حكاية الشاعر إبراهيم ود الفراش … بقلم أسعد الطيب العباسي

 


 

 

 asaadaltayib@gmail.com

قال (إبراهيم) لإبنه الفتى (محمد): يجب عليك يا بني  وعلى وجه السرعة أن  تتوجه إلى السودان وتحديداً إلى مدينة يقال لها (بربر). فنظر محمد إلى وجه أمه وكأنه يستنطقها السبب .. فوضع (إبراهيم) يده على كتف إبنه  وقال له: يا بني نحن هنا معشر المصريين الذين يعيشون في مديرية (الشرقية) وخاصة في مدينتنا (بلبيس) هذه نعد هدفاً مثالياً للتجنيد الإجباري أكثر من غيرنا للشجاعة والقوة التي يعتقدونها فينا، وأخشى عليك من هذا التجنيد ومخاطره على حياتك ونحن لا نحتمل هذا ولا نغامر به أبداً، فأنت إبننا الوحيد وهم لا يراعون ذلك. إن أمك تقضي ليلها ساهرة مع دموعها وهي تترقب بخوف وقلق تلك اللحظة التي ستقاد فيها إلى التجنيد الإجباري.

صمت الفتى (محمد) صمتاً لا يتواءم مع المشاعر والأحاسيسس التي دهمته في تلك اللحظات، فنظر ثانية إلى وجه أمه، فأدركها مطرقة تهتز شفتاها دون حديث، فسار بهدوء نحو غرفته بينما وضعت والدته يدها على كف زوجها وضغطت عليها بقوة ورنت إلى  وجهه بعينين دامعتين وهي تقول له: إن فراق إبننا لامحالة واقع إن جند وإن توجه إلى السودان مما يجعل الفؤاد حزيناً . فقال لها مواسياً: سيكون ابننا بخير في السوان، فأهل السودان أناس طيبون وكرماء، كما أنني سأزوده برسالة من العالم المالكي المعروف (الشيخ عليش) ليحملها إلى صاحب المعالي (محمد بك حلمي إبراهيم) مدير مديرية (بربر) ليساعده ويكرمه فمعالي المدير يحترم ويوقر الشيخ عليش.

في غرفته كان الفتى (محمد) ينظر إلى السقف فبدا له مظلماً وكئيباً كخطوته التي سيخطوها بعد قليل إلى مجاهل لا يدري عنها شيئاً، ويترك بعدها والديه ودراسته التي نبغ فيها في الأزهر الشريف وهوىً ثار في أضلاعه، ولكن لابد من السفر، فحمل على كتفه متاعه القليل وهو يعلم أن والدته الحنون ستذرف دموعاً حرى وهي تودعه، هي لحظات قاسية يكرهها، وعند باب الغرفة إلتقاه والده ووضع له الرسالة في جيب معطفه وشد على ساعده، وبعد قليل وجد الفتى نفسه في أحضان والدته وهي تبكي بكاءً مرا، فتخلص من أحضانها برفق ليطلب درب السفر الطويل لمستقبل مجهول.

ألقى الفتى (محمد) عصا ترحاله وهو يدخل إلى مدينة (بربر) بعد عناء السفر ومشقته، كان الفصل شتاء والشهر ديسمبر من العام 1842والزمهرير ينفث برده بقوة من جبل (النخرة) الممتد شرق وغرب المدينة فيلفح وجه الفتى ويعبث بمعطفه، ولكنه كان حريصاً على الرسالة التي تقبع داخل جيب من جيوب معطفه.نظر الفتى حواليه فبدت له المدينة التي أحاط بها خندق من جميع الجهات كسوق يمور بالقوافل، والمتاجر، ووجوه تتباين سحناتها، أرمن، وهنود، ومصريين، ويونانيين، وشركس، وفرقاً من الجيش تغدو وتروح. في أرفف

المتاجر كان يرى الأقمشة، والخردوات، والعطور، والخمور. وعندما حانت منه التفاتة أخرى رأى بعض الفتيات السود وهن شبه عاريات يعرضن للبيع في سوق النخاسة، فأشاح بوجهه بإمتعاض وسارع ليسأل أقرب الناس إليه ليدله على دار  (محمد بك حلمي إبراهيم) مدير المديرية.

طرق الفتى دار مدير المديرية بيد واجفة فانفغر الباب عن وجه حارس أسود سأله بغلظة: ماذا تريد يا فتى؟ فقال: أتيت لتوي من مصر وأحمل رسالة من العالم (الشيخ عليش) لمعالي المدير. نظر إليه الحرس كمن يريد كشف صدقه من كذبه وقال له: إعطني الرسالة وانتظر ريثما أعود إليك. لم ينتظر الفتى طويلاً حتى سمح له بالدخول ومقابلة معالي المدير، فكانت هي المقابلة التي صنعت له مجداً في تلك الديار التي كان يتوجس منها خيفة. قال له معالي المدير: إذن أنت من عائلة (الفراش)؟ نعم سيدي إنه لقب العائلة. فقال له المدير: أكرم بها من عائلة إنها تستحق الإحترام، كما أننا لا نرد ولانبخل بمساعدة من يأتينا من قبل شيخنا العالم الجليل (عليش).

أكرم المدير وفادة الفتى وأوكل له بعض المهام فأجادها ولما رأى فيه ذكاء وهمة وصدقاً وأمانة اتخذه ناظراً على خاصته فأخلص الفتى وأجاد عمله حتى ألقى إليه المدير مقاليد الأمور في كل ما يمتلكه دون أن يفرق بينه وبين أبنائه حتى ظن الناس أن الفتى من عشيرة وأهل معالي المدير.كان لابد للفتى أن يتزوج وقد تكرست الفكرة في رأسه وهو يرى (محمد فضل) ـ الذي كان يعد من أثرياء تجار المدينة الذين هاجروا من مصر إلى بربرـ يزور معالي المدي وأحياناً تصحبه عائلته وابنته (محبوبة) فأسر لمعالي المدير برغبته في الإقتران بـ (محبوبة) فتمت الخطبة فكتب الفتى (محمد) برسالة إلى والديه  أوضح لهما أحواله وسعادته وهو يعيش في كنف معالي المدير.فقد كان هنالك مكتب للبريد والبرق بل كانت بربر في ذلك الزمان تضم مستشفىً ومدرسة

نظامية وشركتان إحداهما لصنع الملابس والثانية تعمل في مجال السكر، وقد جاءت الحكومة بعدد من العمال المصريين المهرة لتدريب المواطنين على شتى المهن في أماكن متفرقة من المدينة.

