mohamed@badawi.de
ثلاثون عاما عمر وحركته الإجراميّة المسماه "إنقاذ" يمتلكون مقاليد الحكم بلا منازع. ثلاثة عقود وأكثر وحالنا يتدهور من سيئ إلى أسوأ إلى ما لا يطاق، بيد أنّ حاله هو، وسبحان مغير الأحوال من حال إلى حال، قد تغير من أسوأ إلى حَسُن ثم أحسن فإلى الأحسن. نعم، تغير حال الرجل من عسكريّ مأمور إلى سلطان آمر، من تابع مستلب إلى مَتبُوع سالب، من فقير وربيب مَوَاهٍ إلى إقطاعيّ يتباهى بما له ويُباهي، من ضعيف البنيّة إلى سمينها وشحيمها، بعنقرة اكتنزت شحما من طيبات ما سَلَبَ وحلبَ وجلب ونهبَ وكسبَ ونصبَ، تغير حاله يا إخوتي من أجير مُؤْجر إلى مالك مُيسَر لأجمل القصور الرئاسيّة في إفريقيا، ناهيك عن أملاك وممتلكات الأسرة والصحبة والعُصبة والرفقة والحلّة والحوش. نعم، تغير حال عمر من سياسيّ دين بائس إلى رئيس خفير يَائس في دنياه المحدودة. لكنه ينسى دنياه هذه وآخرته عندما يقف أولئك الأكابر صفوفا مصفقين مهليين له، أولئك الذين اصطفاهم هو من معتنقيّ مؤتمره اللاوطنيّ ومن مكسريّ الثلج حتى توّجُوُهُ علينا كأمير المؤمنين.
ينبغي أن نقولها يا سادتي، أنّ أمير المؤمنين عمر استخسر على شعبه لقمة العيش وهو غير آسف، أكل فشبع، أستخسر على شعبه الماء فعام وطفح فيه، استخسر عليه الضوء فماج وانبهر، استخسر علينا مطارا وبنى قصرا بحدائقه الغنّاء وكأنه هارون الرشيد، استخسر علينا أزقة وبنى لنفسه وأهليه طرقا في العالم جمعا، استخسر علينا لقمة العيش وظل يأكل ما لذّ وطاب من دسم الأرطاب، استخسر علينا الحوش وبنى لنفسه وذويه عمارات بدبي والإمارات وماليزيا، كدسوا النقد الأجنبي، كدسوا الذهب، كدسوا البترول وكدسوا أرواح شهدائنا في دهاليز الأمنجيّة وبلا رحمة. لم نر في حياتنا حساباتهم التي هي ميزانية السودان، لم نر شركاتهم التي هي ملك لأمّ مؤيد ومحمد ود. بابكر وأستاذ محمد الخير، ألا رحمهم الله رحمة واسعة لأنهم ماتوا من أجل حريّة هذا البلد ومن أجل أن يسقط هذا الساقط!
بالرجوع إلى موضوع المطار، كواجهة للبلد، ربما يتساءل الواحد منّا أيهما أهمّ، أن يجلس هو "كالسكريّة" "بين القصرين" في حين أن شعبه ظل يعاني أجمعه من جراء هذا القفص المريع الذي يسمنونه "مطار الخرطوم الدوليّ"، وا حشمتاه! هذا الجملون الذي ظل طوال ثلاثين عاما بوابة السودان على العالم الخارجيّ. هل يستاهل السودان كل ما يفعل به هؤلاء؟ هل نستاهل كل هذا الظلم، ماذا فعلنا بربكم، حتى يعاقب هذا البلد الكريم، بلد المليون ميل، سلة العالم للغذاء، بلد الشرفاء الشهداء الأبرياء الكرام برجل جاهل جهول أجهل مثله؟ هل نستاهل نحن اللؤم الإنقاذيّ وكل هذه المهازل؟ فهذا زمانك يا مهازل فامرحي!
لكنها وطنيته، خير له أن يبنى قصرا آخرا من أن يشتري خبزا لشعبه. عهدنا بذلك كما كانت الحال في غضون الثورة الفرنسيّة، عندما قالت ماري أنطوانيت إن لم تجدوا الخبز فكلوا الكيك.
