قراءة في اعلان اديس ابابا بين تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم) وقوات الدعم السريع

 


 

 

في هذه القراءة ننظر ل(حميدتي) بأنه حي كما اراد المخرج ذلك، وإن كنا نعتقد انه من سكان القبور، فهو ميت قد شبع موتاً. ومكان حميدتي ليس قاعة مؤتمرات في احدى العواصم؛ بل قاعة محكمة سودانية، ولا نقول محكمة الجنايات الدولية، فهي ليس إلا دمية لا تهش ولا تنش ولا تعمل إلا وفق رؤى القوى الغربية، ونرى أن القضاء في بلادنا ليس بعاجز عن محاكمة أي مجرم.
في هذا الإطار علينا أن نذكر قحت والتي غيرت اسمهما لتقدم؛ وهي تستقبل حميدتي المزعوم بالتصفيق والابتسامات، أن قواته وفقا لعشرات المقاطع المصورة وبشهادة المنظمات الدولية؛ وباعتراف الولايات المتحدة الامريكية؛ قد ارتكبت جرائم حرب في دارفور؛ وجرائم تطهير عرقي؛ ومن ضحايا ذلك التطهير العرقي قبيلة المساليت في الجنينة، وانتهكت واغتصبت وسرقت وقتلت في الخرطوم والجزيرة ونيالا وغيرها من المدن والقرى وكل ذلك موثق ومثبت. فإن جلسوا فإنما يجلسون مع مجرم حرب.
ندلف الى البيان
بدأت ديباجة البيان بمقدمة خاطئة والمقدمة الخاطئة توصل قطعاً لنتائج خاطئة، فقد اعتبر البيان ان حرب الخامس عشر من ابريل كما سماها (هي آخر حلقة من سلسلة المحاولات الفاشلة لقطع الطريق على مسار ثورة ديسمبر المجيدة، وتتويج للفشل المستمر في بلورة اجماع كاف حول مشروع نهضوي ينقل السودانيين من التمزق السياسي والاجتماعي الى الوحدة..الخ).
بهذه الديباجة اختزل البيان الحرب واسبابها في انها محاولة لقطع الطريق على الثورة، هذه الثورة التي اصبحت لدى (قحت/تقدم) مثل عجل السامري، لا يبرحون عليها عاكفين، مع انها كغيرها من الثورات في العالم عرضة للنقد والتقييم والتقويم، ولا تحمل في طياتها أي قدسية خاصة بها تحولها الى صنم يعبد، ولا لها مؤهلات تجعلها القاعدة في تفسير الاحداث، لأنها هي نفسها كحدث لا تزال تحت التفسير.
التقوقع حول ثورة ديسمبر يمثل تكراراً لأخطاء اليسار أو ما يسمى بالقوى التقدمية في تناولها لهذه الهبات الشعبية؛ والنظر اليها باعتبارها من خوارق العادات؛ وانها تعبير اصيل عن (المد الثوري)، فقد قامت هذه القوى بتحويل ثورة اكتوبر 1964م إلى إله، لكنها فوجئت أن التأليه والتقديس لتلك الثورة لم يشفع لها حين قامت القوى (الرجعية) بحل الحزب الشيوعي في نوفمبر عام 1965 وطرد نوابه من البرلمان، وحدث هذا بعد مرور سنة وشهر على قيام الثورة الإله، وضاع صدى اغنية (يا ثوار اكتوبر يا صناع المجد) وتاه في اروقة المحاكم، ثم خفت صوت القانون حينما قال الصادق المهدي حينها أن حكم المحكمة الدستورية القاضي ببطلان الحل والطرد للحزب الشيوعي (غير ملزم). وانتقم اليسار على الطرد والاقصاء بقيامه بانقلاب مايو عام 1969.