تزوج (محمد) بـ (محبوبة محمد فضل) وكان زواجاً موفقاً، كان ذلك في العام 1846، بعد عام كانت (محبوبة) تعاني آلام المخاض لتضع مولوداً ذكراً فرح له الجميع واختار له والده إسم (إبراهيم) تيمناً بجده إبراهيم. وهكذا كان مولد شاعرنا القومي إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن أحمد بن موسى الذي لقب بـ (الفراش) وبـ (شاعر بربر). ومن بعد أهدت (محبوبة) لزوجها (محمد) من الأبناء (أحمد) و (فاطمة) و (زينب)، وهكذا كون (محمد) أسرة إحتلت مكانة مرموقة في مدينة (بربر) زاد إحترام الناس لها وهم يرون ربها مثقفاً ثقافة دينية عالية بالإضافة إلى ورعه واستقامته وحجه لبيت الله فضلاً عن ثروته الكبيرة.

هذه هي الأجواء التي نشأ فيها شاعرنا (إبراهيم الفراش)، ولكنه كان دائماً يختط لنفسه في الحياة نهجاً مغايراً، كان ينفذ ماكانت تهجس له به نفسه وليس ما يريده له والده، فعندما ألحقه والده في أول صباه بالخلوة مكث

فيها زمناً ثم تركها، وعندما ألحقه بمدرسة نظامية توطئة لإرساله بعد ذلك للأزهر الشريف فشلت خطته، فقد كان (إبراهيم) يفضل ركوب الإبل والخيل وألعاب الفروسية، وكان يترك المدرسة إلى ساحات التدريب الحربي لجنود الجيش التركي وينظر إليهم بإعجاب وهم يرمون بالنار إلى الهدف ويتدربون على خطط الهجوم والدفاع في معارك تعليمية مدهشة، فأخذ ذلك لبه وشب مولعاً بالجندية شديد الرغبة فيها وهو بعد لم يتعدَ الثالثة عشر من عمره.

إكتملت رجولة شاعرنا (إبراهيم) عندما بلغ الرابعة عشرة من عمره، كان وسيماً جداً، فارع الطول، أبيض البشرة، عظيم الهيكل، تعجب به الفتيات الآئي كن يتزاحمن على ثقوب أبوابـهن الموصودة ليلقين عليه نظرة متى ما مر بالطريق بطوله الفارع وخطاه المتئدة التي تضرب الأرض ضربا وعقيرته ترتفع بالغناء. كان ود الفراش يدرك أن خلف الأبواب الموصودة عيوناً ترصده وقلوب تهفو إليه وكان خياله يزيد الصورة حتى تكاد أن تخلرج من إطارها، فقد كان معتزاً بوسامته وشجاعته ومغروراً بشبابه ونضارته وفخوراً بشعره وغنائه، ولكن شغله الشاغل الآن هو الإلتحاق بالجيش التركي، فهي رغبة لم يستطع منها فكاكا،ً رغم معارضة والده، وعندما نجح في الإلتحاق بالجيش حاول والده أن يصده عن ذلك فلم يفلح، فأعاد له ذلك ذكرى قديمة تحمل في طياتها خوف والديه عليه عندما كان مهدداً بالتجنيد الإجباري في مصر.ثم أدركت بعد ذلك نفس إبراهيم آمالها في الجندية والحب.

في حياته القصيرة التي مضت كشهاب لمع في السماء ومضى سريعاً قضى شاعرنا (إبراهيم الفراش) عشرون عاماً في خدمة الجيش التركي جندياً يضع رجله في سلم الترقي درجة درجة حتى صار إلى رتبة (السنجك) ـ ضابط تحت قيادته خمسمائة جندي ـ وهذا ما كان يتمناه وتـهفو له نفسه إذ قال:

يَارَبْ يا كريم تِمْ ليَّ نِيَّه

تَجِيني الرُتْبَه مِن اسكندَرِيَّه

أتِبْ عَجْلانْ على الدَرَجَه القَوِيَّه

يَنَقِّرْ طَبْلي قِدَّام خُمْسُمِيَّه

غير أن شاعرنا لم يهنأ كثيراً بعد وصوله لهذه الرتبة بعد خدمة طويلة وممتازة،  فبسبب الوشايات التي كان بطلها أحد القضاة المشهورين غضبت منه إدارة الجيش وأخذت تنقله لمناطق الشدة البعيدة وكان هذا يشعره بالحنق الشديد ويرسم في ذهنه أفكاراً سوداوية. قال:

يَارَبْ يا كَرِيم تِمْ لَيْ مُرَادِي

أرَوِّحْ في البلدْ واشْنِق لِي قَاضِي

طِرِيتْ الرَخْرخ الحَرَقَتْ فُؤادِي

دَحِينْ مِنْ القُنُبْ وَدَونِي غَادِي

عمل إبراهيم الفراش أول ما عمل في القيادة العسكرية بمدينة بربر التي كانت تأخذ بأسباب التطور، فقد كانت آهلة بالسكان، وطبقات المجتمع فيها على جانب من الرقي، على رأسها كانت طبقة الأثرياء بدورهم وقصورهم ذات الأثاث الجميل والخدم والحشم، في المدينة كانت توجد الحانات والمغنين والراقصات جنباً إلى جنب مع المسجد الحكومي حيث تقام الصلاة وتلقى الدروس الدينية، كانت هنالك طبقة العمال والمزارعين الذين اتخذوا من جزيرة بربر المترامية الأطراف مكاناً لعملهم واكتساب أرزاقهم، وبالطبع كانت هنالك طبقة العبيد والمسحوقين من الفقراء. وقد كان لشعر ود الفراش الموصوف بالبساطة والعفوية والإنسجام وعذوبة الموسيقى، مصدراً مهماً للوضع الذي كانت عليه مدينة بربر آنذاك، فشعره كان مرآة مجلوة تعكس كل ما يدور بين حناياه وما حوله في دقة وصدق، يقول في بعض ذلك:

بَشُوفْ بَرْبَرْ بَشُوفْ جوخَا وحَرِيرَا

بَشُوفْ الميَضَنَه الوَسْطَ الجَزِيرَه

بَشُوفْ رَكْبَ العَبَابْدَه البَيْ خَبِيرَا

تَرَى البُرْدَينْ كَسَحْ فَاتْ القَطَيرَه

بَشُوفْ تَرَبَيزَه فِيهَا تَمَانْيَّه بِيرَه

لقد كان عمل ود الفراش في الجيش يمثل حياته الحقيقية، فقد كان يكثر من التنقل بحكم عمله بين بربر والخرطوم وشندي وكسلا وسواكن وكورسكو على الحدود المصرية على ظهر جمله (الباردقم) وغيره من جماله، إذ كان موكلاً إليه جمع ضرائب القطعان من قبائل البجة وتوزيع المراسيم الحكومية على مشائخها، حتى تعرف على مناطقهم منطقة منطقة وتعلم لهجتهم، وكان يعمل في بعض الأحيان دليلاً للحكام الأتراك في أسفارهم، وتوصيل البريد حتى عرف كأول ساعي بريد في السودان، كما كان ينتدب للقبض على المتمردين على الحكومة وكسر شوكة الهمباتة الذين يسلبون الإبل. أثناء عمله في الجيش إشترك إبراهيم في عدة حروب أبرزها حرب السلطان هارون في دارفور وقد تبين لنا ذلك من خلال شعره في كثير من مواضعه، يقول:

كَمْ شُفْنَا حَرِبْ وشُفْنَا سِمُوماً

وكَمْ شَوكْ الكِتِرْ قَدَدْ هِدُومْنَا

سَوَارِيخْ تَشْتَعِلْ جُلَلاً يِقُومَنْ

نَقِيفْ أوتَادْ يِهِفَّنْ ليْ رَشَوماً

ويقول:

دَارفورْ أُمْ رِمَالْ تِلْيَتْ عَجَاجَه

خَمَّاهَا الزِبَيرْ مَا لْقِينَا حَاجَه

نَرُوحْ للبَاشَا نَصَرِرْ حَرَاجَه

واخيرْ مِنْ القَمَاحْ ودُونا طَاجَه

رغم ولع شاعرنا بالجندية إلا أنه طلب إعفاءه منها بسبب الوشايات التي تسببت في نقله دائماً إلى أماكن الشدة، وقد أجيب إلى طلبه مع مكافأة مالية إستعان بها في ممارسة العمل الحر، لم تكن شدة الجندية ورهق الترحال يقفان عائقاً أمام قلبه الذي يعشق الجمال ويتوله بالنساء، فقد صنعت منه فحولته الطاغية زير نساء، فاتسع قلبه لإيواء كل حسناء، وأحياناً لا يتورع من ذكر أسماءهن، يقول:

قَامْ بَيَّ هَمَّ

مِتِلْ وَدْ الغَزَالْ يَاخُدْلُو خَمَّه

يِقُولْ لَيَّ انْعَدِلْ وجُرْ فَوقِي نَمَّه

المبَيِتْ نَاسْ سَارَه في قَلَعْ المَتَمَّة

ويقول:

مُرْبَيتي بَاجَّه

تَجَابِدْ في الرَسَنْ خَارْتَاهُ دَاجَّه

وَكْتَ الليلْ بَرَدْ والقَمْرَه فَاجَّه

تَخُبْ بَاجَاتْ على نَاسْ آمنَه حَاجَّه

ويقول:

أزْمَنْتَ غَايِبْ

بلا مَالْ إنْ رَجَعْ بِيقُولُو خَايِبْ

بَخَافْ شَمْتَ العِدا ولَومْ القَرَايِبْ

حِليلْ سَعْدِيَّه دَيفَةْ أُماتْ حَقَايِبْ

ومن غزله الرصين ووصفه البليغ قوله:

صَايْدَانِي حَراً

مِن الفُومْ مِنْ الزرْقِي الَمقَرَّنْ

طِرِيتْ الْ بالِمزَاحْ دَمَاعَا فَرَّنْ

تَقُولْ طَافَاتْ عَرْد أورَاكَا صَرَّنْ

يقول الأستاذ محمد علي الفراش محقق ديوان الشاعر وسيرته والتي إعتمدنا عليها كمصدر أساسي ووحيد لهذه المقالات: "ويحدثنا شاعرنا أنه وصل حبه إلى درجة يكاد يخرج فيها المرء عن طاقته، وأنه كلما تذكر المحبوب امتطى بعيره قاصداً ربعه، وأنه كان يشرف على حائط المنزل ليراه ويكاد يتسلق السور ليستقر عنه، ولكنه مع ذلك كان يراجع نفسه ويجلس على الأرض يخط بأصبعه عليها علامة على الندم:

بِقِيتْ في جَلْجَله وشِيتاً يِكَفِّرْ

كُلْمَا طِرِيتْ أَشِدْ واركَبْ وادَفِّرْ

أَتَاوِقْ بالحَيطْ وادُورْ أطَفِّرْ

نَعَلْتَ ابْلِيسْ نَزَلْ في اللرِضْ أَحَفِّرْ

ويقول الأستاذ محمد علي أيضاً: ونراه حيناً يندفع مع تيار الحب والشباب فلا يتورع أن يحوم في حبه حول الحمى:

وَلَّفْ حَكَاوِي

نَارِكْ يا امْ رَشَومْ في الجَوفْ تَكَاوِي

كَانْ عَقْلِي انْسَلَبْ إِيَانِي غَاوِي

بَحْلِفْ باليَمِينْ رِيقِكْ يِدَاوِي

إن قلب المحب ود الفراش لايفرق في اختياراته مابين فقيرة وغنيه، أومابين حرة ورقيقة، أومابين أجنبية أو مواطنة، فقد كان شرطه الجمال، فعندما خلبت لبه فتاة تركية حسناء قال:

عَايِنْ قَعْدَتَا وعاينْ زَمَانَا

تُوغِلْ فِينَا مَا بْتَنْضُمْ مَعَانَا

تُرْكَاوِيَه مَا بْتَعْرِفْ لُغَانَا

مُوَرِدْ لَونَا يَعَجِبْ شِنْتِيَانَا

وقال في حسناء ثرية تسكن القصور:

بَشِدْ وارْكَبْ عَليْ البِتْغَانَى كُورُو

وَدْ فَلاتِي ابُويَ بَغَشَ وبَزُورُو

وَكْتَ الليلْ بَرَدْ عَقْلِي وبَشُورُو

واتِبْ عَجْلانْ عَليْ الفَاخْرِينْ قُصُورُو

غير أن هذا القلب المتسع ضاق ذات ليلة وخرجت منه كل الظباء الحسان وأضحى وقفاً لمحبوبة واحدة هي الفتاة (الدون لحق) التي تعلق بها حد الوله لتبدأ حكاية العناد والعشق المجنون وحكاية الغدر الأليم.

