايقية الذين اشتركوا معه في القضية، فقام الشايقية من فورهم بثورة؛ وتجمعوا لقتل الشيخ عجيب وحاشيته وقد كان عددهم قليلاً نسبة لحالة الاستقرار التي كانت سائدة في البلاد، ثم لم يمر وقت طويل حتى قاموا بالهجوم والقتل.
عند سماع الشيخ الامين لهذه الأنباء توجه على الفور لشندي لحشد جيش يقوم بإخماد الثورة في دنقلا، واستراح في قرية الشيخ صالح ود بانقا، وقبل ان يغادر جاء اليه ابو ريدة ود خميس، زعيم النوبة بقصة ظلم اصابه من المك ناصر ود محمد الهمجاوي، وانه لهذا السبب مجبر لتغيير ولاءه، وفي حقيقة الامر فقد كان ابو ريدة مرسلاً سراً من المك ناصر لقتل الشيخ الامين.
في الوقت نفسه ارسل المك ناصر قوة اخرى بقيادة احد المكوك، ومعها رجل يدعى سليم لديه سلاح ناري؛ ومهمته هي اطلاق النار على الشيخ وقتله من بعيد قبل ان يبدأ القتال. ولم تنجح هذه الخطة فقد اطلق الرجل النار على احد ابناء الشيخ الامين والذي كان مسلحاً ومدرعاً على حصانه، وليس على الشيخ الامين نفسه.
واثناء القتال الذي دار بعد ذلك، وجه الشيخ عبد الله ود عجيب ابن عم الشيخ الامين الضربة الاولى، ونجح في قتل قائد الاعداء، وكان بجواره عبد الله ولد الشيخ الامين، فتشاجرا على دروع القتيل وسلاحه، وتدخل الشيخ الامين عندئذ واعطاها لابن اخيه.
بعد نهاية المعركة والتي انتصر فيها العبدلاب طلب الشيخ الامين من ابن اخيه ان يعطيه السيف فقط، ولكنه رفض وذهب الى قبة الشيخ صالح ود بانقا طالباً الحماية. فتبعه الشيخ الامين داخل القبة وأخذ السيف لنفسه، والقى به في السجن.
قام الشيخ بإرسال قواته الى دنقلا مع ابنه وابو ريدة ود خميس، لكن ابو ريدة هرب الى جبل الجلف، وعاد الى ود بانقا حيث ساعد عبد الله ود عجيب ومحمد ود نمر على الفرار من السجن، واقسم ثلاثتهم على ان يلقى الشيخ الامين حتفه قبل ان يرجع ابنه من دنقلا.
وعندما وصلوا منزله ليلاً لم يجرؤ احدهم على الدخول، لكن ابو ريدة طلب من جنوده تسلق الجدران والوصول لسقف المنزل، وفعلاً قاموا بذلك واحدثوا فتحة في السقف، وقتلوا الشيخ الأمين بالحراب وهو نائم، وعند احتضاره امسك بالسيف وسلمه لابن عمه عبد الله ود عجيب قائلاً: "لا تدع هذا الرقيق - ابو ريدة - يأخذه منك"، وهكذا مات بعد فترة حكم استمرت عشرون عاماً ودفن قرب قرية الشيخ صالح ود بانقا.
خلفه في الحكم ابن عمه الشيخ عبدالله الرابع ابن الشيخ عجيب الفيل، والذي جاء من اتبرا بعد دفن الشيخ الأمين؛ وقبل ان يعود ابناؤه من رحلة دنقلا، وكان هؤلاء قد ساورتهم الشكوك بمجرد اكتشافهم لهروب ابو ريدة بانه سيعود متسللاً لقتل والدهم؛ فحثوا الخطى من اجل العودة لحمايته، ولكنه كان قد قُتل عند وصولهم لود بانقا، فواصلوا رحلتهم للحلفاية والتي توقفوا عندها من اجل جمع حاجياتهم، قبل ان يهربوا للعيلفون، قرية الشيخ ادريس ود الارباب، والتي اقاموا بها من اجل الحصول على الخيل والاستعداد لمناوشة الشيخ عبد الله.
كانت اولى اعمال الاخذ بالثأر هي قيام فرسانهم الارقاء بغارة على حلنقو قرب الحلفاية، بينما كان الشيخ عبد الله يطوف على عرب الصبحة.