في انتفاضة ابريل عام 1985م تكرر مرة أخرى خطأ تأليه الثورات وتقديسها، فلم تمر الا فترة زمنية بسيطة على ترديد الجماهير لأغنية (بلا وانجلى) حتى قال الشريف زين العابدين الهندي أن الحكومة (المنتخبة ديمقراطيا) لو اختطفها كلب فلن يجد من يقول له (جر). وسقط ميثاق الدفاع عن الديمقراطية الذي تعاهدت عليه القوى السياسية بمحاربة أي انقلاب عسكري؛ في اول امتحان له عند قيام الانقلاب العسكري في يونيو 1989م. ومن هذا نرى ان تأليه الهبات والثورات الشعبية الذي تعود اليسار الرقص على انغامها غالباً ما تعقبه كارثة تطيح بكل مكتسباته.
نعود للشق الثاني من عبارة (قحت/تقدم) حول حرب الخامس عشر من ابريل ونظرتها لها بأنها (تتويج للفشل المستمر في بلورة اجماع كاف حول مشروع نهضوي..الخ)، ونحاول رؤية من هو الذي يعرقل هذا الاجماع ونقرأ البند الثالث في فقرة الاتفاق التي تقول:
3- (وفقا لما تقدم اعلاه فقد اتفق الطرفان على ما يلي:
(القيادة المدنية للعملية السياسية مع الالتزام بمشاركة واسعة لا تستثني إلا المؤتمر الوطني/الحركة الاسلامية وواجهاتهما).
هنا سيكون السؤال الموجه لقحت/تقدم هو: كيف ينعقد اجماع كاف ومشاركة واسعة وانتم اول من يستخدم اللغة الاقصائية؟ كيف تنعون (الفشل المستمر في بلورة اجماع) وانتم اول من يساهم في صنع هذا الفشل ويمنع بلورة الاجماع باستخدام لتلك العبارات (الاستثنائية)؟
ما الفرق بين هذا الموقف الاقصائي الآن لقحت/تقدم التقدمية ضد القوي (الرجعية) المعارضة لها؛ وبين الموقف الاقصائي لهذه القوى الرجعية حين قامت بطرد نواب الحزب الشيوعي من البرلمان عام 1965؟ إلا يعني هذا انه وبعد مرور اكثر من نصف قرن انهم لم يتعلموا شيئاً وأنهم يكررون الاخطاء نفسها التي كان اليسار في مجمله ضحية لها؟
ألم تكن اهم نتائج هذا الدرس ان القوى التي يجري تهميشها سواء كانت يسار أو يمين لن تستكين ولن تقبل بالتهميش وستعود للعمل في الساحة السياسية باي وسيلة كانت؟
هل مات الحزب الشيوعي بحله وطرد نوابه عام 1965م؟ هل مات وقد اعدم النميري اهم قياداته عام 1971م؟ هل مات حين تهاوت اهم اعمدته بانهيار الاتحاد السوفيتي عام 1989م؟ إذا كانت الاجابة بكلا في حق حزب يساري يعتبر بالمقاييس العددية صغيراً؛ فكيف سيكون الحال مع تيار يميني عريض هو التيار الاسلامي، له قواعد وكوادر تفوق بأضعاف مضاعفة قواعد الحزب الشيوعي وكوادره؟، هل يظن عاقل ان بامكانه مسح هذا التيار من الخريطة؟ ثم تأتي قحت/تقدم وتحدثنا عن الاجماع.
ويلحق بذلك ما ورد في البند (2) تحت قضايا انهاء الحرب وتأسيس الدولة السودانية:
(المواطنة المتساوية هي اساس الحقوق والواجبات الدستورية؛ وان تقوم وحدة السودان على الاعتراف والاحترام للتنوع والتعدد السوداني)، كيف تتحدث عن المواطنة المتساوية وانت تحرم بعض المواطنين من حقهم الدستوري في اعتناق الافكار التي يرونها انها مناسبة لهم وتحرمهم من تكوين تجمع خاص بهم يحمل تلك الافكار، وتمنح البعض الآخر الحق نفسه؟ ام هل تعتقد قحت/تقدم ان المواطنة المتساوية هي بند خاصة بالمساواة بين الاعراق فقط؟
الدولة المدنية التي تنادي بها قحت/تقدم تبيح حرية المعتقدات وتكوين الاحزاب السياسية لأي مجموعة كانت، وتجرم من يجرم في حق الشعب وتحاسبه بصفته الفردية أيا كان حزبه، أما من لم يثبت عليه شيء من ذلك فما ل(قحت/تقدم) عليه من سبيل.