كان شاعرنا ود الفراش بجانب موهبته الشعرية العظيمة ووسامته الفائقة واعتداده بشجاعته وشبابه النضر رجلاً سمح الخصال ذكياً أصمعي الفؤاد حلو الحديث طيب المعشر وفوق ذلك يشارك الناس أفراحهم وأتراحهم وكان مشهوداً له بالكرم والشجاعة والصبر والتحمل، وقد نهضت في سيرته حكاية تدل على صبره وتحمله وشجاعته فقد حكم عليه ذات مرة بالجلد خمسمائة جلدة بواسطة مجلس عسكري ترأسه ضابط يقال له (حسنين أغا) عقاباً له لغيابه عن عمله العسكري لأيام كان قد قضاها مع محبوبته (الدُونْ لِحِقْ) فتحمل الجلد في شجاعة منقطعة النظير ولم يحرك ساكناً وهو يشرف على الهلاك، في وقت كان الأثرياء يرشون ضارب السياط ليخفف الضرب ويزور في عدده، ولكنه لم يفعل وبعد ذلك قال:

يَا حَسَنَينْ أَغَا جَاتَكْ أَذِيَّه

ضَرباً مُو كَتِير بَسْ خُمْسُمِيَّه

بَرْقُدْ وانْسَتِرْ واطْرَى البِنَيَّه

وليْ بَلَدْ أُمْ شِلَيخْ بَاخُدْلِي جَيَّه

كانت هذه الصفات تبهر النساء، وكم من قلب خفق منهن بحب ود الفراش، دون أن يدري .... في ليلة كانت ترسم على صفحة سمائها بقلم القمر ومداد النجوم بداية عشق أسطوري، تحرك ود الفراش نحو منزل كان يحتفل أصحابه بزواج فرد من أفراده في مدينة بربر. كلما دنت أقدام ود الفراش من ذلك المنزل تتضح أكثر في أذنيه الأصوات الطروبة والأنغام الشجية، وهنالك رأى ساحة الحفل، وعندما وقف في جانب منها كانت الفتيات يتهامسن كل منهن تلقي الخبر للأخرى، ولكن ذلك لم يلفت إنتباهه بقدر تلك الفتاة التي نهضت وأخذت ترقص رقصاً يلهب المشاعر، وكانت على جانب عظيم من الجمال، بادنة القوام في تناسق، سمراء تلمع في ضوء القمر، وتتحرك كالحمامة وسط الساحة، وتخفي عينيها الواسعتين بأجفانها وكأنها تستغرق أو تحلم، وعلى خديها جلست الـ (شلوخ) دقيقة تزيدها سحراً وجمالا. بدأت رأس ود الفراش تدور وهو يرى هذا المنظر، فشق الصف ليصير إلى داخل الساحة وهو يهتز طرباً، فانطلقت الزغاريد، فزاد لهيبه، فخلع قميصه وركز في الساحة، فهوى على ظهره سوط العريس، فأصمت أذنيه الزغاريد، والفتاة تدور كالحمامة، وتقترب منه بـ (شبال) فضربت أنفه رائحة عطرها المسكر، فأخرج مديته وأعملها بالتجريح على ساعديه، فسالت دماؤه، والزغاريد لاتنقطع إلا لتتصل. كانت تلك هي طريقة إبداء الإعجاب في ذلك العهد، وربما إلى اليوم. عاد ود الفراش لداره بعد تلك الليلة وساعداه تنـزفان وظهره ينـزف وقلبه ينـزف، وعندما تسللت أشعة الشمس لتنبئ بنور الصباح أدرك شاعرنا أنه قضي باقي ليلته دون نوم، فقد كان يفكر في تلك الفتاة التي نفذ سهم حبها في قلبه من أول نظرة.

لم يكن ود الفراش مستعداً لأن تضيع منه دقيقة واحدة، فأخذ يسأل عن فتاته، فعرف أنـها جارية مملوكة لأحد أسر الجعليين العريقة في الدين والشرف والجاه وأن اسمها (الدون لِحِق)، فسأل عن معنى الإسم لغرابته فعرف أن المعنى الحرفي هو (عز الذليل)، وقد كان من عادة النساء في ذلك الوقت تسمية جواريهن وغلمانـهن بأسماء تشير إلى مدح أزواجهن وذم أعدائهن، فشحذ عزيمته من أجل لقائها فتم له ما أراد، فوجد في لسانها طلاوة، وفي لفظها سحراً وحلاوة، فأتت على ما تبقى له قلب، وأضحت منذ تلك اللحظة ملهمة أشعاره، وتعلقت هي الأخرى بشراك حبه، وبدأ تعارفها يوغل في مدى بعيد، فأغرقها بالهدايا والأموال، وأغرقته بكلام الحب المعسول، والنظرات العاشقة والقاتلة، وتقول له دائماً: أنا لك مادامت باقية على ظهر البسيطة، ومن تلك التي لا تتمناك يا إبراهيم؟ فتدور رأسه وينبض قلبه حتى يكاد أن يخرج من صدره، ومن بعد تغير مجرى حياة هذه الجارية التي لا يعرف لها أب فقط يقال لها بنت نورة بنت قنديل. عندما شعرت (الدون لحق) أن ود الفراش بلغ به العشق حد الوله وأنـها أخذت تقاسمه ثروته بما أخذ يغرقها به من الأموال والذهب والهدايا من ملابس

وعطور، بدأت تشق عصا الطاعة وتتمرد على سيداتـها الآئي بزتن في الزينه والذهب يتلألأ على معصميها، عندها لاحظ والد شاعرنـا أن ابنه يبدد أمواله على هذه الجارية وأنه يغرق في حبها بتهور لدرجة عرض الزواج عليها، ناداه وقال له: يا إبراهيم إننا في هذا المنزل نمتلك جواري مثل تلك التي جرتك إلى عشقها، وهن طبقة حقيرة، وهي دوننا ودونك في المكانة، ولا تستحق أن تعرض عليها الزواج، وليس من الحكمة أن تبدد أموالك في جارية كهذه. أطرق إبراهيم ود الفراش ثم قال لوالده:

الدُون حَبـَابَه

أُمْ شَعَراً مِتِلْ وَتَر الرَبَابَه

يا فَراشْ أَبُوي كَانْ شُفْ جِعَابَا

تَجُردْ المَالْ تَخَلي الحوشْ خَرَابَه!!