وبمجرد ان علم نائبه في الحلفاية الارباب على ود بادي بالحادثة قام بمطاردتهم وادركهم في مشرع ابو صليب قرب العيلفون وكان معه واحد من اشجع فرسان الشيخ عبد الله وهو عثمان ود فاطر، شيخ المساعيد، وقد قتل عثمان في المعركة التي دارت وقتل معه احد الارقاء، وجُرح الارباب على ود بادي.
اخذ الفرسان الارقاء حصان الفارس عثمان ود فاطر واغنامه، وجثمان زميلهم الى العيلفون، وبمجرد ان علم الشيخ عبد الله بخبر المعركة عاد مسرعاً من عرب الصبحة وبات ليلته في السهل المكشوف قرب العيلفون. هنا تدخل كل من الفكي بركات خليفة الشيخ ادريس ود الارباب والفكي سماحة لفض النزاع بين الشيخ عبد الله وابناء الشيخ الامين، وكان رد الشيخ عبد الله : "لن اتركهم الا إذا سلموا اسلحتهم وخيلهم، وفلحوا الارض لمعيشتهم، او يصبحوا جنوداً في جيشي أو يغادروا دياري".
رفض ابناء الشيخ الامين تسليم سلاحهم او الاعتراف به كحاكم لهم، وقالوا: "سنبقي هنا الى الصباح ونغادر البلاد". وافق الشيخ عبد الله على ذلك؛ ونام ليلته في معسكر مؤقت، لكن ابناء الشيخ الامين ارسلوا في طلب خيلهم، والتي كانت ترعى على مبعدة منهم، وقاموا بقرع الطبول للتجمع للحرب، وبمجرد اكتمال استعداداتهم للقتال تدخل رجال الدين، ولكن وساطتهم ضاعت في خضم النزاع، وقد انهزم الشيخ عبد الله في المعركة وقُتل تسعة من اقرب اقربائه.
انسحب الشيخ عبد الله للصحراء شرق اتبرا وفيها بدأ يخطط لأخذ الثأر، ومن ثم وفي وقت لاحق قام بالالتفاف على ابناء الشيخ الامين من ناحية الجنوب، وهجم عليهم من قرية ام قحف قرب العيلفون فهزمهم هزيمة ساحقة وقتل تسعة عشر من مرافقيهم، وطرد البقية من بلاده الى ناحية الجنوب.
تميز حكمه في الحلفاية باليسر والعطف على رعاياه، واشتهر حكمه بين القبائل بالعدل، وتُحكى قصص كثيرة عنه، ومنها أنه كان يربط سكيناً على عنق الخروف ومعها كيس من الملح والشطة، ويطلقه هائماً على وجهه بغرض أن يأتي لص ويسرقه، وكان يقول: السكين جاهزة لذبح الخروف والملح والشطة من اجل تحسين مذاق الطبخ، ولكن الخروف يظل يتجول ليله ونهاره في حرية ولا يجرؤ احد على الاقتراب منه.
وقصة أخرى تدل على انصافه وعدله، وهي عن مجموعة من التجار وصلوا للحلفاية وقاموا بعرض بضاعتهم في السوق، وعندما حل المساء غفلوا عنها واستسلموا للنوم، وفي اليوم التالي وجدوا ان جزءاً من بضاعتهم قد فقد، فذهبوا للشيخ عبد الله وقالوا:
"مانجل، لقد سرقتنا ليلاً"، واستفسر عن السرقة فأجابوا: لقد قدمنا من بلاد بعيدة، وقضينا ليلتنا في الصحراء نائمين، وكنا ننزل الاحمال عن جمالنا ونطلقها لترعى وننام في سلام ولم نفقد أي شيء، الى ان وصلنا لمدينتكم، ويجب علينا ان نقول انت اللص، وعندما استمع لقصتهم بالكامل اجابهم: نعم انا اللص، وجمع مساعديه واغلظ عليهم القول؛ وأنذرهم بان العقوبات القاسية ستحل بهم ان لم يجدوا السارق، ولم يمض وقت طويل حتى قُبض على السارق؛ وأعيدت البضائع للتجار ونال اللص عقابه حسب الشرع.