هذا الرجل ورغم حجمه الكبير ظلّ عقله بحالته الطفوليّة التي كان عليها حينما كان يرتع في المرحلة الابتدائية. ربما تسألوني كيف! أقول لكم حينها: هل يُعقل أن يستشهد رئيس دولة بحجم السودان في كل لقاء جماهيريّ بأناشيد أطيفال أكل عليها الدهر وشرب؟ يلوكها ويكررها دون لأي وكأنه صبيّ يحتفي بما حفظ فيعاود ذاك الذي لُقنَ على مسمع من والديه ورفقته. ثلاثون سنة وهو يغالي بنفس الارتجال الغاشم ويعيد نفس الجمل ويكرر نفس المنطق العقيم: ندخل لكم الماء، الكهرباء، والطرق، وووو. ليته حضر إلى المغرب ويا ليته رأى ما يمكن أن يفعله الزعماء لبلدانهم وأهليهم. حقيقة أتعجب كل مرّة من الرقيّ الذي وصل إليه هذا البلد (المغرب) وفي كل سنة أجد تغييرات لا تحصى ولا تعد. لقد كنت قبل أيّام في زيارة طارئة للعديد من مدنه، فنزلت أيضا بمدينة الصويرة الصغيرة، التي أسسها البرتقاليون، وكم تعجبت على التطور الذي حدث بها في خلال سنة واحدة لا غير وليس من العجيب أن يقصدها السوّاح بالآلاف. نعم، هي سنة واحدة لا غير يا سادتي. بيد أن عمر ظلَّ يحكم فينا أكثر من ثلاث حقب، ولم يستطع أن ينشأ حتى بنية تحتية لائقة ببلده، ناهيك عن نسيانه التام لتطور ورقيّ الانسان والمكان بالبلد. ماذا فعل بالتعليم؟ أراه يحتفي كالهبنقة بالكم الهائل لجامعات عهد الإنقاذ التي انعدمت فيها كل مقومات البحث والتحصيل الحقّ. لقد قضى على السلم التعليميّ، أخضره ويابسه، عندما عدّل وزراؤه عدد سنواته من اثنتي عشر سنة إلى إحدى عشر، بيد أن أعظم الدول، كألمانيا مثلا، نجد التعليم فيها إما اثنتا عشرة أو ثلاثة عشرة سنة. أنحن أذكياء أكثر من أبناء العم غوته؟
يجب أن نقول في الآخر أن عمرا رجل بسيط، صِنعته هي فنون الدفاع ليس إلا، إذ أنّه تخرج بشهادته الثانوية وتخصص في الجيش، وكما يقال لكلٍ صناعته وصنعته، ذاك يعني إن أراد الفرد منّا الخبر فهو يذهب إلى الخبّاز، وإن اراد اللحم ذهب إلى الجزار وإن أراد العلم ذهب إلى المعلم، فماذا يفعل من تعلم علوم الحرب في مقدمة بلد كان يشار إليه بالبنان؟ أهو عليم بأمور السياسة؟ أم هو قدير بتقنيات الدبلوماسيّة؟ أم عالم يعرف كيف يسيّر الاقتصاد كخبير فيه؟ والحال مستمر حتى بعد كلمته الأخيرة، وبعد أن قال الشعب كلمته، أن عمر قلّد مفاتح الحكم لبني الجيش، الذين خلقوا من أجل الدفاع على الوطن لا من أجل السياسة.
للأسف يا إخوتي، حكم عمر ثلاثين عاما، وأضاع هذه الحقبة من عمر البلد. كان ينبغي للسودان أن ينهض، كما نهض المغرب وبلدان أخرى. لكن عمر سلّطَ علينا عصبته، أولي الجهل ذوي القوة. حكم عمر فظلم وقهر وقتل ونام هو وجعبته ونوم الظالم عبادة.
لا يسعني من هذا المنبر إلا أن أترحم على أرواح شهدائنا الكثر، وعلى كل من أبلى بلاءا حسنا في سبيل رفعة وحريّة الوطن. حكم عمر وظلم وقهر فسقط.