رغم ذلك لم يتملك اليأس والد شاعرنا في أن يصده عن عزمه الزواج من هذه الجارية، فنقل إليه إعتراضه القوي ومعارضة والدته وشقيقه وشقيقتيه على هذه الزيجة التي ستهينهم وتذلهم، مما جعل شاعرنا محبطاً ومكتئباً، فهو متمسك بالدون إلى أبعد غايات التمسك، وفي سبيلها سيضحي بكل شيئ، ولكن إرضاء لأسرته وافق على الزواج من فتاة رشحوها له يقال لها (زينب)، وهي ابنة أحد المهاجرين الذين استوطنوا مدينة بربر، اسمه (محمد بن أحمد) وملقب بـ (الدرق).

تزوج شاعرنا ود الفراش بـ (زينب بت الدرق) فأعطاها جسده وفشل في أن يعطيها قلبه الذي اسرته الدون لحق، فكانت شراكة حملت بذرة فشلها منذ البداية، ولم يمض العام حتى فض ود الفراش هذه الشراكة منهيها بالطلاق، لتعود (الدُونْ لِحِقْ) كما كانت مهرة في مضمار عشقه، وفراشة على زهور أشعاره العذبة، ذات الإقعاد المموسق.كان يصفها في كثير من أشعاره، ومن ذلك قوله:

ماَهَا أُمْ كُرَاشَه

عَنَاقْ أُمْ سَومَرْ الخَضَرْ رُشَاشَا

شَبِيهةَ الدُونْ جِدَيةً ضَاربَه قَاشَا

لِهَيجْ الدُونْ بِيـَرْوِي إِتْنَينْ عَطَاشَا

وقوله وكان قلبه يهجس إليه بأنها حرة غير جارية:

بَقُولْ حُرَايَا

خَاتِي النِقَه مَا فِرَيخَةْ شَرَايَا

شِلَيخْ بِتْ نُورَه يِضَوِي كَذَا المِرَايَا

تَقُولْ شُبَاكْ مَحَكَرْ في صَرَايَه

ويوغل في وصفها فيقول:

مَا هَا السَمِينَه

عَنَاقْ التُوتُو الخَضَرْ عَسِينَا

تَقُرْدَ الدِيسْ عَليْ الرُوبَه الدَهِينَه

بِتِسَنَدْ تَقُولْ مَاسْكَاهَا طِينَه

ويقول:

مَاهَا امْ جَفَايِنْ

تَقُولْ بالحَدَبْ وَغَلاً بِعَايِنْ

شَبِيهةَ الدُونْ جِدَيةً بالعَسَايِنْ

خُدُودْ الدُونْ مِتِلْ عِنَبْ الجَنَايِنْ

كان شاعرنا ود الفراش يغامر بكل شيئ من أجل معشوقته الدون لحق، فقد أهمل عمله العسكري من أجله،ا  ما عرضه لعقوبة جلد صارمة ورد ذكرها، فقد آثر ود الفراش أن يبقى ملازماً لمحبوبته في سقمها حتى تماثلت للشفاء، وفي ذلك قال وهو يبرز ختميته:

الدُونْ بَرِيَّه

فَوقْ الدُونْ لِحِقْ يَا ميرغَنِيَّه

أماسي الدُونْ ولا تَزْعَلْ عَليَّا

واصابحَ الدُون بَلاشْ العَسْكَرِيَّه

غير أن الأيام حملت لشاعرنا في عشقه مفاجأة صاعقة، ما كانت في حسبانه، وما طافت بخياله ولا بقلبه، وكادت أن تورده موارد الهلاك، وتقضي عليه.

كانت الدون لحق في أحلام شاعرنا زوجة يقضي معها العمر كله، وكثيراً ما برزت في خياله "كعروسٍ من الزُنْجِ عليها قلائد من جمانِ" وهو لايني بعبر عن رغبته الجامحة في الزواج منها يقول:

جِيبْ لَيْ مِتُونَا

نَامَتْ وانْتَكَتْ تَعْجِبْ عِيونَا

قِصَيبةَ المُرْنَيعَه الفي مُرُونَا

تَلِمْ الدُونْ عَلَيْ يَا وَدْ حِسُونَه

وقد كانت هذه الرغبة تعذبه عذاب المسموم والمكتوي بالنار وهو يواجه رفض أسرته بأن يقترن بهذه الجارية، ولكنه لايأبه ويصرح بحبها وينتظر يوم مناه يوم أن يزدان بيته بها ويحوى داره محياها، يقول:

صَايدني هَمِكْ

مِتِلْ نَارْ العِوَيشْ حَارِقْنِي سِمِكْ

مِتَينْ يَا دَيفَةْ الرَاتْعَاتْ أَلِمِكْ

واجدعْ فوقْ جَرَايدْ إِيدِي كُمِكْ

فالدون لحق هي راحة بدنه ونوارة عيونه، ويرى أنها ستكون معه في الحياة وما بعد الحياة، وستسكن معه القبر وتحميه من سؤال منكر ونكير!!

إيَّاهَا دُوني

راحةْ بَدني نُوارةْ عِيوني

بَشُوفْ ساعةْ نِكَيرْ مُنْكَر يجوني

ويَلقُوا الدُون مَعاي ما بسألوني !!