وقصة أخرى تقول أن احد ارقاء ابو المعالي بن الشيخ محمد؛ كان يسقي الزرع بواسطة ساقية على النيل؛ قرب مشرع الجميزة جوار حلة كوكو، وقبل الفجر جاء اليه خروف ضال، فقام بذبحه واخفى لحمه بين جذوع الاشجار، وعند شروق الشمس وصل فرسان من الحلفاية وتحدثوا مع مسؤول الساقية؛ وقد حددوا اسم الشخص المطلوب، وهو من ذبح الخروف فقبض عليه واخذ للحلفاية، ولا احد يدري سبب استدعائه، لا أولياؤه ولا حتى من قبض عليه، وجيء به للشيخ عبد الله الذي قال له: لو قلت الحقيقة فستكون عقوبتك مخففة، أما لو كذبت فستكون مضاعفة في شدتها، ماذا فعلت في وقت متأخر من ليلة أمس؟
اجاب: سأقول الحقيقة، ليلة امس عندما كنت وحدي في الساقية جاء الي خروف ضال وبعد تردد مني لبرهة قصيرة قمت بذبحه واللحم لا يزال موجوداً هناك.
فالتفت الشيخ عبد الله لسيده وقال: "من اجل خاطر جدك الشيخ حمد ود ام مريوم عفوت عنه، وعليك تعويض صاحب الخروف".
وكان من عادة الشيخ عبد الله ان يدلج في الليل ويطوف المدينة متنكراً بغرض معرفة ما يقوله الناس، وفي ليلة من الليالي سمع رجلاً معروفا بالتبذير يدعى عبد الجليل يغني متباهياً بما يفعله من منكرات، وملخص شعره هو: انه ليس تاجراً يبيع و يشتري، وراحة البال اهم لدديه من الربح والخسارة، ومتعته في سرقة الخراف السمينة وذبحها، وشرب الخمر الصافية في الليل.
في صباح اليوم التالي طلب الشيخ احضار عبد الجليل وطلب منه ان يعيد اهزوجته فأعادها على مسامعه، ولما فرغ قال الشيخ: أيها الصعلوك، انت تعيش فقط للسرقة والزنا وشرب الخمور؟ واعطى الاوامر بإعدامه، لكن وزراء الشيخ ومن في مجلسه تدخلوا للعفو عن الرجل بشرط ان يغادر البلاد فوراً. وتقول بقية الرواية ان الرجل حزم ثيابه إلى جنبيه وامسك حذاءه بيديه، واطلق ساقيه للريح وقد شوهد وهو يركض باتجاه العيلفون. فقيل في هروبه الاشعار الساخرة وملخصها:
انظروا لعبد الجليل وسيفه البتار، صاحب الافكار اللامعة في ضروب الاغتيال، كيف ركض متفوقاً على الغزلان، وتحت قدميه تكسرت الصخور والاحجار.
شهدت فترة حكم هذا الرجل الصالح حلول البركة والازدهار بالبلاد، وتمتع الناس بالأمن بحيث اصبح الرجل يسافر وماله في جيبه الى مكان بعيد ويعود سالماً لأهله،
وكان يرفع من قدر المزارع الماهر ويجله، والشخص الكسول محل ازدرائه، وكانت لديه زراعة مروية بالساقية يعمل فيها بيده لتأمين احتياجات اسرته من الخضراوات وغيرها، ويترنم بالشعر وهو يحرث الارض.
اما هؤلاء الذين يهملون اداء صلواتهم فعقابهم شديد لديه، فكان الكسالى يقولون: "مع اننا لا نخاف الله سبحانه وتعالى، لكن لنصلى صلاة عبد الله"، ومنع الجزارين من ذبح المواشي قبل صلاة الفجر، وذات مرة احضر امامه رجل متهم بعصيان الأوامر، لكن الرجل حلف بالطلاق انه صلى صلاة الصبح قبل الفجر، هنا ضحك عبد الله وقال: "والله هذا الرجل لا يعرف مسألة مواقيت الصلاة، خذوه وعلموه"، وكان لديه التزام بمشاركة الناس افراحهم واتراحهم، فاذا وجد امامه حفل زواج او ختان، فأنه لا يتردد في حضوره، وتحكى عشرات القصص عن لباقته وعطفه.
