حكاية تلفاز (الحلقة الرابعة)

 


 

الياس الغائب
28 November, 2022

 

نجد أن الشعب السودانى قد خرج إلينا بعد إنتفاضة أبريل 1985 بأكثر من أربعين حزباً سياسياً . إن تمعنا النظر و دققنا في ذلك الكم الهائل من الأحزاب السياسية و تفحصناه صعوداً و إنحداراً لوجدناه، برغم التباين الذى يتراءى لنا ظاهرياً، لا يخرج عن أيدولوجيا و مفاهيم لا تتعدى أصابع اليد الواحدة. بيد أنه لو قدّر لهذه الحريات تلك أن تستمر و صبرنا على الممارسة الديمقراطية بكل عيوبها و نواقصها يومذاك؛ لتداخلت تلك الأحزاب السياسية المتعددة و تقاربت أطروحاتها و تبلورت مفاهيمها المتعددة في ثلاثة أحزاب كبيرة، و هي حزب لليمين و حزب لليسار و حزب للوسط. و ذلك لأن سودان اليوم ليس في حاجة إلى أحزاب سياسية جديدة بقدر حاجته إلى تطوير تلك الأحزاب القائمة أصلاً حتى ترقى إلى مستوى ترجمة تلكم الطموحات إلى واقع ملموس على الأرض.
ذلك هو المناخ الذى عقدت العزم فيه على الخروج من السودان لكننى لم أكن أدر إلى أين ؟ كل الذى أرجوه هو الخروج من هذه الديار غير آسف و أرض الله واسعة. في هذه الأثناء و في خضم حيرتى جاءتني برقية من كسلا تحمل البشرى بقدوم ابنتى الثانية إلى الدنيا (أمل) التي خرجت إلى النور الخميس الموافق 16 سبتمبر 1993 و أنهما، أي الأم و الإبنة بخير و في صحة جيدة و الحمد لله. كما أن زملائى بجامعة دارفور جمعوا كل أشيائنا التي تركناها خلفنا بعد مغادرة الجامعة و أرسلوها في شاحنة إلى الخرطوم و جاء التلفاز معها و واصل رحلته إلى كسلا للمرة الثانية. فانتابنى ما يشبه الشوق و الحنين إلى الأهل جميعهم ، صغيرهم و كبيرهم. إلى كردفان و إلى الدلنج حيث ديار و حمى الأسرة الكبيرة الممتدة و إلى كسلا حيث الأسرة الصغيرة و هجم على إحساس طاغٍ بالسفر قلب على كل موازينى و أحرق كيانى. و لكن لم يكن السفر هذه المرة إلى الخارج و إنما إلى الداخل. أريد أن أسافر إلى أهلى و عشيرتى و أترك الدنيا للأيام فإنها بها كفيلة. إلّا أن خبر الصغيرة أمل كان يشدنى إلى كسلا و ترجيح كفتها .
و أنا أتهيأ للسفر مررت على النادى كالعادة و جلست إلى مجموعتي فإذا بى أفاجأ بأحد الأصدقاء يدخل علينا ملوحاً بجواز سفره هاتفاً "و أخيراً"و حين انتبهنا له أطلعنا على ختم تأشيرة خروج قائلاً "و أخيرًا تحصلت على تأشيرة خروج إلى إريتريا"و يفاجئنا بقراره الخطير و هو الهجرة إلى إريتريا. بيد أن الزملاء إستهجنوا إختياره هذا و بدأوا يسخرون من إختياره و يقللون من أهمية الهجرة إلى إريتريا. و كأننى أسمع بهذا البلد لأول مرة. هذا البلد الجار الذى خرج لتوه من حرب عبثية طاحنة طويلة الأمد قضت على الأخضر و اليابس أحرقت الزرع و أيبست الضرع. إلّا أننى لحظتها كنت آذان صاغية و عقلاً يقظاً و أنا أستمع لصديقنا و هو يدافع بكل حماسة و ثقة عن إختياره. قال في معرض حديثه و هو يدحض و يفند حجج الآخرين " .. إريتريا دولة صغيرة خرجت من حرب طويلة، هي الآن في حاجة إلى تنمية مواردها الطبيعية و البشرية و تطوير إنسانها الذى عانى كثيرًا و صبر طويلاً و تضرر ثلاثون عاماً أكثر من أي دولة أخرى. صحيح أنها ليست بالدولة الغنية و لا البترولية إلّا أنها دولة واعدة و شعبها هو شعب القرن الإفريقى الذى تربطنا به عرى عرقية و ثقافية و إجتماعية وثيقة. شعب لن نكون بينه غرباء و لن نحس منه تعالى و سوف نجد عنده كل التقدير و الإحترام . على أىٍ، أنها محطة مثل كل المحطات ، أتوقف عندها لآخذ أنفاسى ..".