 

كما كانت أشواق الدون تهجس له في حله وترحاله، فعندما تبقيه دواعي العمل بعيداً عن مظان الحبيبة يفر النوم من عينيه ويقول:

كُلْ مَا أدورْ أنُوم آخُدْ لِي هَجْعَه

أحِسْ بالليلْ كِلاي يَدَنِى وَجْعَه

بِعِدْنَا مِنْ البلدْ ونَجَعْنَا نَجْعَه

عَليْ البـُرَيبْ مِتَينْ يَا رَبِي رَجْعَه

وعندما كان شاعرنا في مهمة عسكرية في منطقة متاخمة لبلدة كرري ولاقوا هنالك من المشقة ما لاقوا تذكر محبوبته الدون وقال:

أشْكِي عَليكْ يا مَولاي ضَرَرِي

حَشِيشْ القَشْ غَداي وعَشاي مَرَرِي

أقعْ في النيلْ أعومْ مابَرِدُو حَرَرِي

عَدِمت الدُون وجِيتْ قَابلتَ كَرَرِي

ثم يسأل ربه الرؤوف الرحيم بقرآنه وبيوم الحج والطواف وبركة سورة الفاتحة وصورة الناس ليهيأ له وصال الدون ولقائها بعد هذه الشدة:

بالقُرآن سألتَكْ يا رَؤوفُو

ويَومْ الحَجَّه والناسْ البِطُوفُوا

بَرَكةَ الفَاتحَه والناسِ وحرُوفُو

أزورْ أب شله بيتْ الدُونْ أشُوفُو

كان ود الفراش يخشى على محبوبته من المكاره ويتمنى دائماً أن تكون بخير فعندما تمرض يترك كل شيئ ويقف بجانبها وحدث ذات يوم أن دخلت محبوبته الدون لحق إلى غرفة مظلمة فلدغتها عقرب وفي ذلك قال:

جَاتْ الجَدايَه

تِتْبَكَى وتَقُولْ أنَا وَا رَدَايا

اتلومتَ فِي بالمرَه غَايَه

تَقرصِي حَبيبتي يا عَقْرَبَايَه

وقال:

جَاتْ العَقْرَبَاي اتعذرتْ لِي

قالتْ ما دَنيتْ لَها هِي الدَنتْ لِي

جِيتكْ يا لبِيبْ كَانْ تَرْضَى كَتْلِي

بَدُورْ الدُونْ أكانْ اشَفَعتْ لِي

هكذا كان شاعرنا يعشق الدون، وكان مخلصاً في حبه وفياً لمحبوبته، تنمو في كل يوم خضراء في قلبه، ناضرة في عينه، كبيرة في وجدانه، يعود ليركب الصعاب ويقطع الفيافي على ظهر جمله الباردقم أو جمله البانقير ليلقاها ولا يفارقها إلا ليعود إليها وكله عزم وإصرار ليتخذها زوجة، متحدياً الأعاصير معانداً أسرته لزمن طويل، وعندما عاقبته إدارة الجيش لغيابه عن العمل بالجلد أنذرته بالفصل دون حقوق إن تكرر منه الخطأ، وكلفته بمهام صعبة منها القبض على القتلة واللصوص والمتمردين وإيصال البريد إلى أصقاع بعيدة ومتفرقة على ظهر جمله، أجبرته هذه المهام على الغياب فترة طويلة عن مدينة بربر حيث محبوبته الدون، وما درى أن هنالك شاب ينافسه على حب الدون، واستطاع هذا الشاب أن يستميل الدون مستغلاً غياب ود الفراش وتمكن من إقتلاعه من قلبها اقتلاعاً، فعلقت به، وخانت حبيبها ود الفراش وتركته غدراً. كان وقع الخبر على شاعرنا أليماً غاية الألم وكان يرى من خلف دموعه صور الماضي، وتذكر كيف أنه كان يرفض نصائح أهله أن يخفف من غلوائه واندفاعه في حب هذه الجارية، وما كان ذلك إلا يزيده هياماً بها وتذكاراً لها، تذكر كيف أنه كان مخلصاً في حبها ورفعها بأمواله وأشعاره فوق الحرائر، حتى تغنت بذكره الركبان، فعض على أصبع الندم، وقرر أن يجازيها غدراً بغدر، فهجاها بشعر في منتهى القسوة، بعد أن بدت له قبيحة بعد جمال، خؤونة من بعد وفاء، وعادت في نظره جارية حقيرة بعد أن قد رآها حرة كريمة، فيقول كانت جميلة وكنت أفاخر بها الحرائر من فتيات عرب الجهينه، وعندما خانته بان له قبحها:

بَعدْ ما كُنتِ زَينَه

بَفَاشِيبِكْ بناتْ عَربْ الجهينَه

غَيَرْتِي المحبَه بِقِيتي شَينَه

تَشابهي العُشرَه في وَسطَ الجِنينَه

ويقول إنها بعدما ذاع صيتها وقد رفعها بأشعاره وحبه إلى مكانة سامقة سقطت إلى الحضيض عندما باعته بثمن بخس:

بَعَدْ مَا كُنتي ظَايطَه

مِتِلْ باشةَ عِمُومْ إِنْ جِيتي فَايتَه

غَيرتِي المحبه بِقيتي شَايْطَه

تَشَابهي الكَلجَه الفي الحَجَرَه بَايْتَه

وبدت له الدون الذي ضحى من أجل حبها بالغالي والرخيص جارية حقيره وقد أبدى ندمه على حبه لها كل هذا الزمن الطويل:

كَمْ شُويَمتَ بيْ عَقبَه ونتَيلَه

بَجِيبْ مَصْروفْ كَتيرْ مَا مْبَقِي حِيلَه

بَرِيدِكْ مِنْ زَمنْ مُدَدَاً طَوِيلَه

خَسَارَةْ حُبي فِي الخَادمَ الرَزِيلَه

ثم أخذ هجاؤه للدون لحق ينحو منحىً خطيراً، فاتهمها في شرفها وبأنها لقمة سائغة للعرابيد والرجرجة، وأضحت مفضوحة تلوك ألسن الجيران سيرتها، ثم أخذ يصف جسدها الذي كان يتغزل فيه من قبل بأنه ضخم وأن حجم رجلها أكبر من حجمه:

لامَّه العَرْبَدَه ولامَّه البَتَاعَه

معَ الجيرانْ بِقَتْ مَكْشُوفْ قُنَاعَا

تقولْ مِساحةْ ساعه ترمي بَاعَا

جَزَمْ يا كُراعِي أنا أصغرْ مِنْ كُراعَا

ومن بعد جرت في شعر الفراش في شأن الدون نصيحة جهيرة للكل من وحي تجربته الشخصية ومفادها أن لا تجلس إلى الجواري ولا تقترب منهن فتسوء سمعتك وتهان:

لا تْجَالسَ الخديمْ ليهِنْ تَقَرِبْ

وتَبْقَالِنْ حَبيبْ للمالْ تَخَرِبْ

يِقِيدَنْ سِمْعَتَكْ فَدْ يَومْ تَغَرِبْ

ولا تسألْ طبيبْ أسألْ مِجَرِبْ

لم يعش ود الفراش بعد ذلك طويلاً  فبحلول العام 1883 فاجأته حمى الملاريا وكانت شديدة الوطأة فأودت بحياته وهو في عامه السادس والثلاثين، وهكذا انفصل الجمر عن صندل الشعر، وأشاع ذلك حزناً عميقاً في قلوب زملائه ورؤسائه وأهله وأهل بربر جميعاً فحملوه إلى مثواه الأخير بمقبرة الشيخ الحباني وهو عالم مصري مقبور في مدينة بربر القديمة ويقع قبره على ربوة على شرق قبة الولي الشيخ زين العابدين الكنتي.

ترك لنا شاعرنا الرائد إبراهيم ود الفراش عليه الرحمة إرثاً شعرياً نهل من إبتكاره وابتداعه الذاتي وقد حفظ لنا هذا الإرث حفيده الأستاذ محمد علي الفراش وذلك في كتابه ديوان الفراش شاعر بربر وبذلك قدم خدمة عظيمة لدارسي الأدب الشعبي في السودان وهذا المرجع الرصين سيعيننا كثيراً عندما نتصدى حالاً لفن الفراش الشعري.

(تأثر شاعرنا ود الفراش بوالدته السيدة (محبوبة) فقد كانت إمرأة شاعرة فصيحة اللسان هذا غير ما كان يمتاحه من الأوائل من شعراء الدوبيت و شعراء عصره الذين كانت تجمعه بهم صلات  فقد صادق الشاعرين الحاردلو وأخاه عبد الله  كما تأثر  بالشاعر علي ود محلق عاشق تاجوج و جاراه في بعض المعاني. ولعل ما أكسب شعر ود الفراش فرادة وتميز هو إطلاق النفس على السجية وعدم التكلف في اللفظ ودقة الوصف وجزالة المعنى  وقوة الأسلوب وتماسك البيت وابتكاراته الذاتية).

جاء معظم شعره في البحر الذي تعارف أهل البطانة على تسميته بالبحر القصير وقد أجاد فيه إجادة واضحة  وله في هذا الوزن سمتان الأولى هي (الإقعاد) والإقعاد هو أن تبنى بعض أبيات قصيدة  على عروض وبعضها الآخر على عروض أخرى، لاحظ الشطرة الأولى في مربعه القائل:

بُورِيك فَنُّو

الخيلْ والزَمِلْ ما بِلحَقَنُّو

يَمَحِقْ في الدَرِبْ حَالاتُو جَنُّو

شيوم ناس حَاجَّة في الحُمْران كَلَنُّو  

فقد جاءت على غير عروض باقي الشطرات وقديماً قال الخليل بن أحمد إذا كان بيت من الشعر فيه زحاف قيل له مُقْعَدٌ؛ والمُقْعَدُ من الشعر: ما نَقَصَتْ من عَرُوضِه قُوَّة، غير أن ود الفراش عندما لجأ للإقعاد كثيراً في شعره  لم نشعر بالضعف يعتري مربعاته الشعرية ودعونا ننظر إليه في هذين النموذجين:

قَامْ بَيَّ نَشَّ

على خُشَّه وخَشوشْ نَاطِح لُو قَشَّه

طِرِيتْ البَيْ المِزَاحْ دَمَّاعَا بَشَّ

حِسَارْ النَعْنَعُوه وُرُوبْتُو خُشَّه

وقوله:

صَايِدْني غُلِّكْ

مِتِلْ فَصَّ العَقِيق مَنْظُومَه كُلِّكْ

مِتَين يا ديفَةْ الرَاتعاتْ أَظُلِّكْ

مِتِل تَبَر الغديرْ الكَابِّي ضُلِّكْ

هي نماذج تصدح كما الدفوف على الأكف الموهوبة وتنساب كاللحن من الحناجر المصقولة ما يقودنا للسمة الثانية في أوزان  شعر ود الفراش وهي (الموسقة) فشعر ود الفراش يضج بالموسيقى وتكاد تتقافز فيه الحروف والكلمات وعموماً فإن الشعر العربي شعر غنائي قائم على أصول موسيقية مضبوطة ضبطا محكما ، وقيم صوتية متكاملة تكاملا تاما لم تتوافر لأي شعر بلغة أخرى.وقد كان الشعراء العرب يعلمون أسس الشعر وقواعده وأوزانه وقوافيه بالطبع والسليقة ، ولم يكونوا بحال يزنون التفعيلات أو يعدونها أو يساوون الأشطر ، بل كان ذلك طبعا وسليقة وفطرة متأصلة في نفوسهم كما هو حال لغتهم المعلومة لجميعهم بالفطرة دون دراسة ، وحتى دون وعي. وهذا الأمر ينطبق على شاعرنا ود الفراش الذي فلت كما فلت الحاردلو من الإضطراب الوزني الذي لازم الدوبيت في نشأته الأولى وصحبه بعد ذلك كثيراً إذ كانت القافية هي المسيطرة على هذا الفن القولي دون الوزن والموسيقي  ولكن لا بد للشعر من موسيقى  لأن الموسيقى من أبرز علامات الشعر ، وهي التي تميزه عن الكلام المعتاد ، وعن غيره من الفنون الأدبية ، ولها أثر كبير في تنسيق البناء العام للنص الشعري والشاهد أن ود الفراش قد أعمل موسيقي داخلية وأخرى خارجية في شعره شأنه في ذلك شأن كل الشعراء المبدعين وموسيقاه الداخلية هي موسيقى واضحة تدرك للوهلة الأولى وقد قامت هذه الموسيقى على إختيار شاعرنا لألفاظه وتفاعل الألفاظ مع بعضها وإهماله حدوث التنافر فاتسقت صوره الفنية في مربعاته الشعرية ولم يكن ذلك وليداً للصدفة إنما يرجع إلى ملكة الشاعر السالكة في النضج وإستغراقه في تجربته الشعورية وصدقه الفني وتمكنه من أدواته الشعرية ونسجه لموسيقى خارجية تناسب مقاصده الشعرية وهي الموسيقى المعتمدة على الوزن والقافية والتي أعملها هي الأخرى بتناسب بديع.