اما بالنسبة للأبناء الأحياء المتبقين من ذرية الشيخ الامين؛ فقد بقوا لمدة سنتين في سنار يحيكون المؤامرات ضد الشيخ عبد الله، وحاولوا الحصول على مساعدة من المك ناصر من الهمج، والذي رفض مساعدتهم، فقاموا بالاتصال سراً بأخيه عدلان ود محمد، ووعدوه بالتعاون معه في اغتيال اخيه ناصر واستلام السلطة في سنار؛ اذا ما ساعدهم ضد الشيخ عبد الله، واقسموا على المصحف بان يساعد بعضهم البعض في اغتيال المك ناصر وتنصيب اخيه عدلان في محله، ثم زحف الجيشان بعد ذلك الى الحلفاية وقد قُتل الشيخ عبد الله في المعركة.
حكم الشيخ ناصر بن الشيخ الامين بعده لمدة خمسة وعشرين عاماً وكان في شيخوخته عندما غزا اسماعيل باشا السودان واحضر الجميع امامه، وقد رأى الشيخ ناصر انه من العبث مقاومة الغازين وعندما تحرك اسماعيل صوب سنار؛ ارسل ناصر معه ابنه الاكبر الأمين، وبعد تحركهم بفترة قصيرة توفى الشيخ ناصر، وعين الامين مكانه، فعاد برفقة اسماعيل باشا بعد سقوط سنار، وترك اسماعيل خلفه في الحلفاية حامية يقودها احد السناجك وبصحبته اربعمائة عسكري، وتوجه اسماعيل باشا لشندي، ولكنه طلب من المك نمر طلبات من الصعب تنفيذها فتآمر المك وشيوخه على قتله، وقاموا بإحراقه حياً.
عندما وصلت هذه الانباء للحامية التركية في الحلفاية تجمعوا في معسكرهم بالقلعة، واخذوا يطلقون النار على العرب المهاجمين، ولكنهم انهزموا في النهاية وقتلوا. كان الدفتردار في كردفان، فقرر التوجه لدنقلا عندما سمع بهذه الاخبار السيئة، وشق طريقه بنجاح ووصل الحلفاية، قاوم الشيخ الامين لعدة أيام ولكنه انسحب الى الهلالية عندما ادرك تفوق السلاح الناري على السيف والرمح، بعد انتكاستين او ثلاثة لم يتمكن فيها العرب من الالتحام بالغزاة ومقاتلتهم يداً بيد إلا مرة واحدة.
انسحب الشيخ الأمين للقلابات وهزم جماعة من التكارير اعترضوه بقيادة شيخهم عريف، وقد أُخذ الشيخ عريف أسيرا واعدم بعد ثلاثة ايام من المعركة. وعين الشيخ الامين ابن عمه ميري شيخاً على القلابات، وبقى هناك مدة عشر سنوات ثم عاد للحلفاية، حين منح عفواً من الحكومة ومعاشاً كافياً مدى حياته. وخلفه الشيخ محمد ود ناصر ولكنه توفي بعد شهرين فقط؛ وخلفه اخوه ادريس ود ناصر وكان حازماً وشجاعاً ونال مكانة عالية لدي الناس والحكومة، فمنحته الحكومة مرتباً ضخماً واعادوا اليه أوديته واراضيه الزراعية. وكان حاضراً دائماً ضمن جولات التفتيش ورافق الحكمدار ابو ودان عندما حارب عرب الصبحة في التاكا، وفي مهام أخرى.
كان من عادات ابو ودان ان يراقب القتال من خيمته على بعد، وفي يوم من الأيام عندما نُصبت خيمته على سفح احد التلال، قام العدو بدحرجة احجار ضخمة ففر كل من كان يقف في المكان باستثناء الشيخ ادريس، وقد رأى صخرة ضخمة تتدحرج وتمر بجانبه وتقتلع اوتاد الخيمة، وعندما تعجب ابو ودان من شجاعته؛ اجابه بآية من القران، "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا".
وفي مناسبة أخرى؛ انهزمت قوات احمد باشا ابو ودان، فأصيب بالذهول، امتطي الشيخ ادريس حصانه وسحب سيفه المسمى نيام –نيام (الجمجم) وركض باتجاه الباشا، وتمكن من كبح فرسه الجامحة، ولوح بسيفه فوق رأس الباشا ثم انقض كجمل هائج على العدو فشتت شملهم، فبعث الشجاعة في قلوب رجاله؛ وتمكنوا من استعادة المدفع الميداني والاسلحة النارية التي فقدت، وتم طرد العدو من الميدان.