جاء في البند الثالث من الفقرة نفسها:
(ان يكون الحكم في السودان فدراليا ومدنيا وديمقراطيا يختار فيه الشعب من يحكمه عبر انتخابات حرة ونزيهة وفي ظروف سياسية وأمنية ودستورية ملائمة).
هذا البند في حد ذاته بنداً ديكتاتورياً بامتياز، فبأي صفة تقرر (قحت/تقدم) نوع وشكل الحكم في السودان؟ هذا البند لا يعبر إلا عن عقلية استعلائية استبدادية تقول لا اريكم إلا ما ارى، فقد تجاهل البند تماماً أن الشعب هو وحده الذي يقرر وبعد قيام الانتخابات الحرة النزيهة شكل الحكم الذي سيخضع له، فدراليا كان أو كونفدراليا او ولايات متحدة او اقاليم منفصلة، او عسكرياً أو ديكتاتورياً او أي شكل آخر من الاشكال، حتى لو قرر الشعب قبوله بحكم ابليس شخصياً...الشعب هو من يقرر ذلك لا قحت ولا تقدم ولا غيرها من التنظيمات السياسية. اما استباق ارادة الشعب والتقرير نيابة عنه بما سيكون عليه شكل حكمه مستقبلاً فهذا تسلط غير مبرر، ووصاية يقوم بها راشد على جاهل قاصر، وتنظر للشعب السوداني وكأنه مراهقً في طور النضج السياسي.
وردت في الاتفاق بعض العبارات ذات محتوى مضلل نتناول اربع منها:
الاولى عن اجراء الانتخابات (في ظروف سياسية وأمنية ودستورية ملائمة) ونسأل من هو الذي يقرر ملائمة هذه الظروف من عدمها؟
وبما ان الطرفان الموقعان وفي ظل (يستثنى) فلان و(ممنوع) علان؛ سيكونان القوتان الوحيدتان اللتان تفترضان نظرياً انهما المؤهلتان لإدارة المشهد بعد الحرب، فعلينا ان نتفهم حكمة ادراج (الظروف الملائمة)، وبالطبع لن تكون هذه الظروف ملائمة ابداً في يوم من الأيام، لسبب بسيط، فطالما ان الطرفين الموقعين يتوقعان الامساك بزمام الامور وإدارة شؤون البلاد والعباد سنين عددا، فلماذا يقومان بإجراء انتخابات قد تأتي بهما الى السلطة أو قد لا تأتي والسلطة في يدهما أصلاً؟
العبارة المضللة الثانية وردت في قضايا وقف العدائيات وايصال المساعدات الانسانية وحماية المدنيين:
تقول العبارة: (تبدي قوات الدع السريع استعدادها التام لوقف عدائيات فوري غير مشروط) ولكن قبل ان تكتمل الفرحة بهذه المبادرة سنقرأ وفي السطر نفسه (عبر تفاوض مباشر مع القوات المسلحة)، أي ان هناك شرطاً هو (التفاوض المباشر مع القوات المسلحة).
عبارة وقف العدائيات الفوري غير المشروط يجب أن تعني أن حميدتي سيعلن ومن اديس ابابا وقفاً لإطلاق النار من جانب واحد، ويشهد العالم كله على ذلك، ومن ثم يضع قيادة الجيش امام الامر الواقع. وهنا نقول ان الرجل قد حقق وعده بالوقف التام للعدائيات غير المشروط وغير المصحوب باي شرط كان، لكن من وضع هذا البند وضعه من باب المراوغة، إذ سرعان ما الحق به الاشتراط في عبارة (التفاوض المباشر مع القوات المسلحة).
العبارة المضللة الثالثة جاءت في الاتفاق حول وقف العدائيات وتحت اولاً وفي البند (8) تشكيل لجنة وطنية مستقلة ذات مصداقية لرصد كافة الانتهاكات في جميع انحاء السودان..
وفي البند (9) تشكيل لجنة ذات مصداقية لكشف الحقائق حول من اشعل الحرب.