ولشاعرنا ود الفراش ابتكارات ذاتية أربع حتماً ستقوده للخلود وسنتعرض لها تباعاً وأولها غريب المعاني التي لم يسبقه إليها شاعر شعبي، وثانيها إبتداره للمسادير بمصطلحها الشعبي الأدبي، وثالثها إبتكاره نظم رباعيات تنتهي الشطرة الرابعة منها بلغة البجة التي كان يجيدها،ورابعها توظيفه للأمثلة وابتكارها.

عن غريب المعاني غير المسبوقة في شعره وصفه للخدود بثمار العناب ووصفه للشلخ بالشباك المحكر في قصر والخدود السمراء بكبد الحملان وفي هذا يقول:

أُمَّاتَك عُزَاز دايماً يَصَلَّنْ

ما شِرْبَنْ خُمُرْ زِِّيعة بَلَّنْ

جَنِيبَةْ مُوس بِ المِزِيقْتُو رَتَّنْ

بَرَاطم الدُون تَقُول كَبْدَةْ حَمَلَّنْ

ومن معانيه غير المسبوقة أدخاله أوصافاً جديدة في شعر البطانة أخذها الشعراء منه وهو واضح التأثير في غير شاعر كوصفه لسرعة أقدام جمله بمكينة الخياطة. يقول:

عَتُود الدَقْدَقْ المِنْ قَامْ نَشَيِّطْ

عَصَاقِيلاً تَخَلِّي الكُورْ يَعَيِّطْ

تَقَوْلِبْ إيدَيكْ تَقُولْ مَكَنَةْ مَخَيِّطْ

بَلا سِتْ ريدي ما اظُنَّكْ تَبَيِّتْ

ثاني إبتكارات شاعرنا أنه أول من أنشأ المسدار بمعناه الشعبي الأدبي وهو القصيدة التي تحكي عن رحلة الحب من نقطة إنطلاق الشاعر بمطيته إلى ديار المحبوبة  ولم يجد الباحثون شاعراً أنشأ مسداراً قبله، له مسداران أحدهما من بربر إلى سواكن والثاني من بربر إلى أنقواتيري. يمكن الرجوع إليهما كاملين في ديوانه. وثالث إبتكاراته التي أشرنا إليها وهي نظم رباعيات تنتهي الشطرة الرابعة منها بلغة البجة التي كان يجيدها وله في ذلك عدة نماذج نختار منها النموذج التالي:

بَقَيِّل كُلُّ يوم تحت السَرُوبَه

بَشُوف الجَاهله إنْ سِهْلَنْ دُرُوبَا

عَرَبْ عِتْبَاي صَحِيحْ نَاساً جَنُوبَه

يَا رَبْ أُونْ أتِيبْ بَرْبَرْ سَتُوبَا

أُونْ أتِيبْ بلغة البجة تعني: أنا ذا، و سَتُوبَا تعني: يصل إلى. ورابع إبتكاراته هي توظيفه للأمثلة وابتكارها في أشعاره وأدبياته فقد أوردنا له من قبل مربعه القائل:

لا تْجَالسَ الخديمْ ليهِنْ تَقَرِبْ

وتَبْقَالِنْ حَبيبْ للمالْ تَخَرِبْ

يِقِيدَنْ سِمْعَتَكْ فَدْ يَومْ تَغَرِبْ

ولا تسألْ طبيبْ أسألْ مِجَرِبْ

ومن أدبياته التي صارت مثلاً قال حينما جيئ بأحد الفقراء محكوماً عليه بالجلد وعرض بطنه بدلاً عن ظهره: (العِندُو ضهر ما بِنْضرب علي بطنو).

يقول محمد على الفراش إن شعر ود الفراش كان محصوراً في أقانيم خمسة لا يعدوها إلا لماماً وهي: رحلاته، جمله، محبوباته, الوصف، الإعتزاز بالنفس. ويضيف الأستاذ محمد علي الفراش ويقول: غير أن هذه الخمسة لم تكن تنعزل عن بعضها البعض فغزلياته كانت تختلط برحلاته وبالحديث عن مطاياه وبمغامراته وبمفاخره وبأحلامه وبنجوى نفسه وبما يتعرف إليه من أناس وما يستقبله من أحداث. ولعلنا واجدون فيما قاله الحفيد أن شاعرنا قد طرق أبواباً عديدة من من أبواب الشعر وهي: الغزل والنسيب والوصف والفخر والحماسة وشعر الإخوانيات بالإضافة إلى رائديته في فن المسدار والثلاثية الخالدة في شعر الدوبيت (المطايا والشاعر والحبائب) وقد أغفل الحفيد باب الهجاء الذي ولجه شاعرنا ود الفراش بوضوح وقوة وباب المدح رغم أن المحقق قد أورد في ديوان جده نموذجاً لمدح الشاعر للشيخ محمود أحد مشايخ قبيلة الضباينة.     

رحم الله شاعرنا الرائد إبراهيم ود الفراش ونقول له في عليائه أننا فخورون بك كما كنت فخوراً بنفسك حينما كنت تقول:

أنا النَصِيبَه

وأنا اللسَدْ العَرَزْ جُوَّه الزَرِيبَه

أنا الكَوَّر رَصَدْ شَايِفْ ضَرِيبَه

وأنا المامونْ عَلىْ الجَاهْلَه وغَرِيبَه

وتقول:

أنا البَحَرْ الكبيرْ إنْ عَبَرَونِي

وأنا رَحلْ الكُحُلْ إنْ مَّيلونِي

أنا شوكْ الكِتِرْ إنْ جَرْجَرَونِي

وأنا الجِنْ البِخَلِّي الزَولْ يَنونِي ....

 

 

آراء