حكايات من دفاتر القاهرة، والخرطوم، وبورتسودان 1-3

 


 

 



ساوباولو اسمها فيرناندا
www.dabaiwa.com
تعلمت هذا ذات نهار ذات سبت ربيعي كسول وبديع. كنت قد ترجلت للتو من البص رقم 412 الذي يقلني في نفس الموعد كل أسبوع من (ألتيمو) في وسط مدينة سيدني إلى ضاحية (بيترشام) حيث أقمت في المنطقة المعروفة باسم المربع البرازيلي. في ألتيمو كنت أتعلم اللغة الفرنسية (فشلت لاحقاً) ثم كنت أترجل لتناول قهوتي في مقهى برودواى القريب مع جماعة من الصحاب.  المسافة القصيرة بين سكني ووجهتي الأسبوعية كانت تغريني بتجنب قيادة السيارة من أجل اقتناص أكبر قدر من بهجة الأمكنة. البرازيليون والبرتغاليون هنا بموسيقاهم الصاخبة ومطاعم الدجاج وصالات الرقص، ثم بعد أقل من ألفي متر (لايكهارت) بطابعها (الطلياني) ومطاعم البيتزا، والمكتبات الكبيرة، وصالونات الحلاقة البسيطة، وحوانيت اليانصيب. في الطريق سكان أصليون (أبوريجينيين) وجامعة سيدني، وجامعة سيدني للتكنولوجيا، وخلق من بقاع الأرض كلها حتى أن مقهانا في برودواى كان يدير في بعض الأحيان أسطوانات للفنان النوبي محمد منير!
البص مشجع للتأمل والكسل الذهني، على عكس القطارات السريعة حيث يبدو مستخدموها أكثر عجلة وفظاظة. ركاب البصات أكثر وداعة ونساءهن أنضر وأبهى وأجمل!
ذات سبت سابق لسبت (فيرناندا) هذا رأيت فتاة نضرة وقد كتبت على صدر بلوزتها عبارة "فقط لو كنت رجلاً.. ياه" : Only if I was a man! Geee!
حسناً، ترجلت من البص فرحاً، كما ينبغي، ومسرعاً لكن فيرناندا وقفت لي في منتصف الطريق وسألتني إن كنت أعرف موقع مكتب البريد؟
أشرت لها وهممت بمواصلة السير لكنها سألت: وهل يعملون في أيام السبت، فاليوم -كما تعلم- هو يوم  عطلة نهاية الأسبوع؟
قلت لها: لست متأكداً تماماً فانا لا احتاج للبريد كثيراً.
قالت: " ولكني رأيتهم يعملون في عطلة نهاية الأسبوع قبل حوالي شهر تقريباً" !
إذن فهي تعرف عن مكتب البريد ودوامه ما يفوق معرفتي فلماذا اختارتني أنا للحديث؟ هل للأمر علاقة بلون بشرتي أم إن الأمر كله مردود إلى قميصي البديع الذي أعجب به السائق الهندي في مصلحتنا و(زير النساء) العجوز مثلما أعجبت به الموظفة الرفيعة في المنظمة الدولية حين التقينا في حفل نهاية العام؟ 
مدت لي يدها وقالت: اسمي فيرناندا.
محمد... و.. وأحمل الإقامة الدائمة هنا (أبلغني شاعر عراقي إن هذه الطريقة –بالرغم من بلاهتها- إلا أنها فعالة جداً في كهربة الأجنبيات الجميلات بشكل يغني تماماً عن تسبيل العيون!).
تحدثنا لبعض الوقت حيث توقفنا، وكنت أتأمل في نظارتها الطبية الأنيقة وصفتان أخريتان سأحتفظ بهما في موضع السر الآن، من صفات فتاة الأحلام.
أخيراً قررت انهاء الأمر ووعدتها بالزيارة في دار الأوبرا حيث تعمل بدوام متقطع، بينما تدرس ضمن برامج التبادل الأكاديمي. لم أزرها –بالطبع- ولم نلتق بعدها، لكن لابد أن حياتي كانت ستتخذ مساراً مختلفاً إذا حدث ذلك . بقي من الأمر أنني بقيت أتحسس طعماً حامضاً في الحلق كلما جاء أحدهم على ذكر مدينة ساوباولو وأقول في سري (ساوباولو هي فيرناندا).
