حكاية تلفاز: الحلقة الثالثة

 


 

الياس الغائب
25 November, 2022

 

رفضت جامعة دارفور قبول إستقالتى و رفض وزير التعليم العالى والبحث العلمى تعيننى بجامعة النيلين برغم محاولات بروفيسور حجر المتعددة لإقناعه، أصر على موقفه الثابت و هو أن أعود إلى جامعتى و أن لا يُسمح لى بالعمل فى أي جامعة أخرى في السودان. حاول بعض الزملاء و الأصدقاء إقناعى بالعدول عن أمر الإستقالة فى ظروف إقتصاديه يرونها قاهره و وضع أسرى حرج كما حاول آخرون التدخل لدى الوزير ، إن وافقت أنا على الإنتقال إلى جامعة كردفان بحجة أن الوزارة تشجع أبناء الأقاليم بالعمل فى أقاليمهم كما إتهمنى البعض بالتهور و القفز في المجهول في ظروف يعلمها الجميع بقساوتها و مرارتها، لكننى لم ألتفت أو أستجب لكل هذه النداءات و المحاولات و لم تزدنى إلّا إصراراً. لم أكن أشعر أبداً بهول المصيبة التى أقدمت عليها وأن الحياة قد توقفت عن دورانها و أن القيامة قد قامت و أننى فى مهب الريح، بل كنتُ في غاية الهدوء و التصالح النفسى؛ لأننى مؤمن بقدرى و معتدل في تدينى كمعظم أهل السودان أخطئ و أصيب و لم يعترينى أبداً ما أصاب الناس من هلع و تزمت و هوس دينى.

في نادى أساتذة جامعة الخرطوم، نلتقى يومياً كما ذكرت لتناول وجبة الغداء و القيلولة أو لإنتظار صديق أو زميل أو لتزجية الوقت حتى يحين موعد محاضرات المساء. أصبح النادى ملتقى للجميع على مختلف ألوانهم و مذاهبهم، نأتى لنتفاكر حول الأوضاع السياسية التي أصابت البلاد في مقتل و ما إنفكت. حيث كان يدور جل حديثنا و نقاشنا حول الوضع السياسى القائم و أثره على الحالة الاقتصادية و الاجتماعية. ثم رويداً رويداً تتداخل دوائر النقاش، تتسع و تضيق حتى تصبح دائرة واحدة هي دائرة المعاش اليومى.

أدمن الجميع النادى و جلساته و حلقات النقاش فيه، حتى و إن صادف أن غاب أحدنا عنه يوماً أحس
كما يحس المدمن من فراغ و وحشة و لاسيما و النادى يرتاده كل ألوان الطيف السياسى و الإجتماعى من أساتذة، منهم من يعمل و منهم المطرود للصالح العام و منهم المستقيل لصالح نفسه. يأتون إليه ليتفيئوا ظلاله هرباً من شمس الخرطوم الحارقة و هموم الوطن الماحقة يرجون الأمن و السلوى عند زملاء الأمس و اليوم. و حين تأتى الساعة الخامسة بعد الظهر يبدأ رواد النادى في مغادرته كل إلى حال سبيله بعد أن يكون قد إستراح و روّح عن نفسه و خفف عنها عناء ما تحمله من هموم و شجون.. هذا هو النادى الذى إنضممت إلى جلسات القيلولة فيه بعد أن جئت من الفاشر أبو زكريا.

و كنا حين ننظر فى أمر بلدنا السودان يتراءى لنا أنه فى أزمة حقيقية. أجمعت مجموعتنا على أنه يهوى في هاوية عميقة ليس لها من قرار و أنه لا سبيل إلى إنقاذه و لا أمل يرجى في إسعافه في المستقبل القريب. و أن إنقاذه إن وجد يحتاج إلى معجزة و إلى عناية إلهية لم نكن نر إليهما سبيلا. و حتى إذا إفترضنا أن جاءت المعجزة و نبت المبعوث الإلهى من تحت أو نزل من علٍ، فإن عملية الإنقاذ ذات الأبطال البشرية و التي تتخذ الدنيا مسرحاً لها تحتاج إلى زمن و مراحل تطور لا تصلح بدونها و لابد من أربع قوى لإنجاز هذه المراحل .. قوة توقف هذا السقوط المريع و قوة ترفعه إلى السطح أي إلى وضع ما قبل بداية السقوط و قوة تعمل على الوفاق و السلام و الإرتضاء بنظام حكم يقبله و يرتضيه الجميع و تلتزم فيه الأقلية برأى الأغلبية و تحترم فية الأغلبية حقوق الأقلية و قوة رابعة و أخيرة تعمل على الاستقرار و التنمية. و هذا في عمر الزمان يحتاح إلى خمسين عاماً تقريباً، عمر لن يحضره جيلنا! هذا إذًا تمت المعجزة و تحقق المستحيل، و إن كنا ننظر إلى إستحالة الأمر و صعوبة المهمة و لا سيما و أن أغلب أهل السودان لا حول لهم و لا قوة ما لم ينتبهوا لأنفسهم و يغيروا ما بها.