سر الحكمدار للغاية من هذه الشجاعة وضاعف مرتبه ومنذ ذلك اليوم نشأت بينهم صداقة عميقة. وقد اتفقا على انتزاع مملكة السودان عن مصر وتسليمها للسلطان العثماني في اسطنبول، ومعها تاج ملك سوبا والذي كان يضعه الشيخ عبد الله جماع وتوارثه ملوك العبدلاب اباً عن جد، كما جرى تسليم احمد ابو ودان المراسلات التي دارت بين الشيخ عجيب والسلطان سليم وذلك عقب هزيمة السلطان سليم للغز نواب السلطان العثماني في مصر.
اكتشفت الحكومة المصرية هذه المؤامرة، وارسلت قوة لاعتقال ابو ودان والذي انتحر بالسم قبل وصولها، ودفن بالخرطوم، لكن مركز الشيخ ادريس العالي لدى الحكومة لم يتأثر حتى توفي ودفن بالحلفاية.
خلفه الشيخ جماع ود الشيخ الامين، وكان مستقيماً وجاداً ولم تهزه حوادث الايام وكان مبجلاً لدى الحكومة. وعندما اندلعت احداث الثورة المهدية عين في رتبة سنجك على اربعمائة من الجند في حملة لطفي بيه ضد الدراويش في كردفان، وقد قتل هو ورجاله في معركة دارت قبل وصول المهدي للخرطوم ودفن في برانكو.
خلفه الشيخ ناصر ود جمعة في الايام الاخيرة من حكم التركية السابقة ومنح وشاح الشرف من الدرجة الاولى، وقد اجتاز فترة المهدية وله السلطة الكاملة على العبدلاب وتابعيهم.
وقد آل اليه السيف المسمى الجمجم وسمع الخليفة بهذا الارث التاريخي فدعاه للحضور لديه، وعندما مثل امام الخليفة، ورأي الخليفة السيف طمع فيه لجماله ووضع تحت فخذه، وهو يعتقد الشيخ ناصر لن يجرؤ على طلب اعادته له، مر الوقت وخرج الجالسون حول الخليفة وبقي وحده، قام الشيخ ناصر من مكانه ليخرج وذهب الى الخليفة وسحب السيف من فخذه، فقال الخليفة: "لاشك انك معجب بسيفك يا الشيخ ناصر"، فقال الشيخ ناصر: "هذه امانة لدي باعتباري شيخ القبيلة ولن يأخذه أحد مني إلا إذا فصل رأسي عن جسدي". وبعد فترة قُتل الشيخ في مناوشة مع الحملة الاستطلاعية (الانجليزية) وفُقد السيف الجمجم.
عاش خليفته الشيخ الامين ود عمر ليشهد هذه الحكومة وقد مُنح وشاح الشرف ومات في قرية الشيخ جماع ودفن في برانكو، وخلفه الشيخ محمد ود الشيخ جماع، وقد منح وشاح الشرف من ونجت باشا والسير لي ستاك، وفوق ذلك كله الميدالية التي استلمها من الملك جورج نفسه عند زيارته لبورتسودان عام 1912م.
ملوك العبدلاب حسب ما اشتهر من الروايات، ومعظمها يتفق حول تسلسل الاسماء، مع اختلافات طفيفة في مدة الحكم لبعض الشيوخ :
ملوك قري
1. الشيخ عبد الله جماع، حكم 60 سنة.
2. الشيخ عجيب المانجلك بن الشيخ عبد الله جماع، حكم 48 سنه.
3. الشيخ عثمان عجيب المانجلك ، حكم سنه واحده.
4. الشيخ محمد العقيل بن الشيخ عجيب المانجلك، حكم 25 سنه.
5. الشيخ عبد الله البرنس بن العقيل بن عجيب المانجلك، حكم 17 سنه.
6. الشيخ هجو بن عثمان بن عجيب المانجلك، حكم 5 سنوات.
7. الشيخ عجيب الثاني بن عريبي بن عجيب المانجلك، حكم 6 سنوات.
8. الشيخ مسمار بن عريبي بن عجيب المانجلك، حكم 5 سنوات.
9. الشيخ علي بن عثمان بن عجيب المانجلك، حكم 7 سنوات.
10. الشيخ حمد السميح بن عثمان بن عجيب المانجلك، حكم 10 سنوات.
11. الشيخ عجيب الثالث بن محمد العقيل بن عجيب المانجلك، حكم 15 سنه.
12. الشيخ بادي بن عجيب الثالث بن محمد العقيل بن عجيب المانجلك، 4 سنوات.