ونلاحظ ان البند (8) حدد صفة اللجنة بانها وطنية مستقلة، بينما اغفل البند (9) هويتها الوطنية المستقلة، مما يثير التساؤل حول طبيعة هذه اللجنة التي ستحقق في قيام الحرب، وهذا يفتح الباب للتكهن بانها ستضم اجانب من منظمات واجسام (دولية) مهمتها ستكون اخراج الدعم السريع من التهمة كما تخرج الشعرة من العجين.
النقطة الأخرى في هاتين البندين تتساءل: ما الداعي لإضافة عبارة (ذات مصداقية)؟ ومن الذي سيمنح هذه اللجان صفة المصداقية؟ يفهم من هذا أن قحت/تقدم هي من يقوم بتشكيل هذه اللجان أو على الأقل الإشراف على تشكيلها، وبالتالي تكتسب صفة المصداقية.
ولكن إن تدخلت أي جهة اخرى وقامت بتقديم باقتراحاتها حول تشكيل اللجنة فهذا سينزع من هذه اللجنة مصداقيتها. عبارة (تشكيل لجنة) كانت كافية للغاية للوصول للمعنى المقصود، إلا أن اقحام (ذات مصداقية) يعني ان قحت/تقدم تحتفظ لنفسها بحق الفيتو، وانها تضمر شيئاً.
العبارة الرابعة المضللة هي عبارة وفقا (لمعايير التعداد السكاني) وتكررت في الحديث عن (جيش واحد مهني وقومي)، وفي (إعادة بناء مؤسسات الدولة المدنية)، ولا ندري بالمقصود من (معايير التعداد السكاني)، لأن التعداد السكاني إن كان مقصوداً به العملية الاحصائية لعد سكان السودان، فهذه العملية لا تتحدث عن قبائل ولا مجموعات عرقية، بل تقوم بتعداد السكان باعتبار انهم جميعاً سودانيين، ولا يوجد في استمارة التعداد ما يشير الى العرق او العنصر، ولو وجدت اشارة مثل هذه فيجب ازالتها دون تردد؛ لأنها تكريس للقبلية والعنصرية وتتنافي مع مطلب الدولة المدنية.
اما ان كان المقصود هو (التمثيل النسبي) للمجموعات السكانية في القوات المسلحة وفي اجهزة الدولة، وفي فرص التعليم، فهذا سيؤدي الى نوع من المحاصصة على حساب الكفاءة والجدارة والاحقية، وتكون قحت/تقدم هزمت بالتالي المبدأ الذي طالبت به في البند 2 وهو
أن (المواطنة المتساوية هي اساس الحقوق والواجبات الدستورية) إذ لا يمكن الجمع بين المحاصصة والمواطنة المتساوية، لا يمكن تزع فرصة اكتسبها مواطن سوداني بجدارته وكفاءته لتعطيها مواطن سوداني آخر أقل منه في الكفاءة والجدارة بسبب ان الثاني ينتمي لإقليم معين أو لعرق معين أو لدين معين أو طائفة معينة.
وإذا تمسكت قحت/تقدم بما اسمته ( وفقاً لمعايير التعداد السكاني) خصوصاً في القوات المسلحة، فهنا نفهم أنها لن تمانع في وجود فريق خلاء ولواء خلاء، ولكن عليها في الوقت نفسه ألا تحدثنا عن جيش قومي مهني موحد ،خصوصا عبارة (مهني)، فهذه الكلمة وكلمة (خلاء) لا يجتمعان، فالمهنية تقتضي أن كل من يحمل رتبة جاءته بدون السير في الطريق العسكري بنظامه المعهود - وفي مقدمتهم حميدتي - ان يسلم البدلة العسكرية بنجومها ومقصاتها لأفرب وحدة عسكرية.
البيان به العديد من الثغرات ولكن نكتفى بذلك. وهو في نهاية المطاف لن يضيف جديدا ولن يغير من واقع الامور شيئا، فالمعركة الآن اصبحت معركة حسم عسكري ومقاومة شعبية، لأن الجرائم التي قامت بها مليشيات الدعم السريع احدثت خروقا واسعة جدا وتعدت مرحلة الترقيع والتجميل والتصفيق والابتسامات المتبادلة، واجتماعات الفنادق.

nakhla@hotmail.com
////////////////////

 

آراء