الحق يقال، أعجبتنى المرافعة ، و شرعت أحاوره و أناقش معه الأمر بجدية و أستفسره إن كانت له معلومات كافية عن إريتريا. كان صاحبى يحدثنى حديث العالم الضليع بتضاريس البلد حتى كدت أحسبه إريترياً. حدثنا عن الدمار و الخراب الذى أحدثه الإستعمار الأثيوبى تحت ظل نظامى الإمبراطور هيلاسلاسى و منقسمو و عن الحرب و التخلف و الإنسان البسيط و (الناس الخام) و الفرص الوفيرة و المستقبل الواعد و ختم بقوله "إننا لسنا طلاب خم و لم و ثراء و إلّا فدوننا الخليج العربى، بيد أننا نتطلع لأن نكون منتجين و مفيدين. و كان حرى بنا أن نخدم بلدنا و نطور أهلنا و لكن إذا كانت بلادنا الأم لا ترغب فينا و زاهدة فينا و قد دفع أخونا و حبيبنا محمد أحمد السودانى حاضره و مستقبله في سبيل تأهيلنا ، فإننا نتطلع إلى دولة تقدر جهدنا و عطاءنا و إلى شعب هو لنا و نحن له" و ذكر لى يوم ذاك أن له أصدقاء يعملون في أسمرا منهم الفنان التشكيلى الطاهر بشرى و الكاتب القاص عادل القصاص. إستفسرته و فكرته تسافر عبر خلايا عقلى بسرعة الضوء، قائلاً"متى ستسافر إلى أسمرا ؟" فقال بنبرة أكيدة "خلال أسبوعين".
إحتلت فكرته مساحة مقدرة في عقلى ، قلبتها فوجدتها سليمة و قابلة للتنفيذ إذا ما قورنت بالخيارات التي ما انفكت تقفز إلى مخيلتى و هما في الحقيقة خياران و ليست خيارات، أحلاهما مر و دونهما موانع طبيعية و تضاريس جغرافية. الأول هو السعوديه خيار دونه البحر الأحمر و الثانى هو ليبيا خيار أيضًا دونه الصحراء الكبرى و لا خيار لى غير ركوب الصعاب و الأهوال و بين ركوب (السنبك) و إمتطاء الصحراء، و ذلك لأننى لا أملك القدرة على التحليق فوق البحر و لا الطيران عبر الصحراء؛ لأن كلاهما يحتاج إلى أذونات و أختام و مراسيم سلطانية دونها خرط القتاد و إمكانات و إستعدادات مالية. طلبت من صديقى أن يمهلني بعض الوقت حتى أتدبر أمر خروجى خاصة و قد ضمنت الرفيق ، و قديماً قيل الرفيق قبل الطريق.
بدأت أفكر و أتأمل في وسيلة تمكننى من الحصول على تأشيرة خروج؛ لأن الخروج يومئذٍ من السودان لم يكن أمراً سهلًا بالنسبة لأساتذة الجامعات و الأطباء و المهندسين و الكوادر الفنية. و لقد كان السفر لحضور مؤتمرات، سيمنارات أو علاج يحتاج إلى إذن خاص من مجلس الوزراء. و بما أننى لم أكن أملك و لا أستطيع أن أمتلك مثل هذا الإذن الخاص فقد كان خروجى صعباً إن لم يكن مستحيلاً. و لكننى تذكرت صديقاً لى يعمل بوزارة الداخلية فرأيت أن أذهب إليه و أستشيره. و حين ذهبت إلى الوزارة و جدت صعوبة في البداية في الدخول إليه و مقابلته، و لكننى قابلته في النهاية. عندما فارقته كانت على كتفه نجمة واحدة و وجدته و كتفه مرصعة بالنجوم يجلس في مكتب يختص بالقوائم و بالأشخاص المحظورين و الممنوعين من مغادرة البلد. وجدته كعهده لم يتغير، إستقبلنى إستقبالاً يشف عن مودة و شوق و لا غرابة في ذلك فقد كانت لنا أيام حلوة و ذكريات مشتركة و لم نلتق منذ مدة طويلة. تحدثناً كثيرًا و ضحكنا أكثر.
و برغم أن مكتبه كان لا يخلو من الداخلين و الخارجين و يعج بكل أنواع البشر، بالمغبونين المظلومين و بالمحتالين الإنتهازيين و جدت الوقت الكافى لأطلعه على قرارى و أشرح له دوافعى و رغبتى في مغادرة البلد. و أبديت له حيرتى و هي أننى لا أدرى إلى أين أشد الرحال ؟! إستفسرنى قائلاً "ماذا تقترح تحديداً؟" وكانت إجابتى جاهزة "السعودية، ليبيا أو إريتريا" قال "إننى أقترح سوريا" و لكنه إستدرك فجأة "هناك تعليمات واضحة تمنع السفر إلى سوريا؛ لأسباب تتعلق بالجريمة بالنسبة إلى سوريا و بالسياسة بالنسبة إلى ليبيا". قلت "ماذا عن السعودية و إريتريا ؟" قال"هناك صعوبات في الإجراءات بالنسبة للسعودية، أما إريتريا فيمكننى أن أدبر لك تأشيرة خروج الآن، كما أن إريتريا لا تحتاج إلى تأشيرة دخول تكفى البطاقة الشخصية بالنسبة للسودانيين. سلمنى جواز سفرك وأترك الباقى على". و قد كان. لقد خُتم جواز سفرى بتأشيرة خروج إلى إريتريا دون أن أقف أمام موظف الأمن المسؤول.
و حين جئت لصديقى صاحب الفكرة لنسافر معاً، تعذر لى بأنه سوف يتأخر بعض الوقت و أنه في حاجة إلى أسبوع؛ لأن أموراً في غاية الأهمية قد إستجدت. فإتفقنا على أن أسبقه إلى كسلا و أنتظره هناك و إن لم يأت في خلال أسبوعين من الزمان أكون في حل من الإرتباط به و أسافر بدونه. و قد كان. ودعته و ودعت الخرطوم وغادرت إلى أسرتى الصغيرة في كسلا، و انقضى الأسبوعان و لم يأت وهاجرت إلى إريتريا و لم يهاجر صديقى صاحب الفكرة و الفضل في تحديد وجهتى وسبحان من يحى العظام و هي رميم.
eliaselghayeb@hotmail.com
الياس الغائب … كوبنهاجن

 

آراء