13. الشيخ دياب أبو نائب بن بادي بن العقيل بن عجيب المانجلك، حكم 9 سنوات.
ملوك الحلفاية
14. الشيخ عبد الله بن عجيب بن العقيل بن عجيب المانجلك، حكم 21 سنه.
15. الشيخ تمام بن عجيب بن العقيل بن عجيب المانجلك، حكم 4 سنوات.
16. الشيخ مسمار بن عبد الله بن عجيب بن العقيل بن عجيب المانجلك، حكم 5 سنوات.
17. الشيخ ناصر بن شمام بن عجيب بن العقيل بن عجيب المانجلك، حكم 8 سنوات.
18. الشيخ عجيب بن عبد الله بن عجيب بن العقيل بن عجيب المانجلك، حكم 20 سنة.
19. الشيخ عمر بن عبد الله بن عجيب بن العقيل عجيب المانجلك، حكم سنتان.
20. الشيخ الأمين بن مسمار بن عبد الله بن بن عجيب بن العقيل بن عجيب المانجلك، حكم 20 سنه.
21. الشيخ عبد الله بن عجيب بن عبد الله بن عجيب بن العقيل بن عجيب المانجلك، حكم 7 سنوات.
22. الشيخ ناصر بن الأمين مسمار بن عبد الله بن عجيب بن العقيل بن عجيب المانجلك، حكم 25 سنه ,انتهي عهده بالفتح التركي للسودان 1821 م.

تعليق المترجم:
يقول جاي سبولدينق (ان من الظواهر الصحية ان ينظر الانسان الى اسلافه بالتجلة والاحترام والتفهم، وان كان خياره في الحياة الا يقلد افعالهم).
اصاب راوي هذه الحكايات وهو الارباب عبد الله الحسن ود شاور المتوفى عام 1958م؛ حين قال: (هذه الحكايات وعلى الرغم مما لحق بها من تشويه الا انها تحتوي على الكثير من الحقائق)، وهي فعلاً كذلك، ففيها الحقائق وفيها ايضاً بعض الخيال، ونتيجة لهذا التشويه لا يمكن الركون الى بعض احداثها كمادة تاريخية وهي لحسن الحظ قليلة، ونختلف معه في كلمة (تشويه)، لأن رواة هذه الحكايات يعمدون في الغالب الى (تحسين) الصورة العامة للقبيلة، وقد يكون هذا أحياناً على حساب الدقة.
وهذا ما أشار اليه البروفيسور محمد صالح محي الدين في كتابه "مشيخة العبدلاب صفحة 111" (وبالمثل لا ينبغي أن نقبل روايات العبدلاب على علاتها، خاصة وأن كثيرا منها كتب بأخرة (مؤخراً) على أيدي الأحفاد الذين يحرصون دون شك على أن يذيع صيت أجدادهم وصيتهم بهم وأن تعظم أقدارهم في أعين الناس فهم - لذلك - موضع شبهة فيما يكتبون).
ولا نقول انهم موضع شبهة في كتاباتهم، لكن لا بد توخي الحذر في قبول نظرتهم لبعض الاحداث.
الصورة العامة للحكايات مفيدة للغاية في تكوين فكرة عن الزمان والمكان الذي عاش فيه العبدلاب وعشيرتهم والقبائل التابعة لهم، وتأثيرهم الكبير في تاريخ السودان، وفي تشكيل الصورة العامة لثقافة المواطن السوداني، بكل متناقضاتها، من كرم وشجاعة وفروسية وشهامة، الى تكالب على السلطة والتنافس على الثروة والجاه، وما يقوده ذلك احياناً الى قطع صلة الرحم وقتل للأقارب، وهي صورة سادت بلاد السودان في القرون الوسطى ولا تزال أثارها ممتد الى اليوم بما نشهده من اضطراب سياسي وانقلابات عسكرية وثورات.
كان الفيصل دائماً في تلك العهود وربما إلى الآن للرجل الشجاع الذي يرى ان حياته ومماته هما سيان. فأنجبت تلك الفترة الابطال الصناديد، وكان منهم محمد ود كمتور، ومحمد ابو لكيلك، والامين ود مسمار، وكان هؤلاء وآخرين معهم موضع دهشة المؤرخين البريطانيين الذين عملوا في السودان وجابوا البلاد طولاً وعرضاً، واستهوتهم الثقافة السودانية بكل ما فيها تناقض. فقارنوا بين هؤلاء الابطال وبين ابطال العصور الوسطى في اوروبا، وهم مبهورون بهم وبأفعالهم، بل سمى جاي سبولدينق، الامريكي الجنسية، مؤلفه القيم باسم (عصر البطولة في سنار).