***
افريقيا اسمها مانديلا:
حين نحِنُّ الى المدن فإننا لا نحِنُّ إلى المدن الأشياء، ولكننا في الغالب نحن إلى المدن البشر. ذاكرتنا تؤنسن الأمكنة فحين نقول أننا نشتاق إلى الجامعة فإننا لا نشتاق إلا لبعض من عاشوا فيها، وقاسمناهم أو لم نقاسمهم –حتى- نصيباً من المشتركات. على هذا الأساس كان البعض يتحدث لي عن نيلسون مانديلا حين يعرفون أنني من افريقيا، وعلى هذا النحو فإن أركويت في ذهني هي عثمان دقنة، وبوليفيا هي تشي جيفارا، وكولمبيا هي غارثيا ماركيز، وكارمارثن هي الحسن مصطفى، والقاهرة هي هاني رسلان والخرطوم هي ضياء بلال وبورتسودان هي إيلا!
تلك قصص سنحكيها في حينها ونعود اليها دون ان نمل.
***
منذ الإطلالة الأولى والإستقبال المختلف هذه المرة في مطار القاهرة، شعرت بان هذه الرحلة الى مدينة الألف مئذنة ليست كسابقاتها. ضابطة الشرطة التي اعتنت مع احد الموظفين بفك الاشتباك المعتاد بيني وبين محمد عثمان ابراهيم الاخر، والذي يفضي بجواز سفري  الى الفحص الامني في كل مرة أزور فيها المدينة، أبلغتني بلطف انه لا يمكنني فعل شيء لفك الارتباط بيني وبين سميي الاخر لكنني لم اكن لأبالي مع وجود العصائر المثلجة والرفقة الطيبة.
كنت كعادتي متعجلاً للدخول. أتمنى بسرعة أن تذوب المسافات فأجمع بين يدي مقاهي مدينة نصر، ووسط البلد وميدان التحرير، ومكتبات شارع شريف وميدان طلعت حرب، ومسارح المدينة  ولكنني لم أكن لأملك إلا الصمت أمام جموح هذه الرغبة من ناحية واستعدادي لعقد صداقة مؤقتة مع سائق السيارة الليموزين التي أقلتنا الى حيث سنقيم مؤقتاً. كان السائق شاباً حسن الهندام حدثني عن كساد الحال في البلاد وعن سأمه من عملية استمرار التظاهرات إلى الأبد. وصف قادة التظاهرات بأنهم "شوية عيال صيّع مالهمش لزمة" " مبارك ظالم والشرطة بصراحة افتروا بس ما كنش في حد ما بيلاقيش ياكل! دلوقتي فيه" "خد عندك أنا مثلاً كنت سواق سياحة ومعايا رخصة مرشدين سياحيين وبتكلم انجلش ( لم أصدقه طبعاً)! كنت باشتغل وباكسب وباوفر وبدفع قمعيتين (جمعيتين أي مشترك في صندوقين). دلوقتي بس خليها على الله". هكذا نحن دائماً في الشرق الماضي أجمل والحاضر والمستقبل هما الأخسرين. في مصر يحنون إلى زمان عبدالناصر والسادات وها قد بدأ للتو الحنين الى زمن مبارك. في السودان هتف الناس لعبود الذي شهد عهده الفاسد سلسلة من الأحداث المأساوية " ضيعناك وضعنا معاك"، ثم هتفوا لنميري، الدكتاتور الأكثر نزقاً منذ الإستقلال، " عائد .. عائد يا نميري" لكنني لم أسمع حتى الآن هتافاً جماهيرياً ينادي بعودة الإمام الصادق المهدي الى القصر، ترى لماذا أغفلت الجماهير الحنين إلى هذا الجزء من الماضي؟
***
عمر طاهر، الشاعر والكاتب الساخر والمؤيد للثورة، لم يحتمل نزق تظاهرات الجمعة التي تحمل كل مرة اسماً مختلفاً فكتب مرة مع بدايات شهر رمضان الماضي أن  ثوار ميدان التحرير أعلنوا أن الجمعة القادمة هي جمعة (العيد أولاً) وأنهم سيطالبون فيها بالإحتفال بعيد الفطر المبارك قبل صوم رمضان. وكتب مرة:
الثوار يطالبون بأن تكون الرؤية فى التحرير حتى يحصل الشهر الكريم على الشرعية من الميدان.
من يرغب في المزيد من عمر طاهر فعليه بالبحث عنه في الإنترنت وهو أحد هبات مصر العظيمة!
كتابته ترد الروح وتطهر القلب.