كثيراً ما كنا نختلف و تتباين رؤانا و نحن نتساءل عن الكيفية المثلى لحكم السودان. أي نظام للحكم مرتضى للسودان و أهله ؟ التعددية أم الشمولية ؟ هناك من يرى أن طبيعة السودان الجغرافية و تركيبته السكانية تقتضى نظاماً شمولياً يضبط مسار نهج العمل السياسى فيه و يشرف على برامج التنمية و يحميه من الإنهيار ؛ و ذلك لعدة أسباب منها:

أن السودان بلد واسع، مترامي الأطراف، يقطنه شعب متعدد الأعراق متنوع الديانات لم يتلق معظمه حظاً من التعليم و المعرفه وأن الممارسة الديمقراطية في هذا البلد القارة تناط بقلة من الناس و هم الصفوة من أهل العلم و الزعامة القبلى منها و الدينى. أما الغالبية من أهله فهى إما منقادة أو متفرجة. و أن مثل هذه الديمقراطية سوف تكون ناقصة و لن تقود البلاد إلى ممارسة حكم ديمقراطى سليم و إن صدقت النوايا.

الحريات التي تتيحها الممارسة الديمقراطية حين تضاف إليها عوامل أخرى مثل إتساع رقعة البلاد، تفشى الجهل، تدنى الاقتصاد مع قسوة الحياة تصير إلى الفوضى أقرب، إن هي لم تجد الإدارة الضابطة الحازمة في الوقت المناسب.

المعارضة السياسية في ظل وضع كهذا لن تكون بناءة بقدر ما هى هدّامة و ذلك؛ لمسعاها الذى يتسم بالغيرة و الحسد و الكيد في سبيل تقويض ما هو قائم من حكم و الجلوس على أنقاضه مهما كان الثمن، و إن لم تستطع فلسان حالها يقول علىّ و على أعدائى .

و هناك من يرى أن النظام الشمولي لن يصلح لبلد كالسودان، لأن:

معظم أهله، أهل بداوة و ترحال يعشقون التنقل و الحرية و يأنفون التحكم و التسلط و الغطرسة و التعالى. و شعبه متعدد القبائل و البطون و الأفخاذح. ترى كل فبيلة و بطن و فخذ أنها الأفضل ذات الجذور الأعمق في ترابه.

النظام الشمولي يقوم على المحاسيب و الولاءات الشخصية، الأمر الذى يقود في النهاية إلى خلق بطانة من المنتفعين و الإنتهازيين الذين لا يقيمون وزناً و لا يحفظون عهداً للوطن و همومه. تنتصب هذه البطانة حاجزاً غليظاً بين الحاكم و شعبه. هذا إذا إفترضنا في الحاكم الشمولي الحس الوطنى و الغيرة و الصلاح بأنواعه.

النظام الشمولي يصادر الحريات ، يختزل الآخرين و ينتهك حقوقهم و يحول البيئة الاجتماعية إلى طبقات: طبقة مستفيدة و منتفعة و طبقة متضررة و مسحوقة. وضع كهذا لا يقود إلّا للبلبلة و التزمت و التصدع.

و يرى فريق ثالث أن السودان في حاجة إلى نظام حكم تعددى يقبل بنوع من الوصاية. وصاية تحكمه و لا تتحكم فيه. أى أن يكون هناك برلمان منتخب و جهاز تنفيذى منتخب و قضاء مستقل و صحافة حرة تحت ظل مجلس وصاية وطنى على ألّا تتعدى الوصاية مراقبة الأداء و حماية النظام الديمقراطى من الإنقلابات العسكرية و الإنهيار.
و كنت أجد نفسى مع من يميلون إلى التعددية و يعتقدون في الديمقراطية الحقة بلا وصاية. و كنت أرى أن الصبر على الممارسة الديمقراطية ليس مطلوباً فحسب ، بل واجب لكيما نعطى الشعب الفترة الزمنية الكافية ليطور أدواته و يمتلكها و ذلك بالتعلم من الممارسة نفسها بنجاحاتها و إخفاقاتها و إننى لعلى يقين من أن الممارسة وحدها كفيلة بأن تطور نظام الحكم في بلادنا. و لو كنا صبرنا على الديمقراطية الثالثة (1986- 1989) لكنا اليوم فى وضع أفضل.
eliaselghayeb@hotmail.com
الياس الغائب … كوبنهاجن

 

آراء