وبالعودة للحكايات يمكن الإشارة لبعض الاحداث التي فيها شيء من التاريخ وشيء من الخيال، ومن ذلك حكاية الحملة الحبشية على سنار عام 1744م، حيث تقول الحكاية: (في ذلك الوقت قام الاحباش بحشد جيش جرار وصل عدده كما قيل الى مائة الف محارب، ونيتهم هي غزو بلاد الشيخ عجيب، عند وصول هذه الاخبار لمسامع الشيخ محمد العقيل اعد لمواجهتهم جيشاً ضخماً مكوناً من قبائل عربية مختلفة تدين بالولاء له وضم هذا الجيش اربعين الف فارس، وقد تقنعوا على وجوههم بزرد الحديد.
ستكون الحكاية لطويلة إن أردنا أن نقص فيها اخبار المعركة الضارية التي دارت على مدى عدة أيام، وقد خرج فيها الشيخ محمد العقيل منتصراً، وانتهت بقتل ملك الحبشة اياسو، وسقوط عدد كبير من الاسرى في يد الشيخ).
والمعروف من الناحية التاريخية ان الغزو الحبشي كان موجهاً لسنار باعتبارها العاصمة، وكان جيش الاحباش ضخماً من حيث العدد، واشترك الفونج والعبدلاب وعشرات القبائل الاخرى التابعة للحليفين في صده، ورغم التفوق العددي للمهاجمين؛ إلا أن التكتيك العسكري هو الذي قاد لإحراز النصر، ومن ذلك خطة الالتفاف خلف الجيش الحبشي التي أشار بها الامير الفوراوي المنشق واللاجئ في بلاط سنار خميس جنقل، والتي كانت حاسمة في انهاء المعركة لصالح السودانيين.
ويورد مكي شبيكة في كتابه (السودان عبر القرون):
(ولكن سنار عندما رأت جيوش الأحباش قبالها ساد الهرج والمرج فيها وكاد الملك يأمر بإخلائها؛ لولا أن أشار خميس من عائلة دارفور المالكة والملتجئ بسنار على الملك بان يعبر الجيش السناري النيل الأزرق شمالي سنار ويقاتل العدو هناك، وفعلا نفذت الخطة وتمكن خميس من حصر جيش الأحباش في مثلث بين النيل الأزرق والدندر ودحره؛ وعندما وصل الخبر لبقية الجيش الحبشي الذي يقوده الإمبراطور؛ ورأى لا سبيل إلى إنقاذ جيشهم قرروا التراجع إلى بلادهم، والروايات الوطنية تذكر الأمين كقائد لجيش الفونج وبعضها تذكر الشيخ محمد أبو لكيلك قائد الفرسان ولكن الخطة التي أنقذت سنار وربما دولة الفونج بأسرها هي التي دبرها خميس أمير دار فور اللاجئ بسنار).
من الشخصيات المميزة في هذه الحكايات شخصية الامين ود مسمار، والذي كان بطلاً مغوراً؛ وفارساً لا يشق له غبار، ورغم انه كان يحمل روحه على كفه في كل معركة يخوضها إلا أنه - ويا للمفارقة - مات مقتولاً في سريره وليس على ظهر حصان. ورغم ان الذين قتلوه ابطال مثله، إلا انهم جبنوا عن لقائه، في تناقض غريب بين البطولة والجبن.
ورغماً عن هذه الهنات، تبقى هذه الحكايات العبدلابية ثرية بالكثير من المعاني، وتتلاقح فيها الحقيقة مع شيء من الخيال؛ فتنتج صورة تظهر فيها العلاقة بين الحاكم والمحكوم؛ وبين الحكام انفسهم، وتظهر فيها لوحة لأنسان السودان في منطقة واسعة يشترك فيها الوسط والغرب والشرق والشمال، ورغم ان العنوان الصارخ للوحة هو (الصراع)، الا انه يمكن تلمس جوانب مختلفة للحياة الاجتماعية والدينية والاقتصادية فيها، والنفاذ من خلالها الى فترة ساهمت في تشكيل وجدان وروح الانسان السوداني.

nakhla@hotmail.com