***
اشتريت عدداً كبيراً من الصحف حاولت قراءتها ولكني مللتها وهالني ما رأيت فيها من تشابه وكساد في الخيال. من اليوم التالي عدت للأهرام والأخبار والجمهورية بحثاً عن مادة رصينة وصحافة مسئولة لا تدعي كشف أسرار العهد الماضي ولا تحاول ابلاغنا بكيف كان مبارك يلمع أحذيته، وكيف كان حبيب العادلي يختار زوجاته!
الأهرام والجمهورية تكابدان للحفاظ على بعض طابعهما القديم لكن المقود أفلت من الأخبار مع غياب صفوت الشريف الذي ظل يكتب بمفرده  الصحف القومية كلها لما يزيد عن الثلاثين عاماً. أشعلت التلفاز فكدت أطير من كثرة القنوات المملة من المحيط إلى الخليج! قنوات تسوِق لحبة البركة، وأخريات يبعن المكانس الكهربائية، وقنوات أخرى توفر سبورة عمومية لتبادل الرسائل الغرامية بين مواطني اثنتين وعشرين دولة ذات سيادة ومواطناتها.
***
قاهرة ما بعد 25 يناير مختلفة، ومختلفة جداً: في الأسواق تباع الهراوات الكهربائية، التي كانت سلاحاً حصرياً بأيدي الشرطة وقوات مكافحة الشغب، في الطريق العام. حسناً من الذي سمح بدخول هذه الأسلحة بكميات تجارية على هذا النحو؟
في المصعد التقيت رجلاً أنيق الهندام تجاوز الخمسين بقليل وهو يأتزر بحزام أنيق مستورد فيه مسدس حقيقي دون أن يبذل أدنى قدر من الجهد ليخفيه.
في المقهى الذي اعتدت الجلوس فيه في الأمسيات جاء وزير الإعلام  اسامة هيكل دون مرافقين ودون سيارت انذار ودون أن يغلق أحد  الشوارع. لم أشغل نفسي بمتابعته ومعرفة ما إذا كان يدخن الشيشة بالتفاح أم بالمعسل العادي التزاماً بوقوف الثورة في صف الجماهير!
***
مصر تغيرت وصديقي هاني رسلان، الباحث المعروف ورئيس برنامج السودان وحوض النيل بمركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية يفتح لي خزانة أسراره، وغرفة التحليلات في عقله الثاقب النبي.. وكرمه الفياض .
المرة الأولى التي تعرفت فيها على  صديق السودان، الذي منح صفة الخبير المتخصص في الشئون السودانية معنى جديداً، كانت قبل ما يزيد عن السبعة أعوام حين كنت أعمل صحفياً ومذيعاً بمحطة إس بي إس الحكومية الأسترالية (سعدت بهذه المناسبة إذ علمت أن الأديبة الراقية ميسون النجومي قد انضمت لنفس المحطة مؤخراً كثاني سودانية تنضم إلى الهيئة الضخمة التي تبث برامجها بثمانية وستين لغة عبر الراديو والتلفزيون). كنت ذلك المساء أعد برنامجاً إخبارياً بينما كانت النشرة ستبث من استديو مدينة ملبورن. هاتفتني زميلتي من ملبورن سائلة عما إذا كنت أعرف شيئاً عن باحث سوداني اسمه هاني رسلان وقالت لي إن تلفزيون وكالة الأنباء التي نتعامل معها نقل طرفاً من حديث له مع تلفزيون دبي. قلت لها لا أعرف عائلة باسم رسلان في السودان وأرجح أن يكون مصرياً لكنها أفحمتني بأن ملامحه سودانية (رغم بياضه المائل للسمرة) ولكنته سودانية وما أدركته إن  الصعيدي هزم القاهرة واحتفظ ببعض النبرات من لكنة أهله القناويين. بعدها اهتممت بكتابات رسلان ثم التقيته في الخرطوم في محفل حكومي دفعت حكومة الإنقاذ كلفته من حر مالنا وكانت على حق. منذ لقاء الخرطوم والصور التذكارية المرحة التي التقطناها سوياً عرفت للفور أن الرجل سيكون صديقي، وعزّز من هذا أن صديقي الآخر الأستاذ مصطفى عبدالعزيز البطل، كان على صلة صداقة عامرة بأبي رسلان. هكذا ظللنا نتبادل الآراء والكتابات والإختلافات دون أن يسقط أي منا في بحر المجاملة فرسائلنا ليست للنشر.
قلت أن هاني رسلان منح صفة الخبير والباحث في الشئون السودانية معنى جديداً لأنه الأكثر حضوراً من بين المهتمين المصريين سواء في الإعلام السوداني أو العربي عندما يقارب أمراً خاصاً بنا. حصد رسلان خلال السنوات الماضية صداقات كبيرة عامرة وخصومات متحركة كثيرة في قلب الكثير من القوى السياسية. هكذا يتلقى ذهن قوانا السياسية كلها آراء المصريين:
إذا قال المصري ما يروق لتلك القوى رفعته لعنان السماء، وإذا قال ما يخالفها وصفته بأنه خديوي مصري استعماري واستخباري جديد أو غير ذلك.
لحظت أن كثيراً من الصفات والنعوت قد أطلقها سودانيون على رسلان وفقاً لمقتضى الحال، لكنني لم أرصد قلماً واحداً يصفه فيها بعدم المعرفة. الجميع يقفون على مسافة من الرجل الذي يعرف قبائلهم وأيهم الشايقي والجعلي والهدندوي وأيهم من عرب دارفور أو زرقتها.
سياسي معارض وصفه لي بأنه موالٍِ لحزب المؤتمر الوطني، ودبلوماسي حكومي لم يخف قناعته بأن الرجل معادٍ لحكومة الخرطوم!
أختلف مع الرجل وألتقي معه في أحايين كثيرة لكنني أفخر بصداقته ومعرفته دائماً.
***
في القاهرة سعدت بأشياء كثيرة لا تحصى، لكنني على سبيل الحصر سعدت بلقاء الخبير المميز الآخر في حقل آخر وهو حقل الجماعات الإسلامية الأستاذ  ضياء رشوان. سألته عن لماذا لم يرشح نفسه هذه المرة لزعامة نقابة الصحفيين لكنه قال مبتسماً: لا المرة دي لأأ، وهناك زميل عزيز مرشح للمنصب. سعدت بصحبة الزميل والصديق عمار فتح الرحمن، الصحفي الموهوب، وبهاء عيسى، الرجل الودود والمراسل الصحفي  المكابد للزميلة التيار، والروائي حمور زيادة الذي استطيع ان أقول إنني نجحت في نقل صداقتنا من مرحلة الصداقة الإسفيرية إلى الصداقة الكاملة.
***
سعدت على نحو خاص بلقاء مرتب مع الأستاذ المحبوب عبدالسلام، المثقف الرفيع والناشط الإسلامي البارز. تحاورنا وضحكنا واختلفنا حول اشياء كثيرة –بطبيعة الحال- لكني خرجت من ذلك اللقاء وبي يقين بأن هذا الرجل المحترم كثير جداً على  حزب المؤتمر الشعبي. كان الوحيد من منسوبي هذا الحزب الذي التقيته ووجدته مترفعاً عن الأمس وزاهداً في الغد ومتحدثاً دون غبن شخصي! حين يحدثك منسوبو الشعبي فإنهم لا يستطيعون الفكاك من دائرة أين كانوا في التنظيم الموحد –قبل المفاصلة- وأين كان فلان وعلان؟ يحدثونك عن ان فلاناً، ممن اختاروا جانب السلطان، قد ابتنى لنفسه قصراً، واتخذ بضع زوجات بينما كان ريفياً فقيراً قدم لجامعة الخرطوم أول مرة بحقيبة حديد عليها رسوم بالبوهية وثلاث نتوءات من ابداعات سماكرة السودان في القرن الماضي!
يعتقد المؤتمر الشعبي أن الهيكل التراتبي للحركة السرية ينبغي أن يبقى كما هو عليه وإن من قرأ سيد قطب أولاً ينبغي أن يكون هو القائد دائماً، لكن المحبوب مختلف وله من اسمه الشيء الكثير.
***
دفتر القاهرة مليء لكنني لن أبارح صفحتي هذه قبل أن أرشح لمن يرغبون في الحصول على كنز من القاهرة أن يستمتعوا بقراءة (قمر على سمرقند) لمحمد المنسي قنديل. سأكتب عن الرواية لاحقاً حين أتأكد أن صديقنا عادل الباز في الخرطوم ومحمد محمد خير في الدوحة قد قرآها.
نلتقي الحلقة القادمة من محطة الخرطوم وفيها سنكتب –ضمن ما نكتب- عن طفل سأل أباه: هل تنجب نساء الليل يا أبي؟ فقال الأب: ومن أين إذاً أتى لصوص الكمبيوترات وأجهزة المحمول؟


 

آراء